مقدمة
إن شعب الله الذي أقامه "الله" لنفسه في العهد الجديد, يجمعه "هو" في جسد المسيح المخلص, وجمع المؤمنين المعتمدين في الجسد الواحد يتم في سر الافخارستيا, فهو سر الجماعة, ومحور صلاتهم وعبادتهم, يقوم مقام المركز, اذ يتوق إليه الجميع وبه يتوحدون حول مائدة الرب ليكونوا شعب الله مختومين بدم ابن الله الذي قدمه عن الجميع مرة واحدة.
إن يسوع، بدلاً من ذبائح العهد القديم المختومة بدم التيوس والثيران, قد أسس عهداً جديداً بين الله والبشر مختوماً بجسده ودمه الذين سوف يكونان ذبيحة الخلاص بشكل حقيقي على الجلجلة, وقد منحها لتلاميذه بهيئة سرية غير دموية بالخبز والخمر في العشاء الأخير.. "ذبيحة وقربانا لم تشأ, غير أنك هيأت لي جسدا .. حينئذ قلت هاأنذا آتي.. لأعمل يا الله بمشيئتك" (عب 10/4-7).
تأسيس السر
إن يسوع المسيح هو بذاته السرّ الأوحد والأساسي، وما تدبيره الخلاصي, أي تجسده وحياته العلنية, وموته المحيي, وقيامته المجيدة، إلا مصدر الأسرار ومحورها. المسيح الرب يجري الخلاص بشكل غير منظور ببشريته الممجدة وبشكل منظور بجسده السري على الأرض وهو جماعة المؤمنين.
وقد بشر يسوع بتأسيس سر الافخارستيا بعد أن صنع معجزة تكثير الخبزات في البرية قائلا للجموع: "أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء… والخبز الذي أعطيه هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم " (يو 6/51). أسس يسوع هذا السر قبل موته على الصليب في يوم الخميس مساء العشاء الأخير "وفيما هم يأكلون, أخذ يسوع الخبز وبارك وكسر وأعطى التلاميذ وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي.. وأخذ الكأس وبارك وشكر وأعطاهم قائلا : اشربوا منها كلكم لان هذا هو دمي دم العهد الذي يهراق عن الكثيرين لمغفرة الخطايا". (متى 26 /26-28( , (مر 14/22-24) ,(لو 22/19-20) .
هذه الذبيحة الغير دموية التزم باقامتها التلاميذ أنفسهم, وبشكل مستمر, لان المخلص أوصاهم بذلك "اصنعوا هذا لذكري". ويخبر القديس بولص عن سر الافخارستيا في رسالته الى أهل كورنتوس "لأنني قد تسلمت من الرب ما قد أسلمته اليكم, أن الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزا …وقال هذا هو جسدي… وهذه الكأس هي العهد الجديد بدمي" (1كور11/23-25).
ذبيحة الجلجلة قدمها يسوع وحده لخلاص جميع البشر, وقد قدمت مرة واحدة على الصليب وفي مكان واحد, ودخلت بالقيامة في أبدية الله. أما الذبيحة الليتورجية في الاجتماع الافخارستي, فهي مقدمة ليس فقط من قبله, بل ومن قبل الكنيسة التي, والمسيح رأسها, تقدمها بواسطة خادم السر (الأسقف أو الكاهن) , وبشكل سري غير دموي في القداس الإلهي الذي هو عيش لمجيء المسيح وسر حضوره كلما اجتمعت الكنيسة حول مائدة الرب: "هاأنا معكم كل الأيام والى انقضاء الدهر".
الافخارستيا ذبيحة سلام وقربان شكر وتسبيح
يقول كتاب الديداكه: "أما يوم الرب (كيرياكي) فهو خاص للرب, فاجتمعوا فيه لتكسروا الخبز وتصلّوا الافخارستيا بعد أن تعترفوا بخطاياكم لتكون ذبيحتكم طاهرة". وكلمة افخارستيا اليونانية تعني (الشكر) أي رفع القلب إلى الله تعالى ليدخل الإنسان معه في علاقة محبة, وصلة شكر وتسبيح.
