الفصل الثاني عشر
روحانية كنسيَّة لا فردية
الكنيسة الأرثوذكسية تؤمن بأن كل معتمد أصولاً هو عضو في جسد المسيح. والكنيسة هي هذا الجسد. وفيها كل كنوز العنصرة المجيدة. ففي يوم العنصرة العظيم أرسل الابنُ الحبيب الروحَ القدس من لدن الآب إلى التلاميذ المجيدين فعمَّدهم وملأهم من الروح القدس وأقامهم معلمين للمسكونة جمعاء. طهّرهم بالنار الإلهية. أفاض من بطونهم أنهار الماء الحي (يوحنا 37:7-39). الكنيسة هي جسد المسيح الذي سكن فيه الروح القدس. العنصرة امتداد للتجسّد الإلهي. يسوع صعد إلى السماء جسدياً إنما عاد إلينا في الروح القدس، يومَ العنصرة فجعلنا مسكنه.
المعمودية هي ولادة في المسيح. بها نصبح أولاد الله بالنعمة[1]. تمسحنا الكنيسة بالروح القدس (الميرون). تناولنا جسد الرب ودمه. إنها السماء على الأرض، “في المسيح” (فم الذهب). المسؤوليات فيها خدمة (1 كو 12 وتفسير الذهبي) لا رئاسة وزعامة. الكبير فيها خادم للصغير. يتدفق فيها الروح القدس أنهاراً من النعم والمواهب والفضائل. الفضائل هي ثمار الروح القدس (غلا 17:5 و22). الفصول 14-17 من الإنجيل بحسب البشير يوحنا روعة الروعات: نحن مستقرون في الثالوث القدوس. الثالوث القدوس واحد. نحن مطالَبون بأن نكون كاملين في الوحدة كما أنَّ الآب والابن واحد. يسوع صلّى من أجلنا ومن أجل وحدتنا. محبة الله قد أُفيضت في قلوبنا بالروح القدس (رو 5:5 ويوحنا 26:17). هذا الروح يؤيدنا بالقوة في الإنسان الباطن (أف 16:3).
في لاهوت آباء الكنيسة محبة الله ليست جوهره بل إحدى القوى الإلهية. تسكن فينا. الروح القدس يعضد ضعفنا ويقوّي إنساننا الباطن الداخلي العميق (رو 26:8 وأف 16:3). إننا مقرّ للثالوث القدوس، أفراداً وجماعة. إن أحببنا بعضنا بعضاً أحببنا المسيح، وإن احتقرنا أو أبغضنا بعضنا بعضاً احتقرنا وأبغضنا المسيح. بتقوى وخشوع اسمح لنفسي بتقبيل يمين كل مؤمن وبخاصة يمين الطفل يوم اعتماده لأنه اقتبل المعمودية والميرون والقربان. هذا التوقير المتبادل الصادق الصافي البريء فعلُ تقوى وخشوع كبير جداً.
كل معتمد نال في المعمودية نعمة التجليّ الإلهي. بذرة التجلي مبذورة فيه. كل مؤمن مدعو إلى التجلي. لا فرق بين كبير وصغير، ولا بين راهب وعلماني واكليريكي. الخلاص واحد لجميع المؤمنين. عمّدَنا الله فعمل ما عليه. بقي علينا أن نعمل ما علينا، أي الجهاد في الصلوات والفضائل وأعمال البرّ والتقوى. كلنا مدعوون إلى أن نكون متشبِّهين بالمسيح.
التراخي يجعلنا نطالب رجال الكهنوت والرهبان بالكمال فننسى أنفسنا. إن تراخوا كان عليّ وعليك أن نصبح نموذجاً لهم. في جسد يسوع كلنا واحد. البطريرك والمطران والكاهن والراهب هم أعضاء في جسد يسوع. الاكليريكيون نالوا موهبة الخدمة. موهبة الخدمة لا تجعلهم كاملين. هناك النعمة المؤلِّهة والمواهب[2]. النعمة المؤلِّهة هي التي تجعل الاكليريكي والعلماني والراهب متساوين في حلبة الجهاد الروحي. النعمة تصنعهم جميعاً كاملين. الكمال الروحي هو فعل النعمة.
الروح القدس ساكن في الكنيسة ككلّ لأنها جسد المسيح الواحد. يبقى على كل عضو في الجسد أن يحقّق ملء وجوده في الجسد. ليس لدينا روحانية خاصة بكل فئة. على دروب الرب كلنا عسكر. المبرّزون هم الكاملون روحياً وأخلاقياً. ما كل الرهبان قديسون لأنهم ليسوا جميعاً مجاهدين. القداسة مرتبطة بالجهاد الروحي في الروح القدس بدون تمييز.
الشعب هو مستودع الروح القدس ككل. الكنيسة مسحوبة من جنب المسيح. كل مؤمن مسحوب من جنب المسيح. الشعب برمته كتلة واحدة لا فئات.
الروح القدس يسكن في رأسنا الأوحد يسوع ومنه ينساب إلى الأعضاء (الذهبي). الروح القدس يضمّ بعضنا إلى بعض. من يشق الكنيسة يشق المسيح (الذهبي).
بما أن الروح القدس يجمعنا في واحد فالفردية والأنانية والكراهية أعداء الوحدة. كل مؤمن يحمل الكنيسة كلها في قلبه، يحمل، إذاً، كل أعضائها. ليس هو لذاته بل ليسوع وللروح القدس. آلام كل عضو في الكنيسة هي آلامه، ومجد كل واحد فيها هو مجده. الغيرة والحسد مكروهتان لنا. روحنا روح جماعية لا فردية فيها ولا سلطوية. لوسكي اللاهوتي الكبير أعطى الحق لكل مؤمن بمعارضة الباطل. المهم هو استقامة الرأي والفضيلة. المؤمنون مسؤولون عن إصلاح بعضهم بعضاً. الفردية والأنانية والكبرياء حواجز يقيمها الشيطان بين المؤمنين. يوحنا الإنجيلي قال إن “الله محبة” (1يو8:4 و16). هذه المحبة صارت ملكاً لنا. أحشاؤنا صارت إلهية. روح الله يسع كل المؤمنين بتواضع وخشوع. نحترم كل مؤمن كما نحترم المسيح. وأكرمُنا هو أضعفُنا. وكل شذوذ على ذلك هو عمل الشيطان. المسيح أعطانا المثل الكامل في غسل أرجل تلاميذه. العجرفة والعُنجهية والغطرسة تجعل الناس مترفّعين. البطريرك القديس يوحنا الرحيم كان يدعو الفقراء “أسياده”؛ وأضاف حسناً الراهبَين الدمشقيين يوحنا موخوس وتلميذه صفرونيوس اللاهوتي المشهور فكان يكنّ لهما احتراماً مذهلاً. هذا نموذج فريد لكل ذي سلطة من الخاشعين. فنماذج القداسة في الكنيسة متعدّدة جداً، وليست وقفاً على فئة دون أخرى.
الفصل 17 من إنجيل يوحنا خير نصّ على اندماج المؤمنين بعضهم ببعض واندماجهم ككتلة متراصّة في الثالوث القدوس. روحانيتنا ثالوثية تدعو إلى الامتلاء من الروح القدس الذي يضعنا في حضن الآب والابن.
آباؤنا القديسون منذ باسيليوس الكبير ركزّوا جداً على دور الروح القدس في حياتنا الروحية و… فسمعان اللاهوتي الجديد… فالبطريرك القديس كالستوس (1397) الذي كرّر مراراً في مئويته القول إنّ الآباء ألحّوا على دور الروح القدس. فليس، إذاً، القديس سيرافيم ساروفسكي إلاّ صداهم في قوله: “إن غاية الحياة هي اقتناء الروح القدس”. فهذا تقليد أرثوذكسي أصيل. ففي صلاة الشكر بعد المناولة نطلب أن يكون الامتلاء من الروح القدس[3] هو أحد مفاعيلها. وعلاوة على هذا وذاك فالذهبي قال إن الإنجيل هو تاريخ يسوع المسيح بينما كتاب أعمال الرسل هو تاريخ الروح القدس. هذا صحيح، فالعنصرة هي حلول الروح القدس. وفي السفر نرى الروح القدس يقود الرسل والكنيسة. هو لبّ حياتها. منذ سنوات صدر كتاب فرنسي يقول إن الغائب الأكبر في الغرب هو الروح القدس. والحقيقة هي أن الغرب لا يصلي مثل الأرثوذكس. القداس فيه يستغرق أحياناً ثلث ساعة. روى لي أبونا البار البطريرك الياس الرابع إثر زيارته لموسكو في كانون الثاني 1972 إبّان الحكم السوفياتي الملحد المضطهِد أن الصلوات تستغرق مساء السبت 4 ساعات والناس جميعاً وقوف. وتستغرق 3 ساعات ونصف صباح الأحد. في دير الروح القدس (اليونان) يستغرق القداس يوم الأحد ست ساعات ونصف.
الكاتب الفرنسي الكاثوليكي مورياك الأكبر في النصف الثاني من القرن 20 قال: إذا هبّت الروحانية يوماً فستهبّ من روسيا. ألمح إلى ذلك في حديث مع التلفزيون الكاثوليكي الفرنسي فلم يذكر روسيا بل الشرق. وشكا من الضعف في فرنسا رغم تخمة الكتب. الكتب الروحية نافعة إن اقترنت بالصلاة الحارة المستمرة لا كحشو ذاكرة وكمعارف نظرية.
استغرب أحدهم جفاف أحد الأقطاب المهتمين بالنصوص الروحية: السبب في الجفاف هو العلم بدون الصلاة الملتهبة بنيران الروح القدس. أما روسيا فقد عادت ـ ولله الحمد ـ كما توقّع مورياك والرئيس شارل ديغول إلى أصالتها. حضر سيادة المطران الياس قربان (طرابلس) الاحتفالات بمرور 100 عام على إعلان قداسة سيرافيم ساروفسكي: أعلمني أن الاحتفال أقيم في تموز الحار بحضور البطريرك وجيش من الاكليروس والرئيس فلاديمير بوتين وأركان الدولة وجمهور غفير جداً من المؤمنين في لباس محتشم 100٪ والغطاء يلفّ الرأس معقوداً تحت الذقن. الإنعاش الروحي في العالم المسيحي كله وقف على الاهتداء بروسيا التي لا تشبع من الصلاة ولا تملّ. الصلاة هي رئتنا الروحية التي تتنفَّس الروح القدس وهي عيننا التي ترى الله متجلياً فينا. عاشق يسوع يلهج به ليلَ نهارَ، في عشق أحرّ من الفرن الذري…
أيها الثالوث القدوس! يسوع وعدنا بأن تجري من بطوننا أنهار ماء حي. هذه الأنهار هي في الكنيسة. ففجِّرْها على الدوام في بطوننا، في أعماق أعماقنا. لا تجعلْ قلوبنا تهوى سواك. وأجرحْ بحبِّك قلوبَنا (السلّمي 36:30 وكاليستوس 11:1) واكوِ بالروح القدس أحشاءنا. فالمحبة نار، سهم ناري يخترق القلب ويجرحه[4]. بدون هذا الجرح وهذه النار تبقى المحبة عاطفة بشرية لا ناراً إلهية. اللهم، أيها الثالوث القدوس، اجعل قلوبنا ناراً. اجعل نار الروح القدس تخطفنا بحبك. آمين!
عيد الثالوث القدوس (العنصرة المجيدة)
30/5/2004
وفي هذا المقام لا بد من التنويه بحرص الأرثوذكس على الروابط العائلية وعلى قدسية الزواج. المجمع المقدس يدير شؤون الكنيسة بالتعاون مع الشعب. خدمة الإكليل اسمها “إكليل”. يُرتل: “أيها الرب إلهنا، بالمجد والكرامة كلِّلهما”. هي منسوخة نسبياً عن خدمة القداس الإلهي مع 3 أنشودات رائعات من خدمة رسامة رجال الدين. القداس الإلهي عرس الجلجلة، عرس خروج الكنيسة من جنب المسيح. الرؤيا تهلَّل لعرس الخروف (يسوع) مع الكنيسة. وخدمة الرسامة احتفال بعرس الكاهن وكنيسته: 3 أعراس يعقدها الروح القدس. فالإكليل احتفال رائع لا عقد زواج ككل عقود البيع وسواه. في الغرب الزواج عقد. المرأة الأرثوذكسية هي صدر البيت، هي أميرة البيت. في “المرأة في نظر الكنيسة” و”تفسير رسالة أفسس” و”المرأة والقداسة” و”قلق وجودي”، عرضتُ الرأي الأرثوذكسي الآبائي في المرأة: البيت الأرثوذكسي كنيسة صغيرة. ألم تكن بيوت أكيلا وزوجته بريسيكلا، ونيمفاس، وفيلمون وزوجته أبفيّا كنائس يجتمع فيها المؤمنون الأولون؟
ولذلك يلعب البيت الأرثوذكسي الدور الأول في تكوين الأرثوذكس روحياً واجتماعياً. الارتباط بالوالدين لا ينقطع. المرأة مرتبطة بزوجها مخلصة له كل الإخلاص. تشاركه أفراحه وأتراحه.
ارتباط النهضة الأوروبية الغربية بالفكر اليوناني ـ الروماني الوثني أودى بها إلى الفصل بين الدين والحياة، وإلى الفردية الخانقة وانعدام الحياة العائلية. فالطلاق في الغرب وحرية النساء، و”فلتان” الأولاد واستقلالهم و… (إلاّ عند الفئات المحافظة على تراثنا المشترك القديم) أمور مخيفة إلى حد التساؤل: إلى أين تذهب هذه المجتمعات المتفككة؟ الطلاق مثل تناول لفائف التبغ. متى شاءت المرأة غادرت البيت. لولا قوة الدولة لسار المجتمع نحو الانهيار. لذلك على الأرثوذكس أن يبقوا معتصمين بقداسة الأسرة والروابط العائلية، وبالتضامن المطلق بين المجمع المقدس والشعب المؤمن. على المجمع أن ينغرس في عمق أعماق الشعب كما كان معلمنا الكبير يوحنا فم الذهب وسميّه يوحنا الرحيم.
يجب إعلان الحرب على الفردية والتحكّم لنبقى ضمن تراثنا العائلي. الكنيسة في المدينة أو في القرية هي العائلة الكبرى والمجال الحيوي الروحي لنا جميعاً. الزوجان في الفصل 5 من أفسس، كما فسَّرتُه، ذبيحتان. كل منهما يبذل نفسه في سبيل الآخر. علينا تعزيز هذا المفهوم في الرعايا لنبقى متماسكين كالبناء المرصوص. الأرثوذكسي يبقى حتى رقاده متعلقاً بأبويه. رحم الله اللذين أورثاني التعلق بهما وبأسلافهما الصالحين.
الفصل الثالث عشر
القوى الإلهية والتأليه
عقد الدكتور عدنان أديب طرابلسي فصلاً جيداً في القوى الإلهية وذلك في الكتاب المشترك:”سألتني فأجبتك”. اعتمدُ عليه هنا لأرتاح قليلاً.
في كتابي “الله في اللاهوت المسيحي” أتيت بآيات من العهد القديم والعهد الجديد تتعلق بكون الله غير منظور وغير معلوم، وغير مقترب إليه، وغير محدود، وغير مدرك، وغير قابل للوصف و… هذا ما يسميه اللاهوتيون: اللاهوت السلبي. بالمقابل هناك اللاهوت الإيجابي: الله صالح، عادل، رحيم، لطيف، حنون… ولكن في اليونانية يُزاد عليها أيضاً: الفائق الصلاح، الفائق القداسة، الفائق الحنان…
ومع ذلك يرى بالاماس أنّ الله يتجاوز ذلك ويعتبر اللاهوت السلبي كلاماً لا يؤدي إلى معرفة الله. هو كلام عن استحالة معرفة الله بالعقل، فحتى الملائكة لا يعرفون الله ولا يرونه إلاّ بالروح القدس. إذاً: ففوق ذلك وأبعد منه هناك الرؤية الإلهية الفائقة النور، هناك الروح القدس. هناك تجسد يسوع المسيح الذي أتاح لنا تجاوز أنفسنا لنصل بالروح القدس إلى التأله (راجع بالاماس 1؛20:3و21 ـ 2؛49:3؛ و45 و51 و52 و53 و65 و66 و67). فمطالعة هذه الفصول الممتازة ضرورية لفهم رأي بالاماس في اللاهوت السلبي. فهماً جيداً[5].
فلاديمير لوسكي وضع النبرة جداً على أهمية اللاهوت السلبي. تجاوز في ذلك اعتدال بالاماس. بالاماس انتقد اللاهوت السلبي[6]، لأن الله ليس فقط غير المنظور، غير المحدود… هو فوق ذلك بكثير. هو الموجود الفائق الوجود وهو ذو الجوهر الفائق وذلك الجوهر بصورة جوهرية. أيضاً هو فائق فوق كل فائق.
وفي بطرس الرسول “نحن شركاء الطبيعة الإلهية” (2 بط 4:1). وفي إنجيل البشير يوحنا: نستقر في المسيح وفي الآب عبره. والروح القدس يقيم فينا. وفي رسالة يوحنا الأولى: لنا شركة مع الآب وابنه. وفي (2 كور 16:13) لنا شركة مع الروح القدس. وفي بولس الرسول نحن مقيمون في النعمة. الموضوع يستغرق كتاباً.
كان القديس ايريناوس أسقف ليون (فرنسا) في القرن الثاني قد طرح قولاً ردّده أثناسيوس الكبير والآباء من بعده حتى يومنا هذا: صار الإله إنساناً ليصير الإنسان إلهاً. وكثيرون منهم قالوا إن الإنسان إلهٌ مخلوق.
