الأسبوع العظيم المقدّس
الأسبوع العظيم المقدّس بكامل أحداثه ومعانيه يُشكّل وحدة مترابطة ترابطا محكما؛ الأيام الثلاثة الأولى تذكّرنا بهدف الرحلة الصومية التي قطعنا شوطا كبيرا منها، ألا وهو انتظار العريس الآتي: “ها هوذا الختن (العريس) يأتي في نصف الليل فطوبى للعبد الذي يجده مستيقظا…”.
هذه الدعوة إلى انتظار العريس، المستوحاة من مثلَيْ العذارى (متى 25: 1-13) والوكيل الأمين (لوقا 12: 35-40)، تردّنا إلى ما أوصى به السيد، في ما كان يحدّث تلاميذه عن مجيئه الرهيب في اليوم الأخير، لمّا قال لهم “اسهروا” (مرقس 13: 33-37)0 وصيّة السهر -الذي نعيش مدلوله بقوّة في هذا الأسبوع- تدلّ على طبيعة جماعة يسوع وعملها (الإعلان عن اليوم الاخير) في هذا الزمن الرديء، وهذا، لا شكّ، تستطيعه إذا سمّرَتْ عينيها على “خدر المسيح” (الخدر هو الغرفة الزوجية)، وأدركت أنها بقدرتها “لا تملك رداء للدخول إليه”، وانه وحده يعطيها الحلّة الجديدة إذا ما اتّخذها لنفسه عروسا على الصليب .
يُشير إنجيل صلاة سَحَر يوم الاثنين العظيم (صلاة السَحَر هي الصلاة المعروفة شعبيا بصلاة الخَتَن) التي تقام، وفق الممارسة الحالية، مساء أحد الشعانين، إلى أن التينة التي لعنها الرب يبست (متى 21: 18-23)0 والتينة رمز إلى كهنة الهيكل والفريسيين الذين لم يثمروا، والى العالم الذي خُلق ليحمل ثمرا روحيا وأَخفقَ، وهي تنقل تحذيراً إلى كل نفس عقيمة لا تعمل، في العالم، عمل الرب. ينتهي المقطع الإنجيلي بمثلين، الأول هو مثل الابنَيْن اللذين أرسلهما والدهما إلى العمل في كرمه فرفض الأول ثم تاب وذهب، وقَبِلَ الآخر لكنه لم يذهب . والثاني هو مثل العَمَلة القتلة الذين قتلوا مُرْسَلي صاحب الكرم وابنََه. فنتعلّم من المثل الأول أن الرب الذي يرغب في قبول التائبين يكره التواني، ومن الثاني أن العريس الذي غرّبه بنو جنسه وقتلوه هو “حَجَر الزواية” في البناء .
نقيم في هذا اليوم ذكرى يوسف العفيف الذي أبغضه إخوته وباعوه ، أودية قانون السَحَر تشير مراراً إليه ، يوسف هو مثال للأمانة التي هي شرط للدخول إلى خدر المسيح .
يتابع يوم الثلاثاء العظيم (الذي يؤدّى الاثنين مساء) التأمل في موضوع عودة المسيح ديّان البشر . نصوص هذا اليوم تحضّنا على ضرورة اليقظة (أكدت نصوص يوم أمس أن يوم الربّ رهيب ولا يأتي بمراقبة)، واقتناء الاستعدادات الداخلية التي يستلزمها هذا الحدث. فتُذكّرنا صلاة السَحَر بوجوب محبّة العريس وتهيئة المصابيح لامعة بالفضائل والإيمان، حتى متى جاء السيد يصطحبنا معه في عرسه .
الأُنشودة الثانية في الخدمة مستوحاة من التلاوة الإنجيلية (متى 22: 15-23: 39)، وهي تشير إلى مجمع المشورة الحائد عن الشريعة الذي ألّفه الحسّاد الذين هم رؤساء اليهود (الكهنة والكتبة والصدّوقيون والفريسيّون…) على يسوع، فاستحقّوا -وكل من يتبع تآمرهم- التوبيخ الطويل الوارد في التلاوة، لكونهم لا يكتفون بعدم الدخول إلى الملكوت ولكنهم “لا يتركون الداخلين يدخلون” .
