كرامة الانسان .. عنف الشياطين
الاحد الخامس من العنصرة
النص الانجيلي :
(متى 8: 28-9: 1 )
“في ذلك الزمان لما أتى يسوع إلى كورة الجرجسيين استقبله مجنونان خارجان من القبور شرسان جداً حتى انه لم يكن أحدٌ يقدر أن يجتاز من تلك الطريق* فصاحا قائلين ما لنا ولك يا يسوع ابن الله. أجئت إلى ههنا قبل الزمان لتعذبنا* وكان بعيداً منهم قطيع خنازير كثيرة ترعى* فأخذ الشياطين يطلبون إليه قائلين أن كنت تخرجنا فائذن لنا أن نذهب إلى قطيع الخنازير* فقال لهم اذهبوا. فخرجوا وذهبوا إلى قطيع الخنازير. فإذا بالقطيع كله قد وثب عن الجُرف إلى البحر ومات في المياه* أما الرعاة فهربوا ومضوا إلى المدينة واخبروا بكل شيء وبأمر المجنونين* فخرجت المدينة كلها للقاء يسوع. ولما رأوه طلبوا إليه أن يتحول عن تخومهم* فدخل السفينة واجتاز إلى مدينته. “
العظة :
باسم الآب والابن والروح القدس ، آمين
ايها الاحباء: إنجيل اليوم يُخبرنا أن يسوع انطلق في زورقٍ إلى منطقةٍ تُسمى (الجرجسيين) وهي منطقةٌ مقرونة بما يسمى في ذلك الحين (المدن العشر)، وأبناء هذه المنطقة أكثرهم من الوثنيين، والقلة يهود.
أتى يسوع إليهم وهو كعادته يحمل مخططاً، يسوع لا يسير إلا وفي ذهنه أمرٌ ما من أجل إنجازه. ونحن علينا دائماً أن يكون لنا مخططاً في حياتنا لنُنجز المقاصد التي ننوي تحقيقها.
ولكن ما أن نزل يسوع من السفينة وصعد إلى ممرٍ جبلي حتى استقبله مجنونان يصيحان من أثره. أنهما مجنونان حسب التعبير الذي وُصِفا به أنهما مسكونان بمجموعةٍ كبيرة من الشياطين، وكان يسوع ينظر إليهما نظرة محبةٍ وعطفٍ ورحمة. دائماً ينظر يسوع إلى الإنسان هكذا.
أهمية الإنسان عند يسوع تفوق كل اعتبارٍ آخر، ولهذا بجد أن الغاية التي أتى لأجلها يسوع تحولت لتخدم هذين الاثنين.
المجنونان الخارجان من القبور يشيران إلى الروح والجسد، وقد خضعا لحالة من الموت الروحي بسبب الخطيئة : فقد ملك الشيطان على الروح، ففقدت شركتها مع الله، وملك الشيطان على الجسد ففقد سلامه مع الروح… ويصير الإنسان كما في حالة هياج شديد، لا يعرف السلام له موضع فيه. لقد حرمه الروح النجس من السكنى في بيته، وعزله عن حياة الشركة – حتى مع أقربائه – ليعيش في عزلة وسط القبور، مثل وحش ثائر لا يقدر أحد أن يضبطه.
إن المجنونان يمثلان البشرية التي بقيت زماناً طويلاً مستعبدة لعدو الخير، صارت خارج المدينة والبيت، أي خارج الفردوس الذي أقيم لأجلها، وتعرت من ثوب النعمة الإلهية، تؤذي نفسها بنفسها !
إن مثل هذه النفوس تبدو كأنها ساكنة في قبور، فإن أجساد غير المؤمنين ليست إلا نوعاً من القبور يدفن فيها الأموات – أي النفوس الميتة – حيث لا تسكن فيها كلمة الرب.
