في هدم الكبرياء
القديس مار أفرام السرياني
كل نسك؛ كل حمية؛ كل طاعة؛ كل هجر قنية؛ كل غزارة التعليم؛ باطلة إذا كانت عادمة تواضع الرأي، كما أن ابتداء الصالحات وكمالها هو التواضع؛ هكذا ابتداء الشرور ومنتهاها هو شموخ الرأي.
وهذا الروح النجس هو كثير الأنواع وكثير الصور، فلهذا يجتهد أن يتسلط على الكل، وأية صناعة تصرف فيها كل أحد ينصب له فيها فخه.
فالحكيم يتكبر بحكمته، والقوى بالقوة، والغنى بثروته، والحسن الوجه بجماله، والدرب المنطق بالكلام الطيب، والنغمة بحسن صوته، الحاذق الصنعة بحذاقة صنعته، الجميل التصرف بحسن تصرفه.
وكذلك لا يفتر من تجربة الروحانيين، فالطائع يمتحنه بالطاعة أى يتعظم بطاعته، والماسك بالمسك، والصامت بالصمت، والعادم القنية بِهجر القنية، والجزيل العلم بسرعة تعلمه، والمتورع بحسن الورع، والعَالم بالعلم.
فالمعرفة الحقيقية إنما هى مقترنة بالتواضع، ولهذا يحرص أن يزرع فى الكل الزوان الذى له.
فلذلك لما عرف الرب هذا الألم أنه أينما تأصل يطوح ذلك الإنسان مع العمل الذى له أعطانا ضده التواضع سلاحاً قائلاً: “إذا عملتم سائر الأوامر التى أُمرتم بِها فقولوا أننا عبيد بطالون”.
فَلِمَ نجذب إلى أنفسنا الخفة ومضرة العقل والرسول يقول: “إن ظن أحد أنه شيئاً فإنما يخدع عقله؛ وكل أحد فليختبر عمله؛ وحينئذ فليكن افتخاره فى ذاته لا على أحد آخر”.
فلما نخادع ذواتنا ويترفع بعضنا على بعض؛ فإن كنا شرفاء فى العالم ونستحقر الأدنياء فأننا نجد الرب يعلم: “أن الحظوظ السامية عند الناس مرفوضة عند اللـه”.
وإن كنا ممسكين فنتعالى على الضعفاء لكن الرسول يوبخنا قائلاً: “ليس من يثبت أمر نفسه ذلك هو المدرب المهذب بل الذى ثبت أمره الرب”.
وإن كنا نتعب فى الخدمة أكثر فنستعظم برأينا على الصامتين فأننا نجد الرب يمدح مريم أكثر لأنَها اختارت الحظ الصالـح.
وإن كنا صامتين فنترفع على المتغلبين بالخدمة فأننا نصادف الرب يُعلم قائلاً: “ما جئت لأُخدَم بل لأَخدُم وابذل نفسى فدية عن كثيرين”.
كى فى كل أمر ينبغى أن نقصى استعلان الرأى، وأن كنا جلوساً فى مكان هادئ ومبيض مسقول نتشامخ، لكن ماذا ينفعنا عمل المكان إن لم نعمل بتواضع إذ الرسول يقول: “لا نراقب الأشياء الأرضية المرئية بل التى لا ترى لأن الأمور التى ترى وقتية والتى لا ترى أبدية”.
وإن كنا نسكن فى جب أو فى مغارة ننتفخ فهذه سمات الوفاة. وعدم الهم بالأمور العالمية فالأمر الذى اخترته لذاتك لتقويم الفضيلة لا يصيرنَّ لك سقطة الكبرياء فتضاهى طنجير لا فهم له؛ ولا يعرف العمل الذى له.
وعوض قطعة حديد تروم أن تحمى عوداً فتحتاج أن تتخذ التواضع بقوة وإن كنت موسراً وحاوياً حدود العدل فأنك لم تبلغ إلى حدود إبراهيم الذى جعل ذاته تراباً ورماداً.
وإن كان فوض إليك الاهتمام بالشعب فموسى قد تقلد الاهتمام لا برئاسته شعب عدده ألف فقط لكن كثرة شعوب.
لأنه بعد أن ضرب اللـه مصر بيد موسى وهرون ونشف أرض البحر الأحمر، وسير إسرائيل بلا بلل وعبرهم تلك البرية المرهبة اقبلوا إلى تخوم أهل موآب فابصر أهل موآب كثرة الشعب كما كتب أن موآب قال لمشيخة مدين أن هذا الجمع يلتحس كافة الأشياء التى حولنا كما يلتحس العجل النبات الأخضر من البقعة.
لأنه كان أحصى الشعب سوى النساء والصبيان وقبيلة اللاويين من ابن عشرون سنة وما فوقها كل من ينتصب فى مصاف الحرب من إسرائيل فكان عددهم ستمائة ألف وثلاثة آلاف وخمسمائة وخمسين رجلاً.
