الأعياد السيدية (مواعظ ومقالات)
الفصل السابع: يوم الجمعة العظيمة
الشماس اسبيرو جبور
في يوم الجمعة العظيم، أتممتَ عملَ الخلاص على الصليب. في يوم الجمعة القديم، أتممتَ خلقَ العالم فاسترَحتَ يومَ السبت. والآن يوم السبت العظيم تستريح من عمل الخلاص على الصليب. فذبيحةُ الصليب هي كمالٌ من أعمالِكَ الكاملة. ماذا فَعَلت هذه الذبيحة؟ نقَلت اللص من الموت الى الحياة ومن الأرض الى السماء. إنتقل اللص الى الفردوس وانتقل إبراهيم وكل الأبرار الذين آمنوا بيسوع من الجحيم الى الفردوس. فإذن، ذبيجة الصليب صَنَعت عالماً جديداً، هو غير العالم الذي خلَقه الله في البَدء وزَرعت المسيح في الإنسان بالمعمودية والقربان وصارت الطبيعة المهترئة تنعَمُ اليوم بطبيعةٍ إلهية تحوِّلها من الموت الى الحياة ومن جهنَّم الى فِردوس النعيم. هذا الفردوس يختلف عن فردوس آدم. فردوسُ آدم، حديقة، بستان، أما هذا الفردوس الجديد فهو العيش في نور الله، في غبطةٍ لا توصَف بعد تحوّل أجسامِنا الترابية الى أجسادٍ روحانية. والآن بعد الموت، تتمتع أرواحُنا بالنور الالهي بنِسَبٍ مختلفة بحسب برِّ كلِّ واحدٍ. فإذن، الصليب والقبر منطقتا عبور من الأرض الى السماء، من الجحيم الى الفردوس، من الموت الى الحياة. هذا غاية المطلوب. من الفساد الى عدم الفساد، من الترابي الى الروحاني. هذا الجسم الترابي سيصير روحاً. سيتبدَّل، سيتغيَّر.إذن وجه الخليقة برمَّتها قد تبدَّل، قد تغيَّر. الكون كلُّه تقدَّس بذبيحة الصليب. فأمام ذبيحة الصليب أنحني. هذه الذبيحة جدَّدت كلَّ كياني برُمَّته وأضحيتُ إنساناً سماوياً بينما لا أزالُ على الأرض وهذا الجسد الترابي أي جسدي سيصير جسداً سماوياً وروحانياً. منذ الآن بذبيحة الصليب انا في السماء. وانا الإنسان الترابي أتناول جسد المسيح ودمه لأحيا حياةً أبدية. فإذن منذ الآن انا أملُكُ باكورة الحياة الأبدية، انا منذ الآن مختومٌ بالروح القدس كعربونٍ للحياة الأبدية، منذ الآن أعيشُ الكَفَّارةَ في الدنيا والآخرة، منذ الآن انا مغسولٌ بأنبياء الطهارة والبِرّ والقداسة. فاذن، ما عَمَله يسوع بصليبه هو أنَّه غيَّرَ كياني. الآن، مؤقتاً، وبعد الموت تغييراً كاملاً.
كان الموت يخلق الناس بلا رجاء في خوفٍ أمام مجهولٍ كبيرٍ جداً. بعدَ موتِكَ على الصليبِ يا يسوع، صِرنا نقبل أن نصيرَ شهداء صليبِك. لم يعد الموت يُخيفنا، بل صرنا نتمنّى الموت من أجلك، نشتهي الموت من أجلك. شهوة الموت من أجلك صارت غاية المرام. لا همَّ لنا الّا الإنتقال من الأرض الى السماء، الإنتقال من الموت هنا في الخطايا والزلّات الى الحياة المجيدة في السماء. يا أيها المذبوح من أجل خطايانا، نسبِّح ونمجِّد ونبارك الاله الذي أعطانا هذه الهدية العظيمة. أمام هذه الذبيحة، أشعرُ بأنني نفاية النفايات ومع ذلك جعلَتني هذه الذبيحة انا النفاية حاملاً يسوع المسيح في داخلي. فأيُّ مجدٍ، أيُّ شرفٍ، أيُّ عزٍّ أصابَ الإنسان بهذه الذبيحة التي قدَّست الكونَ برُمَّته؟ كيفَ أشكُركَ يا الهي؟ سرُّ الذبيحة هو سرُّ الشكر، هي ذبيحةُ شكرٍ لأنه علينا أن نشكركَ يا يسوع على هذه العطيّة الثمينة جداً. علينا ان نُصبح ألسنةً من الشكر ومع ذلك لا نستطيع أن نُهديَك شيئاً يليقُ بكَ. أمام ذبيحة الصليب يُصيب البشر الدَهَش الكبير وتُخطف القلوب وتُخطف الأذهان، ويخطف الكيانُ برُمَّته. من أجل مَن ذُبِحتَ يا يسوع؟ من أجلنا نحن البشر الخاطئين الذليلين ومع ذلك إرتضيتَ أن تموتَ من أجلِنا لنموتَ فيك وننتقل معكَ من الموت الى الحياة ومن الأرضِ الى السماء ومن الذلِّ والعار الى المجد الأبدي. يسوع المسيح ذبيحة الصليب الحيّة، بقيامتِكَ من بين الأموات لا أستطيع أن أنطق بعظائمك كما نطَقت أمُّكَ. فأنا بائسٌ وشرير لكن أنت يا يسوع إجعل الناس كلُّهم ألسنةً من الشكر والحَمد والتسبيح والتأليه والتبريك لصنيعك العظيم جداً. هذا الصنيع ملأَ الكونَ مجداً. هذه الذبيحة جعلَتكَ تُقيمُ فيما بيننا باستمرار. صعَدتَ الى السماء ولكن بقيتَ معنا بفضلِ هذه الذبيحة. المذبح في كنائسنا يُشيرُ الى الجلجلة والمائدة تُشيرُ الى القبر. يوم الجمعة نُحِرتَ على الصليب ولكن في يوم الأحد أُقِمتَ من بين الأموات لنتناولكَ فِصحاً حيّاً أبدياً. دمجتَ حياتكَ بحياتِنا، جَعَلتَ من حياتِكَ وحياتنا نسيجاً واحداً، تغلغلتَ في كياننا، أحييتَ كلُّ مائتٍ فينا، أحييتَ رميمَ عظامِنا بينما نحن غيرُ جديرين بأيُّ شيءٍ من ذلك. بأي حقٍ نلامِسُكَ وأيدُنا أسيرة ولكن هكذا ارتضيتَ أن تتنازل من أجل ذلك لكي تعيش مع الناس وبين الناس ومن أجل الناس. كلُّ شيءٍ من مجدِكَ، كلُّ شيءٍ من فضلكَ. ربي يسوع المسيح يا ابن الله إرحمني انا الخاطىء. يسوع المسيح يا ابن الله إرحمني انا الخاطىء. يسوع المسيح يا ابن الله إرحمني انا الخاطىء. لا تحقد علينا، لا تسخط علينا. احتضنّا في رأفتِك، في حنانِك، في لطفِك، في مجدِك، في عزِّك، في قدرتك، في سموّك، في بهائك، وإن كنا غير مستحقين لأي شيء من ذلك ولكنك انت هكذا إرتضيت، وهكذا ارتضى الآب وهكذا ارتضى الروح القدس ونحن مقدَّسون بهذه الإرادة السماوية الثلاثية الوجوه. ثلاثية الوجوه أي الآب والإبن والروح القدس ولكنها واحدة لأن المصدر واحدٌ. أيتها البشرية إسجدي لهذه الذبيحة ومجِّدي الاله الذي أعطانا إيّاها. كلُّ شيءٍ منكَ، كلُّ شيءٍ لكَ وكلُّ شيءٍ فيكَ، لكَ واليكَ. أنتَ خلَقتنا، انتَ تدبِّرُ أُمورَنا. امام ذبيحة صليبِكَ يا يسوع تسجِدُ الرِقاب وتلثُم جِباهُنا الأرض، ولكن كلُّ هذا ظواهر إن لم تملأنا من روحِك القدوس لنسجُدَ السجود الحقيقي الذي يليقُ بكَ. نحن عاجزون عن إداء الشكر الحقيقي لأننا مدينون تحت الخطيئة والإثم. نحن قائمون تحت دينونة بسبب خطايانا ولكن انتَ وحدَكَ تُخرِجنا من نير الخطيئة لتضَعَنا تحت نيرِك اللطيف.
