ذكر الموت
قال ابن سيراخ تذكّر عواقبك فلا تخطأ وعواقبنا هي الموت والدينونة وجهنّم والملكوت الابديّ، قيل هذا أكثر منذ البداية، الانسان منذ بداياته يميل الى الشرّ كما جاء في الفصل الثامن من سفر التكوين ان الانسان يميل الى الشرّ منذ حداثته، فسقوط آدم وحواء أدى الى فساد الطبيعة البشريّة والموت، وصار الانسان كتلة أهواء تجرّه الى الارض، وصار الجسد يؤثّر علينا كثيراً جداً، من تسلّط الروح على الجسد في الجنة، صار الجسد يجرّنا الى ما يشتهيه وما يلذّ له، لذلك لم يكن الناس في العهد القديم ملائكة، لماذا كان الطوفان؟ لماذا كانت سدوم وعامورة؟ ولماذا هدّدت نينوى بالخراب؟ وماذا قال الرب يسوع لكفرناحوم وصيدا وكفرهم بعجائهم وبما اجرى لديهم من آيات؟ وماذا قال قال لاورشليم المدينة العظيمة: يا أورشليم يا اورشليم يا قاتلة الانبياء وراجمة المرسلين إليها هوذا بيتكم يترك لكم خرابٌ، فخربت في العام سبعين عن بكرة أبيها كما يقال. ولا يتوّهم الناس ان القرن العشرين هو قرن الحضارة والمدنية والثقافة والرقيّ، وماذا كان في القرن العشرين؟ بحسب الاخطاء الأميركية مات 110 ملايين بالسلاح الحربي الناري، وهذه الاحصائية ليست دقيقة مئة في المئة لان الاحصاء في العالم الثالث قبل نهاية الحرب العالمية الثانية لم تكن دقيقة تماماً. ومن اخترع الاسلحة الجبارة العملاقة كالقنابل الذرية والهدروجينية والكوَلتية وحرب النجوم وكلّ الادوات الفتاكة؟ من؟ العالم الذي يزعم انه عالم التمدّن.
ويفتخرون بالثورة الفرنسية، وهي الثورة التي افرزت نابليون التي دوّخ اوروبا ووزعها لاهله وثم جاءنا “بسمارك” والحرب العالمية الاولى المدمّرة والحرب العالمية الثانية والقنابل الذرية على هيروشيما والحروب المكانية.
أنا من مواليد عيد الميلاد 1923 كنت اسمع باخبار الحرب العالمية الاولى وما اصاب بلادنا من جوع وعطش وكيف دول المحور كانت تأخذ حبوبنا، وفي الحرب العالمية الثانية شاهدت مصادرة الحبوب وكنا نأكل قبل دخول ديغول الى سوريا ولبنان خبزاً لا يؤكل. وماذا فعل هتلر وستالين؟ وماذا فعلت روما بهيروشيما؟
منذ طفولتي حتى الآبن لا اسمع إلا بالحروب وفي صفّ البكالوريا كان كتاب التاريخ كلّه عن الثورة الفرنسية وامجادها الغير الباهرة. هذا الكذب هذا البطر خطير، وكانت النتيجة أن العالم تطوّر نحو دول العالم لكي تسيطر على العالم برمته، وأن الدولة وضعت يدها على كلّ شيء وصارت الدولة شخصاً معنوياً بالاسم ولكن في الواقع هي شركة مصالح، وكلّ ما في الدولة المعاصرة مصالح مادية، عمل امن وتنتهي الاموال في المصارف واخبار اميركا اليوم مزعجة جداً افتضح ان الاغنياء فيها والمليارديرين لا يدفعون الضرائب وان الطبقات الاخرى المسكينة هي التي تدفع الضرائب وان الاستغلال والاستعمار مستفحل والدولة دولة شركات ومصارف وكل مثل هذا وسواها من الدول. والعالم يعمل لصالح المصارف والشركات وكلّ الناس عبيد، وفي كلّ يومٍ اختراعات جديدة لتشليح الناس الفلس