نعيش اليوم في عالم يسوده العداء والحسد وساد عليه . فأصبحت الخلافات شغل الشعوب الشاغل ، وواقع تعيشه المجتمعات ، وتعاني منه معظم العائلات . فالسلام أمسى مجرد أنشودة يتغنى بها الجميع. إما الوفاق والسلام فتوارى بعيدا في عالم الأحلام ، وإذا نظرنا الى واقع حياة الإنسان، كفرد أو جماعة ، نرى الخلافات قائمة في البيت الواحد ، لتمتد حتى مع الأصدقاء لنصل الى حروب مع الدول … والكل يسأل ويطالب بالعدالة ، وفي اعتقاده انه على الصواب، لأنه يحاول أن يحيا ميزان العدالة .. أو شريعة حمورابي وموسى .
يقول الرسول الإلهي بولس : " لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحباء، بل أعطوا مكانا للغضب " ، فقد ورد في الكتاب المقدس : " قال الرب: لي الانتقام وأنا الذي يجازي " ( رومية 12: 19 ) . أليس الانتقام والجزاء الذي يتكلم عنهما الرب هو العدل الإلهي أي حب وغفران ومصالحة .. بينما جزاء الإنسان هو الانتقام وبطريقة شرسة وشريرة …
في هذا الضجيج والتخبط بشتى أنواع النزاعات والخلافات ، يسمع صوت رقيق ، يحمل في طياته موجات من الأمل ، فيعطي للعالم المظلم شعاعات من النور ، حاملا إليه رسالة الخلاص إلا وهي المصالحة ، مصالحة الإنسان مع ربه ومصالحة الإنسان مع أخيه الإنسان ومع الخليقة .
إذا دخلنا الى عمق الإنسان لكشفنا توقه إلى المصالحة مع ذاته ومع ربه وأخيه الإنسان ،لان المصالحة تجعله إنسانا وأخا حقيقيا لأخيه الإنسان .
غير ان الكتاب المقدس لا يعطينا او يقدم لنا صورة عن المصالحة بشكل سهل او بسيط ، فمن طلب المصالحة كان لا بد له ان يحصل عليها بعد منازعات وخلافات التي تمر في حياة الإنسان . مثلا الصراع والخلاف بين قاين وأخيه هابيل .
هذين الأخوين الأولين اختلفا الواحد عن الآخر، ليس بالاسم فقط ، اسم قاين يشير الى ان الرب هو سيد الحياة فبهذا الاسم إشارة الى ارتباط الحياة بخالق الحياة . ام اسم هابيل يعني الهباء والدخان يعني هذا ان هابيل لا يدوم ، بل بالمهنة وبعلاقتهما مع الله وأيضا بسبب الحسد الذي يقود الأخوين الى التقاتل .
مما جعل قاين يقتل أخاه :" فلما كانا في الحقل وثب قاين على هابيل أخيه فقتله " ( تكوين 4:
أمام هذا السؤال هناك موقف يأخذه الإنسان أما ان يعترف بخطيئته ام ينكرها. يختار قاين الكذب ويرفض هذه المسؤولية بالرغم انه يعرف أين أخوه ، رفض قاين ان يكون أخا وحارسا لأخيه . " أحارسا لأخي انا " .
من الصعب على الإنسان ان يفهم ان إحدى الطرق التشبه بالله والاقتراب منه هو ان يكون الإنسان حارسا لأخيه الإنسان . قتل قاين لأخيه هابيل ، جعلت العلاقة مشوهة بين الإنسان والله وبين الإنسان وأخيه الإنسان ، لان القتل هو مساس بأقداس المقدسات، وعلى قاين ان يبتعد عن الله لأنه أساء المعاملة مع الله ، وبالتالي انفصل قاين عن الله فأصبح بعزلة موحشة بحيث لا يستطيع ان يتحمل عبء الخطية ، فطلب من الله ان يكون حارسا له : " عقابي اشد من ان يطاق .. ومن وجهك استتر وأكون تائها شاردا، فيكون ان كل من يجدني يقتلني " ( تكوين4: 13 – 14 ) .
إلا أن الله سمع نداءه وحامه وهددا كل من يحاول قتله وجاعلا عليه علامة تحرسه من انتقام ، وفي ذلك تعبير عن رحمة الله اللامتناهية على قاين : " لذلك كل من قتل قاين ،فسبعة أضعاف يؤخذ بثأره منه " (تكوين 4: 15 ).
هناك أيضا صورة أخرى عن الصراع والنزاع والمصالحة في الكتاب المقدس وهي قصة الخلاف الأخوين عيسو ويعقوب اللذان وصلا في أخر المطاف إلى المصالحة .
بعد أن العدواة فصلت بينهما وجعلت كل واحد منهم يسعى في سبيل قتل الآخر . : " فبادر عيسو إلى لقائه وعانقه وألقى بنفسه على عنقه وقبله وبكيا " ( تكوين 33: 4 ) . لقد نال يعقوب رضى عيسو الذي تحول هو أيضا إلى إنسان جديد . يتعانق الأخوان في سلام عميق حيث خطاب القلب يستبق خطاب اللسان .
لا ننسى صرخة أيوب الشهيرة متسائلا : " ليس بيننا مصالح يضع يده على كلينا " . ثم ردَدت صدى هذه الصرخة أجيال وأجيال دونما جواب ، الى ان تمَ الزمان ، حين أرسل الله ابنه ليضع يده على كلينا " ويصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب قاتلا العداوة به " ( افسس 2: 16 ) .
