انكم ان ثبتم في كلامي فبالحقيقة تكونون تلاميذي وتعرفون الحق والحق يحرركم "
(يوحنا:8 – 32)
الحق الكلمة المحببة التي كانت على لسان المسيح ،وهي كانت نهج الأنبياء في إعلان الحق ومحور رسالتهم . في العهد الجديد ان الحق ظهر بطريقة ملموسة حية وشخصية عبر إعلان المسيح بأنه هو :" انا هو الحق" ( يوحنا 14: 6 ) .اي ان الحقيقة هي يسوع نفسه . وهذا كان استعلان لله في ذاته كأبن له ، وذلك ليس في الفكر بل في مستوى الحياة والعمل .
لذا ليست الحقيقة صفة مجردة نجدها في الأشخاص والأشياء، أنها حضور يسوع التاريخي ، الذي مات وقام لأجلنا ، " ان الحقيقة هي في يسوع " ( افسس:4- 21 ) . وليس هو كائنا سماوي بالمعنى الغنوصي ، أيضا الحقيقة لا تحمل طابع أو صفة انطولوجيا كيانيا بل تؤكد تماثلا أو تماهي بين يسوع والحق فخارج يسوع لا يوجد الحق أو الحقيقة "انه الحق كله " (يوحنا : 5 – 33 ) .
فالشيء الجديد الذي جاءت به المسيحية عن المسيح انه هو نفسه الحق ( يوحنا 16 – 6 ) . فهو كذلك لا بصفته الإلهية بل من حيث انه الكلمة الذي صار بشرا ، يحمل في ذاته ملء الوحي ويخبرنا عن الله الآب ( يوحنا 1- 8 ) .
يشرح يسوع معنى اللقب بإدخاله بين لقبين آخرين " وهو الطريق والحق والحياة " فهو الطريق المؤدي إلى الآب لهذا السبب بالذات وبصفته الإنسانية هو الحق ، فيستطيع أن ينقل إلينا في ذاته وحي الآب ( يوحنا 17 ) . وهكذا يشركنا في الحياة الإلهية . وأيضا هذا اللقب يشرح لنا عن شخص المسيح الإلهي ، فإذا كان يسوع هو الوحيد بين الناس الذي يمكنه ان يكون الحق فلأنه في الوقت نفسه هو الكلمة " الكلمة في حضن الآب" أي الابن الوحيد .
فان دور أو هدف الحق أو الحقيقة في حياة المؤمن هو ان يلزم ان يكون من الحق لكي يصبح إنسانا مولودا من الروح ، هذا لا يحصل الا ان يثبت ويؤمن في كلام المسيح " أنكم ان ثبتم في كلامي فالحقيقة تكونون تلاميذي وتعرفون الحق والحق يحرركم " ( يوحنا : 8- 32 ).
من هنا ربط المسيح بين التلمذة والثبوت . فالثبوت هنا ليس ثبوت فكر مع فكر بل ثبوت أشخاص والتلمذة الصحيحة هي الثبوت في كلام المسيح أي الإيمان به " ان ( انتم ) ثبتم في كلامي فالحقيقة تكونون تلاميذي " المسيح يريد ان يحول أو يغير تفكير التلاميذ وآمالهم وظنونهم من أحوال دنياهم إلى أحوالهم القلبية الداخلية وحياتهم مع الله فصار التلاميذ يتتلمذون للحق .يعرفونه ويسيرون بمقتضاه فيتحررون من أهوائهم الداخلية التي أبعدتهم عن الله .
الثبوت والتلمذة تعني القبول أو التبني حق يسوع " اما من يفعل الحق فيقبل إلى النور لكي تظهر اعماله انها بالله معمولة" ( يوحنا : 3- 21 ) ، أو بالرجوع إليه بإقرارنا بخطئنا " ان قلنا ان لنا شركة معه وسلكنا في الظلمة نكذب ولسنا نعمل الحق ( 1 يوحنا : 6 ) .