الاخير الذي في جيوبهم على الكماليات أكثر من الضروريات وربما كان الانفاق العالمي وبنسبة 80% على الكماليات و20% على الضروريات، فضلاً عن نفقات الحرب التي هي أكثر النفقات في ميزانيات الدول الكبرى وسواها، واعترفت “انغيلا ماركت” في 1 ايلول من العام 2009 ان الحرب العالمية الثانية اكثر من 60 مليوناً من القتلى وهذا فضلاً عن اليتامى والارامل والسرقات والنهب والاذلال والتعفيس والدوس على الرقاب للبلاد المغلوبة واحتقار الناس واذلال الناس والتعسّف والقهر والقمع والتشرّد ووو….. والرب يسوع هدّدنا ان الآخرة ستأتي مثل الطوفان وسيكون الناس غارقين بالطعام والشراب والمآدب والخمور والكسب والتجارة والابتعاد عن الله. فإذاً، روحياً الانسان في أزمة تاريخية منذ سقوط آدم حتى الآن، الازمة الروحية موجودة. بولس الرسول قال في رومية: لا تطيعوا اجسادكم لقضاء شهواته، وفي غلاطية 5 قال: بالحرب بين الروح والجسد والذين هم للمسيح صلبوا الجسد مع الاهواء والشهوات، وفي 7 من رومية أوضح بشكل هائل وممتاز وجود حرب داخلية في الانسان، بين قوّتين تتصارعان، والانسان الخاضع لأهوائه يستعمل أعضاءه كأسلحة في يد الاهواء، فعبد الشهوات الجسدية يستعمل جسده للملذّات الجسدية، يحشو بطنه للحوم والخمور والحلويات ويرتكب الخلاعة ويحلّل المحرّمات والغارق في القمار قد يبيع أولاده وزوجته وأثاث بيته وهذا يقع. حاول مرة فاجراً ان يبيع ابنه فهربت المرأة بولدها وروت لي أخباره الشريرة، باع أثاث البيت وهمّ ببيع الولد!!! وهذه الحادثة تتكرّر ووقعت مراراً. والفساد موجود، والحرب على الفساد موجودة ولكن ليست قويّة، ولذلك فالانسان يعيش تراجيديا مأساةً على الارض.
في البداية ليس الانسان ملاكاً، هون وفي بطن امه قد ينرفز ويلبط، الطبيب الاميركي الهندي اخترع علم نفس الجنين، بدأ المهمة بعد حديث مع زوجة صديقه في الشهر السابع من الحبل، قالت له عندما أضع اسطوانات مندرسون يطرب الولد في بطني، وحين اضع اسطوانات بتهوفن يركل بطني برجله، وفهم الطبيب بذلك ان الولد في ذلك الحين درجة من الوعي والفهم، ويولد الانسان خارجاً من معمل كبير في بطن امه الى عالمٍ كلّه إثارات فينرفز، ويختلف عليه الطعام وكلّ شيء، يأكل في بطن أمّه بصورة آليّة، أما الآن فأمّه هي التي ترضعه وفقاً لتعليمات الطبيب أو عفوياً تضع برنامج، والطفل أناني مطلق منغلق على ذاته يبدأ بعد خروجه من بطن امه شيئاً فشيئاً يحسّ بالعالم الخارجيّ، ويتعرّف عليه ببطء كبير. الحيوان يخرج من بطن امه ويخرج ليرضع وهو مزوّد بكل ما يلزمه ليعيش، أما الانسان فمرتهن لامّه، هي التي ترضعه وهي التي تلبسه وهو عنصر منفعل لا عنصر فاعل، وهذا يؤثّر جداً في مصير الانسان، من ناحية اخرى الطفل بخيلٌ كبير وغير اجتماعي، التربية على يد الأم والاهل هي التي تجعله ينفتح على الآخرين شيئاً فشيئاً وهو بخيل الىدرجة، كان الاهل في الماضي يربطونه بالاقمطة لكي لا يحاول ان يمدّ يده الى ورائه “مفهوم”، والآن يحفّض الولد لئلا يرتكب هذه الغلطة. لماذا؟ لانه حريص على ان لا يخرج شيءٌ منه، هذا له ويريد ان يسترجعه إما بفمه وإما ان يمرغ فخذه به، وأعرف شيئاً من ذلك، عرفت في طفولتي شخصاً اتهم بذلك، والولد أنانيّ واثناء التربية الولد لا يفهم شيئاً الحيوان يفهم أكثر منه، يمدّ يده الى كلّ شيء ليضعه في فمه، يتعلّق بالثدي في فمه، وكل شيء ما يدخل فمه، إن وضعناه الى جانب المنقل يضع يديه ويحترق ولذلك الام هي الملاك الحارس للطفل ترافقه في كل حركاته وثكلاته، متى بدأ يدبّ أو يمشي كان بالنسبة اليها خطراً مستمراً، يمدّ يده الى كلّ شيء، يخرّب يكسر طعفيسات لا نهاية لها، لا تستطيع ان تثق به أبداً، يمد يده الى الراديو الى التلفزيون بالتخريب طبعاً، ويجب ان يكون الى جانبها، إن دخلت الى المطبخ يكون معها وهناك الازعاج الكبير، كلّ هذا نعرفه، وإذا ولد له أخٌ أو أختٌ أو بالعكس كانت الغيرة. أنا أعرف طفلين غارا في الشهر العاشر من اختيهما، وكان يمدّا اليدٍ لاختيهما للاذى. والغيرة إن استمرت انتهت بالكراهية والعدائية، وتنتهي بالأذى وأعرف الحوادث، والحوادث عديدة، والام تتّخذ الاحتياطات ضدّ غيرة الاولاد، أما الشراهة فقبل استعمال الميزان للرضاعة كانت الرضاعة فوضى يرضع الولد بشراهة مهولة جداً، وقد يرضع حتى يستفرغ وهناك قساوة وهناك اطفال يعضّون ثدي الأم، وتنابتت الاسنان وهناك اطفال منذ الطفولة يعضّون ثدي الام وكانت تحتار الام كيف ترضع الطفل، وتضطر الى ضربه لكي يتخلّى عن الثدي، الآن البيبروني والنيدو يحل محل الثدي والرضاعة أحياناً، وفي الماضي لم يكن النيدو كان كل العبء على الام ولو كانت تتحمّل صعوبات التربية. ومتى بدأ يتحرّك بدأت المشاكسات بينه وبين أمّه، وأمّه مضطرّة الى مخالفة رغباته، وتنشأ بين الطرفين عداوة ضمنية من الابن نحو امّه، يحبّ أمّه ويكره أمّه ويحبّ الثدي وامه ويكره امه وهنا ينشأ في اللاوعي التضاد، أي يتواجد في اللاوعي الحب والكراهية، ولكن التربية تحوّل أهواء الانسان وميوله بنسبة ما قد تنجح وقد لا تنجح في العالم المتمدّن المتحضّر يحوّل كلّ شيءٍ نسبياً لكي يكون الانسان اجتماعياً، ويعيش في المجتمع بسلوك مقبول باخلاقية مقبولة ولا يرتكب العدوانات الفاحشة من قتل وضرب وكذا… ولكن يبقى في الانسان ميل الى الاذى باليد أو باللسان أو بالحركات، فالنميمة والافتراء والكذب والخبث والمراوغة والمكر… كلّها إذاءات وقد يسيء الانسان الى الآخرين إما بأفكاره وأما بأقواله وأما بأفعاله، والأفكار مشكلة المشاكل، الفكر الشرير جحيم، نشوء الضمير يخفف من أذى الانسان، ولكن قد لا ينجح الضمير كلّ حين، ولذلك ليس الانسان ملاكاً، من أجل الكرسي أي السلطة تاريخ البشر مملوء من الحوادث. العائلة تعتدي، كم من ملك مات من أهله، كم من رئيس مات من أهله، كم من مؤامرة قامت في القصور من الاهل على الحاكم؟ كم من انقلاب عسكري في التاريخ؟ انقلابات عديدة، وفي سبيل السلطة يستبيح الطماعون كلّ شيء.