الأمثال الثلاثة التي يطالعنا بها إنجيل خدمة القدسات السابق تقديسها (متى 24: 36-26 :2) تتحدث عن النهاية واليوم الأخير الذي يختبئ السيد وراء بشريته، كما قال المطران جورج (خضر)، عندما يعلن أن تلك الساعة لا يعرفها أحد إلا “الآب وحده” . المثل الأول في التلاوة هو مثل العبد الرديء الذي يفاجئه سيده في يوم لا ينتظره وفي ساعة لا يعرفها ويجعل نصيبه مع المرائين، لانه لم يكن حكيما ولا أمينا على العمل الذي أقيم عليه . والمثل الثاني هو مثل ” العذارى العاقلات والعذارى الجاهلات”، وهو قصة فتيات عشر، خمس منهن حكيمات في استعدادهن لانتظار الرب الذي يفسره زيت آنيتهن، وخمس جاهلات من حيث إن مصابيحهن، التي هي رمز الى نفوسهن، لم تكن مهيأة لاستقبال العريس عندما أتى ودخلت معه المستعدّات الى العرس . لا شكّ أن الزيت هو رمز الى الإيمان والأعمال كما فسّر آباؤنا القديسون ما يُظهره هذا المثل هو أن الزيت شخصيٌّ ولا يمكن استعارتُهُ، وأن النفس التوّاقة الى الرب تُكَوِّنُ طاعتُها لكلمته المحيية شوقها إليه . ويُعلّم هذا المثل مع “مثل الوزنات” الذي يتبعه أن الرب سَيَدِينُ الناس على أساس حكمته الأزلية التي كُشِفت في ابنه يسوع، وليس على أساس ظنونهم وتبريراتهم، ويذكّرنا بأن لا نبرّر نحن أنفسنا، فالحكيم هو مَن صدّق خبر الرب وبنى حياته عليه وانتظر، بتيقّظٍ، ما سوف يُكشَف في اليوم الاخير .
تضع الكنيسة أمامنا في يوم الأربعاء المقدّس (تقام الثلاثاء مساءً) صورة المرأة التي دفقت الطيب على رأس يسوع في بيت عنيا (متى 26: 6-16).الترنيمة الشهيرة التي نرنّمها في صلاة الخَتَن، والتي مطلعُها: “يا ربّ إن المرأة التي سقطت في خطايا كثيرة…”، كتبَتْها، على ما يُعتقد، القديسة كَسْياني، وهي الفتاة التي قبلت أن تُرصف بين زميلات لها تَجَمَّعْنَ لكي يختار الإمبراطور عروسا له منهن ، وعندما وقع اختيارهُ عليها لحسنها الفتّان، تذكّرت عفَّتَها ورغْبتها بأن تبقى عروسا للرب ، فهربت واختبأت في أحد الأديرة، وأعلنت نفسها نظير تلك الزانية لمرورها بهذه التجربة، وتابت بدموع كثيرة، كما تقول الصلاة، وهكذا تيسّر لها، كما قال أبونا البار يوحنا السلّمي في الزانية: “أن تدفع عشقاً بعشق” (المقالة 5: 26) .
تضع الكنيسة أيضا أمامنا في هذا اليوم صورة يهوذا الذي خان معلّمه وباعه “بثلاثين من الفضة” ، لعلّ الربط بينه وبين المرأة الخاطئة أساسه ما أورده يوحنا في إنجيله، لمّا كشف لنا أن هذا “التلميذ العاقّ والمحب الفضة” أطلق احتجاجا عنيفا على ما أظهرته المرأة من كَرَمٍ على يسوع (12: 1-8).
يرتبط هذا اليوم ارتباطا ظاهرا باليومين الفائتين، صورة يهوذا الذي باع “الذي لا ثَمَنَ له”، تَرِدُ أيضا في صلاة يوم أمس، فنتعلّم أن نصلّي الى الرب: “أن ينقذنا مِن حزبه، ويمنح الغفران للذين يعيّدون لآلامه الطاهرة” . حزب يهوذا رأينا أعضاءه في وجوه الفريسيين والكتبة…، وأمثالُهم لن يتمكّنوا من التعييد لآلام الرب الطاهرة وقيامته، لأن مَن تحكّمت فيه الخطيئة “يَصلب المسيحَ مجدداً”، ولا يعيّد إلا الذي تاب عن زلاّته بصدق كبير.