لقد ساد الإعتقاد يا احباء، عند اليهود قديماً بأن الشياطين تفضل ثلاثة مناطق لسكناها : البرية ( الأماكن الخربة ) وأعماق المياه والقبور. الأولى تشير إلى سعي الشيطان في نزع كل ثمر روحي للإنسان، ليجعل منه برية قاحلة بلا ثمر. والثانية تشير إلى رغبة العدو أن يدخل بالإنسان إلى دوامة الحياة ليلهيه عن خلاصه، فيكون كمثل في أعماق المياه بلا رجاء. والثالثة تشير إلى طبيعة الشيطان كمقاتل يشتهي هلاك الإنسان وموته.
قد رأينا السيد المسيح ينتصر على الشيطان في هذه المواقع الثلاثة : فقد إنتصر عليه في البرية حينما جاء ليجربه، وفي مياه نهر الأردن إذ أعطانا البنؤة والسلطان أن ندوس كل قوات العدو بالولادة من الماء والروح في مياه المعمودية المقدسة ( يو 3 : 5 )، وها هو الان يلتقي بساكنا القبور ليخلصهما من الروح النجس ويردهما إلى بيتهما.
هذين المجونان كانا يصيحان بالروح الساكن فيهما وسائلين يسوع: “أجئت إلى ههنا قبل الزمان لتعذبنا”. هذا التعبير الغامض، ماذا يقصدان به في قولهما: “تأتي الآن قبل الزمان لتعذبنا”؟ سفر الرؤيا يحدثنا بأن يسوع في آخر المطاف سيكون دياناً للجميع، وهو بكلامٍ رمزي، يستعين ببركةٍ من النار والكبريت يهلكُ فيها الشياطين وعمالهم.
لذا شهدت الشياطين أن السيد المسيح هو ( إبن الله )، وهي نفس شهادة بطرس الرسول له في نواحي قيصرية فيلبس ( متى 16 : 16 ). وفي ذلك يقول المغبوط أغسطينوس: ” ما قاله بطرس، نطقت به أيضاً الشياطين. الكلمات واحدة، لكن الذهن مختلف… فإن إيمان المسيحي يقوم على الحب، أما إيمان الشياطين، فبلا حب… بطرس نطق بهذا لكي يحتضن المسيح، أما الشياطين فنطقت بهذا لكي يتركها المسيح “.
لقد إعتبرت الشياطين أن طردهم من الإنسان عذاباً لهم، بعد أن وجدوا راحتهم في عذاب الإنسان !يقول القديس جيروم ( إذ رأت الشياطين السيد المسيح على الأرض، ظنوا أنه جاء يحاكمهم ! إن مجرد وجود المخلص هو عذاب للشياطين ).
لعل الشياطين أدركت أن السيد لن يسمح لها بدخول إنسان آخر، فقد جاء لخلاص بني البشر ( يوحنا 3 : 16، 17 )، ولا طلبت منه الدخول في حيوانات طاهرة يمكن أن تستخدم كتقدمة في الهيكل، فإستأذنت أن تدخل الخنازير النجسة ( لاويين 11 : 7، 8 ، تث 14 : 8 ).
ويعلق القديس أمبروسيوس على طلب الشياطين بقوله:” بدأت الشياطين تتضرع إليه ليأمرها حتي تدخل في قطيع الخنازير.. لأنها لم تستطع إحتمال بهاء شعاع النور الإلهي. وكما أن مرضى العيون لا يستطيعون إحتمال التطلع في ضوء الشمس – مفضلين الظلام وهاربين من النور – هكذا تهرب الشياطين مرتعبة قبل حلول الوقت، حيث ينتظرها العذاب “.
فقال لهم : إمضوا، فخرجوا، ومضوا إلى قطيع الخنازير. “وإذا قطيع الخنازير كله قد إندفع من على الجرف إلى البحر، ومات في المياه ” ( متى 8 : 32 )، ( فأذن لهم يسوع. فخرجت الأرواح النجسة، ودخلت في الخنازير، ربما يتساءل البعض : لماذا سمح الله للشياطين أن تدخل في قطيع الخنازير ؟ ما ذنب هذه الخليقة ؟! وما ذنب أصحابها ؟!