والسرقة أنواع، من يسرق رغيف خبز هو مجرم، أما من يسرق الملايين والمليارات فهو لورد كبير، ليس العالم فردوساً، الفساد في العالم كبير جداً جداً، وإذا سألنا الناس كيف تقضون يومكم؟ امتنعوا عن أداء الحساب، وكم من دقيقة من يومكم لله؟ تعذّر الجواب.
وأنا أتمتّع بشيء من الفضول لأني اهتم بالبشر وأحب البشر وأسألهم عن أحوالهم الروحية ومطالعاتهم، وخاصة أسأل كثيراً عن المطالعات. الاحتجاجات عن انعدام الوقت للمطالعة قد تبلغ 95%، ولا يتعدّى الوقت أكثر من 85%، ليس لديّ وقتٌ، هذا الجواب العام، أليست لديك خمس لتقرأ آية واحدة من الانجيل؟ أنا أكتفي بآية واحدة يومياً، هذا أفضل من ان تقعد بلا مطالعة. وهذا يحدث مع الذين أتّصل بهم، والذين لا اتّصل بهم هي الاكثرية الساحقة جداً، فأنا استطيع ان اتصل فقط بالعشرات ولا اصل الى المليارات.
وليس حال غيري أفضل من حالي، لذلك الناس بحاجة الى المكواة، أهواؤنا بحاجة الى مكواة، حياتنا كلّها بحاجة الى مكواة. 99% من الناس منبطحون على بطونهم وراء ما هو ماديّ وما هو عالمي، إن لم أقل 99,99%، أليس لله علينا حقوقاً؟ أكثير أن أخصّ الله يومياً بخمس دقائق؟ أرى الناس دائماً منشغلين، ما هي انشغالاتهم؟ العالم.
نهتم بالطعام والشراب واللباس والكماليات، وكلّ ذلك للجسد، أليست الروح أحقّ من الجسد، ويسوع علّمنا ان الجسد لا يجدي نفعاً الروح هو الذي يحيي؟ والفرق بين الروح والجسد هو الفرق بين الارض والسماء، وبين الفرق بين الجحيم والفردوس. نهتم بجحيم هذه الدنيا ونترك فردوس الآخرة، أما نحتاج الى السوط والى المكواة لنرتدع وننسحق من هموم العالم لنتّجه بعيوننا الى السماء الى الله؟ لا نضجر إن قضينا 10ساعات امام الراديو والفيديو والتلفزيون والانترنت والكمبيوتر والسينما؟ لكن نضجر إن حضرنا ساعة في الكنيسة للاشتراك في القداس والمناولة، نضجر إن فتحنا وقرأنا بضعة آيات، نضجر إذا ما سمعنا أحاديث روحية، هل نستطيع في المجالس العادية ان نباشر حديثاً دينياً بدون ان يتضجّر الحاضرون؟؟؟ ولذلك نحن بحاجة الى قوّة ضاغطة تعصر رقابنا لنلتفت الى الوراء وننظر الى ما هو أبعد من وجودنا المادي على الارض، من يستطيع ان يوقف المصارف والشركات عن ابتلاع الكون برمّته؟ ذكر الموت لا يستطيع ابداً ان يردعهم لانهم لا يريدون ان يسمعوا شيئاً من ذلك، ماذا في رؤوسهم؟ في رؤوسهم المال والجاه والعز ونوادي القمار والطعام والشراب والمطاعم الفاخرة واللباس الفاخر.