إذاً: غاية التجسّد الإلهي هي التأله. هذا هو الخلاص في المفهوم الأرثوذكسي للخلاص. ايريناوس (المتوفى في 212) بنى صرح لاهوته على إعادة صياغتنا في يسوع (راجع تفسيرنا لأفسس 10:1 و14). يسوع جعلنا بالمعمودية أعضاء في جسده الذي هو الكنيسة. الروح القدس يسكن في رأسها، أي في يسوع، وينساب إلينا من يسوع. لا نتحد بيسوع أقنومياً، لأنّ الاتحاد الأقنومي قاصر على الطبيعة التي أخذها من العذراء مريم (بالاماس، 150 فصلاً: 75 وص 254 من مدخل مايندورف). فلا الكنيسة ولا القربان متحدان به أقنومياً (سر التدبير ص64). هذا سرّ إلهي. يسوع وحده تجسَّد (الدمشقي 3:3 و6 و11 وبالاماس). كيف تجسّدت الألوهة في أٌقنوم الابن دون أقنوم الآب والروح القدس؟ إنه سرّ الله.
الاتحاد الأقنومي بين الطبيعتين الإلهية والبشرية في أقنوم ربنا يسوع الواحد جعل ملء اللاهوت يحلّ جسدياً في يسوع (كولوسي 9:2). ولكن طبيعة يسوع البشرية ما صارت جوهراً إلهياً، إنما امتلأت من أنوار اللاهوت. يسوع أخفى هذه الأنوار إلاّ في يوم تجليه فأظهرها لرسله الثلاثة بقدر ما استطاعوا. بفضل التجسد الإلهي صرنا، بالعنصرة المجيدة، شركاء في هذه الأنوار. العنصرة هي امتداد التجسّد الإلهي لأن الروح القدس أسَّس، يوم العنصرة، الكنيسة التي هي جسد المسيح الممتدّ في التاريخ عبر المسيحيين أعضائه. كلما عمّدنا إنساناً جدَّدنا العنصرة. كلما رفع كاهن يده على القرابين حلّ الروح القدس عليها… الخ…
هذه الأنوار التي رآها الرسل أثناء تجلي ربنا، ما أمرها؟ الآباء القديسون قالوا إنها إلهية. سكنتْ في جسد يسوع. إذاً: هي تسكن فينا، نحن أعضاءه.
كيف يسكن فينا وهو غير المحصور، غير المحدود، غير الملموس، غير المدرك، غير…، غير…؟
كيف نقول إن الله كذلك وإنه غير قابل لأن يشترك فيه البشر؟ كيف هو مشَارَك وغير مشَارَك؟
الله فائق الجوهر بصورة فائقة الجوهر كلياً. هو فوق الجوهر، فوق الطبيعة. ولكن إلهنا إله حيّ فعَّال خلاّق لا جوهرٌ نظري غير فاعل. فطبيعةٌ بدون أفعالٍ تعلِن عنها هي طبيعة وهمية. الطبيعة تظهر في أفعالها.
لذلك قال الآباء القديسون إن الجوهر الإلهي ذو قوى (أو طاقات) جوهرية سرمدية لا بداية لها ولا نهاية. وهي غير مخلوقة. هي أنوار إلهية تشعّ من الجوهر الإلهي. هي التي خلقت الأكوان، ولذلك فالعالم حدث في الزمان وليس سرمدياً كما في الفلسفة اليونانية. ليس جزءاً من الله لأنه لم يصدر من الجوهر الإلهي بل صار في الزمن بأمر المشيئة الإلهية.
هذه القوى الإلهية هي أنوار إلهية. تحلّ فينا بالمعمودية والميرون والقربان. جسد الرب ودمه ممتلئان منها. بالاماس قال إن الإنسان المعتمِد يتألف من النعمة الإلهية وروحه وجسده. يسوع قنَّم[7] الطبيعة البشرية في أقنومه الإلهي. المعتمِد يقنِّم النعمة الإلهية في شخصه. ما هذا الفكر النيّر في تطبيق عقيدة التجسد الإلهي على علم الإنسان (الأنثروبولوجيا)!
في المعمودية نلنا النور. هذا النور يلمع فينا بالقدر الذي ننمو فيه “إلى مقدار قامة ملء المسيح” (أف 13:4)، “لكي تُملَؤُوا حتى (تنالوا) ملء الله” (أف 19:3) والمسيح يسكن بالإيمان في قلوبنا (أف 17:3، عن ترجمتي لرسالة أفسس). هذا يعني في قاموس مكسيموس المعترف أن نوحِّد قوى النفس الثلاث: العاقلة والشهوانية والغضبية. كيف يتم ذلك؟ يسوع قال لتلاميذه:”إن كنتم تحبوني فاحفظوا وصاياي…”.
إذاً: محبة يسوع تتجلى في حفظ وصاياه. الروحانية المسيحية أعمال فاضلة لا مواقف فكرية أو فلسفية أو عاطفية رومانتكية أو انتماء إلى فئات تدّعي أنها روحانية. إنها تجسّد المسيح في المسيحي بفعل الروح القدس الذي يحفر وصايا المسيح في أعماق أعماقه، ويُنميها لتعطي ثمراً: ثلاثين وستين ومائة.
إذاً: حفظ الوصايا، المحبة النارية، الشوق اللاهب، الصلوات المتقدة تحوّلنا، تبدّل معدننا، تحوِّلنا إلى بشر يمشون على الأرض إنما أرواحهم في السماء. في مكسيموس المعترف ويوحنا السلّمي وبالاماس، الروحاني يحوِّل الأهواء لا يقتلها. يحوّل عشق الأجساد وسواها مثلاً إلى عشق إلهي. طرحتُ الموضوع مفصَّلاً في كتابي “الاعتراف والتحليل النفسي”.
استعمل غريغوريوس النيصصي وسواه لفظة “عدم الهوى” اليونانية المأخوذة من قاموس الفلسفة الرواقية. لدى الرواقيين عدم الهوى هو حالة تجميد للأهواء. لذلك انتحر بعض كبار قادة المذهب (بوسيدينيوس أفاميا السورية وسواه…). فلاديمير لوسكي أثبت أن معنى اللفظة عندنا هو النصر على الأهواء لا قتلها. هذا المفهوم الرهباني الجديد هامّ جداً. بدون النصر على الأهواء لا نكتسب الطهارة. سبقه السلمي إلى ذلك.
ديونيسيوس السوري المنتحل ومكسيموس وبالاماس قالوا إن المرء يتجاوز عقله وكل كيانه. النعمة الإلهية تنقله من معرفة عن طريق الحواس والعقل إلى معرفة أخرى. استعملوا عبارة الظلمة الفائقة الإنارة. إنها معرفة بالروح القدس لا بالفعل البشري. يشعّ النور الإلهي في المرء. في كتابات القديس سمعان اللاهوتي الجديد: كان النور الإلهي يشعّ في سمعان فيرى بهذا النور، اللهَ النور، على ما قيل: بنورك نعاين النور.
يسوع قال إن الأبرار سيكونون شموساً في ملكوت السموات (متى 43:13).
بعد الموت سيشع النور في الأبرار. ولكن نعمة التجلي الكامل ستظهر بعد القيامة في أجسادنا وأرواحنا. وهي مجد إلهي أبدي. النعمة الإلهية تجعلنا نحن المخلوقين في الزمان شركاء في القوى السرمدية غير المخلوقة.
من مقارنة الأناجيل الثلاثة الأولى في أمر تجلي ربنا يتضح أن ظهور يسوع في ملكوته وملكوت أبيه وملائكته هو التجلي كما فسَّر آباء قديسون. كتابات القديس سمعان اللاهوتي الجديد: كان النور الإلهي يشعّ في سمعان فيرى بهذا النور، اللهَ النور، على ماقيل: بنورك نعاين النور.
افي حفظ وصاياه. ْ نوحِّد قوى النفس الثلاث: العاقلة والشهوانية والغضبية. ا (أف17:3 عن ترجمتي لرسالة أفسس).
نعم، التجلي هو الملكوت. سيكون فيه الأبرار شموساً.
الآباء قالوا: يسوع إله بالطبيعة ونحن آلهة بالنعمة. التأله الكامل يكون نصيبنا بعد القيامة.
نبدأ بهذه القطعة من كتاب مايندورف “المدخل إلى دراسة بالاماس” (ص 293).
إنما الله الحي بكليته يظهر للمسيحي “والنعمة تكمّل الاتحاد الممتنع النطق به… الله بكليته يأتي ليسكن في الكيان بكليته في الذين هم أهل له، والقديسون بكليتهم يقيمون بكلية كيانهم في الله بكليته، ممسكين بالله بكليته دون أن ينالوا أية مكافأة أخرى، لقاء الصعود الذي أنجزوه ليرتفعوا إليه سوى الله وحده؛ يلتصق بهم، كأعضائه الخاصين، كما تلتصق النفس بالجسد، كما بأعضائها الخاصة.” الأمر إذاً شركة مباشرة: “الله يدع نفسه يُرى مواجهة لا بألغاز… يتحد بهم لدرجة مجيئه ليسكن بكليته فيهم بكليتهم…”يسكنون بكليتهم فيه حتى إن الروح القدس بالابن يحلّ بغزارة علينا” (تيطس6:3…) ومع هذا لا تعتبر أن الله يدع نفسه يُرى في جوهره الفائق الجوهرية، بل بحسب الموهبة المؤلِّهة، وبحسب قوته، بحسب نعمة التبنيّ، التألّه غير المخلوق، الضياء المباشر المقنَّم… إله بالاماس الحيُّ (هو) إله جوهرياً غير مقترب إليه ووجودياً حاضر، بقدرته الكلية، في الكون المخلوق. إنه نص رائع.
في النهاية، الرهبنة الأرثوذكسية نسك وصلاة متواصلة ولهيب عشق إلهي لا يخمد أُواره، من أجل اتحاد كامل بالنور الإلهي. فالراهب لا يعيش لذاته بل ليسوع وفق وصايا يسوع ليمتلئ من الروح القدس. الاشتعال بالروح القدس، هذه هي الرهبنة. ومعاهد اللاهوت غير الرهبانية بدون هذا المنوال تخرّج متفذلكين لا مشاعل روحية.
إذاً: الراهب الحقيقي عمود نار من نيران الروح القدس. هذا هو راهب القلب لا راهب الثوب. وما الراهب فقط مدعوّ لأن يكون ملتهباً بأشعة الروح القدس بل كل إنسان يشتهي الظهور مع الرب في مجده. ليست المسيحية علماً وفلسفة ونظاماً اجتماعياً وإدارياً، بل تجلّياً في نور الرب.
ثم هذه النصوص من الجزء الثالث من ترجمة دير الحرف (ص43ـ45).
الطبيعة وما فوق الطبيعي
27ـ “إن نعمة التأله تتجاوز إذاً الطبيعة والفضيلة والمعرفة. وبحسب القديس مكسيموس “هذه كلها أدنى منها بلا قياس”. فإن كل فضيلة، والتشبّه بالله الذي هو في متناولنا، يجعلان من يمارسها مهيّأ للاتحاد الإلهي. ولكن النعمة هي التي تُتم الاتحاد السري. وبها “الله كله يأتي فيسكن في كيان المؤهّلين كله”، والقديسون بكليتهم يسكنون بكل كيانهم في الله كله، ممسكين بالله كله، وغير حاصلين على مكافأة أخرى غير الله، للارتقاء الذي أكملوه للصعود إليه. “إنه يلتصق بهم كأعضائه الخاصّين كما تلتصق النفس بالجسد، وهو يستسيغ البقاء في هذا الجسد بالتبني المقنَّم، وفقاً لعطية الروح القدس ونعمته. وبالتالي فعندما تسمع أن الله يسكن فينا لممارستنا الفضائل، أو إننا نراه يقيم فينا بالذاكرة، لا تظنّ أن التألّه يتطابق مع امتلاك هذه الفضائل. على هذا المنوال يقول باسيليوس الكبير من جهته:”إن النفس التي أنمت اندفاعاتها الطبيعية عن طريق النسك الشخصي وبمساهمة الروح القدس تتأهل للبهاء المعطى للقديسين بنعمة الله، وفق حكمة العادل. والبهاء الذي تؤتيه نعمة الله إنما هو نور. إنك سوف تتعلّم ذلك من الذي يقول: “إن البهاء الناجم عن النعمة سيكون نوراً للذين قد تنقّوا، حين يضيء الأبرار كالشمس (متى 43:13). ويكون الله في وسطهم (انظر مز 1:81) معيِّناً وموزِّعاً لهم كرامات الغبطة، لأنهم آلهة وملوك”. لن يعارض أحد كون هذه حقائق تفوق السماوات وتفوق الكون، كما لن يعارض طبعاً من يقول: “يمكن اقتبال النور الفائق السماوات ضمن مواعد الخيرات”، وسليمان من جهته يقول في هذا الصدد: “النور يضيء دائماً للصديقين” (أمثال 9:13)، والرسول:”شاكرين الله الذي أهّلنا لشركة ميراث القديسين في النور” (كو 12:1).
شهادة مكسيموس
28ـ ولكننا نقول إن الإنسان يؤتى الحكمة بالجهد والدرس، إلاّ أننا لا نقول إن الحكمة ليست لذلك سوى جهاد ودرس بل هي نتيجتهما. إن الرب يسكن في الناس بأشكال مختلفة ومتنوعة، طبق جدارة طالبيه وسلوكهم: فهو يظهر في شكل ما للرجل العامل وبشكل آخر للمتأمل، وآخر أيضاً للرائي. الغيورون يقتبلونه بشكل معين والذين صاروا منذ الآن آلهة بشكل آخر. هناك فروق كثيرة في الرؤيا الإلهية عينها. بعض الأنبياء عاينوا الله في الحلم، وآخرون في اليقظة، بواسطة ألغاز ومرايا، ولكنه ظهر لموسى “عياناً لا بألغاز” (عدد 8:12). ولكنك عندما تسمع القول على رؤية الله عياناً وليس بألغاز تذكّر من يقول: “إن التألّه هو الاستنارة المقنَّمة والمباشرة، التي لا بداية لها، غير أنها تتراءى بصورة غير معقولة في الخليقين بها. إنه الاتحاد السري بالله، الذي يتجاوز كل عقل وكل استدلال، في الدهر الذي لا تعود الكائنات تعرف فيه الفساد، الاتحاد الذي بفضله يصير القديسون، بمعاينتهم نور المجد الخفي الذي لا يُنطق به، قادرين على اقتبال النقاوة السعيدة مع القوات السماوية. إنه أيضاً الابتهال للإله العظيم والآب، رمز التبني المقنَّم والحقيقي، وفق عطية نعمة الروح القدس، التي يصبح القديسون بفضلها أبناء الله بورود النعمة ويدومون فيها جميعاً”[8].
الله يدعنا نراه عياناً
29ـ افي حفظ وصاياه. ْ نوحِّد قوى النفس الثلاث: العاقلة والشهوانية والغضبية. ا (أف17:3 عن ترجمتي لرسالة أفسس).
إن ديونيسيوس العظيم ـ الذي (إلى جانب ذلك) يسمّي ذلك النور “شعاعاً فائق الضياء وإلهيّ الفعل” ـ يسمّيه أيضاً “عطية مؤلِّهة ومبدأ ألوهة” أي مبدأ للتأله. وقد سأله أحدهم كيف لله أن يتجاوز الرئاسة الإلهية، أي مبدأ الألوهة عينه، فأجاب: أنت تسمع أن الله يدع ذاته يُرى “عياناً لا بألغاز” (عدد 8:12)، وإنه يلتصق بالخليقين به التصاق النفس بالجسد، وإنه يتحد بهم حتى إنه يأتي ويسكن كله فيهم كلهم، وإنه “بالابن ينسكب الروح القدس بغزارة” (تيطس 6:3) دون أن يكون مخلوقاً، وإننا نشترك فيه وإنه يتكلم بنا. أنت تسمع هذا كله. ولكنك لا تعتبر أن الله يدع ذاته يعايَن في جوهره الفائق الجوهر بل بمقتضى العطية المؤلِّهة وحسب قوتها، حسب نعمة التبني والتأله اللا مخلوق، والبهاء المباشر المقنَّم… نستطيع الاشتراك به بصورة فائقة الطبيعة، والذي نستطيع أن نراه، والذي نتحدّ به. وإذن فإن جوهر الله الفائق المبدأ يتجاوز هذا المبدأ.
وأيضاً من ص 49ـ51:
الروح القدس فينا
33ـ فالألوهة بالطبع، ومصدر التأليه، والأصل غير القابل المشاركة الذي يستمد المؤلَّهون منه تألههم، والغبطة ذاتها المتسامية على كل شيء والمترئسة الإلهية إلى أقصى حد، ليست إذاً مدرَكة في ذاتها من قبل أي حسّ وأي عقل وأي كائن متجسم أو غير متجسم. فعندما فقط يخرج أحد هؤلاء من ذاته ويكتسب حالة أسمى يؤلَّه. لأن الألوهة ليست مرئية ولا تصير مرئية، حسب إيماننا، إلاّ لعقل أو جسد متَّحد بها في أقنومه عينه، رغم أن هذه الرؤية ليست في مدى طبيعته. فذلك المتحد بها في أقنومه عينه، رغم أن هذه الرؤية ليست في مدى طبيعته، فذلك المتحد بها فقط يكون مؤلَّهاً “بالحضور الكامل، حضور الذي يمسحه” لأنه اقتبل قوة مطابقة لقوة الجوهر المؤلَّه. إنه يمتلكها في ملئها الكامل ويظهرها من تلقاء ذاته. “ففي المسيح يحلّ كل ملء اللاهوت جسدياً” (كو 9:2). ولذا فإن بعض القديسين عاينوا ذلك النور، بعد مجيء الله بالجسد، كبحر لا حدود له، جارياً بصورة خارقة من شمس فريدة[9] من الجسد المسجود له، على منوال ما عاينه الرسل على الجبل. فعلى هذا المثال إن باكورة[10] تركيبنا البشري مؤلَّهة. ولكن تأله الملائكة والبشر ليس جوهر الله الفائق الجوهر. إنه لا يستبين في هذه الكائنات المؤلَّهة كما يستبين الفن في الطرّفة الفنية، إذ هكذا تستبين القوة المبدعة، في الأشياء المبدَعة، مرئيةً كلياً، وحتى منعكسةً فيها. إن التألّه يبين في هذه الكائنات “بيان الفن في مقتنيه”، حسب باسيليوس الكبير. ولذا فإن القديسين هم أداة الروح القدس لأنهم نالوا القوة نفسها التي له. وكبرهانٍ ثابت لما نقول يمكن إيراد مواهب الشفاء وإجراء الآيات والعلم المسبق والحكمة المتعذر دحضها التي سماها الرب “روح أبيكم” (متى 20:10)، وأيضاً موهبة إعطاء الروح القدس، التي يقتبلها منهم وبهم المتقدسون معهم. فإن الله يقول لموسى:”وآخذ من الروح الذي عليك وأحلّه عليهم” (عدد 17:11). كذلك لما وضع بولس يديه على الرجال الأفسسيين الاثني عشر “حَلَّ الروح القدس عليهم فطفقوا يتكلمون بلغات ويتنبأون” (أع 6:19). وبالتالي فعندما ننظر إلى كرامة الروح نراه مساوياً للآب والابن. ولكننا عندما نذكر النعمة التي تعمل في الذين يحظون بها نقول إن الروح هو فينا، “وإنه ينسكب إلينا ولكنه غير مخلوق، وإنه يُعطى لنا ولكنه غير مستخرَج من العدم، وإنه ممنوح لنا ولكنه غير محدَث. وإذا تكلمنا كباسيليوس الكبير أيضاً، فهو حاضر في الذين لا يزالون غير كاملين بشكل يمكنهم من التصرف بهديه فقط “لأن رأيهم غير ثابت”. أمّا عند الأكثر كمالاً فهو بالعكس حاضر بسبب حالةٍ قد اكتسبوها، بل عند البعض بمثابة حالة متأصلة، بل أكثر من ذلك: “فإن قوة الروح القدس هي للنفس المتطهرّة على غرار قدرة النظر في عين سليمة”، كما يقول[11].