وكل هؤلاء كان هو رئيساً عليهم؛ وصار مناجياً للـه ومعايناً مجد الرب؛ فلم يترفع قلبه ولا توانى فى التواضع.
فقد شهد عنه الكتاب المقدس قائلاً: “والإنسان موسى كان وديعاً جداً أكثر من كافة الناس الموجودين على الأرض”.
وإن كنت بَهى الوجه وقوى البأس وعليك التاج موضوعاً فإنك لم تبلغ إلى حدود داود الملك الذى واضع ذاته قائلاً: أنا دودة ولست إنساناً.
وإن كانت لك معرفة وحكمة ومسك فإنك لم تبلغ إلى حدود الثلاثة فتية ودانيال النبى الذين أحدهم قال: يارب أنت هو العدل ونحن فلنا خجل وجهنا إلى هذا اليوم؛ وأما الثلاثة فتية فابتهلوا بنفسٍ مسحوقة وروح متواضع.
فإن كان الصديقون أوضحوا مثل هذا التواضع فكم يجب أن نكون نحن الخطاة أكثر تواضعاً لأن من يترفع ويعظم رأيه فذاك هو عقل البشر.
كما يقول الرسول: “إن كنتم تعيشون للجسد فستموتون وإن كنتم تميتون بالروح أفعال الجسد فستعيشون”.
وغير ممكن أن يمسك الآلام من لم يقوم الفضيلة أولاً، أو ما قد سمعتم كم من مصاعب احتملها الرسول بولس عن الأمانة البهية لأنه كتب إلى أهل كورنثوس يقول: “فى الأتعاب أزيد جداً فى العقوبات أكثر كثيراً جُلدت من اليهود خمسة مرات أربعين جلدة إلا واحدة ضربتُ بالعصا ثلاثة دفعات، رجمت دفعة، غرقت ثلاثة دفعات، أقمت فى العمق يوم بليلة، وفى الأسفار مراراً كثيرة، احتملت معاطب الأنْهار ومخاوف اللصوص، معاطب من جنسى، مصاعب من الأمم، معاطب فى المدن، ومخاوف فى البرية، معاطب فى البحر، مصاعب من الإخوة الكذبة ؛ بالتعب وبالحرص فى الأسهار مراراً كثيرة، بالبرد والجوع والعطش، وبالأصوام دفعات كثيرة، بالبرد والعري وما يتبع ذلك”.
أترانا نستطيع نفتح فمنا؛ وابصر فضله بعد مثل عظم هذه المعاطب وبعد مثل جسامة هذه التقويمات، كيف واضع ذاته وقال: “أيها الإخوة أنا ما احتسب ذاتى أننى قد أخذت شيئاً”. فقال هذه الألفاظ لينفى التشامخ عالماً أى رجز يحل بمن يعشقه.
من يتشامخ يشبه من يعير اللـه بتقويماته كما فى الأمور البشرية، من أعطى قريبه عطية وتشامخ عليه فقد سلب صلاته ونقض صداقة قريبه، ولهذا من هو هكذا فهو مرذول.
فلأجل هذا أراد الرب المهتم بحياتنا أن يجعلنا غرباء عن هذا الألم المفسد فعلمَ قائلاً: “إذا صنعتم كل البر فقولوا أننا عبيد بطالون”.
فإن لم نصنع ذلك لا نكون أكفاء ولا نسمى عبيد بطالين لأن ربنا عظيم ومواهبه عظيمة جسيمة وقوية.
ولنعلم أن الرب ما علمنا أن نتواضع قولاً فقط بل أدبنا أن نتواضع برأينا بالفعل: “ائتزر بمئزر وغسل أرجل رسله”.
فذلك قال: “تعلموا منى فإنى وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لأنفسكم”.
فإذا وافتك المحزنات بخلاف نيتك وصبرت عليها كان ورودها كأنه فى نيتك فتعرف حينئذ ذاتك أنك قد بلغت إلى حدود إنسان ذى فضيلة ومتواضع وتنذهل إذا عرفت كيف احتملت الفكر الخادع الذى أخطر لك الرؤيات الظالمة وكان يقول لك أنك عتيد أن تؤخذ بِها.
بل الأولى بك كما نزعت رؤيتك من مثل هذا الأمر أن تقول لذاتك: أنت من أنت إلى أى حدود قد وصلت؛ هل أنت إيليا؟ أتراك صنعت عجائب مثل ذاك؟
فإنه بصلاته أغلق السماء فلم تمطر ثلاثة سنين وستة أشهر، ثم بصلاته أيضاً أعطت السماء مطراً، وبصلاته أيضاً أحضر من السماء ثلاثة مرات ناراً.
وان كنت اقتنيت الأمانة كلها فأعطينا خبره بذلك؛ أرنا عجائب وآيات، أقم بصلاتك موتى، أفتح أعين العميان، أطرد جناً، نقى برصاً، أقم مشلولاً، أمشى على البحر كمشيك على الأرض الياببسة، حول الماء خمراً، أشبع بصلواتك من الخمسة خبزات والسمكتين جموعاً كثيرة.
