من البديهي أن يكون النسك أو الجهاد المسيحي– (عب 4:12 ، 2 تيمو 3:2-13، أف 10:6-19 الخ…) والذي يعني اتباع المؤمن التائب للمسيح-( مت 24:16-25، 21:19، يو 24:12-26 الخ..) ، والتدرب على مثاله، بمؤازرة النعمة الالهية، على الصلاة والفضائل(-انظر مثلا: مت 5، 6، 7، وخاصة مت 48:5.) – في صلب حياة المسيحيين الأول، أكانوا متبتلين أم متزوجين، أعاشوا منفردين أم جماعات.
ولكن ابتداء من أواخر القرن الثالث حين ارتأى بعض المسيحيين ترك العالم واختيار البتولية والفقر والطاعة، متفرغين في صلاة دائمة وعمل يدوي للقاء العريس، صار النسك أو رهبنة الله الصفة المميزة لهؤلاء. فدعي ناسكا من توحد منفردا، وراهبا من عاش في شركة رهبانية.
أول رائد للحياة النسكية والرهبانية هو القديس انطونيوس الكبير (251-356) الذي تنسك في صحراء مصر وأرشد عددا كبيرا من النساك والرهبان الذين اقتدوا به. أما أول من أنشأ ديرا مسيحيا مؤسسا بذلك الحياة الرهبانية المشتركة فهو القديس باخوميوس. من كنيسة الاسكندرية انتقلت الحياة النسكية والرهبانية الى كنائس أورشليم وأنطاكية، ومن ثم الى سائر أنحاء العالم الرومي والمسيحي، حيث امتلأت البراري بالنساك والرهبان، ووضعت القوانين لتنظيم الحياة الرهبانية مثلما فعل القديس باسيليوس الكبير في الشرق والقديس بنديكتس في الغرب. هكذا أضحت الرهبانية في القرون التي تلت الاضطهادات الشهادة البيضاء لمحبة المسيح كما كانت شهادة الشهداء الشهادة الحمراء. ولا تزال الرهبنات حتى اليوم في سائر البطريركيات الأرثوذكسية تلعب دورا رائدا في حياتها الروحية. نخص بالذكر، على سبيل المثال شبه جزيرة آثوس المخصصة للأديرة والنساك والتي حفظت جزءا مهما من تراث الكنيسة الرومية من مخطوطات وايقونات وبقايا قديسين وفنون كنسية منوعة، ولكن الأهم أنها لا تزال تعيش التراث الرهباني كما تسلمته حيا نابضا بالروح والقداسة.
أما بالنسبة للتراث النسكي والرهباني الأول فقد تميّز منذ بداياته آباء وصلوا الى قامات روحية سامية ( من الأولين، وهم كثيرون جدا، موسى الحبشي، أغاثون، بيساريون، يوسف الذي في بنغو، سيصووي، سلوان الخ….) وعلى الرغم من أنهم في معظمهم كانوا في ذلك الحين يجهلون الثقافة العالمية* ، إلا أن الحكمة الالهية التي كانت تعبر عنها فضائلهم وأقوالهم، دفعت بالكثيرين – بمن فيهم رؤساء أساقفة وحكام ومثقفون – أن يقصدوهم ليسترشدوا منهم. كان عندهم الأهم حضور الروح الذي حوّلهم الى انجيل معاش. ولهذا بقيت أعمالهم وأقوالهم – التي كان يشهد لأصالتها جهادهم المرير ودموعهم ودمهم – حية في أذهان السامعين، منتقلة مشافهة من جيل الى جيل. ولحسن الحظ لم تتأخر أن تكتب. إذ دوّن أخبار العديد من شيوخ البرية كتاب ذوو كفاءة وموهبة، ذهبوا مباشرة الى الأمكنة التي كانوا يعيشون فيها فتعرفوا عليهم عن كثب وكان لهم اتصال شخصي معهم أو مع تلاميذهم الأقربين. أول هؤلاء كان بطريرك الاسكندرية أثناسيوس الكبير (295-373) الذي كتب "حياة أنطونيوس" فساعد بهذا على ترغيب الغرب بالرهبانية. من هؤلاء الكتاب بلاديوس (364-431)، يوحنا كاسيانوس (360-435)، كيرلس سكيثوبوليتيس (425-560)، يوحنا موسخوس (545-619)، الخ … وهكذا تشكلت مجموعات قيمة من أقوال الآباء الشيوخ وسيرهم. من المتأخرين الذين أضافوا تعاليماً وأقوالاً لشيوخ لاحقين، بصرف النظر عن المكان، ومن ثمّ رتّبوها بحسب المواضيع، بولس افريتينوس (القرن الحادي عشر).
مع هذا فقد وجد كثيرون بين النساك والرهبان أنفسهم ممن كانوا على مستوى عال جدا من المعرفة والموهبة، وكتبوا من صميم خبرتهم الروحية في مواضيع نسكية ولاهوتية فأغنوا كنوز الكنيسة الروحية. من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر: مكاريوس المصري (290-390)، ايفاغريوس البنطي (345-399)، ذياذوخوس فوتيكيس (390-460)، مرقس الناسك (380-430)، ايسيدوروس بيلوسيوتيس (360-440)، الأب ذوروثيوس (500-555)، يوحنا السينائي (525-595) صاحب الكتاب الشهير "السلم"، ماكسيموس المعترف (580-662)، سمعان اللاهوتي الحديث (975-1035)، الخ…
من بين كتابات الآباء المذكورين أعلاه وأمثالهم وهم كثر، انتقيت مجموعة من الكتابات الروحية في اللغة اليونانية تحت اسم فيلوكاليا (FILOKALIA) هذه يمكن اعتبارها عقد لآلىء التراث الارثوذكسي الروحي. اذ ترجمت الى لغات كثيرة كانت أولها السلافية في القرن الثامن عشر، فكان لها تأثير كبير على روحانية العالم الأرثوذكسي كله وخاصة على روســيا ورومانيا. ومما يجدر ذكره، أن دعاء اسم الرب يسوع هو من مميزات الحياة الرهبانية الرومية بشكل خاص، والحياة الروحية الأرثوذكسية بشكل عام.
* سأل أرسانيوس (وكان معلما لأولاد الملوك) شيخا مصريا عن موضوع أفكاره الشريرة، فتساءل أحد الحاضرين:"كيف تسأل هذا القروي غير المثقف عن أفكارك وأنت تعرف العلوم اليونانية والرومانية ؟". أجاب أرسانيوس:"أنا أعرف العلوم اليونانية والرومانية، لكن أبجدية هذا القروي ما تعلمتها بعد".