قبل ولادة الرب يسوع بقليل "صدر أمر من أغسطس قيصر بأن يُكتَتب كل المسكونة" . والمسكونة في تلك الأيام كانت تعني الأمبراطورية الرومية التي اكتتب من ضمن رعاياها مريم العذراء ويوسف خطيبها. ولا بدّ أن الطفل يسوع اكتتب هو أيضا فيما بعد. أما الرسول بولس، فعلى الرغم من أنه كان يهوديا هو أيضا الا أن رعويته كانت تختلف، اذ كان على ما يبدو مواطنا روميا (أو رومانيا) من الدرجة الأولى .
على أي حال، فقد كانت وحدة الأمبراطورية وازالة الحواجز بين البلدان التي تشكل منها، ووجود لغة عالمية موحدة (اليونانية)، من العوامل التي يسرت بشارة الرسل وتأسيس الكنائس الأولى التي تكلمت عنها أسفار العهد الجديد مثل أورشليم، أنطاكية، غلاطية، أفسس، تسالونيكي، كورنثوس الخ… وعلى الرغم من الصعوبات الهائلة والمقاومات الرهيبة من اليهود ومن الوثنيين وفيما بعد من السلطة نفسها، فقد كانت البشارة الالهية، بقوة الروح القدس، تمتد دون توقف الى كل الأقطار والمناطق في أوسع أمبراطورية عرفها التاريخ. وبالطبع فقد كان جميع أعضاء الكنائس، التي تتأسس، تجمعهم زمنياً رعوية واحدة هي الرعوية الرومانية على الرغم من الاختلاف في درجات هذه الرعوية، ومن الظلم وسوء المعاملة اللذين كانت تحكم بهما الامبراطورية في تلك الأيام. كذلك ولأن جميع تلك الكنائس كانت في اطار امبراطورية واحدة فقد سهّل لها ذلك الايمان "بكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية"- بغض النظر عن انتماءاتها الأممية والاجتماعية المختلفة، ولغاتها الخاصة المتعددة – والقول مع الرسول بولس:"ليس يوناني ويهودي ختان وغرلة بربري سكيثي عبد حر…" ، "لأنكم جميعا واحد في المسيح يسوع" .
الا أن الانقسامات في الكنيسة الرومية لم تأت من الاختلافات الأممية والاجتماعية بمقدار ما أتت من الهرطقات والبدع التي سبق وحذر منها السيد والرسل، وصارعتها الكنيسة، بمعونة الروح القدس دون هوادة منذ القرن الأول، وكان الهدف لا الحفاظ على وحدة الكنيسة فحسب، بل وعلى صحة الايمان الواحد الذي تسلمته جميع الكنائس الأولى من الرسل.
وعلى العكس من ذلك، فقد ساعدت على تقوية الشعور بالانتماء الى كنيسة واحدة، الاضطهادات المريعة التي شنَّها الأباطرة الوثنيون لمدة ثلاثة قرون. اذ تحمل جميع أبناء الكنائس الرومية معاً الملاحقات والشدائد والرعب والتعذيبات. وجميعهم كانوا يشتركون في تكريم شهداء الكنيسة الواحدة، في أي قطر تم استشهادهم، ولأي جنس أو أمّة انتموا.
ومن البديهي أن يؤدي توقيف الامبراطور قسطنطين للاضطهادات ورعايته الخاصة للكنيسة الرومية في مطلع القرن الرابع الى فرح غامر عند جميع أبنائها، واستعداد أكبر لتجاوز فروقاتهم الأممية والاجتماعية، وقبوله طوعياً كأب وراع للجميع. وخصوصاً أنه ألغى من قوانين الدولة التأثيرات الوثنية من ظلم وعقوبات وحشية، وأدخل فيها ما يقترب من وصايا المسيح في العلاقات العائلية والاجتماعية. وقد زاد من تقديرهم له دعوته لأساقفة المسكونة من سائر أقطارها وتحمله نفقات سفرهم من أجل حضور المجمع المسكوني الأول الذي انعقد سنة 325 لتلافي خطر الانقسام في الكنيسة والامبراطورية، الذي سببته الهرطقة الآريوسية. وقد تولّت الدولة تنفيذ قرارات المجمع، وبهذا وضع الامبراطور قسطنطين القواعد التي دعيت على أساسها كل المجامع المسكونية اللاحقة لمجابهة الهرطقات الطارئة.
وكما لم يعنِ نقل الامبراطور قسطنطين لعاصمته بداية لأمبراطورية جديدة – وهي ما اصطلحوا على تسميتها بيزنطية، كما رأينا، خلافاً للواقع والتاريخ – كذلك بالأكثر لا تعني رعايته للكنيسة الرومية بداية لكنيسة جديدة سموها أيضاً، بدون حق، بيزنطية أو اغريقية. فمنذ البدء، أي منذ القرن الأوّل تأسست الكنيسة الرومية واستمرت دون أي تغيير في ايمانها أو حياتها الالهية في القرن الرابع أو غيره، ولا تزال هي هي حتى أيامنا هذه. وما أهمية بقاء الاسم الأوّل سوى كونه احدى العلامات الخارجية لعدم التغيير هذا للكنيسة الأولى التي أسسها الرب يسوع والتي ارتبطت وثيقاً بالاطار التاريخي الذي وجدت فيه. كمثال عن هذا الارتباط نعطي تطور التنظيم الرعائي للكنيسة الأولى والذي ارتبط منذ البدء بالتقسيمات الادارية للامبراطورية الرومية القديمة، بدءاً من الأسقفيات ثم الأبرشيات (المتروبوليتيات أو المطرانيات) وفيما بعد البطريركيات. وقد صارت هذه البطريركيات رسمياً خمساً متطابقة مع المراكز الادارية الكبرى للأمبراطورية الرومية وهي بحسب الترتيب: رومية القديمة، رومية الجديدة، الاسكندرية، انطاكية، اورشليم. وحتى الترتيب الاكرامي فهو يتطابق تماماً مع الترتيب الاكرامي لمراكز الامبراطورية وليس لسبب آخر، وهو ما تشهد عنه بوضوح قوانين المجامع المسكونية .