المسيح، الله بالجوهر، والمؤلَّهون
34ـ فلا يِجب بالتالي مماثلة عطية الروح المؤلَّهة بجوهر الله الفائق الجوهر: فهي القوة المؤلِّهة (الخاصة) بجوهر الله الفائق الجوهر. إلاّ أنها ليست تمام هذه القوة وإن كانت هذه لا تتجزأ في ذاتها. فأي مخلوق يمكنه اقتبال[12] تمام قوة الروح غير المحدودة، ما خلا الذي حُمل في بطن عذراء، لأن الروح القدس كان قد حلّ وقوة العلي ظللته (انظر لو 35:1) ولذا اقتبل “كل ملء اللاهوت” (كو 9:2). أما نحن “فمن ملئه أخذنا” (يو 16:1). فجوهر الله هو إذاً في كل مكان، لأنه قيل: “إن الروح يملأ كل شيء” (انظر سفر الحكمة 7:1) بحسب جوهره. والتأله أيضاً هو في كل مكان حاضراً في الجوهر بصورة لا توصف وغير منفصل عنه، من حيث هو قوة طبيعية للجوهر. ولكن كما أنه لا يمكن رؤية النار في غياب مادة وعضو يحسّ ويقتبل قوتها المنيرة، كذلك لا يمكن معاينة التأله في غياب مادةً مهيّأةً لاقتبال الظهور الإلهي. ولكنه عندما يتناول مادة مناسبة لا يحجبها شيء ـ كل طبيعة عاقلة مطهَّرة لا تحجبها رجاسات مختلفة ـ فعندئذ يصير هو نفسه مرئياً كنور روحي، أو بالأحرى يغيّرها إلى نور روحي. لقد قيل: “جزاء الفضيلة أن نصير الله، أن نستنير بالنور الكثير النقاوة، صائرين أبناء ذلك النهار لا تقطعه أية ظلمة، لأن شمساً أخرى تُطلع هذا النهار، شمساً تضيء بالنور الحقيقي. ومتى أنارتنا لا تعود تختبئ جهة الغرب بل تلفّ كل شيء بقوتها المنيرة وتهََب من هم أهل لها نوراً أبدياً مستمراً، وتحوّل إلى شموس أخرى من يشتركون في ذلك النور”. فعندئذ “يضيء الأبرار كالشمس” (متى43:13). أية شمس؟ لا شك أنها تلك التي تظهر لمن هم أهل لها، آنذاك واليوم”.
وجاء في الصفحة 171 من الجزء الثاني هذه النبذة الرائعة لشيخ الخطباء جميعاً:
نبذة من تقريظ الذهبي الفم لاستفانوس أول الشهداء
إن الشهيد استفانوس باقتفائه أثر المعلّم، في أفعاله وأقواله، لم ينقصه شيء: فقد أبان إسلام أمره لله، ورجولة صبره، فأهّله ذلك للمعاينة الإلهية. لقد كُتب: “شَخَص إلى السماء فرأى مجد الله ويسوع قائماً عن يمين الله” (أعمال 55:7). هذا هو المجد الذي آتاه المخلص للشهيد: أن يكرَّم فوق الملائكة أنفسهم! فلم يَرَ فقط مجد ما هو غير منظور وموضعَه، بل “موضوعَ” حبه عينه، حيث تخشى الملائكة أن تطّلع عليه (1بط 12:1). لأن الشهيد شخص إلى حيث “يستر الشيروبيم وجوههم” (أشعيا 2:6). إنه يعاين ما لا يجرؤ السيرافيم على التطّلع إليه. لقد ارتقى بعينيه إلى علوٍّ لا حدّ له، وبدا هكذا أعلى من الملائكة وأسمى من الرئاسات، متخطّياً العروش. لأن صوت المعلّم هو الذي استماله، بوعده إياه:”حيث أكونُ، هناك أيضاً يكون خادمي” (يو 26:12). لقد كان هو أول “خادم”، أول شماس للمخلص، كما كان أول شهيد في الجهاد المسيحي. وكثيرون عندما رأوه صاروا شهداء. إن المجاهدين يحبّون استفانوس بوجه خاص. ولذا هتف، قبل بولس:”كونوا متمثّلين بي كما أنا أيضاً بالمسيح” (1كور 1:11). فإنّ هذا متيسّر وموافق لمن يشاؤون. أنا شاهد، أنا أول من جاهد مع المعلّم، وأول من رأى الخفيَّات في السماء. لأني رأيت، نعم رأيت الابن قائماً عن يمين الآب. عاينت واقع ما قيل: “قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئاً لقدميك” (مز 1:109).
وفي الصفحتين 94 و 95 هذا النص الرائع:
رؤية اللامنظور
21ـ لا يُحسبنَ أن هؤلاء الرجال العظام يقصدون هنا الارتقاء بطريقة سلبية[13]! فإن هذه الطريقة يطالها أي شخص أراد. وهي لا تغيّر النفس لتؤتيها كرامة الملائكة. إنها تحرر العقل نسبة للكائنات الأخرى، ولكنها لا تستطيع وحدها أن تُتحد بالمتعاليات. أما نقاوة جزء النفس الأهوائي فتحرّر الذهن من الكون فعلاً بتزويده باللاهوى. إنها تُتحده عن طريق الصلاة بنعمة الروح القدس، وهذه تجعله يتمتع بالتألقات الإلهية، فيكتسي الذهن بهيئة الملائكة وهيئة الله. ولذا فالآباء الذين أتوا بعد ديونيسيوس العظيم سمّوا ذلك “إحساساً روحياً”، وهذا يطابق هذه المعاينة الميستيكية والخفية ويعبّر عنها إذا جاز القول بصورة أفضل. فالمرء حينذاك لا يرى حقيقة لا بالذهن ولا بالجسد بل بالروح. ويعلم بالتأكيد أنه يعاين بصورة فائقة الطبيعة نوراً يفوق النور. ولكنه لا يعرف وقتئذٍ ما الذي يتيح له أن يعاين. بل لا يستطيع البحث عن طبيعته، لأنه لا يستطيع اقتفاء آثار الروح. هذا ما قاله بولس لمّا سمع ما لا ينطق به وعاين ما لا يُرى. فإنه يقول “كنت أرى… لست أعلم أفي الجسد أم خارج الجسد” (أنظر 2كو 2:12). أي أنه لم يكن يعلم من الذي يرى، أَذهنهُ أم جسده؟. فهو لا يرى بالإحساس، إلا أن رؤيته واضحة كالرؤية التي تسمح للإحساس بأن يرى الحسيّات بل أكثر وضوحاً منها. إنه يرى ذاته قد خرج من ذاته، مختطَفاً بالحلاوة السرية التي للرؤية خارج أي شيء وأي فكر موضوعي بل خارج نفسه أيضاً. وبتأثير الاختطاف ينسى حتى الصلاة إلى الله. هذا ما كان تكلم عنه القديس اسحق لمّا وجد ما يؤيده لدى غريغوريوس العظيم الإلهي[14]: “الصلاة هي تنقية الذهن التي يحدثها وحدها مع الرعب نورُ الثالوث القدوس” (العظة 32). وأيضاً: “نقاوة الذهن هي ما يتيح لنور الثالوث القدوس أن يسطع وقت الصلاة. والذهن حينذاك يتخطَى الصلاة. ولا ينبغي أن نسمّي هذه الحالة صلاة بل ميلاد الصلاة النقية المرسلة من قِبَلِ الروح القدس. الذهن حينذاك لا يصلي صلاة محدّدة، لكنه يكون مختطفاً في وسط الوقائع غير المدركة. إنها عدم المعرفة الذي يفوق المعرفة” (اسحق 32). هذا الواقع الكثير البهجة الذي خطف بولس، واخرج ذهنه خارج كل خليقة، وأعاده بجملته إلى ذاته، يراه كنور، نور كشفٍ إلهي، ولكنه لا يكشف أجساماً حسية، نور لا حدود له لا من فوق ولا من أسفل ولا من الجانبين. إنه لا يرى إطلاقاً حدود معاينته وحدود النور الذي يضيئه، كما لو كان يرى شمساً أغزر نوراً وأكبر من الكون بما لا حدّ له. وهو يقوم في الوسط، وقد تحوّل كله إلى عين. تلك هي هذه الرؤية، على وجه التقريب.
أقحم هنا ما جاء أيضاً لدى بالاماس في شأن بولس: الذي رأى الرب كنور قويّ أسطع من الشمس (أعماه 3 أيام) على مقربة من دمشق (اسم الموضع “تل كوكب” إلى المشرق من جديدة عرطوز). ورأى الرب مراراً (أعمال الرسل 5:9-7 و6:22-10 و13:26-17 و1كور 1:9-2 و2كور 1:12-5). انقلب بولس رأساً على عقب من مضطهِد يسوع أي الكنيسة ـ كما فسَّر فم الذهب وأوغسطين ـ إلى مناضل لا مثيل له.
جاء في بالاماس أيضاً هذه الرؤى في الجزء الثالث في الصفحات 55 و56 و62و63:
الحياة الإلهية المعطاة للإنسان
38ـ إن الحكمة الروحية معطاة أيضاً بذلك النور. فاسمع اثنين من الآباء[15] متّفقين على تأكيد ذلك: “إن النور الذي أبرق حول بولس المغبوط على الطريق (أع 3:9)، والذي به أيضاً رُفع إلى السماء الثالثة ليسمع فيها أسراراً لا يُنطق بها، لم يكن إنارة للفكر والمعرفة بل بهاءً مُقَنَّماً للروح الصالح في النفس. لقد أعمِيت عينا الجسد لعدم احتمالهما غزارة هذا النور. به كل معرفة تُكشف والله يعرّف ذاته حقيقة للنفس الخليقةِ به والتي يحبّها”[16]. وهذا النور هو أيضاً الحياة الأبدية قد حلّت في الإنسان المؤلَّه دون أن تنفصل عن الله. هكذا كان بولس يقول: “أحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيّ” (غلا 20:2). وهكذا من جاء ليسكن فيه”[17]. وهكذا قال باسيليوس الكبير: “إن الحياة التي يعطيها الروح إلى أقنومِ كائنٍ آخر لا تنفصل عنه. وكما ينبغي التمييز بين دفء النار والدفء الذي تنقله النار إلى الماء أو إلى جسم آخر، كذلك فإن الروح يمتلك الحياة في ذاته، وإن كان المشتركون فيه يحيون إلهياً هم أيضاً، إذ إنهم قد اقتنوا حياة إلهية وسماوية”[18]. إضافة إلى ذلك فقد سمّى هذه الحياة “حركة روحية وأزلية”، وقال إنها تؤتي القداسة لمن يشترك فيها، “والذي لم يكن قبلاً إلاّ أرضاً وتراباً”[19] فأين هم أولئك القائلون إن نعمة الله الإلهية الفعل هي مخلوقة وإنه ليس من شيء أزلي خارج فائقية الجوهر (Suressentialité)؟.
تعليم مكاريوس العظيم
1ـ كان أحد المبتدئين يستفهم عمّا إذا كان يقدر إنسان أن يدوم في الحالة الموصوفة أعلاه. فأجاب عن السؤال سمعان الكثير الفطنة والبلاغة معاً والمفسّر الوديع والإلهي، متكلماً بلسان مكاريوس العظيم، إذا جاز القول: “إن النعمة لا تتخلّى أبداً عن الإنسان الذي تقبلّها. إنها حاضرة فيه كمُلكه الطبيعي المتأصل فيه. ومع أنها فريدة فهي تقود الإنسان في طرق مختلفة، كما تشاء، لتأتي به إلى ما ينفعه. إن النور يشتدّ ضوؤه أحياناً ولكنه يخفّ أحياناً أخرى، مع بقاء المصباح مشتعلاً لا ينطفئ البتة”. فحينما يشتد بهاؤه يدخل الإنسان أيضاً في مزيد من النشوة حبّاً بالله”[20]. وفي الفصل 74 يكتب أيضاً: إن النفس التي استعادت نقاوة طبيعتها “تعاين مجد النور الحقيقي بعينين صافيتين مكشوفتين”. ولدى مثل هؤلاء، “مع احتمالهم عبء الجسد، يقين الرجاء بفضل عربون الروح. إنهم لا يشكّون أبداً في أنهم سيملكون مع المسيح ويحيون في ملء الروح وغزارته. فهم منذ اليوم منذهلون بالدهر الآتي يعاينون جمالاته ومعجزاته. فكما أن العين الجسدية، إن كانت سليمة لا تتألم، تشخص مطمئنة إلى بهاء الشمس، كذلك فإن هؤلاء يعاينون بعقلهم المستنير والمتطهّر بهاء السيّد الذي لا يُنفذ إليه”[21]. ويقول أيضاً: “إن بهاء الروح هذا، كما قيل، ليس هو كشفاً لتصورات ومعانٍ أو استنارةٍ من النعمة وحسب، بل هو بهاء ثابت ومستديم، بهاء نور أقنومي في النفوس. وإن عبارات كالتالية تمتّ إلى وجهة الفكر نفسها[22]: “الذي قال أن يشرق نور من ظلمة هو الذي أشرق في قلوبنا لإنارة معرفة مجد المسيح” (2 كو 6:4).
“أنر عينيّ لئلاّ أنام نومة الموت” (مز3:12) أي لكيما لا يُظلم النفسَ حجابُ الموت والشر، بعد فقدان الجسد.
وأيضاً: “إكشف عن عيني فأبصر عجائب من ناموسك” (مز18:118).
وأيضاً: “أرسل نورك وأمانتك فهما يهديانني ويأتيان بي إلى جبل قدسك وإلى مساكنك”. (مز 3:42).
وأيضاً: “لقد رسمت علينا نور وجهك” (مز 6:4).
ويقول أيضاً: “إن النور الذي أبرق على عيني بولس المغبوط على الطريق (أع 3:9)، ذلك النور الذي رفعه إلى السماء الثالثة حيث سمع أسراراً لا ينطق بها” (2 كو 2:12-4) لم يكن إنارة لتصوراته العقلية ومعرفته، بل بهاءً أقنومياً لقوة الروح القدس بادياً في نفسه. إن عيني الجسد لم تستطيعا احتمال غزارة هذا النور فعميتا. وبهذا النور تنكشف كل معرفة، والله يعرّف ذاته حقيقةً للنفس الخليقة به والمحبوبة منه”[23].
مكاريوس أيضاً
2ـ فالأمر إذاً هو كذلك ولا عجب إن كان القديسون يفسّرون هذه الرؤى بطرق مختلفة عندما يشرحون أقوالهم وينقلون إلينا تعليماً يناسب مقدرة سامعيهم. فإن سمعان المفسّر الإلهي والأمين، إذ قد تلقّن بالممارسة لدى من عرف بالخبرة قوى الروح السرية والتقديسية، يقول أيضاً كما لو كان مكاريوس نفسه يتكلم: “حين نسمع بحجة أننا قد سمعنا، ولا عند عيوننا لأننا قد رأينا، ولا نحسبنّ أننا نكفي أنفسنا بأنفسنا. فإن هناك آذاناً أخرى وعيوناً أخرى، ونجيباً آخر، كما أن هناك فكراً آخر ونفساً أخرى: إنه الروح نفسه، الروح الإلهي والفائق السموات، الذي يسمع ويبكي، الذي يصلي، الذي يعرف ويصنع حقاً مشيئة الله. وهذا يضحي واضحاً وبديهياً للذين بلغوا أعلى درجات الفضيلة، والذين أنار قلوبهم فعل النور العقلي. فالطعام القوي، يقول بولس المغبوط، هو للبالغين، للذين بسبب التمرّن قد صارت لهم الحواس مدرّبة على التمييز بين الخير والشر (عب 14:5). وبطرس الإلهي يقول: “وعندكم الكلمة النبوية وهي أثبت، التي تفعلون حسناً إن انتبهتم إليها كما إلى سراج منير في موضع مظلم إلى أن ينفجر النهار ويطلع كوكب الصبح في قلوبكم (2 بط 19:1)”[24].
الفصل الرابع عشر
ليس السلمي فقط كاتباً نسكياً، بل متصوفاً[25] كبيراً جداً. هو شخصية كبرى عبر تاريخنا. ملأ فراغاً كبيراً. حال سوء النظر والزمان دون تخصيصه بدراسة شاملة تُبرز ما لديه من إشعاعات نسكية وروحية هدت القديسين اللاحقين. فجواهره المبعثرة صالحة للانتظام في أسلاك من ذهب ليسهل فهمه، فهو عميق وعسير، وإنما آية زمانه.