تُذكّرنا المرأة الخاطئة بيوسف العفيف والعذارى الحكيمات…، وتجعلنا، بتركيز أشد، نفضّل يسوع على كل ما في الوجود: “الفقراء معكم في كل حين، وأما أنا فلستُ معكم في كل حين” . واما توبتها العظيمة (أو حبّها الكثير، كما يحلو ليسوع أن يقول) فتردّنا الى موضوعَيْ الأمانة والسهر، وذلك أن يسوع الذي أنت أمين له ومتيقظ لمجيئه، وإن بدا مغلوبا ومُسلَّما للموت، فهو الذي سيأتي في اليوم الاخير ليدين العالم . التوبة التي هي أساسية في هذه الأيام الثلاثة، وفي كل وقت، تعطينا وحدها أن نشترك في فصح الرب وتفتح لنا أبواب الوليمة السرية .
في نهاية الخدمة الصباحية، بعد أن يتلو الكاهن لآخر مرة صلاة القديس أفرام السرياني، تنتهي فترة التهيئة إذ إن الرب يدعونا الى عشائه الاخير .
في مساء اليوم ذاته نقيم صلاة الزيت المقدّس، التي تشاء الكنيسة أن نتمّمها للمرضى في بيوتهم ، هي عزاء يتقبله المؤمنون ليدخلوا بنقاء اكبر في صلوات النصف الثاني من أسبوع الآلام .
يُدخلنا يوم الخميس العظيم في السر الفصحي ؛ تتميّز صلوات هذا اليوم بثلاثة أحداث، هي: عشاء الرب الأخير مع تلاميذه وغسله أرجلهم، وخيانة يهوذا. الحدثان الأولان يكشفان ذروة محبة الرب المخلّصة العالم، بينما خيانة يهوذا تُظهر سرّ الإثم الذي هو انحراف المحبة وتشويهها نحو شيء لا يستحق المحبة. سرُّ الإثم هذا هو الذي دفع المسيح الى الصليب .
إحدى ترانيم صلاة السَحَر -التي تحجبها صلاة تقديس الزيت- توجز معنى طقوس هذا اليوم، تقول الترنيمة: “لنتقدّم جميعنا بخوف الى المائدة السرية ونتقبل الخبز المقدّس بنفوس طاهرة ونمكث مع السيد، لكي نعاين كيف يغسل أقدام التلاميذ وينشّفها بالمنديل فنقتدي به…، لأن المسيح نفسه هكذا أمر تلاميذه وصار قدوة لهم، إلا أن يهوذا ذاك العبدَ الغاشّ، أبى أن يسمع وأمسى عادم التقويم” . تدعونا هذه الترنيمة الى أن نتقدم الى المائدة السرية حيث يكمن سر العلّيّة التي اختار الرب أن يصنع الفصح فيها، ليؤسّس مذاق الحياة الأبدية، غير أن العشاء السري هو عربون الآلام أيضا، وذلك أن الفصح في العلية كان يستدعي ذَبْح الحَمَل الذي هو المسيح على الصليب . في هذا اليوم قدّم يسوع جسده ودمه كذبيحة كان قد التزم أمام أبيه أن يتمّمها فدخل معنويا في آلامه .
تكشف ترانيم هذا اليوم كيف يختلط النور والظلام، والفرح والحزن…، هذا الاختلاط يُظهر أن ساعة اكتمال المحبة هي أيضا ساعة اكتمال الخيانة . يقول الإنجيلي يوحنا انه عندما كان التلاميذ مجتمعين في العلّيّة ترك يهوذا النورَ وذهب “وكان ليلا” (13: 30)، ذلك انه أراد أن يُظهر كيف أن الظلمة تحكّمت فيه واحتلت كيانه فانحرف عن محبة خالقه وغرق في محبة العالم التي “الثلاثون من الفضة” صورة عنه .
