واظب المسيحيون الاوائل في عبادتهم، بعد الهيكل، في البيوت) فالرسول بولس مثلاً يسلّم على بريسكيلا وأكيلا، "وعلى الكنيسة التي في بيتهما" (رو 5:16). ). وعندما ازداد عدد أعضاء الكنيسة المحلية وتنوّعت احتياجاتها الليتورجية، كان لا بد من وجود بيوت خاصة بالكنيسة تلبي هذه الاحتياجات. فمثلاً كانت هناك حاجة لقاعة كبيرة تقسم بين الاكليروس والشعب لخدمة قداس الموعوظين والمؤمنين، وكذلك لغرف أخرى من أجل الموعوظين أو التائبين أو ارشاد المهتدين الجدد أو تقدمات الكنيسة أو موائد المحبة الخ… ولذلك كان يحرص عند شراء أحد البيوت ، وقد يكون قبل بنائه، أن يلائم تصميمه احتياجات الكنيسة المعنية.
هذه البيوت التي وجدت بوفرة في القرن الثالث لم تكن تختلف كثيراً في شكلها أو في طريقة تصميمها عن البيوت الأخرى. ولعل ذلك راجع إلى رغبة المسيحيين في تجنب لفت النظر لتفادي الملاحقات. من أمثال هذه البيوت البيت الذي اكتشف في دورا يوروبس* ( يقع على بعد 92 كم جنوب دير الزور في مكان يسمى "الصالحية". وتضم جدرانه لوحات جدارية "فريسك" -من بينها شفاء المخلع والراعي الصالح وحضور النسوة إلى القبر بعد القيامة وسير المسيح على ماء البحيرة الخ، المحفوظة حاليا في جامعة بيل في الولايات المتحدة. ) ويرجع إلى بداية القرن الثالث أو نهاية القرن الثاني.
بعد إعلان الحرية الدينية في الامبراطورية، وتحول أعداد كبيرة جديدة من مواطنيها إلى المسيحية، صارت هناك حاجة ماسة إلى أبنية كنسية أكبر تستوعب هذه الأعداد واحتياجاتهم المتعددة، وتعبر بطريقة واضحة عن الإيمان المسيحي وروحانية العبادة الجديدة. فكان لجوء لا إلى نمط بناء البيوت العادية بل إلى حقل العمارة الرسمية العامة. وكان هناك تطوير لأنماط معمارية جديدة لم تكن معروفة سابقاً إن كان من جهة الوظائفية (التصميم الداخلي) وإن كان من جهة الشكل الخارجي أو طرق البناء.
في فترة ما بعد الملك قسطنطين، يمكن القول أنه صار هناك نوعان من الأبنية الكنسية:
اولا:
النظام البازيليكي ( Basilikhv, basilica)، وهو ما كان على شكل مستطيل ، تفصل غالبا بين أبهائه الطولانية صفوف أعمدة، بالإضافة إلى ملاحق أخرى. من أبنية هذا النوع الكنائس التي أمر ببنائها الأمبراطور قسطنطين وأمه هيلانة في بداية القرن الرابع في أمكنة مختلفة مثل صور، القبر المقدس، جبل الزيتون، بيت لحم، الناصرة، رومية، القسطنطينية الخ… إلى هذا النظام يمكننا أن نضم أيضاً ما بني من أربع بازيليكات على شكل صليب ( مثل كنيسة القديس بابيلا في أنطاكية، وكنيسة القديس سمعان العمودي في شمال سوريا. ) .
ثانيا:
النظام المركزي منه الدائري ،( مثل الكنيسة الدائرية في سالونيك "Rotovnta " ) ومنه المتعدد الأضلاع كالمثمن وغيره.إلى هذين النظامين، أي إلى فترة ما بين قسطنطين وجوستينيان (بين القرنين الرابع والسادس) يرجع بناء عدد كبير من الكنائس في سائر مناطق البطريركيات الخمس للكنيسة الرومية وخاصة أنطاكية، والتي لا تزال آثار قسم كبير منها باقية إلى يومنا الحاضر. في أبنية هذه المرحلة، تظهر بوضوح ،إضافة إلى روعتها وبساطتها ونجاحها في التعبير عن الخصوصية المسيحية،علامات مميزة من حضارة الشعب الذي قامت أي كنيسة من هذه الكنائس على أرضه.
في عهد الأمبراطور جوستينيان (527-565) الذي اشتهر خاصة كمشرّع وبنّاء، والذي أصبحت رومية الجديدة في زمنه مركز الحضارة واللاهوت والفن، سوف يتبلور نظام معماري جديد ناتج عن التلاقي بين النظامين البازيليكي والمركزي وبين حضارات الكنيسة الرومية المختلفة.
جوهرة هذا النظام المتألقة سوف تكون كنيسة "آيا صوفيا" الشهيرة في القسطنطينية. "وأعجب ما في هذه الكنيسة قبتها العظيمة…وهو عمل لا يزال يعتبر حتى ساعتنا هذه من معجزات فن البناء…" ( الدكتور اسد رستم، الروم، الجزء الأول، بيروت، ط2، 1988، ص 217 ) ولكن الأعجب من هذا ما تخلل تصميمها من سمو وروحنة تساعدان المصلي أن يرتفع بالقلب إلى السماء، وهي من حجر أصم وزجاج ورخام وفسيفساء!
ومع هذا فرحلة البحث عن الأكمل والأبسط والمتناسب أكثر مع الروحانية الأرثوذكسية لم تتوقف. هكذا ستظهر بين القرنين السابع والتاسع أنماط معمارية جديدة مثل طراز الصليب ذي القبة الحامل لمعان ايمانية وروحانية كثيرة، والقابل للتنفيذ بالنسبة للكنائس العادية. طراز كهذا سوف يتابع تطوره وتأقلمه مع البيئات المختلفة وامتداده بعد القرن التاسع لا إلى القسطنطينية وتوابعها مثل آسية الصغرى واليونان فحسب بل وإلى كل البلدان الأرثوذكسية الأخرى ولا سيما الجديدة منها مثل بلغاريا وصربيا ورومانيا وروسيا.