ممسوس كورة الجرجسِيِّين
بقلم المعلم الأنطاكي الشماس اسبيرو جبور
ركِبَ يسوع مرَّةً القارب وإنتقلَ وتلاميذَه الى الشاطىء الشرقي من بحيرة طبريَّة، الى منطقة يُسمّيها متى الإنجيلي المدن العَشر1، فإذا بمسوسٍ يصيح ويصرخ. بحسب إنجيل متى كان في المنطقة ممسوسان، وبحسب إنجيل مرقس ولوقا كان هناك ممسوسٌ واحد.
طَردَ يسوع الشياطين من الممسوسَين الإثنَين ولكن يبدو أن مرقس ولوقا ركَّزا على أحد الممسوسَين الذي سأله الرب يسوع عن إسمه فقالَ له “إسمي légion “. هذا ما جاء في الإنجيل في الأصل اليوناني.
كلمة ” légion” هي كلمة لاتينية تعني فيَلق. والفَيلق العسكري الروماني يتألَّف من عشرة آلاف جندي.
عندما توجَّهَ هذا الممسوس الى يسوع مستغيثاً، طَلَبَت الشياطين من الربِّ يسوع أن لا يُهلِكَها قبل الأوان بل أن يسمح لها بالدخول في قطيعٍ من الخنازير كان موجوداً في المنطقة وكان عددُها ألفَين كما ذَكَرَ النص في الإنجيل. أمرَ يسوع الشياطين النَجِسين بالخروج من الممسوس والدخول في الخنازير، فسَقطَ الخنازير من على الجُرف في البحيرة وماتَ القطيع.
كان لهذا الأمر دويٌّ كبيرٌ في المنطقة. هربَ الرعاة وأخبَروا المدينة والمزارع. والمدينةُ هي غالباً مدينة الجَدَرة وهي إحدى المدن العشر المكتَشَفة حديثاً. هرعَ الناس ليَرَوا ما جرى. وصَلوا الى يسوع فوجدوه ووجدوا الممسوسَ صحيحَ العقل لابساً ثيابَهُ وهادئاً أمام يسوع، هذا الممسوس المعروف الذي كان يعيشُ قبلاً في المقابر يصيح ويُخيف السكّان ويُخيف المارَّة. ما كان أحد يتجاسر أن يمرَّ من هناك لأنه كان يرجم جسَدَه بالحجارة. وكان يُربَط بالسلاسل والقيود فيُقطِّع الرُبُط لأنه كان يتمتَّع بقوَّةٍ جسديَّة هائلة.
لما رأى الناسُ ما جرى تعجَّبوا جداً. سيطَرَ الخوفُ عليهم لأن هذه العجيبة كانت قويَّة جداً وإستغربوا مِن مَن له هذا السلطان أن يُغرِق في الماء ألفَي خنزير وأن يُعيدَ الصحة والعقل الى هذا الممسوس الشديد الخطر.
عندما سيطرَ الخوفُ والهَولُ على السكان، إلتمسوا من يسوع أن يُغادر منطَقتَهم. عاد يسوع عندئذٍ الى القارب فتبِعَه الممسوس وطلبَ منه أن يكون في صُحبَتِه، فقالَ له يسوع إذهب وخَبِّر أهلَك ومدينَتَك بما صَنَعَه الله اليك. ذكرَ لوقا أنَّ الممسوس عادَ يُخبِّر الناس في منطقَتِه بما صنَع يسوع اليه. ولكن مرقس الذي يُدقِّق ويأتينا دائماً بتفاصيلٍ جميلة، ذكرَ أنه ذهَبَ يُبَشِّر في المدن العشر بربِّنا يسوع المسيح.
ربُّنا يسوع المسيح طلبَ من الممسوس أن يذهب ويُخبِّر بما صنَعَه الله اليهِ فذهبَ وخبَّر بما صنَعَه يسوع اليه. فالنص في إنجيل مرقس وفي إنجيل لوقا هو واضح. مَن صَنَعَ اليه الخير؟ يسوع. فإذن، يسوع هو الله.
يسوع اذن له المجد ذكرَ ألوهَتَه، ذكَرَ أنه هو الله. هذا نصٌ لاهوتيٌّ مُهم ٌّكثيراً. كشَفَ يسوع للمسوس لاهوتَهُ وهذا هو إعلانٌ كبير.