لأنه صادق هو القائل: “الحق أقول لكم إن من يؤمن بى يعمل الأعمال التى صنعتها أنا وأعظم منها يعمل”.
لكن لعل أحد يعير فيقول: فإن لم يعمل أحد تلك الأعمال والأمور اللائقة باللـه لا رجاء خلاص له. بل لنا رجاء خلاص إن اعترفنا بضعفنا وقلة إيماننا وإن لم تُعمَل هذه بنا لأن الضعيف إنما يلتمس رحمة لا تعظماً.
فإن كنا محتاجين إلى الرحمة وإياها نطلب فنحتاج إلى التواضع لنجذب بالتواضع الرأفات إلينا من اللـه لأنه قد كتب: “أنه بتواضعنا ذكرنا الرب وأنقذنا من أعدائنا”. وأيضاً: “تواضعت فخلصنى”.
وإن كنا نستند على الرياح ونعظم رأينا فلسنا صانعين شيئاً آخر إلا أن نكردس ذاتنا ونزجها فى اللجة فلا تقبلن مرض الكبرياء لئلا يسرق العدو رؤيتك بغتة.
إذاً فق من فكر الاعتداد بالذات لا تلف شبكته على رجليك، أغسل بالتواضع ذهنك ونظفه من هذا السم القاتل ليؤدبك منظر الذى يكنس بيته كيف ينحنى إلى الأرض وينظفه فكم يحتاج بالأكثر أن تنحنى باهتمام كبير وتتضع من أجل تنظيف النفس ولا تترك فيها الأشياء التى يمقتها اللـه لأنه فى النفس المتواضعة يسكن الآب والابن والروح القدس.
فإنه مكتوب أية شركة للبر مع الإثم أو أية مساهمة للنور مع الظلمة، وأى اتفاق للمسيح مع المارق، وأى حظ للمؤمن مع الكافر، وأى موافقة لهيكل اللـه مع هيكل الأوثان.
نحن هيكل اللـه كما قال اللـه: “أننى سأسكن فيهم وأمشى بينهم وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لى شعباً لهذا أخرجوا من بينهم وتميزوا منهم قال الرب ولا تمسوا دنساً وأنا أقبلكم وأكون لكم أباً وتكنون أنتم لى بنيناً وبنات يقول اللـه الممسك الكل”.
فإذ لنا مثل هذه المواعيد يا أحبائى فلنطهر أنفسنا من كل دنس الجسد والروح مكملين القداسة بخشية اللـه فإذا اجتهدت إذاً أن تخرج من الأمور العالمية وتنتقل من مصاعب العالم الشرير جاهد جهاداً متكاثراً حذراً حينئذ من أن تشارك روح الكبرياء النجس ليقبلك الرب لأن نجس بالحقيقة عند اللـه كل متعالى القلب.
أما تخطر ببالك النار التى مزمع أن تعبر فيها. إذا عبرنا فى تلك النار وكنا أنقياء بلا عيب حينئذ نعرف ذاتنا من نحن لأن ذلك اليوم يوضح عمل كل أحد كما كتب أنه بالنار يختبر.
فلنتضرع للرب بتواضع كثير أن ينقذنا من الخوف المنتظر ويؤهلنا لذلك الاختطاف حين يختطف الصديقين فى السحب إلى الهواء لاستقبال ملك المجد وأن يورثنا مع الودعاء المتواضعين ملكوت السموات.
لأنه كما قال: “مغبوطون المساكين بالروح فإن لهم ملكوت السموات”.
وكذلك “ويل للمستكبرين والمستعلين برأيهم فإن لهم أتون النار”.
لأنه فى الكبرياء يسكن القائل: “اصنع بقوتى وبحكمة فمى أنتزع تخوم الأمم وأرتقى قوتِهم وأزلزل مدناً مسكونة وأتناول المسكونة كلها بيدى مثل عش وأحملها كبيض مهمل ولا يفلت أحد منى أو يقاوم قولى لكن الرب الإله رب الأجناد يرسل إلى كرامتك هواناً وإلى شرفك نار متوقدة تحرق.
وأيضاً أنت قلت فى ذهنك لأصعدن إلى السماء ولأضعن كرسى فوق نجوم السماء ولأجلس فى الجبل الشامخ على الجبال الشاهقة نحو الشرق وأرتقى فوق الغيوم، أكون نظير العلى. فالآن إلى الهاوية تنزل وإلى أساس الأرض.
فلنهرب منذ الآن من الكبرياء التى يبغضها الرب ولنحب تواضع العقل الذى به أرضى الرب جميع الصديقين، لأن تواضع العقل قربان جسيم قدره وشرف عظيم ونجاح نفيس وكرامة جزيلة للذين قد اقتنوه لأن فيه سعى لا يمسك وحكمة كاملة لأنه باستعلاء الرأى ذل قدر ذلك الفريسي، وبتواضع العقل أرتفع شأن العشار الذى معه.
يؤهلنا الرب للحظ الذى لا يبلى مع كافة الصديقين، فإن به يليق المجد إلى الأبد… آمين