كان يوحنا قبل هذا قد أظهر خيانة التلميذ واستسلامَهُ للشيطان قبل أن يخرج من العليّة، إذ أورد قول السيد: “إن واحدا منكم سيُسلمني… هو ذاك الذي أغمس أنا اللقمة وأُعطيه . فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا الإسخريوطي، فبعد اللقمة دخله الشيطان” (13: 18-27). غير أن محبة الله، كما يقول الأب ليف جيلِه، لا تختفي من الحدث، وذلك أن الإنجيلي يوحي أن الرسل ظنّوا أن يسوع كان قد كلّف يهوذا بشراء بعض الأشياء أو بإعطاء بعض النقود للفقراء ليقيموا العيد . لكن الحقيقة التي لم يتوقّعها أحد هي أن السيد أرسل يهوذا لشراء حَمَلِ الله الفصحيّ بثلاثين من الفضة. هذا الكَرَمُ، الذي أظهره يسوع في قبوله أن يكون “الضحية السرية” التي ترفع خطايا العالم، يفوق، بما لا يقاس، حجم مغريات العالم وخياناته كلها .
طقس غسل أرجل التلاميذ يقيمه عادةً في بعض الكنائس الأسقف أثناء تلاوة الإنجيل الذي يروي الحدث (يغسل أرجل اثني عشر كاهنا)، فيذكّر بمحبة السيد التي هي أساس الحياة الكنسية والتي تطبع كل العلاقات فيها . يوحنا هو الإنجيلي الوحيد الذي تكلّم عن هذا الغسل، ولا يقول شيئا في هذا اليوم عن تأسيس سر الشكر (كان قد تكلّم عنه في الإصحاح السادس من إنجيله). لقد أراد بصورة واعية أن يستبدل ظاهرة الغسل -التي لم تكن طقوس الفصح اليهودي تُفرِد وقتا له- بكسر الخبز، ليعبّر، بطريقة أخرى، عن محبة المسيح المتواضعة وعن موته المزمع أن يتمّه من اجلنا؛ يصوّر يوحنا الطقس بدقة وتفصيل: “خَلَعَ” يسوع ثوبه، ثم “استعاده”. الفعلان اليونانيان اللذان نقرأهما هنا يُستعملان ليدلا على موتٍ قَبِلَهُ يسوع طوعا وعلى قيامةٍ عاشها.
يقودنا يوم الجمعة العظيم الى الجلجلة. في الكنيسة الأولى سمّي هذا اليوم “فصحَ الرب”، لانه واقعيا، بدءُ الفصح الذي سيتضح معناه لنا تدريجيا في روعة السبت العظيم المبارك وفرح القيامة .
يبدأ هذا اليوم بخدمة أناجيل الآلام التي تقام مساء الخميس، فنتلو كل روايات الآلام (اثنتي عشرة تلاوة) كما وردت في الأناجيل الأربعة، لكي لا يفوتنا شيء من بهاء محبة السيد وخلاصه، بعد تلاوة الإنجيل الخامس يُطاف بالصليب المقدس ويؤتى به الى وسط الكنيسة، وذلك أثناء ترتيل: “اليوم عُلِّق على خشبة…”. وبعد أن يُثبت في موضعه يسجد المؤمنون أمام مظاهر تواضع السيد الطوعيّة .
تأخذ الساعات الملوكية، التي تُتلى صباحا، محلّ القداس الإلهي، وذلك “لأن الامتناع عن إقامة القداس في هذا اليوم يعني أن سر حضور المسيح لا يخصّ هذا العالم، عالم الخطيئة والظلمة، ولكنه سرّ العالم الآتي” . تضعنا هذه الصلوات أمام صليب المسيح وتدعونا الى التأمل في الحدث وتمجيد محبة الله العظمى . لقد أُلقي القبض على المسيح، ولكنه صبر “ليُكَمِّل” ما قد أعلنه بأنبيائه قديما، فَحُكِم عليه بالموت، وأنكره بطرس وشتمه، ومدّ يديه على الصليب، و”عُلِّق على خشبة”.
بعد الساعات تُقام صلاة الغروب التي تُدعى “خدمة الدفن”، يطاف خلالها بالنعش (وهو عبارة عن قطعة من القماش رُسمت عليها صورة المسيح في حالة الموت) ويوضع في صحن الكنيسة وفوقه كتاب الإنجيل ليُقبِّلَهما المؤمنون، فيما ينشد المرتّلون: “إن يوسف المتّقي أَحدرَ جسدَكَ الطاهر من العود، ولفّه بالسباني النقية وحنّطه بالطيب وجهّزه وأضجعه في قبر جديد” .
تحمل الخدمة كل اليقين أن الموت سيتحطم، لأن “حياة الكل” الذي دُفن ومات قد أَرعب الجحيم .