يشير القديس باسيليوس الكبير, أن المؤمن يأتي الى مائدة الرب ليشترك في فرح الملكوت بعد أن يكون قد امتنع عن الطعام طيلة النهار وحتى الساعة التاسعة (وهي ساعة موت الرب), فالصوم في الكنيسة الأولى هو انتقال من الحياة الأرضية تخطيا للزمن إلى عتبة الأبدية في الافخارستيا, هو فرح الكنيسة الظافرة وهي تهيئ نفسها لعشاء عرس الحمل, بتقدمة قربان شكر تعبر عنه بعمل رمزي عن اعتراف شعب الله بسيادته, ولتشكر له انعاماته وتمجده, وتدخل في ألفة معه وتجلس على مائدته وقد أعتقت من الخطيئة والموت, مرنمة مع الملائكة: المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة.. نسبحك نباركك, نسجد لك نمجدك, نشكرك لأجل عظيم جلال مجدك..
يصف يوستينوس سر الشكر (الافخارستيا) ساعة العماد فيقول: "وبعد أن يغتسل المؤمن… تقام بكل حرارة الصلوات العامة… وبعد انتهاء الصلوات نسلّم على بعضنا بقبلة, ثم يحمل الخبز والكأس والماء والخمر إلى الأخ المتقدم, وبعد أن يأخذ هذه يمجد الله أب الجميع ويشكر باسم الآب والابن والروح القدس, ويشكره مطوّلا على تنازله لهذا العمل.. ويجيب الشعب: آمين أي حقّاً".
الافخارستيّا هي ذبيحة سلام وشكر، حيث تبدأ الكنيسة صلواتها في الليتورجيا بطلبات سلامية, فتطلب السلام الذي ينحدر من الله ليضم النفس التائبة إليه ليعيد إليها صداقته وألفته. وتتضرع من أجل سلام العالم وثبات كنائس الله وتشمل بصلواتها الأحياء والأموات والكون بأسره للمصالحة مع الله بيسوع المسيح المقرب من أجلنا. إنها بداية الطريق إلى الملكوت, صلوات مشتركة ترنم بفرح قيامة المسيح وانتصاره على الموت. إنها ذبيحة سلام تعيد المصالحة بين الإنسان والله بيسوع المسيح, وتقدمة شكر للرب بمعنى إنها شهادة لسيادة الله على الخليقة بأسرها.
في العبادة يقدم الإنسان لله جزءا مما أوكل الله إليه في جنة عدن كعربون عن شكره له: "ما لك مما هو لك, نقرّبه لك عن كل شيء ومن أجل كل شيء".. فكل ما يملكه الإنسان هو لله, لذا لا يسعه إلا أن يقدّم لله ما هو لله . وبهذه التقدمة وهذا التلاقي بين الإنسان والله يتجدد العهد.
يحكي المؤمن، في ذبيحة العبادة، شكره أمام الشعب. ان صلاة الشكر والتسبيح هي صدى لحنين الإنسان إلى الحياة بالله بعد حالة السقوط. إذ أنّه ينفي الله في حياته فيسقط في العبودية, ثم يعود فيصرخ نحو الرب قائلا مع موسى: "علمني طريقك لكي أعرفك, لكي أجد نعمة في عينيك … أرني مجدك" , واذ يتراءى الله له في المحبة الثابتة حتى النفي والصلب, يمجد الرب . اننا بيسوع المسيح ننظر "مجد الرب بوجه مكشوف كما في مرآة" (2كو 4/ 6), وبه نلمس الحق الذي يحرر, ثم ينفجر بحرارة وفرح إلى تهليل وترنيم, واذ نسبح الرب ونمجده نعلن بذلك عهده بالخلاص للعالم ونشد الكون إلى حضرة الله . انه سر الحضور الإلهي في وسط شعبه ليفتديه ويشده إليه في فعل فداء دائم.