ربي يسوع المسيح ماذا أقدِّم لك في أواخر العمر؟ ليست لدي أيُّ هدية، أنتظر النهاية منكَ. ربي يسوح المسيح أنتظر منكَ أن تُقدّسني وتباركني وتؤهلني وتنقلني اليكَ سالماً معافى. ربي يسوع المسيح الخليقةُ برمَّتها تسجدُ وتسبِّح إسمك العظيم، تُسبِّح مائدتك العظيمة التي أتخمَتنا. يسوع المسيح، امام هذه المائدة العظيمة نسجد ونركع متوسّلين اليك أن تُرسل روحك القدوس علينا، وأن تُرسِل مراحمك علينا. سيّجْنا بعنايتك الالهية واملأنا من الروح القدس وأهِّلنا دائماً أن نكون مستعدين لمواجهة قوى الشر برمَّتها. إننا لن نستسلم لغيركَ، أنتَ حياتُنا المجدُ لك. انتَ حياتنا، العزّ لك. لك الكرامة، لك العزّ، لك المجد، لك السجود. أفِضْ روحُك القدوس علينا. نركع ونسجد لهذه الذبيحة الالهية التي نقرِّبها لكَ لغفران الخطايا والذنوب ولبعثِ حياةٍ جديدةٍ في القلوب، للإلتقاء بك وللعيش معك وفيك وبك ولك. ربي يسوع المسيح يا ابن الله، إجعل هذه الذبيحة فداءً للجميع وقداسةً لكلِّ المؤمنين وامنح نفوسَنا الخشوع. ربي يسوع المسيح من أجل هذه الذبيحة أصلِح أمور الأرثوذكس برمَّتها وتولّى انتَ شؤونها وتدبَّر أمورها واحفظها واحفظ عالمك من كل فسادٍ وشرّ. إملأ قلوبَنا بهجةً، إملأ قلوبَنا طهارةً. ربَّنا يسوع المسيح طأطىء رؤوسَنا لنسجدَ سجوداً قلبياً طاهراً للاله الذي صنع هذه الذبيحة لنتناولها بشكرٍ عظيمٍ. يسوع المسيح، صليبُكَ أهمّ بمليارات المرّات من فردوس آدم. شجرة صليبِكَ هي شجرة الحياة الحقيقية أما شجرةُ الحياة في فردوسِ آدم فهي رمزٌ، خيالٌ لشجرة الصليب. الصليب حافظُ كلِّ المسكونة، الصليب جمالُ الكنيسة، الصليبُ مجدُ الملائكة وجرحُ الشياطين. الكون برمَّته يتهلل ويشكر اسمك الكليّ الإكرام والعظيم الجلال. هذه الذبيحة تجدِّد نسيجَ كياننا المهترىء برُمَّته. هذه الذبيحة نارٌ ونور تُحرِق غير المستحقين وتُنير المستحقين. منذ الآن أخذناكَ ميراثاً أبدياً، منذ الآن نحن في السماء وإن كنا نمشي على الأرض، السماء هي وطنُنا الحقيقي كما جاء في الرسالة الى العبرانيين ” أما هنا فليس لنا مدينةٌ باقية بل ننتظر الأخرى”. هذه الأخرى كيف نصلُ اليها؟ بواسطتكَ، بدمِكَ الكريم وجسدِكَ الطاهر نملك الحياة الأبدية ونصير زينةً في بيتِ إلهنا، في بيتك أيها الآب السماوي القدوس. فيا ايها الثالوث القدوس أشفق على أنفسنا وأهِّلنا دائماً إلى أن نكون ملتصقينَ بكَ. أهِّلنا أيها الثالوث القدوس أن ننتقل من التراب الى المجد الأبدي، أهِّلنا أن نتمتّع بمجدِكَ الأبدي الدائم واجعلنا مقبولين بين خرافك المختارة يا رب. أعطِ المؤمنين جميعاً أن يمتلكوا ذبيحةَ الصليب بايمانٍ مُطلق ورجاءٍ مُطلق وبمحبة مطلقة وبخوفٍ مطلق وبتعزيةٍ مطلقة، لكي ننتقل بها من هذا العالم الفاسد الى عالم عدَم الفساد في ملكوت ابيكَ السماوي آمين.
ايها الرب يسوع المسيح ارحمنا وخلِّصنا وارحم الكرة الأرضية ومَن عليها وما عليها وأنقذها برمَّتها من كل الشرور واجعلها واحةَ سلامٍ وأمان، نورٌ ساطع يشعّ منك في كل الأرض في كلّ قلب، واهدِ الناس أجمعين الى معرفة الحقيقة والى تلقّي نورِك الأزلي. أيها الثالوث القدوس إرحمنا، أيها الثالوث القدوس من أجل صليب الجلجلة إرحمنا أجمعين. إرحم كل المحتاجين الى عنايتكَ الالهية ولا تُهملنا. نحن رماد، نحن دود، نحن جحيم. أما مراحمك الالهية فهي قادرة على طحن الجحيم وطحن التراب وتخليصنا من كلِّ ذلٍّ وعار. يا يسوع من أجل ذبيحة الصليب توِّجنا بنور هذه الذبيحة المشِعَّة وامنحنا أن نعيشَ فيها عَيشاً باراً صالحاً لإسمك القدوس لك المجد مع ابيكَ وروحك القدوس آمين.