كان يسوع قد ذكَرَ أنَّه يغفر الخطايا لما أقامَ المشلول، فتعَجَّبَ الفريسيّون لأنه ليس من أحد يغفر الخطايا سوى الله.
يسوع قد أعلنَ بصورةٍ ما أنه هو الذي يغفر الخطايا وأن لهُ سلطاناً. أي ضِمنًا يسوع قد ذَكرَ ألوهَتَهُ.
نحن نهتم جداً بظهور لاهوت ربِّنا يسوع المسيح لأن إيمانَنا بأُلوهَتِه هو بندٌ أساسيٌّ من بنودِ الإيمان. مَن لا يؤمن بيسوع إلهاً، فلا علاقةَ له بالمسيحية. الإيمان بيسوع المسيح كإلهٍ وكإنسانٍ معاً مهمٌ جداً.
ما نوعُ هذه البطولة الجسديَّة التي كان يملُكُها هذا الممسوس لكي يتحمَّل كل هذه الأحمال الثقيلة؟ طبيعة الإنسان قويَّةٌ إنما يوجد في الإنسانِ ميلٌ الى البِطالة، الى الرخاوة، الى الميوعة والى التنبلة.
إذا فارَ دمُهُ، اذا إستشاطَ غضَبُهُ كما إستشاطَ غضب هذا الممسوس ظهَرَت حينئذٍ قوَّتُه الجبّارة.
فاذن، المسألة هي مسألةٌ شخصيَّة. يستطيع الإنسان أن يكون تنبلاً، وأن يكون بطَلاً قويّاً جداً مثل هذا الممسوس. تعلُّلات الناس الفارغة للهرَب من الإيمان ومن الأعمال الصالحة والجهاد الروحي هي باطلة. الشيطان هو معلِّمُها، والتنبَلَة هي مُغذِّيَتُها. ما على الإنسان إلا أن ينتفض إنتفاضةَ الجبابرة لكي يظهرَ جبروتُهُ. والجَبَروت في نظَرِنا هو في الأعمال الصالحة لا في القتلِ والتخريب. البطل في نظرِنا هو البطل في الفضائل لا البطل في سفك الدماء. هذه ليست أعمال بطولة، هذه هي أعمالٌ شِرّيرة جهنَّميَّة شيطانيَّة. اذن في الإنسان توجد مصادرُ قوَّة كبيرة جداً قادرة أن تصنع منه جبّاراً كبيراً.
نصَبَت الشياطين فخاً ليسوع. فإن سقَطَت الخنازير في البحر، هجَمَ الناس على يسوع وإغتالوه لأنه يكون قد تسبَّب لهم بخسارةٍ كبيرة. ولكن فشَلَت الشياطين. فالناسُ أُصيبوا بخوفٍ وذُعرٍ ورعبة، وإنتهَت العمليَّة بتحوُّل الممسوس الى مُبَشِّرٍ كبير يُبشِّرُ مدينَتَهم والمنطقة كلَّها أي منطقة المدن العشر.
خَرَجَ هذا الممسوس الى منطقتِهِ يُبَشِّر بربِّنا يسوع المسيح وبما صنَعهُ اليهِ ربُّنا يسوع المسيح. ليس لدينا معلومات عن تاريخ بَشارتِه لأن الإنجيل لا يهتم إلا بشخص ربِّنا يسوع المسيح. فالمهم هو تاريخ ربِّنا يسوع المسيح لا تاريخ الرُسُل والممسوس والناس الذين إستفادوا من عجائبِه.
هذا الرجل إنطلقَ يُبشِّر بجَبَروت جسمِه القويّ، وأمامَه البُرهان الساطع وهو تحوُّلُه من ممسوسٍ مرعِبٍ الى رسولٍ مبَشِّرٍ بالسلام وباله السلام ربِّنا يسوع المسيح. لا أحد يعلَم فِكرَ الله ولا تدابيرَ الله إلا مَن أرادَ الله ان يكشِفَ له ذلك.