تقدّم، قبل تقدمة القرابين وتكريسها، صلاة الشكر لله على كل ما صنعه تجاهنا منذ الخلق: "أذكر أعمال الرب .. وفي أعمالك أتأمل" (مز 77/12).
تبدأ هذه الصلوات بتسبيح الله الآب وتسترسل في تبيان صفاته تعالى وتعداد كمالاته بأحسن تسبيح, فهو السيد والرب والإله الحق. وتشكر الكنيسة الثالوث الأقدس على كل نعمه واحساناته, وعلى "التقدمة" التي ارتضى أن يقبلها من شعبه. واذ "نودع بعضنا بعضا وكل حياتنا للمسيح الاله"، نقرب المحبة قربان صلاة ترفع إلى الآب من أجل القريب.
إن القربان في العهد القديم لا يقتصر على التقدمة المادية, فطالب الغفران اذ يقدم نفسا حية عربونا عن توبته, يقدم معها شيئا من محبته على المذبح، "إن قدّمت قربانك إلى المذبح وهناك تذكرت أن لأخيك شيئا عليك, فاترك قربانك أمام المذبح واذهب أولا فصالح أخاك وحينئذ تعال وقدم قربانك" ( متى5/23-24).
ويدخل المؤمن في سلام الرب دخول الابن المطمئن في حضرة أبيه, انه سكون الرب الآتي مع تسبيح الشيروبيم: "قدوس, قدوس, قدوس, رب الصباؤت, السماء والأرض مملوءتان من مجدك العظيم".. إنه الصحو المقدس, حالة السلام النابعة من القلب أمام الله, فيه تكتشف النفس في هدوئها وشفافيتها صوت الصمت الداخلي على عتبة الفردوس المستعاد, حيث يسمع صوت الرب ماشيا عند هبوب ريح النهار.
الافخارستيا مائدة الرب
يقول يوستينوس: "وبعد شكر المتقدم وجواب الشعب, يدعو الشمامسة كل فرد من الحاضرين أن يشترك بالخبز والخمر والماء التي تم الشكر عليها, ويحملون القرابين إلى الذين تخلفوا عن الحضور"..
ان تناول الطعام كان له صفة دينية بالنسبة لكل متعبد في زمن المسيح, وكانت طقوس موائد العشاء تختلف فيما بينها وخصوصا طقس عيد الفصح, ولكن كان فيها كلها بعض الأسس العامة اذ تتضمن صفة دينية هي بطبيعتها كهنوتية يقوم بها من كان يرأس الموائد. بالإضافة إلى ذلك فقد كان يجري فيها كسر الخبز كجزء ضروري في كل الموائد تتبعه صلاة شكر.
انتشرت بكثرة في زمن المسيح الحلقات الخاصة والتي كان هدفها بعث الحياة الداخلية في أعضائها. وكانت تتم ضمن ما يسمى الموائد العامة أو موائد الحلقات الودية والتي تبلغ ذروتها في مباركة الخبز والكأس والشكر عليهما. وكان شخص واحد يتلو هذه الصلاة, ففي الموائد البيتية رب البيت, وفي موائد الحلقات الودية ممثل هذه الحلقة. والشكر والبركة كانا عملا كهنوتيا يتممه شخص واحد باسم جميع المشتركين في المائدة وبموافقتهم.
تتباين التفاصيل في الأناجيل فيما إذا كان العشاء السري هو مائدة فصحية, وهو ما توحي به الأناجيل الإزائيّة, أو اجتماع الرب مع تلاميذه في مائدة عامة قبل الفصح بيوم , كما يشير إنجيل يوحنا. ولكن من المؤكد أنه كان آخر عشاء أرضي له, وكان له صفة خاصة تماما، فبواسطته تأسست الافخارستيا، انه العهد الجديد المبرم بالكلمة والمثبت بالدم المهرق والموطد عراه بطعام الشركة.