يوحنا السلمي وصديقه مكسيموس المعترف محطتان كبريان في تاريخ الأرثوذكسية. كل التراث الكنسي اللاهوتي والنسكي – الصوفي عبر منهما إلى يوحنا الدمشقي وسمعان اللاهوتي الجديد وبالاماس وثيئوفانيس الروسي الحبيس وإلينا. ولذلك فالسلمي هو أحد أعاظم شخصيات الكنيسة. نرى في الفقرة اللاحقة نموذجاً من تصوّفه. في الكتاب يستعمل التفسير الرمزي (مدرسة الاسكندرية) بدون تحمّس الاسكندرانيين. بل هو أقلّ حماساً من الكبادوكيين ومكاريوس وديونيسيوس السوريَّين المنحولَين. هو سوري معتدل مثل فم الذهب. يعرف التراث كله ـ لا إيفاغريوس فقط، كما يذهب مايندروف ـ وإنما يخصّ بالإعجاب الأكبر غريغوريوس اللاهوتي. يعرف آباء البرية. ينتقد أوريجانيس وإيفاغريوس. في مئوية القديسَين الآثوسيين كالستوس وإغناطيوس (ترجمة المطران حبيب باشا) أصداء كبيرة له. أنصح بمطالعة هذا الكتاب كمدخل للسلمي. الفقرة 45 ملخَّص رائع.
السلمي ـ على ما تعلم ـ هو أول من قال بربط صلاة يسوع بالتنفس (القرن 7). كرَّرها غريغوريوس السينائي وغريغوريوس بالماس. الأب cejardet عقد مقالاً حول ذلك في الهدوئية المسيحية والإسلام. نوّه به غويار ومايندروف ولكني لم أقع عليه. في جميع الأحوال يبقى السلمي أقدم من الكل بعدة قرون. وفي “معنا هو الله فانهزموا” أُثبت أن السينائي أقدم من كتاب “تنوير الأذهان”. فدير السلمي في سيناء التي كانت تابعة منذ القديم لدولة الأنباط العربية (عاصمتها البتراء في الأردن). وكان التواصل قائماً.
100ـ أمّا أنا، يا أبا الآباء، فيخيَّل لي إذ أكتب لك ما أكتب أني أسمع القائل: “فأنت الذي تعلّم غيرك أفلا تعلّم نفسك؟” (رو 21:2). فالآن إذاً لن أقول بعد، قبل أن أختم مقالي، سوى هذا: إن نفساً متّحدة بالله لفرط نقاوتها لا يُعوزها كلام غيرها لتتعلّم. فإن هذه النفس المغبوطة تحمل في ذاتها الكلمة الأزلي وهو معلّمها ومرشدها ونورها[26].
101ـ وهو أنت كذلك ـ أنا متأكدّ ـ يا ذا الجلال الكليّ القداسة والنور. فإني أعرف نقاوة نفسك ليس فقط لسماعي عنها بل برؤية العين والخبرة. إنها تسطع بصورة خاصة من خلال وداعتك التي تبيد الأفاعي، وتواضع، على شبه موسى العظيم كاتب الشريعة. إنك تقتفي آثاره حقاً عن كثب، أيها الأب الكليّ الصبر، إذ قد ارتقيت مثله نحو القمة دون انقطاع، بل تكاد تساويه، أعني بالنقاوة والإمساك. فإننا بهاتين الفضيلتين أكثر من أية فضيلة أخرى نستطيع أن نَقْرُبَ الله الكلي النقاوة، الذي وحده يؤازرنا في اقتناء اللاهوى التام ويهبنا إياه، ووحده ينقلنا به من الأرض إلى السماء.
فعلى هاتين الفضيلتين ركبتَ بهمةٍ واجتهاد على عربة نارّية على غرار ايليا العفيف. وليس فقط قتلتَ المصري[27] وأخفيت فضلك في رمل التواضع بل تسلّقتَ الجبل أيضاً وعاينت الله من خلال علّيقةِ عيشةٍ عسيرةٍ شائكة. وسمعتَ صوت الله ونَعمِتَ ببهائه، وخلعت نعليك من رجليك أي غشاء الوضع البشري الفاني بكامله. وأمسكتَ الملاك المتحوّل إلى حيّة بذَنَبه أي حيث ينتهي وينصرم، وأعدته على عتمات وكْرِهِ في الهاوية العميقة المظلمة، وغلبت فرعون المتكبّر الوقح. وضربتَ المصريين وقتلت أبكارهم، وهذا أكثر الأفعال ثواباً. ولذا عَهَدَ الرب إليك كإلى رجلٍ أمين كل الأمانة قيادةَ إخوتك. فجعلتَهم، يا أفضل المرشدين، يبارحون فرعونَ وصنعَ اللبن المهين دون أي ارتياع، وخلّصتهم. ثم أريتهم بخبرتك الغزيرة نار العفّة الإلهية وغمامها اللذين يُطفئان لهيب الشهوة تمام الإطفاء. ولم تكتفِ بذلكِ بل شققت لهم البحر الأحمر المحرق، البحر الذي كثيراً ما يتعرّض معظمنا فيه للأخطار. وبعصاك وعلمك الرعائيين سرت بهم إلى النصر والغلبة مغرّقاً جميع مطارديهم في المياه.
وبعد ذلك هزمت مرّة أخرى عماليقَ الكبرياء الذي اعتاد أن يعترض الظافرين وقد استظهرت عليه بإبقاء يديك ممدوتين إلى كلٍ من العمل والتأمّل. ولأجل شعبك الذي كان يهديه الله بنوره غلبت الأمم، وأخذت سائر الذين يتبعونك إلى جبل اللاهوى وأقمتهم كهنة. وفرضت عليهم الختان[28] لأن الذين لا يتطهّرون به لا يقدرون أن يعاينوا الله.
ثم صعدت إلى العلاء مبدّداً كل الظلمات والغيوم والعواصف بطرحك عتمات الجهل الثلاث. واقتربت من نورٍ أكثر لمعاناً وسمّواً وجلالاً من نور العليقة بكثير[29]. واستأهلت أن تسمع صوت الله وتعاينه وتتنبّأ عنه. وشاهدت، إذا صحّ القول، خيرات العالم الآتي فيما أنت بعد على الأرض، أعني استنارة المعرفة الأخيرة التي سيُسبغها الله علينا حينذاك[30]. ثم سمعت الصوت الإلهي يقول: “لا يستطيع إنسان أن يراني”[31]، ولذا فبعد أن عاينت الله عدت فنزلت إلى وادي الاتّضاع السحيق، على حوريب، حاملاً معك لوحَيْ الصعود نحو المعاينة الإلهية، ووجهك مشرق، مستنيراً نفساً وجسداً[32].
ولكن ما أكرب مشهد صنع العجل الذهبي! ومن قِبلَ جماعتنا أيضاً! وما أكرب مشهد كسر لوحَيْ الشريعة!… ماذا جرى بعدها! أمسكتَ الشعب بيده وسرت به إلى البريّة، وربّما أيضاً، إذ كان يلتهب بالنار التي أضرمها لنفسه، أنبعت له ينبوع دموع بضربك الصخرة بالعود ـ أعني بصلبك الجسد مع أهوائه وشهواته[33].
وقاتلتَ الأمم العدّوة مبيداً إياها بنار الرب. ثم أتيت الأردن ـ إذ ليس ما يمنع اختصار رواية التاريخ قليلاً ـ وكيشوع آخر عبرت بالشعب بأقوالك تاركاً المياه السفلية تجري صوب البحر الميّت المالح وحابساً المياه العالية ـ مياه المحبة ـ أمام عيونه[34].
ثم أمرتَ بجلب اثني عشر حجراً لتنبئ برسالة الرسل الاثني عشر، أو لترمز إلى الغلبة على الشعوب الثمانية التي هي الأهواء الثمانية، مع الفوز بالفضائل الأساسية الأربع. وإذ تركت وراءك البحر الميت والعديم الثمر مشيت على مدينة العدو وبوقّت ببوق الصلاة دالاً بالدورات السبع حولها على دورة الحياة البشرية، فقوّضت أسوارها وقضيت عليها كيما تستطيع أن تُنشد لحليفك اللاّهيولي وغير المنظور:”فنيتْ سيوف العدوّ كل الفناء، دمّرتَ مدنهم” (مز6:9).
أما الآن فسآتي، إذا شئتَ، إلى الأمر الجَلَل: صعدت إلى أورشليم القدس، إلى رؤية سلام النفس الكامل[35]. وهناك عاينت المسيح إله السلام، بعد أن تألمت معه كجندي صالح وصلبت الجسد مع الأهواء والشهوات (كولوسي 1:3-3). وهذا عدل لأنك صرت أنت ذاتك إلهاً لفرعون ولسائر جيوشه المعادية لنا. ثم لما دُفنت مع المسيح ونزلت معه إلى أعماق اللاهوت والأسرار التي لا توصف[36]، مسحَتْك بالمرّ وطيّبْك بالطيوب النساء نسيباتك وخليلاتك أعني بهنّ الفضائل[37].
ثم انبعثتَ ـ إذ من يمنعني أن أقول هذا أيضاً ما دمتَ جالساً عن يمين الآب في السموات[38]؟ ولكنه خلْطٌ مدهش في التعابير! ـ انبعث إذا أنت أيضاً بعد ثلاثة أيام، بعد أن قهرت جبابرةً ثلاثة، وبتعبير أوضح بعد أن انتصرت على الجسد والنفس والروح[39]، أي بعد تطهيرك لأجزاء النفس الثلاثة الجانحة إلى الشهوة والغضب والذهن[40].
وصعدت إلى جبل الزيتون ـ إذ ينبغي أن أختم مقالي ولا أسترسل في التظاهر بالحكمة، ولا سيّما وأنا أكتب إلى حكيم يفوقنا جميعاً في المعرفة ـ على الجبل الذي عظّمه سائح كريم قائلاً: “الجبال العالية للأيلة” (مز 18:103) أي للنفوس التي تبيد الأفاعي. فسعيتَ إذاً أنت أيضاً ووصلت على سفْحه. ورفعْتَ عينيك على السماء ـ ها أنا من جديد أنقل وقائع التاريخ إلى إطار الاستعارة ـ وباركتنا نحن تلاميذك. وشاهدت سلَّم الفضائل قد نُصبتْ متينةً، تلك السلّم التي وضعتَ أنت أساسها بالنعمة المعطاة لك كمهندس حكيم[41]، بل إنَّ وَضْعَها بكامله يعود لك طالما قد تحايلتَ فأخرجتَ سذاجتي من خلوة الاتضاع وألزمتني بإعارتك شفتيّ الدنستين لتخاطب شعبك. ولا غرابة في ذلك ما دام موسى أيضاً قد تذرّع بتلعثمه ولسانه الألثغ حسب رواية التاريخ. ولكنه وجد هارون خادماً وناطقاً بلسانه فاضلاً. أمّا أنت، يا متلقِّن الأسرار التي لا ينطق بها، فقد توجّهتَ بالعكس، لستُ أدري لماذا، على نبعٍ قد نضب ماؤه وطفح بضفادع مصر بل بفحمٍ اسود.
ولكن إذْ لا يليق الانصراف دون استكمال سياق الكلام، يا من تُسرع نحو السماء، سوف أَنسج أيضاً مديحي لفضيلتك بقولي إنك تقدّمتَ نحو الجبل المقدس وتطلّعت إلى السماء، واقتربت من سفحه وتقدّمت وتسلّقته، وركبت على شاروبيم الفضائل[42] وطرت وبلغت العلاء، على صوت الهتاف والتهليل، بعد انتصارك على الأعداء، وأيضاً أنك سرت في المقدمة وكنت دليلاً ومرشداً ولا تزال الآن أيضاً تتقدّمنا وترشدنا جميعاً فيما ترتقي إلى أعلى السلّم المقدسة وتتّحد بالمحبة التي هي الله[43]، له المجد إلى الدهور آمين.
تعليق لاهوتي
يوحنا السلمي خصّ القديس غريغوريوس اللاهوتي بكل إعجابه. هو على مذهبه اللاهوتي الذي هو مذهب المجمع الخلقيدوني أيضاً. النبرة في اللاهوت موضوعة على الأقانيم. وفي الخريستولوجيا على أقنوم الابن الرب يسوع في طبيعتين. فهو شخصاني. في الانثروبولوجيا (علم الإنسان) هو كذلك: في الشخص البشري روح وجسد يتفاعلان. الأمر يحيّره كما حيَّر النيصصي وفم الذهب. ولكن قرّر بقوة المبدأ: الروح والجسد يتفاعلان.
الفكر الغربي تأثر بأرسطو فصار نسطورياً من جهة ومونوفيسياً من جهة أخرى. لا وجود فيه للشخصانية. طرح الأمر كروح ومادة وكنفس وجسد. انتهى به الأمر إلى المادية الفلسفية والعلمية والسياسية والاجتماعية وإلى كارل ماركس حتى ظهر في القرن العشرين الطب النفسي ـ الجسدي والفيلسوفان الشخصانيان نيقولا بردياييف الروسي الأصل وصديقه الفرنسي عمّانونيل مونييه. فتغلغلت الشخصانية نسبياً حتى في التحليل النفسي على يد يوسف Nuttin. وكان طبيب (نسيت اسمه) قد ألَّف كتاباً عنوانه La Médecine de la personne .
إذاً الآباء القديسون هم الذين وضعوا مبدأ الطب النفسي ـ الجسدي. في السلمي ملاحظات رائعة. الإنسان هو اللغز الأكبر في الكون.
إجهاد عقلي كبير “لعبج” كل جسم صاحبه. الفحوص الطبية سلبية. قلت له: الإجهاد يثير اصطراباً فيزيولوجياً لا موضعياً. “يتلعبج” حتى الصراخ. عولج نفسياً. قال لي الطبيب العام: ما كان مكان في جسده يخلو من الألم. فإذا بالأمر نفسي صرف. كذلك الفحوص سلبية. عند البعض عضو ما في الجسم (الكبد، الغدد…) يساير الحالات النفسية فتظهر فيه. أحياناً يتستَّر أمر ما بأمر آخر. أحدهم مصاب بنوع من الضيق فأخذ ذلك شكل الربو. يصاب بنوبة فلا يفقه الأطباء شيئاً من أمره. حالات الشقيقة كثيرة جداً. الربو والحسَّاسية كذلك.
ورغم تركيبنا النفسي ـ الجسدي المعقَّد الذي لا يفهمه إلا الله، يتعجرف الناس بدلاً من طمس رؤوسهم في الرماد تواضعاً وتذلُّلاً وتسبيحاً.
فيا ابن الله، في ذكرى صلبك وآلامك الطاهرة ألطفْ بجميع الناس واصبرْ عليهم ماسحاً إياهم بدمك الطاهر، وأهّلني أنا عبدك الشرير للانتقال إليك تائباً مطهَّراً بدمك ومستنيراً بروحك القدوس… وتقبّل كتابي هذا القائم على الصراع مع نظري الكليل جداً، ذبيحة مرشوشة بطيب جسدك، لخير المؤمنين وخلاصهم. آمين!
أكتفي بهذا القدر لئلا أُرهق المطالعين العرب إذ لم يتمرّسوا بعدُ باللاهوت الصوفي ونصوصه الرائعة.
اسأل الله أن يخدم هذا الكتاب الأخير القراء الكرام، وأن يفتح أمامهم آفاقاً لا تحدّ. وأن يقيم منهم رجالاً صناديد يسدّون نقص هذا الكتاب، لا بالكلام فقط، بل بنور يسوع الساطع فيهم. فما زلنا في بدابة الطريق. شبعنا أقوالاً، وصرنا ننتظر أفعالاً، والفعل الأمثل هو تجلّي الرب في الأرواح الخاشعة المتواضعة المستشهدة. نحن بحاجة إلى شهداء لا إلى فصحاء كسحاء جبناء. المسيحية بذل دمّ لا طنطنة ألفاظ. ما تخلّفُ الأحوال إلاّ بسبب تخاذل أهل الكفاءات. إنهم انهزاميون. يتركون الساحة منذ قرون للمتسكّعين والمنافيخ وبائعي الكلام. الصنديد هو رجل معمعة لا رجل عروش وأمجاد.
نحتاج إلى رسل لا إلى تصريف أعمال.
يسوع الإله الذي لا تحدّه العقول والأمكنة والأزمان عمل مستحيل المستحيلات لمّا صار، من أجلنا وأجل خلاصنا، إنساناً فتواضع حتى الموت على الصليب ليعدّ لنا هذا الملكوت الخالد.
ما الفرق بين حنانه وقساوة قلوبنا العاتية، وضلالنا وكفرنا وتقاعسنا؟
ولكن هو شاء أن يُخرجنا من جحيمنا إلى بهاء مجد ملكوته. فكلما شعرنا بعمق بأننا الجحيم وتمزّق قلبنا ندامة وحسرة وتوبة أضحى أقرب إلينا من ذي قبل. هو قريب من المنسحقي القلوب الجاهزين دوماً لتقديم كل التضحيات بما فيه دماؤهم، بلا حساب ولا تذمّر. لا عذر للفارّين. لا عذر للمدافعين عن تقصيراتهم. نحن دوماً خاطئون لا أبرار. أمامه كلنا رماد فلا المال ولا الجاه ولا العلم ولا الجمال بشيء بل تمزيق القلب توبة (يوئيل النبي 2) في خطى القديسين أفرام النصيبيني واندراوس الدمشقي. التوبة التي تمزّق القلوب هي المطلب الرئيس. سوء التربية الحاضر ينفخ الفتى فيصير طاووسَ المنافخية، فلا يميل إلى تذكّر ضعفه وعيوبه وخطاياه لتنفجر عيونُ انسحاقه دموعاً وابتهالات. نسعى دائماً للظهور بالكمال ونحن عظام نخورة. التوبة هي التي تبدّل أهواءنا وتجلو عجارة نفوسنا.
يا يسوعي!
