صوم الميلاد
تدخل الكنيسة الشرقية الارثوذكسية في الصوم الاربعيني اعتبارا من الخامس عشر من شهر تشرين الثاني وحتى الرابع والعشرون من شهر كانون الاول.
حددت هذه المدة بقرار من المجمع المنعقد في القسطنطينية سنة 1166 باربعين يوما بعدما كان يمارس مدة سبعة ايام وفي بعض المناطق سبعة اسابيع. مما لا شك فيه ان ممارسة الصوم وجدت في حياة الشعوب القديمة كوسيلة للسمو الروحي والترفع عن الدنيويات والملذات الجسدية. ليس الصوم هو هدفاً بحد ذاته انما وسيلة لبلوغ الهدف، ولا الصوم هدفه الاختطاف النفسي والديني وليس هو حرمانا ولا كبتا ولا جوعاً وعطشا ولا جهادا ضد النفس او تعذيبا للجسد، انما الصوم وسيلة لنتجه نحو الله قبل القيام بمهمة صعبة او لطلب الصفح عن الخطأ او التماس الشفاء.
الصوم هو الباب الذي يدخل منه النور الالهي الى الانسان. الصوم هو ترقب النعمة الضرورية لاتمام رسالة ما والاستعداد وانتظار لمجيء المسيا ( الرب يسوع المسيح ). هذا هو الهدف من الصيام الميلادي: نحن ننتظر المخلص يسوع المسيح.
قال الذهبي الفم : “اني احزن من انكم تفتكرون ان هذا ( اي الصوم ) الذي هو ادنى الفضائل كاف للخلاص مع ان اموراً اخرى اعظم منه كالمحبة والتواضع..”.الا ان الصوم هو اول وصية اعطاها الله للانسان ( تك 2-7 9) لكي يعلمه العفة والطاعة لخالقه التي لما انحرف عنها نفي من السلام والسعادة وحكم عليه بالموت (تك 3-5). موسى صام اربعين يوما استحق بعدها ان يعاين الله وياخذ الوصايا العشر ( خر 34-28) وايليا صام اربعين يوما فاستحق ان يخاطب الله في حوريب ( ملو 10-8) ودانيال صام ثلاثة اسابيع واهل نينوى ايضا. لهذا امر الرب بان يصوم شعبه فقال على فم يوئيل النبي : ” قدسوا الصوم …” ( يو 41-1 ) ” فالان يقول الرب توبوا بكل قلوبكم وبالصوم ” .السيد المسيح الذي لم يكن محتاجا الى الصوم اخرجه الروح القدس الى البرية فصام اربعين يوما وأربعين ليلة ( لو 4-37 )، كما علم الرسل بذلك اذ كانوا يصومون: ” فصاموا حينئذ وصلوا ” ( اع 13 : 5-3 ).اذا فالاباء القديسون وضعوا لنا صوم الميلاد حتى يهيئوا لكل منا المستوى الروحي الرفيع الذي نستطيع ان نستقبل من خلاله
الظهور الالهي بالجسد (الذي هو مشروع الله الخلاصي لجميع البشر، لانه يستحيل على الانسان الطبيعي المنغمس في امور العالم وحطام هذه الدنيا ان يقبل مثل هذا السر الفائق الطبيعة. لذلك اذا لم يرتفع الانسان الى ما هو فوق الطبيعة بكل كيانه حتى يتهيأ عقله بمجرد التفكير في امكانية سر التجسد (؟؟؟) واهميته فلن يستطيع ان يدرك هذا السر ويعرفه لانه يستحيل ان ياتي المسيح الينا وطريقنا معوج. ولا يمكن أيضاً ان ياتينا ونحن في علو كبريائنا. او هل يمكن ان يأتينا ونحن في اليأس؟ او كيف نراه ونعرفه ونحن نعيش في صراع وتمزق في ذاتنا؟
لهذا وضع الصوم لتدريب النفس على التقدم في الحياة الروحية والمصالحة مع الذات ومع الاخرين ومع الله. وهو احدى العلاقات (هل هذه الكلمة صحيحة؟) الظاهرة للدخول مع الله في عهود جديدة. بالصوم يبدأ الانسان يتشوق لعشرة الله ويعشق ملازمته.
ولا يعتقد احد ان الصوم عن الطعام وحده يكفي لبلوغ الهدف المنشود الا اذا صام صوما ذاتيا داخليا، صام عن الاهواء .الغضب. الحسد . النميمة. الضلال. واما الصوم الحقيقي فهو فعل المحبة التي تأتي بالدرجة الاولى .الصوم هو حمل الصليب وانكار الذات، كما تعلمنا من المسيح المصلوب على الصليب ان ننكر ذاتنا وان نرفض كل ما حسبناه ربحاً في هذا العالم. كما أن الصوم الحقيقي هو التوبة الحقيقة التي تجعل الصوم صوما، وبدونها لا يحسب الصوم شيئا. اذا الصوم بدون التوبة لا يبرر ولا يؤهل لاستقبال المخلص .
اذا صمنا واكملنا هذه الطريق الى النهاية في هذه الروح وفي هذا الفهم فيكون وجه المسيح قد اشرق علينا وانار ذهننا حيث يتبدد كل كبريائنا وضعفنا ونكون قد اتخذنا منه كل الصفاء والوداعة والاتضاع والمحبة والقوة، حينئذ نعلم ونفهم معنى الميلاد ونتذوق تجسده (؟؟؟؟) الفائق الطبيعة. الصوم هو ما يؤدي بنا الى جعل قلوبنا مذودا دائما لولادة السيد المخلص ونرتقي الى العلى فرحا بولادته ونحيا به فنصرخ مع بولس الرسول : ” لا احيا انا بل المسيح يحيا في ” ( غلا 2-20 ).