تقودنا سحرية يوم السبت العظيم (الجناز) الى قبر السيد، فالتسابيح الثلاثة تجعلنا ننذهل أمام موته وقبره، فنشدو له ونحن في انتظار القيامة، متحيّرين كيف وُضع الحياة “في قبر”. وتتوالى التقاريظ نُعظِّم فيها المسيح “معطي الحياة”، ونتغنى بسره ممجدين مَن كان “خلاصنا المحيي” و “ربيعنا الحلو” . ونُشْرِفُ على سبت الخليقة الجديد “الذي فيه استراح ابن الله الوحيد مِن كل أعماله، لما سَبَتَ بالجسد بواسطة سر التدبير الصائر بالموت” .
ما تريد خدمة اليوم أن تعلنه هو أن الموت أُميت، وذلك أن الكنيسة، كما يقول الأب ألكسندر شْميمَن، تصرّح، في ما تنتظر الفصح، عن حدث يقوم قبل يوم الفصح، لا ليستبدل الفرح بالحزن، وإنما الحزن ذاته يتحول فيه الى فرح . السبت العظيم هو يوم هذا التحول الذي ينمو فيه النصر من داخل الهزيمة. لقد مات مَن (يسوع ابن الله) يستطيع أن يحمل الموت البشري ويتغلب عليه ويحطّمه من الداخل. مات حياةُ الكل ونبعُ كل حياة من اجل الكل، ولذلك كل ما يحدث لحياته يحدث أيضا للحياة ذاتها،هذا النزول الى الجحيم جابه فيه يسوع موتَ كلِّنا وانتصر عليه.
صباح اليوم التالي نقيم القداس الإلهي الذي كان في ما مضى قداس العيد ، تعلن تراتيل الغروب بداية غلبة المسيح على الجحيم والموت: “اليوم الجحيم تنهدت صارخة: لقد كان الأجدر بي أن لا أَقبل المولودَ من مريم، لأنه لمّا أَقبل نحوي حَلَّ اقتداري وسحق أبوابي النحاسية… فالمجد لصليبك، يا رب، ولقيامتك” .
تذكر أول النبوءات الثلاث في الخدمة قصة الخلق، وهذا يناسب خدمة المعمودية التي كانت تقام في تلك الليلة العظيمة، معمودية الموعوظين، أي أولئك الذين كانوا قبلا وثنيين فارتَدُّوا وتعلَّموا الإيمان، هي لهم ولادة جديدة، خَلْق جديد، وهي أيضا قيامتهم من بين الأموات. تهيئنا قصة الفصح الموسوي التي ترويها التلاوة النبوية الثانية للفصح الجديد، أما قصة الفتية الثلاثة الذين طُرِحوا في أتون النار لأنهم رفضوا السجود لتمثال الذهب، فتطالعنا بها التلاوة النبوية الثالثة، وهي ترمز الى غلبة المسيح القائم من بين الأموات . الرسالة هي للمعمودية،أما الإنجيل فهو أول نص تُسمعنا إياه الكنيسة في زمن الفصح يتحدث عن القيامة، فيصف زيارة النسوة للقبر، وإعلان القيامة على لسان الملاك، واجتماع الكهنة اليهود، وأخيرا ظهور يسوع الرب لتلاميذه المجتمعين في الجليل .
ننتظر في السبت العظيم المقدّس يوم الفصح العظيم ونمتد إليه، يبقى أن شرط رؤيتنا إياه هو: “أن يصمت كلُّ جسد بشري… ولا يفتكر في نفسه فكرا ارضيا” . هذا التحذير من الفكر الأرضي، الذي تُسمعنا إياه ترتيلة الدخول الكبير في القداس الإلهي، يذكّرنا -في آخر يوم قبل الفصح- بأن التوبة، كما ذقنا معانيها طيلة الأسبوع، هي التي تمكّننا وحدها من التأهب لاستقبال الفصح العظيم .