في الليلة التي أسلم فيها, كان المسيح يعرف بأن هذا هو عشاؤه الأخير, ذلك العشاء الذي أتمه قبل صعوده عن تلاميذه. هذا المجتمع الصغير الذي كونه مع تلاميذه في حياته الأرضية سيدخل في مرحلة جديدة من كيانه, فالتلاميذ سيكسرون الخبز ويباركون الكأس بعد موت الرب وقيامته, والخبز الذي سيكسرون هو ذلك الخبز الذي كسره المسيح في العشاء السري, والكأس التي سيباركون مثل الكأس التي باركها المسيح (1كور 11/ 26) . ان الافخارستيا التي يتممها التلاميذ "الى الآن", الى أن يأتي هي عشاء المسيح الأخير الذي يتكمل، "فانكم كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس تعلنون موت الرب الى أن يأتي"، فهي متصلة بموته وقيامته كما كان العشاء السري .
إن التلاميذ الذين التأموا في العنصرة, التأموا في الافخارستيا أيضاً تذكاراً للمسيح: "اصنعوا ذلك لذكري".. كما أن المشتركين في هذه المائدة "تذكارا" للمسيح سيصبحون "شعب الله" المجتمع في المسيح عبر الجلجلة والموت والقيامة, ومجاهرين بالايمان بأن "يسوع, هذا المصلوب, قد أقامه الله وجعله ربا ومسيحا". فالمائدة هنا أصبحت مائدة ذات صفة دينية حاوية على سر الكنيسة في العهد الجديد والتي تقوم بذلك حتى مجيئه الثاني في مجد العشاء السري تذكارا له. ففي هذا السرّ، وبواسطته، يعود المسيح الممجد إلى شعبه عندما يجتمع الكل في الكنيسة إذ تصبح "مائدة ربّيّة"، يصحب فيها المسيح شعبه بالروح القدس. ونحن إذ نتكئ معا إلى العشاء الافخارستي, نعلم يقينا "أن محبة المسيح تحصرنا " (2كور 5 / 14 ).
فهذه هي وصية الرب: "أن أحبوا بعضكم بعضا كما أنا أحببتكم" ( يو5/ 12 و 17) . فسرّ المحبة المصلوبة يفترض الانفتاح الكلي نحو الآخر، لنكون بلا رياء فنتناول الكأس الافخارستي باستحقاق تام، إذ أننا بالمحبة نصبح نحن الكثيرين واحدا بالشركة: "فلما كان هناك خبز واحد, فنحن على كثرتنا جسد واحد لأننا نشترك كانا في الخبز الواحد" ( 1كور 10 / 17). والخبز الذي يتكلم عنه بولص هو الخبز الافخارستي, ونحن الكثيرون أي شعب الله الملتئم حول مائدة الرب, فبواسطة الخبز والخمر في الافخارستيا نصبح جسد المسيح باتحاد حقيقي.
الحاضر، في الكنيسة، يحوي ذاته في الماضي والمستقبل. ان يوم الرب سيجيء، ولكنه يأتي باستمرار في الكنيسة, أي أن السيد يأتي إلى "خاصته". فالافخارستيا هي مائدة الرب الكائن في الكنيسة بالروح، "لكي تأكلوا وتشربوا معي على مائدتي في ملكوتي" (1كور22/ 30) . انها وليمة الحمل الذي يساهم منذ الآن في مجيئه الثاني المجيد, ونحن ننتظر قدومه الينا بالافخارستيا في كل مرة بقولنا: "تعال أيها الرب يسوع".
كانت المناولة، في الكنيسة الأولى، عملا مكمّلاً لكل اجتماع افخارستي. فصيرورة المؤمنين أعضاء في الكنيسة تعني أنهم لبسوا المسيح وأصبحوا مستحقين للاشتراك في هذا الاجتماع وأكل خبز الرب وشرب كأسه, لكي يصبحوا مساهمين في جسد الرب ويستبقوا بذلك مجيئه الثاني المجيد. إنه حاجة حيوية كتعبير عن الرغبة في الحياة والتي بدونها يتسلط الموت. والحرمان من ذلك كان مأساة عظيمة بالنسبة للمؤمنين إذ انه يعني الانفصال عن الكنيسة.