كيفَ حوَّلَ هذا الممسوس الخطير الى مبَشِّرٍ عظيم؟ الرب هو الذي صنَعَ ذلك وهو الذي يعرف سرَّ ذلك. ولكن ما من شكٍ أن هذا الشخص كان أعجوبة المدن العشر. كانت المنطقة كلُّها تعرِفهُ. إنسانٌ خطيرٌ مثلُ هذا يُخيف الناس، واليوم هذا الممسوس يتحوَّل الى رسول سلام يُبشِّر بإله السلام. هذا البحر الهائج يتحوَّل الى هدوءٍ وسلام.
النصرُ على الشياطين هو مُعجِزَةٌ كبيرة، ففي غير هذه الحادثة إنتصرَ يسوع على شيطان او على عِدَّة شياطين، أما هنا فقد إنتصرَ على ألفَين أو عشرة ألاف فكان نصرُه على الشيطان هنا قويّاً جداً. ليسَ في الإنجيل حادثةً مثل هذه الحادثة في إنتصار الرب يسوع على الشياطين علَناً إلا حادثة الصليب الكريم. على الصليب سحقَ المسيح الشيطان الى الأبد وأضعَفَهُ وجَعَلَه ينهزم. حادثة النصر على الصليب تأخذ مكاناً كبيراً في النصر على الشيطان.
غَرَّق الخنازير. الله هو الذي خلقَ الخنازبر وهو الذي يُتلِفُهم، والله هو الذي خَلَقَ البشر هو الذي يُميت البشر. فهل موتُ الخنازير هو أهمُّ من موت البشر؟ يعترض الناس على ذلك ولكن ويا للأسف الشديد فِكرُ الناس هو فِكرٌ ماديٌّ.
علَّقَ يسوع على الفرّيسيّين على إهتمامِهم بالحمار وبالثور يوم السبت وعلَّقَ ايضاً على غضبِهم عليه لأنه يشفي المرضى في يوم السبت.
وما زلنا نحن في العهد الفرّيسي نهتمُّ بالمادة ولا نهتمُّ بالروح.
أتى المنطقة مبشِّرٌ كبير وهو الممسوس الذي تحوَّلَ الى مبَشِّر كبير. الناس الذين إرتعبوا وخافوا بعد أن سمِعوا الممسوس يُبشِّرهم، أما إهتدوا الى يسوع المسيح؟
الشياطين هم أعداءُ الإنسان وهم موجودون. يسوع طردَ الشياطين بكميّاتٍ كبيرة، وهناك محاولاتٌ لتفسير الحوادث بالمرَض العقلي. نصُّ إنجيل متى في الفصل الرابع، ولوقا في الفصل السادس واضح. كان الناس يأتونَ يسوع المسيح بالممسوسينَ والمصابين بداء الصرع. فهناك زُمرتان: زُمرة الممسوسين وزُمرة المصروعين. لما شفى يسوع المصروع بُعَيدَ نزولِه من جبل التجلّي، كان ذلك الإنسان مصروعاً وكانت فيه شياطين. فقال يسوع لتلاميذِه هذا الجنس لا يخرج إلا باالصوم والصلاة. هذا الأمر إحتاج الى ربِّنا يسوع المسيح لأن التلاميذ لا يُمكنهم أن يطردوها، وكان يسوع قبلَ ذلك قد أعطى تلاميذه سلطاناً لطرد الشياطين ولكن هذا السلطان كان مؤقَّتاً حين أرسَلَهم كما في الإصحاح العاشر من متى وسواه. فالتلاميذ طَرَدوا الشياطين وشَفوا المرضى وأقاموا الموتى، وعادوا.
هذا السلطان كان مؤقَّتاً، أما السلطان النهائي فقد أُعطيَ لهم يوم العنصرة المجيدة. فلذلك الرُسُل التسعة لم يستطيعوا أن يطردوا الشياطين من هذا الإنسان لأن وقت السلطان كان قد إنتهى. في يوم العنصرة المجيدة تقلَّدَ الرُسُل من الرب يسوع المسيح السُلطات العامة وقلَّدوها لتلاميذِهم وتلاميذ تلاميذِهم. فاذن هناك زُمرتان: زُمرة الممسوسين وزُمرة المصروعون. المصروعون هم مُصابون بداءٍ معروفٍ ينتاب المرء بين الفَينة والأُخرى وشِفاؤهُ كان عسيراً في ذلك الزمان.