أيضا يحتم على الثبوت والتلمذة السلوك في سبيل الحق ،يعني السير في طريق المحبة " من قال انه ثابت فيه ينبغي انه كما سلك ذاك ( المسيح ) هكذا يسلك هو ايضا " ( 2 يوحنا : 6 ).
لذلك ان التلمذة الصحيحة تقوم على المعرفة الصحيحة للحق، ولا يمكن ان تحسب التلمذة صحيحة إلا إذا اختبر ثبوتها ورسوخها وعدم تزعزعها . " اثبتوا فيّ" ، اثبتوا في محبتي . ان حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي . إذا الثبوت في المسيح يعني التفتح البصيرة والذهن واستعلان الحق .
كذلك الحق يكون هنا ليس هو الحق الفلسفي الفكري ، الذي ينتهي عند العقل لمعرفة حقيقة الأشياء وجوهرها ، بل الحق الروحي الذي يؤدي الى الحياة في الله ومعه، هو الحق الذي يؤدي الى السلوك والعمل والحب والتضحية .
إذا يسوع هو الحق ،لذلك يظهر الكتاب المقدس مفهوم الحقيقة بمعنى الأمانة الإلهية ، أي ان المسيح يحمل في شخصه صفتين تنسب الى الله وهما الحب الرحيم والأمانة . لقد ظهر الله في كل تدخلاته المحبة الرحيمة والأمانة بالمواعيد الخلاص والتي تحققت بيسوع المسيح . " لان الناموس بموسى اعطي اما النعمة والحق في يسوع المسيح صارا " يوحنا1- 17 ) .
ان الحق في الكتاب المقدس يشهد علة الوجهة الأخلاقية للحقيقة ، حيث نجد الكثير من شواهد الكتابية تتكلم عن الحق وان نعمل الحق ، (تكوين 24- 49) . وهي تعني ان نمارس الأمانة وان تتوافق حياتنا مع مشيئة الله وان يكون لنا سلوك أخلاقي مستقيم وعادل وأهل للكرامة .
الأمانة المسيحية هي ان نعمل الحقيقة بطريقة ملموسة بالمعنى ان نعلن حاجتنا إلى الخلاص في يسوع ونؤمن به ونحيا كتلاميذ حقيقيين له وتتوافق حياتنا مع شريعته .
سوف ندان على الأمانة أو عدم الأمانة للحق لان الرسول الإلهي بولس يقول انتم خدام ولا يطلب من الخدام سوى شيء واحد وهو ان يكونوا أمناء . فان كنا خدام الأمانة للحق وللحقيقة التي بشر بها الإنجيل المقدس بالطريقة التي يريدها يسوع.
فيجب ان نتكلم عن المحاسبة والدينونة وان نقدم الحق والحقيقة الإنجيلية كما سلّمنا إياه يسوع وامّننا عليها ، هذا هو واجب كل مؤمن بالمسيح، فان قوة الانسان الحقيقية تعرف بالأمانة التي عليها بواسطتها ان يشهد للحق مقاوما الترغيب والترهيب . اذا الأمانة لمواجهة الاضطهادات .
لذلك لسنا في حاجة ان يغرينا احد للحق أو للحقيقة والحرية ، فلا يوجد شيء قط أفضل من الحق والحقيقة ، وان تشهد بشهادة الحق في هذه الحياة . وقتها يكون فرحي هذا قد كمل .
الله لم يعط الحق للإنسان لتزيد سعادته أو لتغنيه بخيرات الدنيا ، الحق أرسل لتوبة الانسان واقتياده للدخول من الباب الضيق والسير على طريق الرب الذي يؤدي إلى ملكوت الله وإنما بضيقات كبيرة وكثيرة .
لذلك يستحيل بلوغ الحرية للحياة بها إلا بمعرفة الحق، ويستحيل معرفة الحق إلا بالمسيح . هذا هو جوهر الإيمان المسيحي، فان الإيمان بالمسيح ليس نطقا ولا فكرا ولا فهما ، بل قبول المسيح ذاته .