حضور المسيح في الافخارستيا
"حيث اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم" (متى 18 / 20). إن حضور المسيح في الافخارستيا ليس مجرد ذكرى, انه استقبال الرب الآتي, حضور الله الغير منظور وغير المدرك الذي كان منذ البدء والذي صار جسدا. الكتاب المقدس هو صورة للتجسد فهو يجسّد الكلمة, وتجسّد الكلمة يحول المستمعين إلى كلمة الله، إلى افخارستيا.
يقول يوستينوس: "في اليوم المدعو بيوم الشمس نجتمع في مكان واحد, ويقرأون من أقوال الرسل ومن كتابات الأنبياء.. ولما ينتهي القارئ يعطي الرئيس الإرشادات بواسطة الكلمة.
إن حضور المسيح في الافخارستيا حضور فاعل، كما أنّ الإنجيل هو "الخبز النازل من السماء"، فانه كما قال يسوع: "من يأكل جسدي ويشرب دمي له حياة أبدية" (يو6/ 23)، وقال أيضاً: "من يسمع كلامي .. له حياة أبدية" (يو5 /24).
الشعب المجتمع في جسد المسيح يجتمع في المكان الذي يعلن فيه الله كلمته ويفسرها. قراءة الكلمة هي ليتورجيا بحد ذاتها لأنها تقود إلى معاينة الكلمة المتجسد والتحدث إليه ومجالسته في عشاء الرب.
"تكلم يا رب فان عبدك يسمع".. سماع الإنجيل هو احتكاك شخصي بالرب يسوع, يلتقي به المؤمن ليتشدد ويتهيأ لسكنى الرب فيه, وهو ليس مجرّد لقاء ألفة وإنما يلقي بالمؤمن في تيار التجسد المتدفق ليهب الحياة للعالم. ويشهد الروح القدس للكلمة شهادة حية, اذ يفتح ذهن الشعب لكي يفهم الكتب بسماع الوعظ، وهو ليس مجرد تفسير للانجيل، بل ليعيش ما عاشه تلميذا عماوس: "ألم تكن قلوبنا ملتهبة فينا اذ كان يكلمنا في الطريق ويوضح لنا الكتب" ( لو24/ 32).
الله يهب ذاته لنا "فهو قد أحبنا أولاً".. ويسوع يفتح ذهن الأغبياء, وآذان الصم, وأفواه البكم, وعيون المكفوفين, ويشفي المقعدين, إنه الكلمة التي يتأملّها المؤمن بفرح ودهشة وإعجاب بكل ما قاله يسوع وعمله, ويطلب من الرب أن "أشرق في قلوبنا نور معرفتك".
الكلمة تخلق الليتورجيا في الكنيسة. إنها حياة الحي القائم من بين الأموات تنصب في الكنيسة بفعل الروح الذي يحركها ليبدأ العبور إلى ما يعد التاريخ. فبعد تجسد الكلمة في التاريخ تحملنا الليتورجيا إلى سرّ الفداء في يسوع المسيح الممجد, إلى استقبال الرب الآتي, ملك الكل, مصلوباً في الخبز والخمر, مزفوفا من المراتب الملائكية بحال غير منظور. فحضوره هو حضور الإله الغير الموصوف الذي لا يحده العقل, غير المنظور والدائم الوجود.
إن حضور المسيح في الافخارستيا هو حضور حقيقي.. فهي تتطلب الذكرى لكل تاريخ الخلاص وفي وسطه الصليب المحيي, الصليب الفصحي، والقيامة المجيدة.
إنّ هذه الأحداث المطبوعة في "ذاكرة" الله, تؤوِّنها ذاكرة الكنيسة (Actualisation)لتجعلها حاضرة وفاعلة. وما الاحتفال بها في القداس الإلهي، كوحدة متكاملة في كافة أقسامه، سوى استدعاء للروح القدس (Epiclèse)، يزداد كثافة وعمقاً في صلاة التقدمة. إن كلمات التأسيس بحدّ ذاتها لا تحوي على قوة سحريّة, فليس من لحظة محدّدة لـ"استحالة" الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح بل الزمن الافخارستيّ كلّه زمن عمل الروح, وليس الكاهن هو الذي يستحضر المسيح الممجد, وإنما حضوره هو سرّ من أسرار النعمة الإلهية "فهو المقرَّب والمقرِّب".