– لقد أراد يسوع أن يعرف الناس أن الشياطين حقيقة وليست وهماً – بدليل ملموس على عكس ما يعتقد الصدوقيون لأن الصدوقيين يقولون أنه ليس هناك قيامة ولا ملاك ولا روح… ( أعمال الرسل : 23).
أراد يسوع أن يوضح للناس عنف الشياطين، وطبيعتهم المحبة للهلاك، حتى بالنسبة للحيوانات غير العاقلة، إذ لم تحتمل الخنازير دخول الشياطين فيها، بل سقط القطيع كله مندفعاً إلى البحر ومات في الحال ! فما حدث للمجنونين كان أقل بكثير مما حدث للخنازير، إذ لم يسمح الله للشياطين أن تؤذي المجنونين إلا في حدود معينة.
– أراد يسوع أن يظهر للحاضرين قيمة النفس البشرية، فهي عنده أثمن من ألفين من الخنازير، وأنه مستعد – مهما كلفه الثمن – أن يترك قطيع الخنازير يهلك من أجل إنقاذ شخصين. وكما يقول القديس جيروم :” ليخز ماني مؤسس ديانة المانوية القائلة بأن أرواح الناس والبهائم واحدة من نفس العنصر..”
أراد يسوع أن يظهر عنايته بخليقته، إذ لم تستطع الأرواح الشريرة أن تدخل – حتى في الخنازير – بدون إستئذانه ! فعلى الرغم من عنف الشياطين وقسوتها، فهي أمام السيد المسيح في غاية الضعف
وربما سمح يسوع بذلك تأديباً لأصحاب الخنازير، إذ قاموا بتربية حيوانات هي نجسة حسب الشريعة ( لاويين 11 : 7، 8 ، تث 14 : 8 ).
لعل غرض الشياطين من إغراق الخنازير كان أن يهيجوا كل أهل الكورة على السيد المسيح، إذ لم يحتملوا الخسارة المادية التي لحقت بهم، فطردوا رب المجد من كورتهم، والعجيب أنهم هربوا بل إعتراهم خوف عظيم ( لوقا 8 : 37 ) !! خافوا من الذي يخلص الناس من الشياطين !! وكان عليهم أن يفاضلوا بين أمرين : بين الشياطين وهلاكهم من جهة، وبين السيد المسيح وخلاصه مع الخسارة المادية من الجهة الأخرى.. ألفا خنزير مقابل خلاص النفس البشرية ! لقد وجدوا الثمن غالياً جداً، لأن ( قلبهم ذاهب وراء الماديات – حزقيال 33 : 31 )، فطلبوا من السيد أن يذهب عنهم ( لوقا 8 : 37 )، وأن ينصرف عن تخومهم ( متى 8 : 34 ).
فدخل السفينة ورجع ( لوقا 8 : 37 ) أنظر أيضاً ( مرقس 5 : 18 )، لم يقاومهم السيد المسيح بل تركهم ودخل السفينة، لأنه لا يفرض محبته على الناس، إذ أعطاهم حرية الإرادة أن يقبلوه أو يرفضوه.
اخيرا : يا احبة المسيح المصلوب إن أتى اليكم المسيح فلتتركوا كل شيء ولتستقبله، لا تقول له اذهب الآن ونحن غير مستعدون. في كل لحظةٍ نلتقي بيسوع نحن مستعدون لكي يكون لنا الأب والسيد والحاكم على أنفسنا، من أجل أن نسير بما يرضي الله، لا بما يرضي أنفسنا.
لذلك علينا ألا نعمل كما عمل أهل الجرجسيين برفضهم ليسوع.
فلتكن قلوبنا دائماً وأبداً مستعدةً لاستقبال يسوع ليُقيم فيها حسب ما يشاء، وما علينا نحن إلا أن نكون فرحين لأن أعمالنا ستكون مقيدة بالشيء الصالح الذي أتى يسوع به إلينا. وهذا يحتاج منا إلى صلاةٍ دائمة. آمين