الربُّ يسوع له المجد هو المعلِّم. التفلسف على الإنجيل هو باطلٌ والتفلسف على تراث الكنيسة هو أيضاً باطل. الكنيسة الأرثوذكسيَّة هي كنيسة مُحافظة مقيَّدة بالكتاب المقدَّس وبالمجامع المسكونيَّة وبالآباء القدّيسين، ولها تُراث مُركَّز وثابت ومعلومٌ ومدروسٌ تُحافظُ عليه الكنيسة بالروح القدس الساكن فيها كما علَّمنا بولس الرسول في الآية 14 من الفصل الأول من رسالتِه الثانية الى تيموثاوس. الروح القدس الساكن فينا هو الذي يحفظ الوديعة، يحفظ وديعة الإيمان فلا تقبل الأرثوذكسية التشتُّت.
يعقوب الرسول علَّمَنا وأوصانا بأن لا يكون فينا معلِّمون كثيرون. المثَل العام يقول ” متى كَثُرَ الطبّاخون، خَرُبَت الطبخة “. المعلِّم هو واحدٌ وهو ربُّنا يسوع المسيح عِبر الإنجيل والمجامع المسكونية وآباء الكنيسة، وما زادَ على ذلك فهو من الشرير.
فلنعُد الى هذا المبَشِّر الكبير. إن كان قد بشَّر في المدن العشر، فقد إنتقلَت البِشارةُ من جَدَرَة الى دمشق-جرش-عمان ونزولاً الى المنطقة الواقعة بين هذا الخط ونهر الأردن وصولاً الى بيسان غربَ بحيرة طبريَّة. اذن، هذه المنطقة سمِعَت البشارة من هذا الرسول الوثني. كانت المنطقة وثنيَّة ولكن كان فيها جالياتٍ يهودية وإنتشاراً يهوديّاً في كل المتوسِّط وفي كل المشرق. فنرى في أعمال الرُسل وجوداً لليهود في دمشق، في المدن التركيَّة، في مدن المشرق وفي بلاد ما بين النهرَين ولكن السكان الأصليّون كانوا وثنيِّين.
هذا المبشِّر طافَ في المدُن العشر بالرب يسوع المسيح. هل إستفادَ الناسُ من بِشارتِه؟ حتماً. وهذا أكبرُ دليلٍ على قوَّة وألوهة ربِّنا يسوع المسيح. إستفاد الناس حتماً من هذا المبشِّر الذي قد هيّأَ الجوَّ للرسُل القدِّيسين.
نعرف من أعمال الرُسُل أن المسيحيَّة كانت قد إنتشَرَت في دمشق، ونعرف من غلاطية وأعمال الرسل أن بولس الرسول تركَ دمشق وإنتقلَ الى منطقة دولة الأنباط المسمَّاة في رسالة غلاطية “ارابيَّة” أي العربية، فهل وصلَ الى عمَّان؟ الله أعلم. ولكنَّه إتجه جنوباً، فوصلَ الى حوران وربما قد تجاوزَها جنوباً. هل وصلَ الى البتراء؟ لا ندري. كلمة “ارابيَّة” واسعة، تشمل منطقة واسعة.
ليس لدينا تواريخ عن كلِّ شيءٍ لأن الرُسل الأَطهار إهتموا بالكلمة كما قال بطرس الرسول في الفصل السادس من أعمال الرسل.
لم يهتمّوا بالأحداث والأشخاص والتواريخ. هذه كلُّها ليست من مِهنة الرسُل. مهنتُهم أن يحملوا المسيح الى كلِّ أقطار الدنيا. إنما نعلَم أن الله له المجد قادرٌ على كلِّ شيءٍ. ذكرَ بولس الرسول أن الله له المجد إختار الناس الذين ليسوا بشيءٍ مثل صيّادي السمك ليكونوا مُعلِّمي المسكونة. هذا التدبير هو بِيَدِ العليّ. سحَقَ الفلسفة اليونانية بكِرازة الرُسُل. وكِرازة الرُسُل كانت عسيرة لأنَّهم بشِّروا بيسوعَ مصلوباً. كان هذا عثَرةً لليهود، وحماقةً بالنسبة لليونانيِّين الذين كانوا يلتمسونَ فلسفةً. فلسفتُتنا هي غيرُ فلسفة اليونان. فلسفتُنا هي الحياةُ بيسوع المسيح لا التحليلات ولا الجدَليّات ولا المماحكات الفلسفية والمنطقية. فلسَفتُنا أعلى من ذلك بكثير، هي العيشُ في ربِّنا يسوع المسيح. ويسوع الذي طرَدَ فيلقاً من الشياطين هو القادرُ وحدَه على تحريرِنا من رِفقة الشياطين. يسوع الذي أحبَّنا وماتَ صلباً من أجلنا، هو هو نفسُه دائماً لم ولن يتغيَّر. هو الأبُ الحنون الرؤوف الرحيم الذي يُشفِق على ضُعفِنا.