غير ان الله اعدَ البشر لإتمام المصالحة التامة مع ذاته بإظهاره عفوه المتكرر لهم . فكشف بذلك انه " اله الرحمة والرأفة " ( خروج 34: 6) الذي تنازل من تلقاء ذاته . فعرض الله المصالحة مع شعبه من خلال الطقوس التطهيرية وشرائع العبادية الموسوية التي كانت تهدف في النهاية الى مصالحة الإنسان مع الله .
ومع ذلك لن تتم المغفرة التامة لانهم كانوا ينظرون الأفضل فجاء يسوع المسيح الذي أتم المصالحة الحقيقية الكاملة والنهائية على الصليب . ( افسس2 : 16)
فإذا أردنا ان نعرف في كلمة واحدة أداة المصالحة التي صالحهما (الاثنين) المسيح بها فهي الصليب ، الذي الغي به الناموس وهدم العداوة ، فصار اليهود كالأمم في المسيح . وبهذا يكون المسيح قد أكمل خلقة الإنسان الجديد في جسده إنسانا واحدا صانعا سلاما .
وبالتالي يكون الصليب قد صالح الاثنين مع الله في جسد واحد . وهكذا حينما نبلغ المصالحة ، يكون المسيح قد أكمل مصالحة العالم لله في وحدة نموذجية تحمل أصعب مصالحة ، ويكون الله قد أكمل جمع كل شيء في المسيح ، في جسد واحد .
وهكذا الرسول الإلهي بولس قد أكمل نسيج المصالحة الثنائية ، سداة ولحمة ، يهودا مع أمم ، الذين كانا يمثلان العالم آنئذ ، ثم مصالحة هذا الواحد المتحد بالله .
من هنا نفهم انه يستحيل ان يبقى الله في حالة عداوة للإنسان مهما غالى الإنسان في عداوته لله، فايجابية الله أكيد ستبلغ هدفها للمصالحة وتتخطى كل سلبيات الإنسان .
فان العداوة بالنسبة لله تنصب على الخطية وبالتالي على الخاطئ، أما المصالحة فهي تنحصر في الخاطئ فقط عندما يخلص من خطيئته ، لأنه لا تصالح مع الخطية من جهة الله. لهذا تمتنع المصالحة عن الخاطئ طالما خطيئته باقية.
لذلك ، فالمصالحة يلزم ان تكون متبادلة عن حقيقة واحتياج من جهة الإنسان، وعن رؤية شافية لخطورة بقاء الخطية مستترة وراء الإحساس الكاذب بالمصالحة، لئلا يعيش الإنسان في حالة خديعة لا يستيقظ منها الا بعد فوات الأوان ويكون هذا منتهى قصد العدو .
المبادرة للمصالحة جاءت من الله وجل الخليقة كلها، والتي يمثلها الإنسان على الأرض . وقد هيأ لله لهذه المصالحة المبادرة الفعالية الشاملة ، بان جعل في المسيح كل ملء الكيان الإلهي مع كل النعمة والقوة ليكون( الإنسان) الذي سبق في آدم ان جلب الغضب والعداوة بالخطية على الإنسان والخليقة ، ليكون الإنسان ايضا ( الإنسان في يسوع المسيح ) هو الذي يرفع حالة الغضب والعداوة ، يرفع سببها الوحيد وهو الخطية ، وذلك بقبول حكم الموت الواقع على الإنسان ، ليتبرأ إنسان يسوع المسيح ومعه الخليقة ويدخل الكل في حالة مصالحة مع الله .
وهنا المسيح المصالح للكل ، يدخل بصفته الخالق للكل والوسيط بين الله والإنسان . المسيح لم يصالح الله والإنسان والعالم كطرف ثالث بين الله والإنسان ، بل انه ابن الله والإنسان معا, لذلك صالح الطرفين معا في نفسه وبدمه .
صالح الله بالإنسان وصالح الإنسان بالله وبقي مصالحا كما هو عنصر مصالحة فعَالا ، ليس بموته وبدمه فقط تمت المصالحة بل بقيامته وحياته استمرت وتستمر بل وترقَى لتنتقل من مصالحة الى خص ابدي . ليظل المسيح مصدر تسبيح وتمجيد ومجد للآب بواسطة الإنسان " لأنه إن كنا ونحن أعداء قد صولحنا مع الله بموت ابنه " 0 رومية 5: 10) .
يؤكد ويوضع الرسول الإلهي بولس في رسالته الثانية إلى كورنثوس (5: 18 – 20 ) ان كل علاقة الإنسان الجديدة بالله لم تأت من تسلسل بشري ولا نبوي ، حتى يكون للإنسان ضلع فيها ، بل يؤكد ان كل ما تم من مصالحة جاء مباشرة من الله عن طريق المسيح وبواسطته. لذا صارت الخليقة كلها خليقة جديدة متساوية في الجدَة ، وكل العتيق الذي من العهد القديم انتهى بكل مواريثه المتسلسلة .
لذلك فلا عذر لنا البتة ان كنا لا نصالح الآخرين ، مهما كان السبب . إن كنت في عداء مع أي شخص كان ، ولأي سبب كان ، تذكر ان مسيحيتك ، هي هي عبر العصور والأزمان ، ديانة المصالحة