الفرح والسلام في خدمة القيامة
القيامـة عيد الفـرح والسلام . هـاتان الكلمتان تتكرران مرارا في كل خدمة لأحد القيامة، فيشيع معـهـا، في قلب المؤمن، شعور بالغبطـة والارتيـاح. فالقانون الذي يرتل في أحد القيامة يقول: “لتفرح السمـاوات ولتـتهلـّل الأرض بواجب اللـياقـة، وليُعيِّد العالم كله الذي يُرى والذي لا يُرى، لأن المسيـح قد قام سروراً مُؤبـداً” (قانون 1: 3). وأيضا: “إن داود جدّ الإله قد رقص تُجاه التابوت الظلي، وأما نحـن، الشعــب المُقدس للـه، فاذ قد أبصرنا نجاز تلـك الرمـوز فـلنسرَّ سـرورا إلهيـا، لأن المسيح قد قام بما انـه على كل شيء قدير” .
إن هذا الفرح يشمل كل الخليقة، ويعمّ كل المسكونـة. ذلك أن خطيئة آدم الأول دخلت الى العالـم، وسبّبت الموت لجميع النـاس، وزرعت بالتالي الحزن والاكتئاب في جميع القلـوب. لكن قيامة آدم الجديد (المسيح) بدّلت الحزن بالفرح، ونثرت السلام بدل الانفصال والبُعـد والفرقـة في أرجاء العالم كلـه. فقد تمّت المصالحة بين اللـه والإنسان، وعادت حياة الله تسري في نفس كل من آمن بأن المسيح مات ثم قام: “يا مُخلِّصي، يا من هو القـربان الحي غير الذبيح بما انه إلـه، لقد قرَّبتَ ذاتك للآب باختيارك، ولما قمتَ من القبر أقمتَ معـك آدم وذريته كلهـا” (قانون 6: 3).
“هذا هو اليوم الذي صنعه الرب فلنفرح ونتهلل به” (مزمور 18: 24)، لأن المسيح، الذي قام وانتصر على الموت، هدم أبواب الجحيم، وجعل الإنسان نفسه منتصرا على الموت: “إننا معيِّدون لإماتة الموت ولهدْم الجحيم ولباكورةِ عيشةٍ أُخرى أبدية، متهلّلين ومسبِّحين من هو علَّةُ هذه الخيرات، أعني به إله آبائنا المبارَك والمُمجَّد وحده” (قانون 7: 3).
فبعد القيامة لم يعد للموت من سلطان على الإنسان: “فأين شوكتكَ يا مـوت؟ أين انتصاركِ يا جحيم؟ قام المسيح وأنت صُرعتِ ، قام المسيح والجن سقطت، قام المسيـح فانبثَّت الحياة في الجميع. قام المسيح ولا ميت في القبر، قام المسيح من بين الأموات فكان باكورة للراقدين” (عظة الفصح للقديس يوحنا الذهبي الفم) .
لا يفرح المؤمن فقط بانتصار المسيـح على الموت، بل أيضا من الإيمان ببقاء المسيـح مع المؤمنـين الى الأبد بسبب القيامـة: “يا ما أشـرف، يا ما أحب، يا ما ألدَّ نغمتـك أيها المسيـح، لأنك قد وعدتنـا وعدا صادقـا بأنك تكون معنا الى نجاز الدهر، الذي نحن المؤمنين نعتصمُ بــه كمرساةٍ لرجائنا، فنبتهـج متلّلهـين” (قانون 9: 3) .
إن ثمرة هذا الفرح هي السلام. فالمسيح القائم من القبر أعطى السلام لنسوة: “وفيما هما منطلقتـان لتخبـرا تلاميـذه إذا يسوع لاقـاهما وقـال سلامٌ لكما” (متى 28: 9)، ولتلاميذه: “ولما كانت عشيـة ذلك اليـوم وهو أول الأسبوع وكانت الأبواب مغلـقـة حيث كان التلاميذ مجتمعين لسبب الخوف من اليهـود جاء يسـوع ووقـف في الوسط وقال لهم سلامٌ لكم” (يوحنا 20: 19). فالكلمة الذي تجسد في آخر الأزمنة، ومات، وقام، وهب العـالم السلام، فبمـوتـه وقيـامتـه أعطانا حيـاة جديدة لا يسودها المـوت: “ولئن كنـتَ نـزلت الى قبـر يا مـن لا يمـوت، إلا انك درست قـوة الجحيم، وقمتَ غالبا أيها المسيح الإلـه، وللنسوة حاملات الطيب قلتَ افرحنَ، ولرسلك وهبـتَ السلام، يا مانح الواقعـين القيـام” (قنداق العيد) .