الصوم في معانيه الروحية السامية
الصوم هو جمع لمفردات النسك التي تقودنا إلى التطهر والاستنارة. بالنسك ينسلخ الناسك عن الشهوات والأهواء عامة ومن ” كل عبء ويساورنا من الخطيئة ” ( عبرانيين 12:1 ) في الصوم يكمن عمق الجهاد الروحي الذي يقودنا إلى نبذ الشر وقبول المسيح فاديا ومخلصا .نبذ الشيطان والانتصار عليه ليس بالأمر السهل اليسير ، لان هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة والصوم ( متى : 17- 21 ) ، في هذا النطاق يخبرنا الإنجيلي متى ، بعدما طرد الشيطان عن الصبي مصاب بالصرع ، وان التلاميذ سألوا يسوع عن السبب الذي من اجله لم يستطيعوا هم أن يطردوا الشيطان وكان الجواب : ” لقلة إيمانكم .. هذا الجنس من الشيطان لا يخرج إلا بالصوم والصلاة ” لقد ربط يسوع بشكل مباشر النتائج المرجوة من الصوم بالإيمان مزيلا بالتالي الطابع ” السحري ” للصوم .
الصوم في المسيحية ليس أن نخضع لنظام غذائي ما فقط وانما هو الصراع ضد الأهواء ، فهو زهد اختياري وليس هو أمر مفروضا بل هو ضرورة لنا انه إماتة لحواسنا الجسدية كي تتلألأ حواسنا الروحية . الصوم مخاض روحي جسدي في سبيل ولادة إنسان متحرر من سيطرة الأهواء والشهوات عليه .
إذا الصوم ليس مجرد الامتناع عن الطعام فترة زمنية ثم الانقطاع عن الأطعمة ذات الدسم الحيواني إنما هناك عناصر روحية ، من هذه العناصر ، هو السيطرة على الإرادة بنفس الإرادة التي تحكمت في الطعام يمكن أيضا السيطرة على الكلام بالامتناع عن كل لفظ غير لائق وكذلك السيطرة على الفكر وعلى المشاعر . قال القديس اسحق السوري : ” صوم اللسان خير من صوم الفم وصوم القلب عن الشهوات خير من صوم الاثنين
العنصر الثاني في الصوم هو التوبة ونلاحظ في صوم أهل نينوى انهم لم يصوموا فقط وانما أيضا رجعوا كل واحد منهم عن طريقه الردئية وعن الظلم الذي في أيديهم وان الرب نظر إلى هذه التوبة اكثر مما نظر إلى الصوم فلما رأى الله أعمالهم انهم رجعوا عن طريقهم الردئية ندم الله على الشر الذي تكلم عنه أن يصنعه بهم فلم يصنعه ( يونان 3: 8 – 10 ) . إذ يظهر من صوم يونان وأهل نينوى أن الصوم هو تكفير عن خطايا شخصية وجماعية انه دعوة إلى الذات وذلك سعيا للوصول إلى رؤية واضحة وبالتالي لإزالة الخطيئة فقط بل لإزالة أسبابها .
يقول القديس يوحنا كاسيانوس : ” ليتنا لا نعتقد أن الصوم الخارجي عن الطعام وحده يكفي لكمال وسلامة القلب ونقاوة الجسد إلا إذا كان يعينه من الداخل صوم النفس ، لان النفس أيضا لها أنواع
خطيرة من الطعام . فإذا ما اعتادت عليها هوت إلى مهاوي العجزة والضلال والنميمة والغضب والغيرة والحسد … علينا إذن حينما يكون أنساننا الخارجي صائما أن نضبط الإنسان الداخلي ونمنعه من كل طعام يفسده وهذا الإنسان الداخلي هو الذي يحثنا الرسول أن نقدمه طاهرا أمام الرب قبل كل شيء حين يكون أهلا لحلول السيد المسيح فيه .
الصوم هو نظرة نحو الآخر ، يعلمنا الكتاب المقدس أن الصوم الحقيقي ليس محصورا بين المؤمن وربه إنما هو الخروج من دائرته المنغلقة من خلال انفتاحه على المعوز والمحتاج ومَن من الناس ليس محتاجا بشكل أو باخر ( حاجة مادية أو نفسية أو جسدية وأيضا روحية ..)