إن كلمة الله التي خلقت الكائنات وثبتت معناها العميق هي نفسها التي تعطي الخبز والخمر المقربين على مائدة الرب كيانهما ومعناهما الجديد. وحضور المسيح في الافخارستيا ليس فقط عمل إيمان الإنسان, بل إنه يسبق الإنسان ويسبق إيمانه. إنها المعجزة الدائمة في الافخارستيا والتي تفوق كل إدراك بشري, وهي صورة لتجلي المخلص على جبل ثابور, فليس المسيح هو الذي يتغير, بل أعين الرسل التي تنفتح زهاء لحظة لترى بهاء الرب. ونطلب من الرب "افتح حدقتي ذهننا لإدراك تعاليم إنجيلك.. ".
يقول يوحنا الدمشقي: "فكل ما صنعه الله إنما صنعه بفعل الروح القدس, من الخلق إلى تجسد الكلمة, إلى قيامة المسيح. ولكن الله، الذي يعرف الضعف البشري ويعرف أن طبيعتنا تنفر غالبا مما ليست معتادة عليه وتستصعبه, قد تنازل لها كما هو من شأن مراحمه وأعطاها ما يعلو على الطبيعة بما اعتادت الطبيعة..".
الكنيسة، التي أسّسها يسوع المسيح في العشاء السري الأخير, تحقّقت يوم العنصرة لتكون شاهدة بالروح للخلاص والقيامة. فالعنصرة هي نزول الروح القدس ليشهد للمسيح وقوته في الكنيسة. أدخلها الروح في التاريخ ليستقر فيه, وفي العنصرة صار الإنسان يرى بعين الله إذ أصبح يرى بالروح. الروح القدس هو الذي يظهر المسيح في الافخارستيا, وبالروح يصبح الأعضاء واحدا بالمسيح. فمنذ القيامة والصعود, تحتوي إنسانية الله العالم، وتعمل على تجلّيه بشكل سري.
إن الله، الذي صار إنساناً، أدخل في ذاته كل بشريتنا المنتهية وحياتنا المائتة ليملأها بنوره. هذه الانسانية المؤلهة, هذا الخبز والخمر المتجلّيين, هذا الجسد المتسربل بالمجد، والحامل دوما آثار العذاب، هو نفسه ما تعطيه لنا الافخارستيا.
يقول غريغوريوس النيصي: "إن جسد الكلمة كان يتغذى بالخبز, بحيث أن الخبز يمكن أن يتحول الى جسد الرب, هذا الخبز المؤلّه لا نستهلكه بقدر ما هو يكمّلنا"..
يقول مكسيموس المعترف: "إن الافخارستيا تحوّل المؤمنين إلى ذاتها، فهي اتحاد البشر بالمسيح لتقديس نفوسهم وأجسادهم, وهذا الاتحاد لا يتم إلا بالروح".
يسوع هو خبز السماء, خبز الحياة. القائم من بين الأموات يعطي ذاته لنا بشكل كامل في الافخارستيا التي تصبح غذاء للقيامة. يسوع خبز لان جسده مؤلف من كل الحياة الكونية المعجونة بعمل الإنسان. انه خبز حي ومحيّي, يُدخل الحياة الإلهية إلى البشر. فالافخارستيا هي طعام الخلود, إذا تناولناها بإيمان تصبح ناقلة للطاقة الإلهية من خلال لقاء الإنسان بالله.