ما هو مؤلم في تاريخ الكنيسة الرومية (أو الرومانية) هو بروز الهرطقات الكبرى التي يسّر انتشارها في أرجاء الامبراطورية كافة توقف الاضطهادات. وقد زرعت هذه الهرطقات الشكوك والنزاعات في كل مكان مما اضطّر أباطرة الامبراطورية المسيحيون، كما أشرنا أعلاه، لعقد المجامع المسكونية. من هذه المجامع المجمع المسكوني الرابع الذي انعقد في مدينة خلقيدون سنة 451 للرد على هرطقة أوطيخا. وللأسف الشديد فقد أدّى تشابك ظروف مختلفة سبقت ورافقت انعقاد هذا المجمع الى سوء تفاهم متبادل بين فريقين ازداد سوءاً مع الزمن وتحوّل الى خلاف حاد في وجهات النظر مما أدّى بالنتيجة فيما بعد الى تشكيل كنائس مستقلة رافضة لقرارات المجمع الخلقيدوني وهي الكنائس القبطية والسريانية، بالاضافة الى الأرمنية والاثيوبية واللتين كانتا خارج حكم الامبراطورية الرومية. وبكل تأكيد فلم يكن الذين رفضوا قرارات المجمع هم حصراً من أبناء الشعوب التي تنتمي اليها الكنائس المذكورة بل كان هناك رافضون كثر من شعوب أخرى. بالمقابل كانت هناك غالبية كبيرة في غرب وشرق الأمبراطورية قبلت قرارات المجمع المذكور، ليس فقط من الرومان أو الاغريق بل من جميع الشعوب دون استثناء، ومن بينهم من كان من شعوب الكنائس الشرقية ذاتها المشار اليها آنفاً. من هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر كان الموارنة ذوو الأصل السرياني. وللتأكيد على حقيقة أن أبناء الكنيسة الرومية كانوا من جميع شعوب الأمبراطورية الرومية قاطبة نشير ان اللغات المستعملة في عبادة الكنائس المحلية الرومية لم تكن فقط اليونانية واللاتينية بل أيضاً لغات الشعوب الأخرى. وقد بقي هذا التنوع اللغوي في القسم الشرقي من الامبراطورية بعد قرون من انفصال الكنائس المذكورة، ولا يزال حتى اليوم. يشهد على ذلك، مثلاً في تراث كنيسة أنطاكية للروم الأرثوذكس، المخطوطات والكتب الليتورجية الرومية في اللغة السريانية (اللغة المشتركة لكثير من الشعوب الشرقية) التي تصادف في بعض الأديرة والكنائس القديمة، الى جانب المخطوطات والكتب في اللغتين اليونانية والعربية. هذا ولا يزال البعض من أبناء كنيسة الروم في بعض القرى* يتكلمون فيما بينهم اللغة الآرامية (وهي أصل اللغة السريانية) حتى اليوم.
من هذا المنظار يمكننا القول ان من بقيوا يسمون روماً حتى اليوم هم من جميع شعوب الكنيسة الرومية الذين قبلوا المجامع المسكونية السبع مع غيرها من أصول التراث الرومي. أما اسم الملكيين، والذي شاع في فترة ما قديماً فلم يطلقه الروم على أنفسهم بل أبناء الكنائس غير الخلقيدونية عليهم لأنهم في نظرهم قد تبعوا الملك. وفي الواقع فالذين قبلوا المجامع المسكونية لم يتبعوا ملوك الامبراطورية الرومية بل قديسي الكنيسة الرومية. لأن هؤلاء الأخيرين جاهدوا في كثير من الأحيان – مع نفي وتعذيبات كثيرة بلغت أحياناً حدّ الاستشهاد** – ضد ما تبنّاه ملوك كثيرون في مراحل مختلفة فصاروا الأعداء الشرسين ضد الايمان الذي نادى به الرسل والقديسون، والذي ثبّتته فيما بعد المجامع المسكونية في عهد آخرين.
مما سبق يبدو واضحاً أن الكنيسة الرومية لم تكن واحدة من الكنائس القديمة التي استقلت بعد القرن الخامس، محتفظة بتراث خاص يخص شعباً معيناً ولغة معينة. الكنيسة الرومية، كما رأينا، هي الكنيسة الأولى الجامعة التي نشأت في القرن الأوّل بعد تبشير الرسل لجميع أقطار وشعوب الأمبراطورية الرومية (الرومانية). وبالتالي فتراثها لم يكن تراث شعب واحد، انه مساهمة مشتركة، من قديسي ومؤمني جميع أولئك الشعوب في العيش والتعبير عمّا تسلّموه من الرب يسوع والرسل. ولأن هذه الكنيسة مسكونية الطابع فقد ساهمت منذ القرن الأوّل – ولكن بصورة خاصة بعد تنصّر الأمبراطورية – في دعم الكنائس التي كانت تتأسّس خارج الأمبراطورية مثل ايران وجيورجيا وأرمينيا وايثيوبيا والعربية الخ… وفي القرن التاسع سوف تؤسس بعثات منظمة لتبشير الشعوب السلافية والبلقانية. وسوف تثمر هذه الجهود عن تأسيس كنائس عظيمة مثل روسيا وبلغاريا ورومانيا وصربيا…، تشكل امتداداً غير متغير للكنيسة الرومية في الايمان والحياة والتراث.