يقول اشعياء النبي : ” أليس هو أن نكسر للجائع خبزك وان تدخل البائسين المطرودين بيتك وإذا رأيت العريان أن تكسوه وان لا تتوراى عن لحمك حينئذ يبزغ كالفجر نورك ويشفي جرحك سريعا ويسير برك ومجد الرب يجمع شملك حينئذ تدعو فيستجيب الرب أن أزلت من أبنائك النير والإشارة بالإصبع والنطق بالسوء إذ تخليت عن لقمتك للجائع وأشبعت الحلق المعذب يشرق نورك في الظلمة فتكون كجنة وكينبوع مياه لا تنضب ” ( 58: 3 – 11 ) .
لذا في الصوم هناك حركة تجاه المسيح وحركة تجاه الآخر . إذا لم استطع أن احب وابصر الآخر واحضنه فلا استطع أن أرى المسيح الذي يكون فيه أيضا فإذا كان الصوم مجرد حركة من أنانية إلى أنانية فاكون قد أسأت الهدف فان لم يكن الهدف من أن احب الآخر أو أن احب المسيح في الآخر فصومي باطل ولذلك يقول القديس باسيليوس الكبير : ” ما معنى أن ننقطع عن اللحم ونحن لا ننقطع عن أكل قريبنا بالنميمة والغيبة وما أن ننقطع عن الأكل لا ننقطع عن الأفكار الردئية … “
لهذا يعطي يسوع المسيح من خلال عظته على الجبل عندما يتكلم عن الصوم ( متى6 :16-18) أسس لعلاقات المؤمن مع أخيه الإنسان ومع ربه ، كلام المسيح هذا يشير إلى أن الصوم يمتحن بالأعمال وليس بالمظاهر الخارجية ولو أن انه لا ينفي الصوم بماديته .
يسوع المسيح مات وقبر وقام لاجلنا فان لم نستعد لملاقاة القائم ، العريس ، بثياب العرس فسيغلق الباب أمام وجهنا ، ثياب العرس ينسجها الصوم فيحيك لنا المحبة رداء والإيمان حذاء والرجاء قنديلا والتواضع إكليلا .
لذا الكنيسة المسيحية كلها تدعونا اليوم لنحيك ثياب العرس بالصوم وللاحتفال بيوم فرح الصوم لان المسيحي عضو في الكنيسة ، جسد المسيح ، فأعضاء الجسد مدعوون لان يتلألئوا بالصلاة ويترصعوا بالصوم لكي يصير الإنسان ” كنيسة صوفية ” كما يقول القديس مكسيموس المعترف .
كل معاني الصوم التي أشرنا اليها تأخذ أبعدها الحقيقية وقوتها وفعاليتها إذا اقبلنا على الصيام كمسافرين في صحراء محطتها الأخيرة في واحة القيامة المجيدة ، ذلك أن قيامة المسيح حققت لنا كل الانتصار وفتحت لنا باب الملكوت وأعطتنا حياة جديدة فأصبحت حياتنا تختصر بان ندفن مع المسيح وننهض معه بقيامته . ” أمس دفنت معك واليوم أنهضتنا معك بقيامتك ” هكذا تصلي كنيستي في صلاة الفصح المجيد.
قيامة المسيح حدث لا يزال يحدث في كل إنسان لان كل إنسان مؤمن قَبل الحياة الجديدة والقدرة على العيش بموجبها . ولكن الإنسان بضعفه يخون هذه الحياة الجديدة ويعود إلى حياته التافهة المظلمة لذا وضعت الكنيسة الصوم لكي تساعد المؤمن في اكتشاف الحياة الجديدة وتذوقها وهذا بالطبع لا يتم إلا عبر الجهاد المستمر والدائم وبحمل الصليب.
هكذا يغدو الصوم ” سلم كل يوم منه هو درجة نصعد بها إلى يوم العيد ، بالصوم يستحضر العيد البعيد ويجعله قريبا ، الصوم هو تجلي للعيد هو فترة تجعلنا فصحيين حتى إذا جاء الفصح نعيد العيد ” ( المطران بولس يازجي )