الافخارستيا رمز وحدة الكنيسة
"بما أن الخبز واحد, فنحن الكثيرين جسد واحد لأننا نشترك في الخبز الواحد" (1كور10 /17). فالافخارستيا هي عمل الكنيسة بمجملها أي شعب الله, وبواسطة الخبز والخمر في الافخارستيا نصبح جسد المسيح. إن الاشتراك يكون "الشركة" التي هي اتحاد حقيقي في جسد المسيح ودمه. وكما أن واقعية الخبز ترينا واقعية جسد المسيح التام والكامل, فوحدة الخبز تظهر وحدة الجسد. إن التلاميذ الذين التأموا في العنصرة, التأموا في الافخارستيا التي بواسطتها يصبحون" في المسيح" أي يصبحون في جسده وهو بدوره يكون فيهم, وبه أيضا يسكنون في الآب، الذي يصلّي يسوع له من أجلهم: "لكي يكونوا بأجمعهم واحداً, فكما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا في, فليكونوا هم أيضا فينا" ( يو17 /21).
إن جماعة المسيح الأرضية تصبح بالافخارستيا جسده, وهذا يصبح الكنيسة, كنيسة الله في المسيح, لهذا فالاجتماع سويّة في الافخارستيا يعني الاجتماع في الكنيسة حيث يحضر المسيح بملء جسده في الافخارستيا, خبز واحد-كأس واحدة . إن وحدة جسد المسيح وملئه في سر الشكر يحددان وحدة الكنيسة المحلية وملئها في الاجتماع الافخارستي .
الكنيسة الواحدة الجامعة المقدسة الرسولية تظهر في ملئها في الجماعة الافخارستية التي يرأسها الأسقف الذي يفوض كهنته مهمة تمثيله في مختلف الرعايا, والذي لكونه صورة المسيح, يجعل شعب الكنيسة المحلية يأتلف في جسد افخارستي. فالكنيسة إذا هي في الأسقف ولكن الأسقف من جهته هو في الكنيسة كخادم لشركتها .
الافخارستيّا سر الوحدة: تقول الليتورجيا المقدسة عند تجزئة جسّد الرب في القدّاس: "يفصل ويجزأ حمل الله الذي لا ينفصل ولا ينقسم, الذي يؤكل دائما ولا يفرغ أبدا". الافخارستيا هي امتداد في الزمان والمكان لصالح كل الجماعات المسيحية, والافخارستيا التي تقيمها الكنيسة على الأرض هي انعكاس للافخارستيا الواحدة الأبدية التي يقيمها المسيح في السماء.
يقول كاباسيلاس: "إن الذبيحة لا تتم بتضحية الحمل الآن, بل بتحوّل الخبز إلى هذا الحمل الذي تمت تضحيته على الصليب. فالتحول يتكرر أما ما يتحول إليه الخبز فيبقى واحدا ويبقى هو, هو".
يقول كتاب الديداكه: "كما أن هذا الخبز الذي كان مبعثرا على الجبال قد ضم ليصبح خبزا واحدا, هكذا اجمع كنيستك من أقاصي الأرض في ملكوتك". إن وحدة حبات القمح المبعثرة, في الخبز الواحد, وحبات العنب المتعددة في الكأس الواحد , لا تتم إلا بعد عجن وعصر كل حبة منها, وهو تجاوز للذات والأنانية لتحقيق الوحدة في الجسد الواحد الذي رأسه المسيح, يلتحم به المؤمنون كالأغصان الملتحمة بالكرمة "اثبتوا في وأنا فيكم". واذ يشترك الجميع في الحقيقة الواحدة التي هي حياة محبة, يصبحون واحدا بالرغم من وجودهم كأشخاص متميزين الواحد عن الآخر.