نتذمَّر ونضجر وننهزم، هذا ضعفٌ. الذي شفى الممسوس هو جاهزٌ دائماً ليشفيَنا، ليُنقذَنا من أمراضِنا الروحيَّة والجسديَّة بحسب تدبيرِه الالهي. هو الذي يعرف ما يوافقُنا لا نحن، هو الذي يتدبَّر الأمور لصالح روحِنا لا لصالح جسدِنا.
ما يهتمُّ به الرب هو خلاصُنا في الحياة الأبدية، وما عدا ذلك قشور، وما زادَ على ذلك فهو من الشرير. الإنسان هو مضطَّربٌ، متعلِّقٌ بجسدِه، يهتم ويعبد جسدَه فيضعُف إيمانُهُ.
الإيمان يُخلِّص من الإهتمامات الجسديَّة فلا تَهلِك الروح. علينا أن نرتفع فوق الإهتمامات الماديَّة، علينا أن نُصاب بالرعب الذي أصاب أهالي جَدَرَة ومزارعَها. هذا الهَلَع الذي أصابَهم أدَّى حتماً الى إهتدائهم على يد الممسوس. الهَلَع الروحي هو ضروري.
من أخطر المواقف، شعور المسيحيِّين البارد تجاه الله. يتطلَّب الموقف الرهبة والخوف امام الله لأن إلهنا هو إلهٌ هائلٌ كما جاء في الرسالة الى العبرانيِّين. أمَّا إذا جمدَ حِسُّنا الروحي وإختفى فينا الخوفُ من الله، صِرنا حينئذٍ بليدين. إنحدَرَت قيمتُنا الروحية، وصِرنا بشراً عاديِّين تافهين.
فلذلك التقوى الحقيقية تتضمَّن شعوراً بالرهبة امام الله الذي صنعَ الأكوان برُمَّتِها. كيف نستطيع أن نذكرَه دون السجود والركوع، دون الإرتعاد من عظمتِه الالهية؟ نستطيع أن نكون خوش بوش كما نقول بالعاميَّة مع كل الناس، ولكن لا نستطيع أن نكون خوش بوش مع الله. هذا مضِرٌّ ويتسبَّب للناس بفتورِ المشاعر الروحيَّة والدينيَّة.
الوقوف امام الله يتطلَّب حرارةً قوية وسجوداً عميقاً وإرتعاداً كبيراً. لا يُمكن أن يظهر الله لأُناسٍ لا يرتعدون. الإرتعاد شيءٌ مهمٌ جداً في الحياة الروحيَّة. لا يجوز أن نذكر الله بدون رعدةٍ، وكيف نذكُرُه برعدةٍ في هذه البلاد والإنسان يقضي عمرَه في الحَلَف الباطل وفي الشتائم. كم مرَّة نحلُف في اليوم؟ بعضنا يحلف بتكرارٍ متواصل. صار الحَلَف جزءاً لا يتجزأ من العبارات. نحلف بدون إحترامٍ للعزَّة الالهية. هذا الأمر لرهيبٌ جداً. كيف نذكر الله بدون الإرتعاد؟ كلَّما ذكرناه علينا أن نرتعِد، أن نخاف، أن نتخشَّع، أن نسجد. ذِكرُ الله لا يَعبُر بسهولة، ذِكرُ الله مُقترن بالإنسحاق الكبير امام العِزَّة الالهية.