في مثل الغني وأليعازر: الكلاب كانت تشفق على أليعازر والغني الذي يلبس الخزّ لم يشفق على إليعازر. قساوة القلب مرض روحي خبيث جداً جداً أخطر من السرطان على الجسد، والذين يختنقون في هموم الدنيا وملذاتها وأموالها ومباهجها وثرواتها وجاهها ومناصبها وووو…. الى آخره، كلّهم قساة الرقاب وقساة القلوب، لولا قساوة القلوب لارتدعو وفكّروا في آخرتهم وعادون الى الله، ولذلك المؤمن يستعمل ذكر الموت ليجلد نفسه، ليجلد شهواته وأهواءه ورذائله وأطماعه وأنانيته وكبرياؤه وفخره ومجده الباطل وعزّه الباطل وكلّ ما هو باطل وباطل الاباطيل، قال أشعيا وردّد بولس: فلنأكل ولنشرب لاننا غداً كلّنا سنموت إذا لم تكن هناك قيامة ولا حياة بعد الموت فلنأكل ولنشرب لاننا غداً سنموت. إن الانسان الذي يؤمن بالآخرة الصالحة فلا يقول لنأكل ونشرب لاننا غداً سنموت، يعرف أن الموت يوصله إما الى الموت وإما الى النعيم، وما من مكان آخر بعد الموت.
الذي يؤمن ان الموت هي نهاية الانسان يعمل ما يشاء ويستبيح كل المحرّمات وكلّ شيء، وأما الذي يؤمن ان الموت هو انتقال من الارض الى السماء يستعمل ذكر الموت ليردع نفسه عن الموبئات، والشيطان كما قال بولس الرسول “أسد” يطوف حولنا ويزأر ليبتلعنا، وهو يثير فينا الرغبات والشهوات والميول الشريرة والافكار الشريرة ونحن نحاربه من شهواتنا وأهوائنا ومن الشيطان ثانياً فنحن بين النارين، فكيف نكوي الشيطان ونكوي شهواتنا إلا باستعمال لجام قويّ الفرام القوي هو ذكر الموت بنسبة كبيرة، متى خطر لي ذكر الموت، ارتدعت عن انغماسي في ملذّات هذه الدنيا وفي شرور هذا العالم، ذكر الموت يجعلني أشعر بأن كلّ ما على الارض فناء. ذكر الموت مربّ كبير وهو فرام قوي مكبح قويّ جداً، كلّما انزلقت في شؤون الدنيا جاء ذكر الموت كمكواة تكويني لارتدع وأعود الى الوراء. لذلك أنا احتاج الى قمع ما فيّ من شرور وآثام واستعدادات شريرة، إما ان أطلق العنان لشهواتي وأعيش لجسدي لا لروحي وإما ان أقمعه.
رولان دافنيه استعمل عبارتين: الدنيا العليا والدنيا السفلى، الانسان المتمدّن لديه دنية عليا في الضمير الحادّ والدنيا السفلى تجرّه الى مخازي هذا العالم، والحرب بينهما كبيرة جداً.
اندراوس الدمشقي اسقف كريت ذكر ان ضميره أدرى من كلّ سيفٍ في العالم، فالضمير الحيّ يلجم نفسه جداً ويحاسب نفسه ليلاً ونهاراً عن كلّ بادرة سوء وعن كل فكرة سيئة، والانسان المسيحي الحقيقي الروحاني الحقيقي هو في أعلى درجات الرقي الوجداني المضيري، ضميره مكوي بالروح القدس ويحاسبه على أبسط الهفوات ويردعه عن أبسط الهفوات، وذكر الموت هو احدى الأدوات التي نكوي بها أنفسنا لنبتعد عن الشرور. هناك المبسّطون والحسّاسون الذين يبسّطون الامور كثيراً، والحسّاسون لا يحتمّلون أدنى انزعاج. المبسّطون يرون كلّ شيءٍ بسيطاً، ولذلك لا حاجة لهم الى ذكر الموت، ولكن هؤلاء سطحيون ومكبوتون ويشكون من كبت في اللاشعور، المجاهد الروحاني الحقيقي هو محارب كبير. بولس الرسول استعمل الالفاظ الحربيّة في حياتنا الروحية وخاصة