في يوم وداع عيد صليبك، ارتمي على قدميك الطاهرتين اللتين هدتاني في طريق حقك، وأضمّهما إلى صدري، ملتمساً بتضرعات من نار:
1- أن تضمّ البشر جميعاً إلى صدرك ليغتسلوا بدمك الطاهر من كل نجاسات الروح والجسد، ولكي تخترق صدورَهم سهامُ نار لاهوتك حتى الصراخ مثل يوحنا السلمي:”لقد جرحتنا، يا حب!”، صراخَ من مزّق قلبَه حبُّك.
2- أن تشفي آلامُك آلام البشر، وجراحُك جراحهم.
3- أن يسحق صليبك أهواءهم والشياطينَ التي تكيد لهم.
4- أن يسود السلام والمحبة القلوب مزيلاً من القلوب كل الحزازات والعداوات والشكايات، والمرارات، والغضب.
5- أن تحفظ الكرسيَ الانطاكي المقدس مشعشعاً بالطهر والقداسة قاهراً كل مكايد الأعداء.
6- أن ترحم أرواح البطريركَين ثيئوذوسيوس والياس والمطران أليكسي ووالديَّ وأخوتي وأهلهم، والدكتور يوسف صائغ وجورج سكرية وبولس وحنا اسعيد، وكولمبس عبد الحق.
فإنك أنت الرحيم الرحمان الحنّان المنّان
الذي بك يليق كل مجد وسجود وإكرام
21/9/2004 و 9/1/2005
وأخيراً
لم يعد نظري يسمح بإنشاء الكتب المماثلة لهذا الكتاب. حال دون إكمال الشوط. ولكن ما زلت قادراً على إنشاء المواعظ والتأملات وإن كنتُ لا أرى جيداً ما أكتب. المثل قال:”العين بصيرة واليد قصيرة”. القوى العقلية سليمة ونشيطة، ولكن النظر شوكة في بطنها كما كانت لبولس الرسول شوكته (2كو11:). تجاوزت 80 و3/4 ودنوت من القبر كافراً بالدنيا وما فيها وإنما يشغل بالي مصير الكرسي الانطاكي. فالمستقبل: كرسي الصمود، كرسيّ صانعي التراث الأرثوذكسي المجيد (اللاهوت، الشعر، الأناشيد، الموسيقى، هندسة الكنائس، الرهبنات…) يفتقر إلى جيش الشهداء المناضلين لا إلى القوّالين والمتفذلكين. يحتاج إلى مائة مكسيموس صنديد. لا يثلمه الحديد ولا تحرقه النار…
بسبب حالة نظري وقعت أخطاء طباعية في كتبي.
لا أثق بأن المنطقة قد وصلت إلى حالة روحية من عدم الهوى تؤهلها للنقد الأدبي والتاريخي بسيطرة تامة على الأهواء والعواطف، بحياد إيجابي طاهر. لذلك التمس أن لا يصدر في العربية ـ لا تأليفاً ولا ترجمة ـ أي كتاب تحليل لكتبي أو أي نبذة عن حياتي أو أية صورة لي. من شاء الاستشهاد بها فليفعل ذلك بأمانة. أقيم الدكتور عدنان طرابلسي وصياً على تراثي المكتوب، فلا يُطبع بعد رقادي إلاّ بإذنه وتحت إشرافه. وهو وحده يخوَّل تنظيم لوائح بالأخطاء الطباعية. والمهمّ أن أطمرَ في الأرض بلا ذكر ولا نعي ولا رثاء إلاّ في لوائح المذابح وصلوات المؤمنين. فلن يجدني نفعاً بعد الرقاد سوى الابتهالات. والباقي توافه.
أين أنا مسافر؟ لا أدري. في لحظة الموت سيتقرر مصيري. قبل ذلك كل الاحتمالات واردة لأنّ الإنسان يتقلّب كالرياح. لا يستقر على حال. فأسأل الله أن يعضد ضعفي حتى النهاية، أن يكون صخرتي ودرعي الواقي وخوذة خلاصي. لا معنى للحياة بدونه. فهل يجعلني قرباناً ونشيداً له؟ رضوان البطريركين ثيئوذوسيوس والياس والمطران اليكسي ختم إلهي في قلبي. فلتكن مشيئة الله!
عيد الإنجيلي يوحنا 26/9/2004
الفصل 17 مستقىً من ترجمتي غير المطبوعة بعد
1 ـ ثم رفع عينيه نحو السماء وقال: “يا أَبتِ، قد أتت الساعة: مجّد ابنك، ليمجدَك ابنُك أيضاً،
2 ـ حسبَما أعطيتَه سلطاناً على كلِّ جسدٍ ليُعطيَ كلَّ مَن أعطيتَهم له الحياةَ الأبدية.
3 ـ وهذه هي الحياة الأبدية: أن يعرفوكَ أنتَ الإلهَ الحقيقيَّ وحدَك والذي أرسلتَه يسوعَ المسيح[44].
4 ـ أنا قد مجَّدتُك على الأرض: لقد أَتممتُ العمل الذي أعطيتَني لأَعملَه؛
5ـ والآن مجِّدْني أَنتَ عندكَ، يا أبتِ، بالمجد الذي كان لي عندك قبل أنْ كان العالم.
9 ـ أنا من أجلهم أَسْألُ؛ لا أَسألُ من أجل العالم، بل من أجلِ الذين أَعطيتَهم لي، لأنَّهم لك…
11 ـ يا أبتِ القدوس، احفظهم في اسمِكَ الذي أعطيتَه لي، ليكونوا واحداً كما نحن.
17 ـ قدِّسهم في حقك: كلمتك هي حق[45].
19 ـ ولأجلهم أنا أقدّس ذاتي، ليكونوا هم أيضاً مقدَّسِين في الحق[46].
20 ـ ولا أسأل من أجلِ هؤلاء وحدهم، بل أيضاً من أجلِ الذين يؤمنون بي بفضْلِ كلامِهم،
21 ـ لكي يكونوا جميعاً واحداً، كما أنَّكَ، يا أبتِ، أنتَ فيَّ وأنا فيكَ، لكي يكونوا هم أيضاً واحداً فينا، ليؤمن العالم أنك أنتَ أرسلتَني.
22 ـ وأنا قد أعطيتُهم المجد الذي أَعطيتَني، لكي يكونوا واحداً كما نحن واحد:
23ـ أنا فيهم وأنتَ فيَّ، لكي يكونوا كاملين في الوحدة، وليَعلَم العالم أَنَّكَ أنتَ أرسلتَني، وأنّكَ أحببتَهم كما أحبَبتَني..
24 ـ يا أبتِ، الذين أعطيتَني، أريدُ أن يكونوا هم أيضاً معي حيث أكون أنا، لكي يعاينوا مجدي الذين أعطيتَني، لأنّك أحببتَني قبلَ إنشاءِ العالم.
26 ـ وقد عرَّفتهم اسمَكَ وسأعرِّفُهم، لتكونَ فيهم المحبة التي أَحبَبْتَني، و(أكونَ) أنا فيهم.
على ضوء هذا الفصل وما شابهه من الكتاب المقدس يتمُّ الخلاص بذبيحة الصليب ودخولُنا في مجد آلامه وقيامته، ودخولُنا في عمق أعماق معرفة الثالوث القدوس ـ لا بالكلام والمظاهر ـ بل باستقرار محبة الآب للابن فينا بالروح القدس (يوحنا 26:17 ورومية 5:5). وأيضاً: أن يندمج بعضنا بالبعض الآخر وبيسوع، وعبر يسوع بالآب. الكمال في وحدة هدف رئيس. يسوع صلّى من أجل كل الذين يؤمنون، في كل زمان ومكان. همّه الكبير هو وحدتنا وقداستنا، وكمال معرفتنا له معرفةً مدموغة بذبيحة الصليب وبالمحبة الملتهبة. هو قال: “اعرف خاصتي وخاصتي تعرفني[47]، كما يعرفني الآب وأنا أعرف الآب، وأبذل حياتي في سبيل الخراف” (يوحنا14:10-15). في الآية 26 أعلاه ربط يسوع المحبة بالمعرفة كطريق للكينونة فيه. في 14:10-15، المعرفة المتبادلة بينه وبين خرافه شبيهة بالمعرفة المتبادلة بينه وبين الآب. وعقّب على ذلك بعبارة “وأبذل حياتي في سبيل الخراف”. هذه معرفة كيانية حياتية مدموجة بذبيحة الصليب.
الكنيسة هي جسد المسيح الواحد. المسيحيون أعضاؤه وأعضاء بعضهم لبعض. إذاً: هم واحد ولو بلغ تعدادهم مليارات. وجودهم قائم في المسيح، وفي الآب عبر المسيح، في الروح القدس. محبة الله مقنَّمة فيهم. كل مبتغى يسوع هو أن يكونوا واحداً فيما بينهم وفي يسوع والآب، كما أنَّ الآب ويسوع هما واحد. يسوع يعرفنا لدرجةٍ بذل معها ذاته من أجلنا. ما نوع هذه المعرفة التي تدفعه إلى بذل ذاته من أجلنا؟ وكيف دخلنا نحن إلى سرّ معرفته؟ كل هذا عمل الله لا عمل الإنسان. هو الذي حمل الخروف الضالَّ على منكبيه. هو الذي تنازل وسكب جسده ودمه في حلقي ليمزجني بذاته. هو الذي ضمَّني إلى صدره كما ضمّتني أمي لمّا كنت طفلاً. ولكن الفرق بين الضمَّتين شاسع. نحن في صميم حياة الثالوث القدوس بالقدر المسموح به. لاهوتياً نقول إننا نتّحد به بالنعمة لا بالجوهر. هذه المعرفة الوجودية الشخصية (شخص مقابل شخص[48]) الحميمية للثالوث القدوس هي الحياة الأبدية. نحياها هنا بالنعمة ثم ننال الملء في النهاية. أنا إله بالنعمة. هو إله بالجوهر. والنعمة هي نعمته. وما لي من شيء سوى الخزي والعار وجهنم النار، إلاَّ أنّه شاء فانتشلني مؤقتاً. إذاً: أنا ملقىً تحت قدمي يسوع. صلّى ويصلّي من أجلي ويشفع فيَّ. إنما أنا عضو في جسدٍ يملأ الكون والتاريخ. كيف أمتلئ من هذا الجسد إن لم أكن متحداً بكل عضوٍ من أعضائه؟ فمن يتقدس يتقدس في الكنيسة. الكنيسة أولاً. لا فردية بروتستانتية ولا سلطوية بابوية. الكل هو الكنيسة لا الفرد. ولذلك فالراعي الحقيقي هو المصلوب لا المتبرجوز (أي العائش برجوازياً). بورجوازية الاكليروس والرهبان هي إعادة صلب للمسيح. النسك هو معدن الراهب والاكليريكي، لا العيش العالمي والبذخ و و… والنسك عفة وتنـزّه عن عبادة المال والشهوات.
الروحاني الحقيقي مصلوب. بالصليب نصل إلى القيامة. المتجلُّون الكبار (سمعان العمودي، سمعان اللاهوتي الجديد، آباء البراري… سيرافيم ساروفسكي…) كانوا نسَّاكاً كباراً لا بورجوازيين متنعِّمين. النسك والصلاة الدائمة والشوق الملتهب إلى الله هي سمات الإنسان الروحاني الحقيقي.
وعبر التاريخ المؤمنون جميعاً ـ اكليروساً ورهباناً وعلمانين ـ كانوا حماة الإيمان الأرثوذكسي. كان الشعب التقي يهزم الهراطقة. لكل أرثوذكسي الحق في الدفاع عن الإيمان الأرثوذكسي ضد المنحرفين عنه ولو كانوا بطاركة القسطنطينية. العصمة للكنيسة وحدها. الشهداء ماتوا في سبيل إيمانهم، لا انهزام.
كلنا معاً موكب نصر بقيادة يسوع ولنا إيمان واحد وقلب واحد وفكر واحد وعزم واحد. والرهبان الصامدون حقاً هم بصلواتهم دعائمنا.
الكنيسة جسد المسيح. المؤمنون أعضاؤه. هي واحدة وهم كثيرون. في الثالوث القدوس الجوهر واحد والأقانيم ثلاثة. الكنيسة صورة الثالوث القدوس بوحدتها وتعدُّد أعضائها. يسوع أراد أن نكون ـ ككنيسةٍ ـ واحداً كما أن الثالوث واحد. هذه الوحدة تتم في الثالوث. نحن صورته. من يشقّ الكنيسة يشقّ جسدَ يسوع. من يهدم فيها يهدم جسد يسوع. مَن يُفسد فيها يُفسد جسد يسوع. كل من يسيء إليها يسيء إلى يسوع. كل من يفرّق فيها يفرّق جسد يسوع. كل من لا يجمع فيها يفرِّق. كل واحد فيها مدعوّ إلى التفاني والبذل والبنيان، والخدمة البارّة لا النفعية. كل شيء فيها خدمات ليسوع لا للبشر كبشر في المجرّد. فالبشر فيها هم يسوع.
وهكذا فالأرثوذكسية شركة، شركة أرواح متحدة بيسوع في الروح القدس، لا جمعية. كل من تقدس فيها هو ذخر لها جميعاً. كلنا معاً ليسوع لا منفردين متفرقين.
تتجلى هذه الوحدة في عبادات الأرثوذكس، وعلى الأخصّ في الصوم الأربعيني وأسبوع الآلام والفصح. يزحف الأرثوذكس إلى الكنائس كأنهم خارجون في مظاهرة. يعيشون أحداث حياة المسيح كأنهم معاصرون لها. يزحفون إلى كأس القربان ليشتركوا ـ كما علَّم الرسول بولس في 1كور11 ـ في الكأس الواحدة والخبز الواحد لا خبزات منفردة (برشانات) في كأس أخرى (لم تُستَعمل في القداس) كما لدى أخواننا اللاتين.
عندنا الكاهن يبارك خبزة واحدة وكأساً واحدة له وللشعب وفقاً لتعليم الرسول بولس. نشترك في الخبز الواحد والكأس الواحدة فنصير واحداً في يسوعنا الواحد.
يرى الناس عندنا تلفزيونياً يوم الخميس العظيم والجمعة العظيمة سكان أثينا وموسكو في حشدٍ تجيش له الصدور. لا فردية في الأرثوذكسية. الفردية في الغرب أوصلته إلى الفلسفات القومية وإلى هتلر. مراراً أذاعت موسكو أنها خسرت 27 مليوناً من البشر في الحرب العالمية الثانية. والنقّاد الألمان هم الذين شوّهوا ويشوّهون تفسير العهد الجديد، ويؤلمني جداً أن أرى طلابنا يذهبون إلى ألمانيا ليتلقّنوا هذه السموم. إن المزامير الروحية (أفرام السوري) أثمن بمليار المليارات من كل ما كتبه الألمان خلال خمسمائة عام انصرمت. ولكن التجربة هي التجربة. فتجربة المعرفة المجردة تجربة قاتلة.
عند قبر الخلاص
“أخذت الرعدة والدهش” (مرقس8:16) النسوةَ الحاملات الطيب لمّا ابلغهنّ الملاك قيامة الرب يسوع. واستولى عليهن الخوف.
التلميذان المسافران إلى عمّاوس (كلاوبا ورفيقه) اضطرم فيهما القلب أثناء حديث الرب وهما لا يعرفانه. ولكنهما عرفاه عند كسر الخبز (لوقا24).
في العهد القديم رافقت الرؤى مشاعر الانسحاق والشعور بالعدمية والحالة الخاطئة (ابراهيم، أيوب، داود، اشعيا…). وبطرس نفسه استعفى من حضرة يسوع لأنه إنسان خاطئ. ورافق ذلك كله شعور بالانسحاق.
أما السماع بقيامة يسوع، ورؤيته قائماً من الأموات منبعثاً بالدهش والرعدة، واضطرام القلب، ومعرفته عند كسر الخبز.
فالدنو من الله يكون بالتوبة وانسحاق القلب، والرعدة والدهش، واضطرام القلب. في نشيد الأناشيد: “لقد خلبت قلبي…” (9:4).
يسوع يخلب اللبَّ، يثير موجة عاصفة من الإعجاب والدهش. كسرُ الخبز هو اليوم القربان المقدس. في ذبيحة الصليب نعرف يسوع. فيها يمتزج يسوع بنا في القربان. نصبح وإياه واحداً. والقربان ممتلئ من الروح القدس وأنوار الثالوث. ذبيحة الصليب صارت في القبر مائدة لنأكل ونشرب يسوع القائم من بين الأموات. خروفنا الفصحي حيٌّ لا ميت. يسوع قام. ولكنه قام فيَّ. ما كان هو بحاجة إلى تجسد وصلب وآلام وموت وقيامة وصعود، إنما صنع ذلك لكي يلتحم بي. هو الله الذي يعلم أن طبيعتي الساقطة لا تنهض بالعقاقير والرقعات والتجميلات. هو يعرف أنها بحاجة إلى تجديد بنيتها، إلى خلقها من جديد دون فنائها. الحلّ هو أنه لبسني، ضمّني إليه، صرتُ عضواً في جسده، غسلني بدمه وطهّرني، صار طعامي وشرابي.
كما عرفاه عند كسر الخبز أعرفه أنا كلّما تناولت جسده ودمه. إذاً: التناول هو عمل رؤية إلهية، عمل معرفة إلهية، عمل اتحاد بالله، عمل استنارة إلهية، اشتراك في آلام يسوع وقيامته. أعلن إيماني بآلامه ودفنه وقيامته. أدخل قبر الخلاص لأخرج منه إنساناً جديداً. ألبس رداء الحياة الأبدية. أخرج من الأرض بصورة سرّية. “أيها المسيح المخلص، إنَّنا أمسِ قد دُفِنَّا معك، فنقوم اليومَ معك بقيامتك. أمسِ قد صُلِبنا معك فأنتَ مجّدنا معك في ملكوتك” (نشيد فصح للدمشقي في خطى غريغوريوس اللاهوتي). إنه نشيد يلّخص سرّ خلاصنا بروعة تامة. أمام صليب الجلجلة وقبر الخلاص يخرج المرء من ذاته مدهوشاً، مخلوب اللبّ.
فيا يسوعنا الحبيب، لقد احتفظت بآثار المسامير والحربة بعد قيامتك لأنها علامات محبتك لنا[49]. أنت الكريم الأوحد. إطبع هذه الآثار في عبيدك المؤمنين أجمعين. العدل يقتضي أن نبادلك الحب. والمبادلة الصحيحة إذاً هي أن تعزز مسامير محبتك وحربة محبتك في كل كياننا.