هل أُصيبَ أهالي منطقة جَدَرَة بهذا الإرتعاد الكبير؟ ماذا كان مفعولُهُ عليهم؟ ربما هذا الإرتعاد قد ساعدَهم كثيراً على قَبول بِشارة الممسوس وربما كان مقدِّمَة لقَبول بشارة يسوع المسيح.
فإذا رأينا أشخاصاً لا يهتزّون لذِكر الله، فلنعلم أن البرودة الروحيَّة قد سيطرَت عليهم. في رؤيا يوحنا، الربُّ يسوع الذي لا يحب الفاتر بل يُحب الحار. بدون حرارة القلب أي الحرارة الداخلية، لا يكون من مكانٍ في قلوبِنا للرب يسوع المسيح. الرب يسوع المسيح يسكن في القلوب الحارَّة.
في التثنية والرسالة الى العبرانييِّن جاء “الهنا نارٌ آكِلة”. مَن مسَّه الله، مسَّتهُ النار الآكِلة التي تلتهب الذلّات والخطايا وتُنير الإنسان. فلذلك علينا أن نتجنَّب التهاون والتواني والتنبلة والكسَل والبِطالة. فقد قيل إن كان العملُ أبا الفضيلة فالبِطالةُ أُمُّ الرذيلة. وعلَّمنا بولس الرسول أن مَن لا يعمل لا يأكل. العملُ ضروريٌّ. البِطالة أُمُّ الرذيلة، هذا صحيح. لذلك الذين يعبدون بطونَهم هم بطّالون روحياً. لا تجتمع الشراهةُ والتقوى. إنهما عدُوَّان لدودان إحداهما للأُخرى. العملُ الصالح يُكمِّلُ الإنسان الذي يعيشُ بحسب الله.
الذي حوَّل الممسوس المسكون من فيلقٍ من الشياطين، هو القادرُ أن يُحوِّلَ كلَّ إنسانٍ في العالم الى قدّيسٍ عظيمٍ. ولكن، هل يشاءُ البشر أن يُسيطروا على أعصابِهم، على أجسادِهم، على أهوائهم، وعلى شهواتِهم لكي يرتفعوا الى الله؟
فالمشكلة هي في قلب الإنسان. الإنسانُ صالحٌ للإرتقاء ولكنَّه يتراخى، يصير عبداً لملذّاتِه وشهواتِه فيتسلَّمه الشيطان ويلعب فيه. فاذن، لا عُذرَ للإنسان في السقوط الى الهاوية، الى الجحيم، الى جهنَّم.
يستطيع الإنسان أن يكون قدّيساً، ولكن هل يُحسِن أن يكون قدّيساً؟ هذه مسألة تتعلَّق بالإرادة الشخصيَّة. على الإنسان أن يُقرِّر مصيرَهُ وأن يسعى نحو السماء. فمُلكُ الأرضِ لا يُجدي نفعاً. كلُّ شيءٍ باطل، وباطل الأباطيل هو كلُّ ما تحت السماء باطل، والبقاء فقط هو للقدِّيسين في السماء الى أبد الآبدين.
الوجود على الأرض هو مؤقَّت ومهما طال الأمرُ فالإنسان لا يتجاوز التسعينَ سنة والمئة إلا نادراً جداً. فهل نبيع السماء رخيصةً؟ علينا اذن ان نقمع أجسادَنا وأهواءَنا وشهواتَنا بنعمة الروح القدس لكي ننطلق الى يسوع طائرين بأرواحِنا الى السماء لنرِثَ الملكَ الأبدي، لنشاهده في السماء، لنعيش في النور ولنعيش في الغبطة الأبدية.
السماء خيرٌ من الجحيم. فلنهرب من جهنَّم ولنهرب من الجحيم ولِنطِر الى السماء محمولين بالروح القدس له مع الآب والإبن المجد والكرامة والسجود والتمجيد والتعظيم الى أبد الآبدين ودهر الداهرين آمين.
حاشية
1 – تتألف المدن العَشر من إتحادٍ فدرالي أو بالأَحرى كونفدرالي، بين مدن دمشق وجرش وعمَّان شرقاً وبيسان غرباً وسِتُّ مدُنٍ أخرى تقع ما بين خط دمشق – عمان ونهر الأردن. كل هذه المناطق كانت تتكلَّم اليونانية.