في الفصل السادس من رسالته الى أفسس فطلب ان نستعمل مجموعة الاسلحة الروحية الالهية الكاملة حتى نقاوم الشيطان ونقاوم الشرور. ففي حربٍ أقسى من كلّ الحروب البساطة هي خروجٌ من حلبة الجهاد، فالجهاد يتطلّب مارشالات روحيين أقوى وأشدّ بأساً من مارشالات الحروب العامة، الحرب الروحية ضارية، المارشال العسكري عاجز عن خوض المعركة الحرب الروحية، ولذلك الحرب الروحية تحتاج الى قوى جبّارة، من أين نأتي بها؟ نحن ضغفاء لا نستطيع ان نخوض هذه الحرب إلا بنعمة الروح القدس. فهذه الحرب خطيرة جداً لدرجة اننا نحتاج فيها الى نعمة الروح القدس لتعاضدنا وتنصرنا، فإذا هي حرب اضر من الحروب الخارجية. والحسّاسون ينزعجون من النسيم العليل، كلّ شيءٌ يزعجهم، وفي هذه الايام الآباء والامهات يدلّلون الاطفال فيجعلونهم حسّاسين، ينزعجون من الهواء ومن النسيم العليل ولا يتحمّلون الملاحظات والكلمات ودائماً أنعم من ورق السيجارة وأرقّ من ورقة السيجارة، وبعضهم يضحي مريضاً بالحسّاسية ويوصف لهم الكورتيزون والكورتيزون مضرّ، والحقيقة هي عيوب تربوية، تخرّب متانة الانسان فتبلغ الحسّاسية روحه وجسده وحتى ضميره فيضحي حسّاساً بصورة مرضية، ويصبح الحديث معه محتاجاً الى رقّة مفرطة وهو بحاجة الى طبيب نفسي أولاً لينفضوا عالم الحساسية وتعود اليهم قواهم المكبوتة بالحسّاسية ويضحون رجالاً بدلاً من كونهم جيلاً رخواً، الحرب الروحية تحتاج الى متانة وقوة لا الى الشراسة، الشراسة خطيئة كبرى ولكن قوّة النفس الروحية ضرورية جداً للمجاهد الروحي.
المبسّطون والحسّاسون ينزعجون جداً من ذكر الموت ولا يتحمّلون حديثاً بسيطاً عادياً عن الموت، فهؤلاء بحاجة الى تطبيب أولاً، ولكنّهم كثيرون يزعجوننا بحساسيتهم المفرطة، ودائماً على طرف لسانهم لماذا ولماذا ولماذا…..ولماذا؟ فأقول لهم فلماذا الايمان ايضاً؟؟؟؟ علينا ان نكون أشدّاء في الحرب الروحية، لا تقدّم روحي بدون الحرب الشديدة، القديس يوحنا السلّمي ذكر: الاطهار بالطبيعة والهدوئيين بالطبيعة والودعاء بالطبيعة ، وقال انهم لا يجاهدون ويفضّل المجاهدين واحتار في الجواب وطرح الموضوع بأن من لديه فليسعفنا بالجواب. على ضوء التحليل النفسي نفهم هؤلاء، في الطفولة الباكرة تربيتهم خرّبتهم، الام أو الاهل تصرّفوا مع الاطفال بصورة غارَت معها النرفزة والغضب وما يسمّيه المحلّلون النفسيون “غريزة العدوان”، وبالنسبة اليهم غريزة العدوان تخفي وراءها الطاقة البشرية القوة، غارت الطاقة عند هؤلاء فاضحوا “رخوين” بلا حيوية بلا نشاط، هم هادئون ودعاء عليهم هيئة الطهارة الطبيعية ولكن لم تعد لديهم طاقات حربيّة، فالمجاهد الحقيقي هو يجاهد ضدّ الاهواء ليزرع الفضائل مكان الرذائل، وبعبارة اخرى مع الآباء القديسين ليحوّل الاهواء الى فضائل، والتربية تقوم على التحويل، نحوّل ميول الطفل الى فضائل والانسان نفسه عندما يجاهد روحيا يحوّل أهواءه من الانغماس في الشر الى فضائل، السكّير يتعفّف والشره يصوم وينسك ويربط فمه ومعدته، والغضوب يحوّل غضبه الى ميادين أخرى.