فألهب قلوبنا بالشوق إليك وإلى تناول جسدك ودمك باستمرار ليبقى سرّ الصليب وقبر الخلاص ختم محبتك في القلوب. نحن تراب ورماد. ومع ذلك سكن نورك فيه. رأيناك قائماً من الأموات، فهل نراك تقيم أجسادنا البالية للجلوس عن يمينك في السماء؟
فيا من قام من بين الأموات امنح الواقعين جميعنا القيام والقيامة في مجدك الأسمى[50]. بنار روحك القدوس أحرق خطايانا وأنِرْ نفوسنا.
فصح 1/5/2005
ملحق
السيطرة على اللسان
(بحثٌ تربوي ـ روحي)
أضيف هذا الملحق إلى هذا الكتاب لأن السيطرة على اللسان عمل نسكي كبير يساعد على السيطرة على الأفكار والأفعال و”الجسد” (رسالة يعقوب) نظراً لما للنطق من أهمية قصوى في وجودنا اليومي.
والنسك طبيعة ثانية في الأرثوذكسية. ولا روحانية حقيقية بدون نسك.
اللاذقية، عيد يعقوب المقطع 27/11/2004
قال الرسول بولس: “اقلعوا عن الكذب وليصدق كل واحد منكم قريبه، لأنّنا أعضاء بعضنا لبعض” (أفسس25:4).
ربط بولس الصدق بين المسيحيين بعضويتهم في جسد المسيح (أي الكنيسة) حيث كل واحد منهم عضو للآخرين (1 كو 12). أنتَ مُلزَم بالصدق لأنك عضو في جسد المسيح. إن كنتَ تقدّس هذه العضوية التي نلتَها في سرّ المعمودية الإلهي، فقدّس الصدق وارفض الكذب كما ترفض الشيطان.
معجزة الكون: الإنسان
الإنسان كائن حي ناطق معقّد نفسياً وجسدياً. الاختصاصيون حاروا في تركيب جسمه، أما روحه فلا نعلم من أمورها إلاّ النذر اليسير.
بسبب الخطيئة والسقوط والفساد يتراوح الإنسان بين أقصى إمكانات الإنسان للعيش الفاضل في نور الرب المجيد، (وبين) أقصى الحدود الممكنة لسقوط الإنسان وانحلاله أخلاقياً. بين المنـزلتين ملايين وربما مليارات المنـزلات. التقلبات لا تُحصى. الاستقرار التام شبه مستحيل وإلاَّ عُقِّم الإنسان في حالة جامدة. الحرية تفسح له المجال في هذا التلوّن الذي يستحيل حصر وجوهه. العقل والحرية يميِّزان الإنسان من الحيوانات. مهما كان الإنسان معتوهاً أو مجنوناً بقي صاحب ذرة من العقل لا يمتلكها الحيوان. الحيوان عاجز عن أن يستقبلني طلقَ المحيَّا ويقول لي بوعي وفهم: يا أخي الحبيب أنت في قلبي وروحي.
خلق الله الحيوان قادراً على تدبّر أموره. وخلق الإنسان عاجزاً تابعاً لوالديه حتى عمر مديد إن كان مجتمعه الراقي يجعله محتاجاً إلى أهله حتى يبلغ سنَّ الـ30ـ35. فالذين يختصون بجراحة القلب إلى أعلى درجات الاختصاص لا يفرغون من الدراسة قبل بلوغهم الـ32ـ35 من العمر. يبقون ـ غالباًـ خلالها مرتبطين بالأهل ولو عاطفياً. التلميذ تلميذ ولو كان عمره 40 سنة.
الإنسان الحضاري الكبير هو الذي يطول عيشه تابعاً لأهله. الحضارة تكبّلنا بصور شتّى. تطيل تبعيتنا لأهلنا. تحدّ من حريتنا. تزيد في عبء واجباتنا. تجعلنا مدينين للأهل والكنيسة والمجتمع والدولة.
فالعيش في المجتمع هو قدر الإنسان الحضاري. ولكن في المجتمع لا يكون البشر ملائكة. أسباب الاختلاف والاحتكاك والتصادم لا تُحصى. ولذلك على البشر أن يتدربوا على أصول التعاطي بلباقة ومهارة بقلب مفتوح وصدر رحب.
ولكن المخالفات لا تحصى أبداً.
التاريخ موبوء بأخبار تصادم الشعوب في حروب جهنمية أو ما دون ذلك حتى جرح الآخرين باللسان ولو بلطف.
لهذا نشأت المجتمعات المتحضرة التي يحكمها القانون والنظام تحت طائلة العقاب.
وحاولت الأديان تلطيف الطباع. ولكن بقي الإنسان في لاشعوره يخفي العداء الدفين. وما لا يرتكبه الإنسان وهو يقظ يرتكبه وهو نائم. اللاشعور متوحش وبدائي وحيواني.
الأذى باليد
في الدنيا غير البدوية أجهزة الدولة معقَّدة جداً. بعضها علني وبعضها سري. والغاية هي حفظ المواطن وعرضه وماله. الرقابة الاجتماعية واسعة جداً.
يؤذي الإنسان الآخرين بالضرب بيديه والركل برجليه أو بأدوات تستعملها أعضاء جسمه. وقد يرتكب الأذى لملايين الأسباب. إلاّ أن أجهزة القمع والشرطة والقضاء تحمي الناس بنسبة كبيرة. ومع ذلك فهناك الجريمة المنتظمة. تختلف الدول باختلاف حضاراتها. ليس من بلد مثالي 100٪. ليس بلد بلا مجرمين.
ومع ذلك فالدولة الراقية جداً نجحت نسبياً في ضبط الأمن. في سويسرا كل مواطن خفير. وللمجتمع تهذيبه وأديانه وعوائده وأعرافه. كلها ضوابط تضبط سلوك الإنسان.
فإن نجحنا ولو بنسبة تقريبية في ضبط سلوك الإنسان الخارجي، فهل نستطيع أن نضبط لسانه وأفكاره؟ يعقوب الرسول اتهم اللسان بأنه شرّ مسيطر لا يُضبط أبداً. تنتقل العدوانية إلى اللسان.
عدوانية اللسان
الغضب فورة طبيعية لدى الحيوان والإنسان للدفاع عن النفس. تتوتر أعصاب الإنسان لملايين الأسباب فيعجز عن ضبطها. التربية تكيِّف حالات التوتر بنسب لا تُحصى. ولكن يبقى الإنسان تلقائياً جاهزاً للدفاع عن نفسه ضد أي هجوم حقيقي أو مفترض أو متخيَّل. أو وهمي.
ألوان الهجوم علينا من الطبيعة أو من الحيوانات أو من البشر لا تُحصى. في داخل جسمنا عوامل الأذى والضعف والمرض عديدة. الله جهَّز جسمنا بعوامل المقاومة. ألوان النـزاع الداخلية والخارجية عالم مضّاد لنا. الكفاح ضدها هو قدرنا.
متى توترت أعصابنا هاج صدرنا، فرددنا العدوان. العدوان باليد مكبوت غالباً إلا لدى المجرمين الظاهرين أو الباطنيين. التدين يدرب الناس على ضبط الأعصاب والصبر. ولكن كيف نضبط اللسان؟
الواقع هو أن اللسان لا يُضبط إلا بتهذيب رفيع جداً أو بالأحرى بالنسك العالي السويَّة. النسك يلجم اليد واللسان عن الأذى. ولكن النسك يعجز كثيراً عن ضبط الأفكار. فقد يفلت الزمام من يد المتنسك، فيهيج صدره، فينزلق لسانه…
الجبان يخشى الإيذاء باليد إنما قد يطول لسانه ولو بحذر شديد.
التهذيب المنزلي والاجتماعي والديني يضبط اللسان. ولكن من يضمن صدقه؟ فقد يكون التهذيب خارجياً بينما الباطن مرجل آثم. الضبط الكامل مرتبط بصدق اللسان.
وقد يكون المرء صادقاً جداً وإنما لا يضبط لسانه عن النطق بالسلبيات محتجاً بصدقه. فهذا المرء يحتاج أيضاً إلى الحكمة لئلا يكون صدقه أحياناً أشدّ أذىً من سكوته. فاللجام ضروري، نكون سريعين إلى ضبط اليدين وعاجزين عن ضبط شرود اللسان. التكييف التربوي يضبط اليد بواسطة الفعل المنعكس. أما اللسان فلا يضبطه فعل منعكس أو غير منعكس. هو أداة أداء أفكارنا. إن لم نتحصَّن بالحكمة والحنكة واليقظة نزلق سريعاً. وهل يبقى الإنسان يقظاً طوال 24 ساعة؟ الغفلة فينا أصيلة أكثر من اليقظة. والدليل على ذلك هو عجز الناس عندنا عن ضبط ألسنتهم عن ملء يومهم بحلف الإيمان وإطلاق اللعنات. أما الكلام البذيء فعادة واسعة الانتشار. قال لي يوناني وفرنسية: لماذا أنتم العرب تلقنون الأجانب الكلام البذيء أولاً؟ قُدِّم إليَّ اليوناني كناطق بالعربية. رحَّبتُ به، فأخذ يقذع، فهاج صدري وقلتُ له: قف، اسكت، هذا كلام بذيء جداً.
عجزت طيلة 60 سنة عن ردع الناس عن الحلف. نتكلم عفوياً بلا يقظة. لدينا طلاقة لسان، فينساب الكلام كالسيل متدفقاً بعفوية غير مراقبة، فنملأ الدنيا كلاماً فارغاً. ومن لا يراقب لسانه عجز عن مراقبة أفكاره. واللسان أداة النطق بالكذب، والمكر، والخداع، والمراوغة، والرياء، والنفاق، والدجل، والغش، والتضليل، والإيحاء وو… وإثارة العواطف و….
بالمقابل هو أداة المخاطبة بعبارات الودّ، والتنبيه، والوعظ، والردع، والتعليم، والإقناع، والنفوذ إلى قلوب الآخرين ومشاعرهم، وتحريك عواطفهم الرقيقة، وحضّهم على التقوى وأعمال البر. النطق الحسن عاطفياً أو أدبياً يسحر القلوب. باللسان نكسب قلوب الناس أو ننفّرها. الخطباء المشهورون في التاريخ قادوا الجماهير. يوحنا فم الذهب أشهر الخطباء جميعاً مَلَكَ القلوب حتى يومنا هذا. لو شاء لأسقط الإمبراطور والإمبراطورة في القسطنطينية. آباء الكنيسة المشهورون خطباء أفذاذ.
ولكن اللسان هو بالمقابل ناب الأفعى. الوشايات، الافتراءات، الاحتقار، الذم، القدح، الشتم، التحقير، الاهانات، هتك الأعراض، الإشاعات الكاذبة، النقد، التجريح، الغطرسة، العجرفة، هل اجتمع ثلاثة بدون التعرّض لسمعة الآخرين؟ ما موضوع أحاديث الناس في مجالسهم؟ هو ثلب أعراض الآخرين وذم أخلاقهم وو… أحاديث الناس تفاهات وتعريض بالناس، والتندّر بأخبار السوء. أية أخبار؟ أخبار الآخرين. نهتم بأخبار الآخرين السيِّئة. من جمعها خلال 24 ساعة وجد أن 95٪ من أحاديثنا هي أخبار السوء، ونقد تصرّفات الآخرين. يشعر المرء أننا جواسيس لتلقي أخبار الغير للطعن والشماتة. لا نهتم بالآخرين للخير والنفع بل للضرر والذم والشماتة.نراقب الآخرين عن كثب لنهشِّمهم. نهتم كثيراً بأمور الآخرين وأخبارهم. ولكن هذا الاهتمام محشوّ بالعدوانية: كمثل عادي: قال لي أحد الثالبين: فلان سرق من المكان الفلاني مبلغ كذا. أجبته: هل من شاهد عرف المبلغ ومكانه ورأى فلاناً يسرقه؟ قال: لا. قلتُ: الخبر ملفَّق. روى لي آخر قصة عن زيد تحتاج إلى عشرات الشهود، وهو يكابر ويغتاظ. قلتُ له: مراحل القضية تحتاج إلى شهود على البند كذا وكذا وو… من هم الشهود على هذه الوقائع المعقّدة جداً جداً؟ أخرستُه. في الخارج، لا اهتمام ولا عدوانية غالباً، إنما فردية وعزلة وأنانية. أنانيتنا أخفّ وطأة ولكنَّ غيرتنا محشوَّة بالعدوانية.
وهناك تلفيق الأخبار والروايات، وسوء التأويل. وكل هذه المعايب يقوم على فقدان الصراحة والشفافية. المكشوف نور. المستور ظلمة. العدوانية واضحة في التلفيق. صار لدى البعض طبيعة ثانية. هناك فئات برعت في التلفيق فتنطلق من خيط من الحقيقة لتخترع جبالاً من الأكاذيب والتُهم الباطلة. لا يخافون الله. فسدت ضمائرهم وماتت.
الأدب العربي زاخر بمدح أصحاب السلطة بمبالغات نعوت الوصف: وكانت قصائد المدح أداة للاستجداء، فيجود الممدوحون على المادحين. وكان المدح خير وسيلة للتكسّب. ومن يطالع ديوان المتنبي سيّد الصناعة الشعرية يقف على مبالغاته في مدائحه. وما سواه بأفضل منه. وكان للأمويين شعراؤهم (الأخطل، جرير…) ولخصومهم شعراؤهم (الفرزدق…). وكان الشعراء يشبهون الصحافة العربية في القرن 19 وحتى القرن 20. ولدى غيرنا نماذج مشابهة. ما يسمَّى بمركَّب النقص ومركَّب الاستعلاء عميقان في البشر. الإنسان يعوّض عن نقصه بمدائح الآخرين أو بنفخ نفسه بأوهامه حول نفسه. هذا الأخير ينهار سريعاً إن اصطدمت أوهامه بعقبات. قد يستدرك بأوهام جديدة. ولكن يبقى استعلاؤه تكلّفاً لا حقيقة، ليسد به شعوراً خفيّاً بالنقص. وأرباب السلطة غيورون منافسون مكافحون يخفون شعوراً خفياً بالنقص يعوّضون عنه بالاستيلاء على السلطة. وهم غيورون عدوانيون.
وهذا ينطبق على النساء أيضاً. فلديهن شعور بالنقص يمرمرهنّ. الأسباب عديدة: فيزيزلوجية، اجتماعية، اقتصادية وحتى دينية في المذاهب التي لا تساوي المرأة بالرجل. لذلك يعرف الخبثاء أن الإطراء يضرب النساء بالانحلال والانهيار والإغواء فيستسلمن…
على الأهل أن يقووا شخصية البنات وأن يِّدربوهن باكراً على اليقظة ضد الإطراءات، لئلا يخدعهنّ ذوو الألسنة المعسولة المبطنة بالسم الزعاف.
تدريب الأولاد على مصارحة أهلهم مفيد. على الأهل أن يبدلوا تدريجياً أسلوب تعاملهم مع أولادهم تبعاً لأعمارهم وأن يصغوا إليهم طويلاً بصبر جميل، وأن لا ينتهروهم إلا حين الضرورة: رحابة الصدر.
الممتلئ روحياً داخلياً يُهمل المظاهر الخارجية. الفارغ داخلياً يُشغف بالمظاهر ليملأ فراغه ولو عبثاً. الناس يعيشون لدنياهم لا لآخرتهم. يموتون فيموت مجدهم الباطل. لو حمل الناس قبورهم على ظهورهم لصاروا قديسين. أين الملوك، أين الرؤساء، أين أسياد هذه الدنيا؟ ما خلُد منهم إلا القديسون وهم قِلّة. وكيف نمتلئ داخلياً والأمهات مشغوفات بالمظاهر الفارغة؟ ولا يمتلئ إلاَّ مَن ملأته أمّه. العمق الداخلي ميراث الأمهات. أمهات القديسين وقفن وراء عمقهم الروحي.
مَن ملأ يسوعُ قلبَه صغرت الدنيا كلها في عينيه. في نظره العالم كله هباء منثور. همّه الوحيد هو الخروج من الدنيا وزخرفها. الكل باطل وباطل الأباطيل.
الروحاني الحقيقي يهرب من المظاهر هربه من النار. هو الوديع المتواضع الزاهد في اللباس والطعام، والشراب، والملبس، والمدائح، والتصفيق، والأبَّهة، وظهور صوره في الجرائد والمجلات وو… الجنون من أجل المسيح نمط حياة روحاني معروف: يجلب المجانين على نفوسهم احتقار الناس لهم لكي يقتلوا الكبرياء في مهدها. يفعلون ذلك بملء الوعي الروحي لا كمرضى نفسياً مصابين بالمازوكية[51]. الروحاني الحقيقي هو الذي لا يساير أهواء الآخرين ولا يتنازل عن حرف واحد من الحقيقة. اللطف والرفق شيء والمسايرة الكاذبة شيء آخر. الروحاني سيف يفرق بين الحق والباطل دون خوف من ملامة.