الافخارستيا تكوّن الكنيسة جسد المسيح, وبما أن الجسد هو, في بشرية المخلص, مصالحة والتئام فانه يحقق المصالحة والشركة بين أعضاء الكنيسة كما يحقق المصالحة والشركة مع الآب. فهي سر العهد الجديد بين الله والبشر وبين البشر أنفسهم, وذلك بواسطة الروح القدس الذي يجعل الخبز جسد المخلص الحامل البشرية المصالحة مع الله, ومن الكأس دم العهد الجديد الذي يغفر الخطايا ويختم الشركة. والكنيسة إذ تتغذى بجسد ودم المخلص, تعمل معه على خلاص العالم, فهي تتحول إلى جسد المحبة لتنشر المحبة في عالم البغض والكراهية, وتنشر العدل في عالم الظلم, لأنه باتحاد المؤمنين بالمسيح الذي يقدم ذاته معهم الى الآب, ينالون القدرة على أن يقدموا ذواتهم بروح التضحية بعضهم لبعض كما أن المسيح قدم ذاته للآب لأجل الكثيرين. على عتبة الملكوت، يقول افدوكيموف، "تكون الصلة بين الله والإنسان بعد التجسد هي على شكل صليب , والكنيسة هي نقطة التلاقي بين الخط العامودي الذي هو البعد الإلهي, والخط الأفقي الذي هو البعد الإنساني". وما الافخارستيا سوى السرّ الذي يجعل الكنيسة متصلة مع نهاية الزمن، بحيث أن يوم الاحتفال بها يحمل الاسم عينه الذي يطلق على المجيء الثاني: "يوم الرب"، كما يقول دورويل.
الكنيسة في عمقها ليست إلا العالم في طريقه إلى التجلي, العالم الذي يصبح, بالمسيح, شفافا لكي يتلقى كمال الفردوس. هذا الفردوس هو المسيح بذاته, والذي قال للص الممتلئ بالإيمان والمصلوب الى جانبه: "اليوم تكون معي في الفردوس" (لو23 /43) , فالعالم في المسيح هو الأرض الجديدة والسماء الجديدة أي المتجدّدة, التي تأتي إلينا في أسرار الكنيسة, وفي الكتاب المقدس, فكافة الأسرار هي صورة لسرّ الكنيسة، والتي يقع سرّ الافخارستيا فيها موقع القلب والشمس المنيرة. انه "سرّ الأسرار".
الكنيسة عروس المسيح, ولكنها في موقعها البشري قد تكون غير مخلصة له. أما هو فيعطي ذاته لها باستمرار فهي جسده, ويجعلها بالنسبة للمسيحيين أمّ الحقيقة الحية ومكان الولادة الجديدة.
من المستحيل، في نظر القديس بولص, أن نميّز جسد الرب الافخارستي إذا لم نميّز جسده الكنسي: "أي إنسان يكون مجرماً إلى جسد الرب ودمه.. يأكل ويشرب دينونة لنفسه" (1كور 11/ 29)، وذنب الكورنثيين في نظر بولص لا يتأتى عن أنهم "لم يميزوا جسد الرب" عن باقي الأطعمة, بل لأنهم لم يعوا المتطلبات الحياتية اليومية التي تفرضها المشاركة في جسد الرب ودمه . فالعبادة بالروح والحق هي "أن تقربوا ذواتكم ذبيحة حية مقدسة" (رو12 /1)، فالارتفاع إلى الله هو القبول بشكر حدث الرب في حياتنا كهبة ونعمة, والحياة من منطلق العطاء والمجانية, وشجاعة البدء كل يوم بيدين فارغتين مبسوطتين نحو الذي منه العطاء والوجود وكل امتلاء.
هذا ما يلخصه الاحتفال الليتورجي حيث ترفع الكنيسة الشكر لله, بفعل الشكر الأسمى, يسوع المسيح الفادي, رأس الكنيسة وكاهنها الأوحد, وبالروح القدس الذي أفاضه الله في قلوبنا.
خاتمة
الافخارستيا هي مائدة الرب التي يدعو إليها الجميع, والتي تقام لأجل المجتمعين سوية, والمساهمة فيها تعني المساهمة في شراكة الرب, ولكن المساهمة تعني الأكل منها أيضاً.
المساهمة في المائدة كان تقليدا حافظت عليه الكنيسة الأولى بكل قواها, فلا يشترك فيها الا الذين كانوا يأكلون الطعام, أما الذين لم يكونوا يأكلوا من المائدة فلم يكن باستطاعتهم, ليس فقط أن يكونوا مشتركين فحسب, ولكن لا يستطيعون الحضور فيها.