فإذاً المجاهد الروحي يحارب الرذائل الواحدة تلو الاخرى كما يعلّمنا “السلّم الى الله”، وينتصر على رؤوس الاهواء الواحد تلو الآخر حتى يرصّ رؤوس الاهواء ويغرس أهواء الفضائل، ولكن يبقى بنياننا الروحي قائماً على الخطر فإذا تكاسلنا عاشت الاهواء الرديئة، ولذلك الجهاد الروحي يستمر مدى الحياة حتى نلفظ النفس الاخير، إن تكاسلنا اسبوعاً او شهرا عدنا الى الوراء كثيراً، المجاهد الروحي مثل الصاروخ يبقى منطلقاً بعزم نحو الفضائل، لا يتسكّع لا يجنح الى اليمين أو الى اليسار بل يبقى في خطّه الى الامام برجولة ومتانة وقوّة، فالمؤمن الحقيقيّ يكوي دائماً أهواءه ليحوّلها الى فضائل كما قلنا، بولس الرسول استعمل كلمة القمع أي إقمع ذاته، يسوع علّمنا ان لا نعبد ربّين الله والمال، وبولس في كولوسي علّمنا ان نميت أعضاءنا الارضية وكذلك في غلاطية5 و رومية8 واخرى عديدة، والانجيل واضح المطلوب من الانسان المسيحي ان يدوس الرذائل ويقتني الفضائل ويمتلئ من الروح القدس، وغاية الحياة المسيحية كما قال الآباء هو ان نقتني الروح القدس، فهل نستطيع ان نمتلئ من الروح القدس ومن الخمر والخلاعة والسرقة والكذب؟ بولس علّمنا في كورنثوس الثانية الفصل الثالث انه لا يمكن ان تقوم شركة بين البر والاثم وبين النور والظلمة وبين هيكل الله وهيكل الانسان بين يسوع والشيطان؟ فلذلك الرجولة بند اساسي في العمل الروحي، يجب ان نتخلص من فكرة الانسان الآدمي هو الذي يمشي جنب الحيط ويقول يا ربي السترة، يجب ان نتخلّص من فكرة ان الانسان الآدمي الانسان الدرويش الذي لا يسمع صوته المنكمش على ذاته الانسان الروحي الحقيقي الذي يطأ بقدمه رؤوس الشياطين ورؤوس الاهواء ليقفز الى السماء بجناحيّ الصوم والصلاة فيصل الى ربّنا يسوع المسيح، ملكوت الله لا يؤخذ إلا غصبا كما علّمنا ربنا يسوع المسيح، لا يؤخذ مجاناً أبداً لا يؤخذ إلا بالاعراق والدموع. نحن نكرّم بالدرجة الاولى الانبياء والرسل الشهداء، وماذا قدّموا الشهداء؟ رؤوسهم واجسادهم للسيف وللنار وللحريق… هؤلاء الرجال أوادم بالمعنى المستعمل عند العامة الابطال، هؤلاء هم ابطال الكنيسة وابطال الكنيسة هم الشهداء والشهداء لم يقتلوا الغير بل قتلوا، وفضلّوا ان يقتلوا من ان يرتكبوا إثماً وينكروا المسيح، وفضلوا الموت على ان يقول احدهم علناً انا انكرت المسيح، وكم كلمة انا انكر المسيح سهلة على الانسان العادي حتى ان هذه الكلمة البسيطة مرفوضة مسيحياً، عليك ان تعترف بالمسيح ولو قطع رأسك، هذه هي المسيحية مسيحية الابطال والرجال الابطال لا مسيحية المخنّثين المائعين التنابل الكسالى الانهزاميين، البطولة الروحية هي الاساس لكي نكون جنوداً ليسوع المسيح له المجد والاكرام والسجود الى ابد الابدين ودهر الداهرين آمين.