خطر الكذب
يحتاج ذكر الكذب إلى نبذة خاصة لأنه خطر. يسوع انهال اتهاماً على الكذب والكذابين. الشيطان هو الكذاب وأبو الكذب والكذابين. يسوع هو الحق والإله الحق. كل تعويج للحقيقة يعني طعنة في جنب يسوع. بولس الرسول قال: “ليصدق كل منكم قريبه، لأننا أعضاء بعضنا لبعض” (أفسس25:4). ربط الصدق بعضويتنا في جسد المسيح. في رومية (12) وكورنثوس (12) وأفسس وكولوسي قال بولس: الكنيسة هي جسد المسيح. هو رأسها. المؤمنون هم أعضاء الجسد وبعضكم عضو للبعض الآخر. إذاَ: الانسجام بينهم مهم جداً. وكيف ينسجمون إن كانوا كذابين؟ الانسجام يتم برفع كل الشوائب والعوائق. الكذب هو عائق كبير لأن الكذاب غير موثوق. وحسن اندماج الناس موقوف على الثقة والشفافية والمحبة والبذل والتضحية. فالأناني والكذاب مغلقان وغير موثوقين. الكذاب ملتوٍ. في كل خطيئة التواء وانحراف، الخاطئ منحرف عن الفضيلة. الصدق في المحبة الذي ذكره بولس أعلاه هو أن تكون المحبة طاهرة خالية من كل غش، وخداع، ومكر، وسرقة، ونفعية، ورياء، وأنانية، وتلاعب وو…
الصدق في المحبة، والصراحة، والشفافية مفقودة. أي سوء تفاهم يؤدي إلى هدم الروابط. “يفور الدم بسرعة” فتفسد العلاقات. نصدق الكذابين المفترين لأن في عمقنا ميل إلى الطعن في الآخرين. شكت لي زوجة أمر زوجها: يتهمني بالمسؤولية عن أي أمر من الأمور الأهلية. يحطمني. عرض أبوان علي أمر طفلتهما البالغة من العمر 9 سنوات. يحطمانها بالاتهامات والملامات. دلَّلتُها أمامهما وأوصيتهما بمثل هذا التدليل، وبالكف عن عذلها واتهامها.
وهناك احتباس اللسان: لا يذم الآخرين وإنما لا يداعبهم. في هذا ضراوة أيضاً. الآخرون بحاجة إلى لطف لساننا وتشجيعه. شكت إلي امرأة زوجَها في حضرته: خدمته طوال عمري بدون أن أسمع منه كلمة لطف أو تقدير أو تشجيع. لم أسمع منه يوماً عبارة ما: الله يعطيك العافية، الله معك، الله يقويك، الله يسلّم يديك… وبعد الصبر الجميل صرفتهما عن السعي للطلاق…
وهناك الكبرياء والعجرفة، فلا نتنازل لنلاطف الآخرين. وهناك ألسنة السوء التي تتهمنا سريعاً بالتزلف. التزلف داء عضال فينا. ولكن لا يجوز أن نتهم به جميع الناس. التزلف عادة قبيحة يفتضح أمرها سريعاً. ولكن ليس كل من قال قولاً جميلاً متزلفاً. اليقظة الشديدة ضد التزلف ضرورية. ولكن الهوس بها يؤذي. علينا أن نميّز بين معادن الناس.
من العيوب المستشرية جداً: التقرّب من أصحاب السلطات والنفوذ بالتزلف، والتملق والإطراء، والمديح، والاستزلام، والإطناب، والتعظيم، والوله الكاذب، والهيام النفاقي… قال أحدهم في أحدهم: لا يشبع من المديح. عليَّ أن أمدحه ما دمتُ في مجلسه. وقال آخر في زيد من الناس: لا يشبع من المديح والتفخيم. كفى.
ليس الأمر سهلاً. الأغراض تحرّك الناس. فرضُ النسك على أغراضنا لا يتأتى لنا إلاّ عبر تمارين روحية شاقة. دوافعنا الباطنية تسيّرنا. يعجز المرء الواحد عن تمييز كل دوافعه وضبطها. فكيف يستطيع أن ينفذ إلى دوافع الآخرين؟ لذلك حسّ التمييز ضروري جداً، ولكن بدون هوس الشك والتأويل. الناس باطنيون، وإنما الاعتدال في تفسير تصرفاتهم وأقوالهم ضروري. نخشى كثيراً أن نجرح مشاعر الآخرين وحسَّاسيَّاتهم فنداريهم نفاقاً أو تلطفاً أو حذراً، ظناً منا أنهم بلا رحابة صدر وسعة قلب. المصارحة بطول أناة تزيل هذه العيوب.
لا يتأتى النجاح في العلاقة بالناس بثمن رخيص. يقضي الإنسان عمره المديد وهو طفل في مدرسة الحياة. الثقة العمياء ضلال والريبة المفرطة داء. النظامان النازي والشيوعي قاما على الشكّ في الناس، فأقاما نظاماً بوليسياً خرَّب القرن العشرين. في ظل نظام كهذا يكمّ الأفواه، تترعرع أفكار السوء، والأحقادُ والكذب، والرياء، والموالاة الكاذبة، وو… تُحبَس الأنفاس فتغلي القلوب بالأحقاد والتذمر والنقمة، وتفسد الأخلاق.
الإنسان مكوك بين أقصى السلب وأقصى الإيجاب. خلقه الله حيواناً اجتماعياً ليعيش في كنف الأهل والمجتمع فيصطدم بهم دوماً. ينشأ معقَّداً ينطوي لا شعورُه على المودة والعداء. يراوح بينهما ما دام حياً. النسَّاك الكبار فقط قادرون على عيش العزلة. سواهم مفتقر إلى أنس الآخرين وإلاَّ قتله الضجر والغمّ والهمّ. نحن بين الماء والنار. هبّة باردة وهبَّة ساخنة.
الأذى بالأفكار
الله يعلم ما يجول في ذهني. عالم الأفكار هو جنتي أو جحيمي. لا يطهّر أفكاري إلاَّ الذي صنعني. إن لجمْتُ يدي ولساني استحال عليَّ لجم أفكاري. الشيطان حريص على تدنيس أفكاري ليدنِّس لساني ويدي وكل كياني. الشيطان يحوم حولي ليدسّ علي أفكار السوء. الناسك الكبير يقيم في محبسه الصحراوي. يضبط يده ولسانه. تبقى حرب الأفكار. يُفني العمر فيها دون نجاح مطلق. النصر فيها منَّة إلهية. هي أقسى ألوان الصراع الروحي. تستنزف قوانا. كلما جاهدنا ضد الأفكار الشريرة اشتد سعيرها، وازداد اضطرابنا، واستشرى عدم استقرارنا. كم رأينا من المتحمسين للتقوى الذين لم يصمدوا؟ ما استطاعوا أن يصبروا. مثلاً: يفاجئهم الشيطان بأفكار التجديف. يضطربون، يفرّون. لذلك تحتاج الحياة الروحية إلى الأبطال لا إلى المائعين والمخنَّثين والبُله. بعد جهاد مرير ينتصر المرء على أهوائه الشريرة فتلتحم قوى النفس، وتتحّد، وتنسجم، فنكتسب البساطة التي هي نعمة لا بلاهة.
إيجابيات اللسان
يميّز النطق الواعي البشر. العامة تقول في الأخرس “مسكين بهيم”. النطق إذاً مظهر أنسنة هام.
الأم والأب والإخوة يُأنسنون إذاً الولد بتعليمه النطق. ويتم التعليم مدى الحياة بالنطق غالباً. وقبل الأبجدية والكتابة كان النطق هو وسيلة التعليم. ويتمازج الناس ويتعارفون ويتبادلون المعلومات والخبرات بالنطق. والضجر عدو الإنسان من المهد إلى اللحد. الأنْسُ يساعد البشر على تخليص بعضهم بعضاً من الضجر.
باللسان نعزّي الآخرين ونبثّهم همومنا وغمومنا وأسباب أفراحنا وأتراحنا فتنفرج كربتنا. باللسان نسلّي الآخرين، نُصلحهم، نرشدهم…
عندما ظهر المعمدان ويسوع كرزا ببشارة الملكوت السماوي ودَعَوا الناس إلى التوبة. لفظة “كرز” اليونانية تعني نادى. الاسم منها “كيريكس” أي الرجل الذي كان يعلن الأوامر الرسمية. إذاً المبشرون والمعلمون ينادون، يعلنون الأوامر الإلهية للناس. ويسوع علمنا أن نعاتب الآخرين لنصلح ذات البين. وبولس الرسول أوصى المعلمين بالوعظ والتعزية والتوبيخ والإصلاح.
وكان للخطابة الدور الفعَّال في هداية الناس إلى المسيح. وتكريمنا للخطباء واضح في تعظيم الكنيسة ليوحنا فم الذهب وتسميته بهذا الاسم “فم الذهب”. وكان معلمو الكنيسة خطباء زمانهم وكل زمان. والخطابة مهنة كل كاهن يقيم خدمة القداس: هذا نظرياً.
باللسان نصلي ونبارك ونشكر الله. وهناك الاعتراف. فهو وسيلة تطبيبنا الروحي. الآباء قالوا إن الاعتراف يخرج الحيات من القلب. هو الأداة لدخول المرشد الروحي إلى أعماق تلاميذه لتفكيك مضامين نفوسهم المعقَّدة بالإثم.
وفي التحليل سمَّت المريضة الأولى لدى فرويد طريقة التحليل النفسي: “المداواة بالكلام”. اللسان أداة. استعمال الأداة هو الذي يقرّر صلاحها أو طلاحها. وهل الخطيئة هي غير سوء الاستعمال كما قال الآباء القديسون؟ بولس الرسول طالب بأن نستعمل أعضاءنا أدوات للبرّ بدلاً من استعمالها سابقاً أدوات للإثم (رومية7).
هذا يتطلب سيطرة عامة على النفس والحواس والأفكار، لنجعلها عفيفة كتوطئة لجعلها أدوات للروح القدس.
في النهاية السيطرة على اللسان مستحيلة دون البطولة الروحية. لماذا الناس عندنا لا يمتنعون عن حلف الإيمان، واللعن، والكذب؟ السبب هو رخاوة نفوسهم، وإهمالهم لخلاصهم. الإنسان المتَّجه نحو الله يخشى جهنم، فيجاهد. المحبّ لله يحفظ وصاياه.
المسألة إذاً هي: محبة الله أو عدمها.
إن كنتَ تحبّ يسوع من كل كيانك فاصلب لسانك وإلاّ فأنت مسيحي مزيَّف. لا تدافع عن نفسك بل اتَّهمها وازجرها واندم. والندامة أيضاً بطولة روحية. بدون بطولة وجهاد كلّنا مزيَّفون فارغون ليس لنا من الدين إلاّ الاسم والقشور…
لم يَختر الله الجهاد على بولس الرسول والشهداء وحدهم بل أراده لكل واحد منَّا في ميدان دعوته الخاصة. كلنا مدعوّون إلى الخلاص. من يتملّص من المسؤولية تنتظره نار آكلة لا ترحم، تأكل المناصبين. لا مفرّ من المثول أمام منبر المسيح للمحاكمة العادلة. من باع دينه بدنياه خسر.
كل الحجج فارغة ما دام قد استشهد نساء ورجال من كل الطبقات والأمم. فلماذا لا نستشهد؟
الحالات المرضية
هناك حالات مرضية. في مكتبة علوم النفس مراجع هامة. هناك كتاب فرنسي في “الطفل الكذّاب”. هناك أناس لا يروون حديثاً دون تشويهه بتلفيقات حتى صار التلفيق جزءاً من رواياتهم. وهناك مرض التأويل. يسيء صاحبه التأويل فيفسر الأمور تفسيراً مرضياً. وفي المصابين بالأمراض العقلية والخرف، الهذيان…
وهناك فئات خاصة بارعة جداً في تزوير كل الأنباء والوقائع وسوء تأويلها. بسبب تمرّسي بشؤون الدنيا كنت أرحّب صدري في مقارعة فئات الملفقين: حرف صحيح والباقي كله كذب. ما أبرعهم في تزوير الوقائع! وهناك المشحونون بالغيرة والحسد والحقد: بعضهم لا يتردد في القول إن الخير شر. أعرف من اتهموا أنظف النظفاء بالفساد والرشوة. هذا وباء عام بحاجة إلى مكافحة في البيت والمدرسة.
دَوْر التربية
من الفروق الكبرى بين الإنسان والحيوان أن الحيوان مخلوق ليتدبر أموره بنفسه إجمالاً مزوَّداً بحواس تفوق حواسنا بما لا يقاس. فالبرغشة أو ما هو أصغر منها مزودة بعينين بالغتي الصغر. ومع ذلك تخترق الظلام الدامس وتُنشب إبرتها في جسم الإنسان بإحكام ٍ تام. من صنع لها هاتين العينين الحادتين؟ الغربان والرخم والنسور تأكل الجيف المنتنة ولو كانت رائحتها تغمي الإنسان. وهكذا دواليك.
أما الإنسان فيولد ضعيفاً محتاجاً إلى عناية المربين حتى يبلغ العشرين وأحياناً الثلاثين فالخامسة والثلاثين من العمر. ويعود في شيخوخته يحنّ إلى والديه فيصرخ من أدنى ألم:”آخ، يا أمي”.
إذاً: الإنسان مرتبط بأهله وصحبه ومجتمعه في جوع دائم إلى العطف والحنان والمحبة.
في دراسة واسعة على النساء في أوروبا الغربية والولايات المتحدة واليابان جاء أن 80٪ من النساء يربّين بناتهنّ لتكون هذه البنات صورة عنهن. هذا في العالم الصناعي المستهلَك حضارياً بمتاعب جمة. هناك إذاً في المجتمعات العالمية عنصر ثابت: 80٪ من النساء هنَّ على خطى أمهاتهن وجدّاتهن.
والمرأة هي التي تحبل وتلد الأولاد وترضعهم وتعتني بهم وتطعمهم وتعلمهم النطق وتصوغهم الصياغة الأولى في قالبها المختار لهم.
إذاً من المسؤول بالدرجة الأولى بنسبة 80٪ عن فساد الأخلاق أو صلاحها؟ التي ترضعنا الحليب هي التي تبثّ فينا المعالم الأولى لقالب شخصيتنا. والأطفال مقلِّدون لا مبتكرون يقلّدون أولاً أمهاتهم.
نسمع كثيراً عن انحلال الأخلاق والعائلة في أميركا. كل 6 ثوانٍ يقع فيها عدوان على أنثى. اللصوص وباء عام فيها. لا يتجاسر أحد فيها على إخراج قطعة من 50 دولاراً من جيبه دون التعرض للاغتيال بالمسدس لخطف القطعة. أحياناً يبلغ سنوياً عدد المقتولين فيها بالمسدس 50 ألف نسمة. الآن يتعرض الأطفال فيها للاغتيال. عصابات شيكاغو مضرب الأمثال. برصة الطلاق فيها ضربت أرقاماً قياسية خيالية. العائلة مفككة. قد تنام الزوجة بسلام لتستيقظ صباحاً نافرة من زوجها تطلب طلاقه. المهاجرون يعودون كثيراً إلى بلادهم ليتزوجوا من مواطناتهم. نِعمَ ما يفعلون. حوادث الانتحار تزداد جداً.
هذا الفساد هو فساد التربية. والمسؤول عن التربية هو الأم. لألف سبب وسبب الأمهات المعاصرات لاهيات عن أولادهن. في فترة من الزمن امتنعت النساء عن أداء الرضاعة من أجل جمال كسمهنّ: تافهات سخيفات بلا شعور إنساني بالمسؤولية. عنصر العبودية “للموضة” عنصر ضعف لدى النساء.
يوحنا فم الذهب طرق موضوع تحسّن أخلاق البشر بعد مجيء ربنا المسيح. فلاحظ التحسَّن المحرز وافتخر به. ولاحظ أن النساء قبل المسيح ما خلون من صالحات وأن الصالحات منهن في عهد المسيح احتللن الدرجة الثانية. فالرسل في ذلك الحين هم أصحاب الدرجة الأولى. أما بعد المسيح فصعدن إلى الدرجة الأولى بتفوق كبير على الرجال: “فيتفوّقن علينا في القتالات الروحية ويسبقننا حين يتعلق الأمر بخطف غار النصر، ويرتفعن في طيرهن الشاهق بقدر ارتفاع النسر، بينما نحن المماثلون للغربان، لا نستطيع أن نرتفع فوق الدخان هنا أسف؛ نعم (المماثلون) للغربان أو لكلاب نهمة، نحن الذين لا يحلمون إلا بالمائدة والمطبخ… اليوم نساء يسبيننا يكسفننا. أية سخرية! أي عار!؟؟ سيادة الرجل كرأس للمرأة مرتبطة بالفضيلة وإلا خسرها. إن سفَل عنها خسر هذه السيادة. أترون أية آثار عجائبية ولَّد مجيء المسيح؟ العذارى هنَّ أكثر المتبتلين. وهنَّ أكثر عفة وأمانة للترمّل. النساء أقل تسرّعاً إلى التلفظ بالكلمات البذيئة… الصفات (التالية) تخصهن: العفة، الحميَّة، التقوى، محبة المسيح… مسافة كبيرة تقوم بينهن وبيننا، وعظمة نساء هذا الزمان (قائمة)” (الموعظة 4:13 على رسالة أفسس). والرجال هم الذين يُفسدون النساء.
وقال باسيليوس: هل تستطيع طبيعة الرجل في وقت من الأوقات أن تدخل في منافسة مع طبيعة المرأة… (راجع سرّ التدبير الإلهي، ص78). وفي كتابنا “المرأة في نظر الكنيسة” أقوال عديدة للآباء ومنهم غريغوريوس اللاهوتي. فلا حاجة إلى تكرارها هنا.
هاتان الشهادتان الصادرتان عن ثلاثة من أكبر آباء الكنيسة المعادلين الرسل (باسيليوس وغريغوريوس ويوحنا فم الذهب) أكبر دليل على أنَّ قداسة القرون المسيحية الأولى مدينة للنساء أولاً. الأمهات الفاضلات هنَّ إجمالاً أمهات آباء الكنيسة والشهداء والأبرار. تفوّقهن في القرن الرابع فالقرن الخامس حمى الكنيسة من هجمات الملوك الهراطقة وثورات الهراطقة.
التراخي الروحي والأخلاقي بعد الثورة الفرنسية هو سبب تخبّط العالم المعاصر فابتلى نفسه بنابليون وكارل ماركس وهتلر وموسوليني وستالين والقنابل والصواريخ، فسقط في القرن العشرين 110 ملايين قتيل عدا الجرحى والدمار.
ومع ذلك ما خلا العالم المسيحي من نساء قديسات أو فاضلات مثل ريَّسا زوجة الرئيس الروسي ميخائيل غورباتشوف التي طمرت الإلحاد في أوروبا الشرقية إلى الأبد، وقوّضت أركانه في العالم. فسقط الإلحاد العلمي الذي كان العلماء الروس مكرَهين على دعمه. اليوم بفضلها تحوّلوا إلى دعاة إيمان.
وهكذا تكون قداستنا ميراث أمهاتنا وعارنا لطخة جبين أمهاتنا. المثل العامي قال:”طبّ الجرة على تمها بتطلع البنت لأمها”. غالباً يتسلسل العار من الأم إلى بناتها وأحفادها وكذلك الفضيلة. ليست القاعدة عامة. فهناك ردود فعل البنت على أمها أحياناً فنكاية بأمها تتجه نحو الفضيلة.
إلا أن التاريخ في بلادنا شوَّه قالبنا. بعد 400 سنة من الحكم العثماني الغاشم عدنا آلاف السنين إلى الوراء. لاحظت باستمرار أن أسلوب الضابط التركي في زجرنا وإهانتنا ما زال حيّاً في قوامنا. الأهل ينهرون الولد. المعلمون كذلك. رب العمل يغلظ في الكلام وهكذا دواليك. أقول للمسيئين علناً: “أنتَ ضابط تركي”. لن نتخلص من الذهنية التركية قبل 100-200 سنة. سنبقى عاجزين عن الحوار الهادئ ساعين فقط إلى اكتشاف الحقيقة لا إلا فرض آرائنا وتفاهاتنا ونحتاج إلى تربية خاصة بأصول الحوار والنقاش دون “نرفزة” ولا “مجاقرة” ولا اعتباطية، ولا فرض الذات. في هذا الباب لم أعثر على أحدٍ لامع سوى البطريرك العظيم ثيئوذوسيوس. استمرّ النقاش بيننا مرة 3ساعات ونصف الساعة ومرة أخرى ساعتين وثلثي الساعة وهو هادئ لا ينفعل. المسألة أيضاً مسألة نضوج: “إنسان مستوي”.
انتهار الولد يؤدي إلى صمته وخوفه وخجله. أي نطمسه، أي نكرهه على الكبت، أي نكرهه على الباطنية فيتعوّد على إظهار ما لا يبطن. نطفئ يقظته. نفرض عليه الغباوة والغفلة. وهكذا لا ينشأ بين الأطراف حوار هادئ رصين، ونقاش منطقي رزين، واستخلاص النتائج وإصدار الحكم المدروس السليم بوعي وحكمة. هذا النقص يلعب دوره في مزاجنا الحسَّاس، الخجول، الرقيق، السريع الانفعال، الارتجالي، الاعتباطي. فضلاً عن الانفلات الأناني: تربية مزيَّفة، وهكذا ننشأ مزيَّفين كذَّابين غامضين[52].
في معالجة لأخ وأخته ببال طويل، قالت الأم للأب أمامي:”ما عندك طشم على الأولاد” انتهرت بلطف ولباقة أمهات يزجرن أطفالهنّ، فقلت: أنتِ تطمسين ابنك. حاوريه. إن أعياك الجواب على أسئلته فاستعيني بمن هو أخبر منك في الأمر. هذا الأسلوب ـ ويا للأسف الشديد ـ شائع. الطفل يسأل كثيراً. تعجز الأم عن الجواب فتنتهر الولد لئلا تظهر أمامه عاجزة. قدِّمتْ إلي فتاة في السادسة من العمر تعمي الأهل. استمعتُ إليها طويلاً. في النهاية قلتُ لها: هناك أسئلة نستطيع الجواب عليها. ولكن هناك أمور لا يعرفها إلا الله فنعجز عن الجواب عليها. رضت بالحلّ. ولكن هل من مهمة أعسر من تربية الطفل قويماً جداً؟
عيد المجمع المسكوني السابع (15/10/2000)
وفي ختام المقالة 12 الخاصة بالكذب يقول السلّمي إن من تجرّد من الكذب كلياً “قد اقتنى جذر الصالحات” (عن الأصل اليوناني، طبعة دير المعزي 1938). فكل الصالحات تحتاج إلى البراءة من الكذب والدجل والخبث. الخبث خميرة تفسد كل أعمال الإنسان من صالحة وطالحة. على جذر الصدق والاستقامة تنمو الصالحات باستقامة. والاستقامة صفة لله مثل المحبة (السلمي 232:24و22) أما عن أهمية الصمت فراجع 3:14 و5. الصمت بتقوى الله عظيم جداً.
[1] غلا 4:4-6.
[2] راجع كتابنا “المواهب الإلهية”.
[3] هذا ما ورد أيضاً في رسالة أفسس (18:5). القديس الروسي إينوشنتيوس ركزّ كثيراً على الروح القدس في كتابه الرائع “الطريق إلى ملكوت السماء”. (الطبعة 5 الحديثة).
[4] غريغوريوس النيصصي استعمل للمحبة لفظة السهم. يسوع هو رامي السهم. النفس العاشقة هي المجروحة بحبه (الخطبة 4 على نشيد الأناشيد).
[5] وانتقد بالاماس (مثل مكسيموس) كتاب ديونيسيوس في الطغمات الملائكية (راجع مدخل مايندروف الفرنسي، ص262-263 و266-267). التجسّد الإلهي وضعنا في قلب الاتحاد الإلهي المباشر: المعمودية، الميرون، القربان… نحظى برؤية إلهية مباشرة في الروح القدس… في الرسالة إلى العبرانيين: الملائكة أرواح مرسلة لخدمة الذين يرثون الخلاص (9:1). وبالتجسد صرنا أعلى من الملائكة (سر التدبير، ص64 و66 وهنا ما نقلناه عن بالاماس للذهبي، ص171 من ج2).
[6] يسميه البعض: اللاهوت التنـزيهي. إلاّ أن القاموس لا يعطي لفظة التنـزيه هذا المعنى. نزّه الله: قدّسه، بعّده عن كل سوء.
[7] في المعجم السرياني ـ العربي: قَنَم، قنّم، لا أقنم كما اجتهد البعض. الأفضل التقيد بالمعجم.
[8] انظر الثلاثية الأولى 20:3 والثلاثية الثالثة 12:3.
[9] هذا التعبير الرائع للقديس اندراوس الدمشقي أسقف كريت يعني أننا جسد يسوع ـ كما قال أيضاً يوحنا فم الذهب ـ مشِعّاً كشمس فريدة يجري منها بحر نور لا نهاية له، على غرار ما شاهد التلاميذ الثلاثة في جبل التجلي (النص من “ثلاثية” القديس بالاماس).
[10] المسيح كباكورة في 1كو20:15 و23. تعبير رائع… يصبح التألّه خاصّة شخصية، ملكة فنية يتمّتع بها صاحبها (1. ج.)
[11] نص رائع. قوة الروح القدس فينا تصبح قدرة للنظر في عين سليمة مطهَّرة. يصبح حالة، ملكة. (1.ج.).
[12] يشير بالاماس هنا إلى قول الآباء إن الروح القدس سكن في جسد يسوع يومّ البشارة.
[13] أي اللاهوت السلبي (أ.ج.).
[14] ربما النيصصي.
[15] هما مكاريوس ومفسّره سمعان ميتافراست.
[16] Macaire – Symeon, De libertate mentis, 23 (P.G.XXXIV,957 AB)
[17] Ambiguorum liber (P.G.XCI,1144 C), cfr Cap V,85 (P.G.XC, 1384 D)
[18] Ps – Basile, Contra Eunom V (P.G.XXIX, 772 B)
[19] Ibid 760 B وانظر تكوين 27:18
[20] De charitate, 9 (P.G.XXXIV, 916 BC)
[21] De elev. Mentis, 13 (P.G.XXXIV. 901 AB)
[22] De libertate mentis, 22 (P.G.XXXIV, 956 D – 957 A)
[23] De libertate mentis, 23 (ibid. 957 AB)
[24] De libertate mentis, 27 P.G.XXXIV, 960 C
[25] في كتابنا “المزيفون” آثرنا استعمال “المخاللة” على لفظة “التصوف”. فالنعمة الإلهية تتخلّلنا وتسكن في كل كياننا. لفظة “التصوف” لا تؤدي هذا المعنى.
[26] في 1:26 كلام مماثل. في 6 من الرسالة ، المعلِّم لا يجترّ ولا يردّد كالببغاء كلام غيره بل يتمثَّل ويبتكر. الروح القدس هو معلّمه. مكاريوس المنحول قال بذلك: لا اعتماد على حرفية الكتاب المقدس بل على ما ينقشه الروح القدس في القلب (الخطبة 15).
[27] انظر خروج 12:2 وبصورة عامة بقية سِفْر الخروج فيما يتعلق بتشبيه “الراعي” بموسى النبي. في الكلام عن موسى ورؤيته يستلهم السلمي غريغوريوس النيصصي.
[28] الختان المسيحي هو المعمودية (1:1 وكولوسي9:2-10).
[29] فم الذهب وسواه تبعا للرسول بولس قالوا بسموّ العهد الجديد على العهد القديم لأن المجد كان على وجه موسى بينما في العنصرة الدائمة يشرق ويسكن في قلوبنا (راجع كتابنا “معنا هو الله”…)
[30] بالاماس قال إننا نحصل على بداية هذا التجلي في المعمودية ويكتمل في الآخرة.
[31] ففي 25:25 أشار ضمناً إلى استحالة رؤية جوهر الله إلا من خلال مفاعليه وصفاته.
[32] بالاماس ركزّ على ظهور النور في الجسد. فم الذهب قال إن المعتمد يبقى يوماً أو يومين مشرقاً أكثر من الشمس.
[33] في 159:26 وصف تدبير الله نحو الروحانيين. يسمح الله لهم بالاستنارة ثم يسحب النور منهم، فتندلع أوباء الطبيعة البشرية بكل قذارتها. يتواضع ويبكي ويصلي بحرارة وتوبة مفرطة. يعود النور. سمعان اللاهوتي الجديد وصف هذه الأحوال جيداً. (النشيد 48). السلمي أبدى ملاحظات هامة حول الموضوع. ليست المعاينة من حظ الكل. ولكن يخلص الناس بدون المعاينات والاستنارات وبدون مواهب النبوءة وصنع العجائب. والمخلّصون درجات. والله يشرق في القلوب… (راجع السلّم إلى الله 25:25 و 70:7 و 4:29 و 35:26 والمراجعة 10 و 16:30 و17 و35 و36 و27:25 و52… ففيها أضواء كثيرة. لا يتسَّع هذا الكتاب للاستفاضة فيها). سمعان اللاهوتي الجديد وأمثاله أصحاب نعمة خاصة. أما الطريق العام فهو النسك واقتناء الفضائل. من أين علم السلَّمي بهذه الأحوال؟ نعرف أنه قضى 40 عاماً في الهدوئية. تواضع فتكلم بصورة فيها توريات. أظن أنه هو نفسه عاش هذه الحالات النورانية. وقد يكون قد عرفها في سواه. سنرى ان اندراوس الدمشقي أسقف كريت ذكر رؤيات إلهية نورانية. وكريفوشاين ظن أن سمعان اللاهوتي الجديد هو أكبر متصوف. هذه النصوص تدل على أن السلمي ومن أشار إليهم في 159:26 لا يقلّون عنه لمعاناً. السلمي ذروة. إلا أن طابع كتابه النسكِّي طغا على طابعه الصوفي. هذا فضلاً عن تواضعه فلم يتكلم عن نفسه وتجربته.
[34] انظر سفر يشوع الاصحاح الثالث وما بعده فيما يتعلق بالتشبيه بيشوع.
[35] نذكر أن أورشليم تعني “مدينة السلام” السلمي يصف ـ عبر تفسير رمزي ـ مراقي الحياة الروحية والجهاد ضد الرذائل لاقتناء الفضائل واللمعان في المحبة والصلاة.
[36] بولس الرسول وغريغوريوس اللاهوتي أبدعا في تصوير اقتنائنا يسوع بكل مراحل حياته. وفم الذهب كذلك (راجع كتابنا “الظهور الإلهي”).
[37] السلمي واسع التدقيق على الوصول إلى اللاهوى عبر إماتة الرذائل وحلول الفضائل مكانها كطبيعة ثانية ـ وهنا يربط السلمي الفضائل بدفن يسوع الذي فاحت منه روائح القيامة، فتفوح مثله من الفضائل روائح الذبيحة الحية. فالمجاهد كافح وحارب وانتصر. أمات الأهواء فقدّم بذلك ذبيحة ذات راحة سماوية رائحة قبر المسيح الجامع للدفن والقيامة ركني إيماننا كما في سنكسار حاملات الطيب. هو في خط النيصصي: اللاهوى نصر على الأهواء لا حذف ذات.
[38] أي على عرش الرئاسة نيابة عن المسيح. بولس قال في كولوسي. فم الذهب قال إن طبيعتنا البشرية هي الآن جالسة في المسيح عن يمين الآب.
[39] السلمي يأخذ برأي مكاريوس المنحول في سيطرة الذهن على القلب وحلوله فيه (6:27 و83:15 و53:28 هام جداً. مكاريوس، الخطبة 15 و….)
[40] وهنا يأخذ برأي مكسيموس المعترف (راجع مقدمتي لقانون يسوع، ص24، الطبعة2). ذبيحة الصليب وحدها قيامة لطبيعتي البشرية المهترئة المنخورة فخراً كاملاً.
[41] 1كور10:3.
[42] الكتاب مترع بالعبارات الحربية وتصوير الحياة الروحية حرباً طاحنة ضد عدو لا ينام.
[43] (1 يوحنا8:4 و16) الاتحاد بالله يتم هنا بالمحبة. في طول الكتاب وعرضه الروح القدس يصنع الحياة الروحية. السلمي في خطى باسيليوس الكبير ومكاريوس المنحول في التركيز على دور الروح القدس. إجمالاً ألفاظ السلمي النسكية والصوفية جزء هام من تقليد الكنيسة الذي ورثه بالاماس. الكتاب ثروة الأرثوذكسية اللامعة.
[44] في 1يو20:5 يسوع أيضاً هو الإله الحقيقي. والمعرفة تشمل الآب والابن. ولا أحد يعرف الآب إلاّ الابن، ولا أحد يعرف الابن إلا الآب.
[45] أف13:1 كلمة الحق إنجيل خلاصكم، الذي فيه أيضاً إذ آمنتم خُتمتم بروح الموعد القدوس (عن ترجمتي وكول5:1… في كلام الحق، (أي) في الإنجيل). 1بط22:2 فإذ قد طهّرتم نفوسكم بالطاعة للحق بالروح (القدس)، من أجل محبة أخوية لا رياء فيها، فأحبّوا بعضكم بعضاً حبّاً شديداً من قلب طاهر (عن اليونانية، طبعة القسطنطينية). يو15: أنتم الآن أطهار بفضل الكلام الذي كلّمتكم به. الإنجيل هو كلام الحق. كلام يسوع يقدّس الناس. الطاعة للحق تطهّر. كلام يسوع يطهّر. إنما هذا يتم بفضل ذبيحة الصليب (الآية 17 أدناه).
[46] في العهد القديم التقديس هو الفرز والتكريس، كفرز الأبكار للرب (خروج2:13 و12 و13 و15؛ و22:29 و30 و19:34 ولاويين 26:27 و26:27 وعدد13:3 وتثنية19:15). فتقديس يسوع لذاته يعني فرزها كذبيحة. وهذا واضح في العهد الجديد (عب13:9 و11:10 و14 و19 وأف25:5 ،26). دم المسيح يطهّر ضمائرنا، قرّب يسوع جسده فجاءنا التقديس بفضل ذلك. بقربان واحد جعل الذين قدّسهم كاملين أبداً، ولنا سبيل إلى القدس بدم يسوع، سبيل جديدة حية فتحها لنا في جسده… أما نص أفسس الرائع فيتعلّق بالكنيسة:أحبّ المسيح الكنيسة، وبذل نفسه من أجلها، ليقدّسها مطهّراً إياها بحمّام الماء”.
[47] في الأصل اليوناني “خاصتي” جمع أي الخراف. وضعتُ الفواصل كما وضعتها طبعة القسطنطينية وترجمة B.J.
[48] اللاهوت الأرثوذكس وجودي شخصاني لا فلسفي يوناني. نضع النبرة على الشخص لا على الجوهر مثل أفلاطون والفلسفة اليونانية الوثنية.
[49] راجع سمعان اللاهوتي الجديد (المواعظ 312:30-317 و303:6-367 و335:27-370 والنشيد 1:36-9 و 12-16 و 53-62 و 63-69).
[50] راجع سمعان اللاهوتي الجديد (الموعظة 36 والنشيد 36 والمباحث اللاهوتية والأخلاقية 1-4 و10 و14 في مجموعة “الينابيع المسيحية”) وهيسيخيوس (100:1). راجع كتابنا الأخير الظهور الإلهي.
[51] الفرق بين المريض نفسياً وبعض فئات الروحانيين الحريصين على استئصال الكبرياء شاسع جداً. الفئة الأولى مصابة بعاهة موجودة في اللاشعور. الفئة الثانية تتصرف شعورياً بملء الوعي وتمام القوى العاقلة والروحية. المرضى نفسياً معوقون. المرضى عقلياً معطوبون. الأخيرون بحاجة إلى تطبيب عقلي. الخاطئون واعون. المرضى نفسياً بحاجة إلى معالجة نفسية. قدراتهم معوقة. تحتاج إلى إزالة الكبت. الكبت يستهلك سدىً طاقات المريض. أحدهم رفض المعالجة لأنه لا يريد إلاّ أن يتلف نفسه نكاية من موقف أهله. هناك حالة عقدة الساوي ـ المازوكي. لاشعورياً ضميره يهرسه هرساً وهكذا دواليك. إجمالاً طاقات المرضى نفسياً مهدورة في حرب داخلية لاشعورية. الموسوس أناني كبير وجبان وعقيم ويفرّ أمام المشقات. وو… المصاب بالأفكار المتسلطة عقيم ومعقّد جداً…
[52] السلوك الانفعالي الأهوائي هو مزاجي أيضاً “سويعاتي” يفسِّر زئبقية التصرفات المتناقضة المتقلِّبة الانتهازية النفعية المائعة. يصبح معها المرء غير موثوق في التعاطي الاجتماعي والتجاري. الشخص المكتمل النموّ واضح وصريح وشفّاف وصاحب موقف شجاع مدروس ناضج: ليس باهوج ولا عصبيّ المزاج.