اسبيرو جبور
روحانية الكنيسة الأرثوذكسية
الفصل السادس
سيكولوجية التجربة
1) يلقي الشيطان في خلدنا فكرة شريرة ليدنّس ذهننا. الضمير الحي[1] لا يسمح لها بالدخول. مخيّلتنا تمدّنا بالصور والخيالات. علينا أن نلجمها بحكمة لئلا تدفع إلى الأمام أذكاراً شريرة من ماضينا.
ما العمل؟ فوراً نستجمع قوانا الروحية ونستلّ سيفنا الروحي الفتّاك الذي يكوي الشيطان. ما هو هذا السيف؟ استدعاء اسم الرب يسوع بحرارة فائقة. صلاة يسوع تجلد الشيطان وتكويه (يوحنا السلمي). فالتجربة باقية إلى آخر لحظة من العمر (أنطونيوس الكبير).
2) ولكن إن تراخيتَ واستقبلتَ الفكرة ودغدغتها وداعبتها احتلت حيِّزاً في مخيّلتك وذهنك. اطرد فوراً الأفكار الشريرة. لا تدع نفسك تجترّها. متى تجوّلت في ذهنك التقت مع أحد أهوائك. مثلاً: إن ذكّرك الشيطان بإساءات أحد الناس إليك، واستسلمتَ إلى ذكر التفاصيل بمرارة وحقد أَثرتَ في نفسك غضباً وحزازات وكراهيات. وإن ألقى في ذهنك فكرة حب الرئاسة واستسلمت له شغل بالك بمظاهر المجد الباطل. وإن جرّبك بأفكار جنسية وداعبتها دنّس ذهنك بصور قبيحة. الجهاد الروحي ينصبّ على إقصاء الأفكار والصور فوراً بفضل مكواة اسم ربنا يسوع.
3) تلتقي الفكرة بأحد أهوائك. فأهواؤنا المنبوذة لا تموت 100٪ ولا تتحوّل 100٪. فإن كبتناها في الصغر أو كظمناها في الكبر اختفت في اللاشعور من حيث تصبح مصدر نسف داخلي. وإن تطرّفنا أصابنا الإجهاد ثم الانفلاش. الطفل البشري بدون قوى روحية وعاقلة تُذكر. يعيش كجسد. لا إرادة عاقلة فاعلة تُذكر لديه. هو مرتبط بالرضاعة. تهتم أمه بحاجات جسده. تنمو فيه الشهوات والأهواء الجسدية. تتدخل التربية لفرض النظام في الطعام والشراب والملبس والحركات. كلما نما قليلاً فرضت عليه التربية التخلي عن عادات سابقة. يرضع إصبعه. تتدخل التربية لمنعه. يُفطم كرهاً عنه. طريقة الفطام تؤثّر على طباعه. يمدّ يده إلى كل شيء ليضعه في فمه. قد يضع يده في النار. قد يأكل التراب وسواه من الأشياء القذرة. التربية تفرض عليه سلاسل لا تُحصى من الكابتات. تختفي في لاشعوره. ولكنها لا تزول. فطام قسري مثلاً يُبقي في اللاشعور هوساً إلى بدائل للحليب. وهكذا دواليك. وقد يؤثّر الأهل في تربية الولد ليكبتوا ميله إلى التحطيم أو الغضب أو الحسد. الكبت لا يُزيل الهوى. يبقى حياً في اللاشعور. الغيرة مثلاً تَتَسَتَّرُ تحت ألوف المظاهر. ولو عالجنا الغيرة باكراً بالتحليل النفسي بنجاح باهر، فبعض الذيول لا تتلاشى بسهولة. لذلك تبقى الأهواء تحت الحصار في الروحاني. القمع الفوري العنيف لا يجدي. المعالجة الصحيحة هي في التحويل. نحوّل عشق المرء للطعام وسواه من الجسدانيات إلى عشق إلهي. نحوّل ميل الطفل إلى التحطيم إلى ميل للبناء. بعضهم يحارب الضجر والغضب والميل إلى الأذى بالعمل المتواصل ولو حصل لهم الإرهاق. قد تراهم دائماً مرهَقين يلهثون.
هذه نبذة عاجلة. فلا بدّ من جهاد منظَّم رصين تحت إشراف مرشد روحي كبير. مثلاً: ناسك كبير مال إلى الاستراحة واسترسل في الراحة، وأهمل النسك والصلاة بحجة استراحة عابرة. ماذا يكون؟ يُصاب بالانفلاش فتحيا الأهواء التي لجمها. وقد تثور فيفرّ من الجهاد الروحي. لذلك لا نستطيع أبداً، قبل لحظة الوفاة، أن نثق بنجاحنا. باستمرار النار تحت الرماد: الرقابة على الذات والأهل والصحب بحكمة شديدة بدون “حشرية” بل بلطف، مفيدة. إنها أمر ضروري لا بد منه. كثيراً ما يحدث بعد الصوم أن تندلع الشراهة، فتزول منافع الصوم. خدع الشيطان ناسكاً كبيراً برؤى دينية كاذبة، فتوهَّم أنه بلغ درجة عليا من البرّ. استسلم إلى فكر العظمة فسقط وأخرجه الشيطان من دينه. بتوبة متواضعة مماثلة لتوبة القديس أفرام وأنداده ندفن الأفكار الشريرة. في التربية مثلاً: ثقة عمياء بالولد تساعد أهواءه على الانفلات ومخادعة الأهل. لا تجوز الثقة بأهواء الطبيعة البشرية.
4) الانزلاق وراء الهوى سقوط في الخطيئة. مثلاً: إن اشتهيتَ أي شيء مما ليس لك ولم تستطع السيطرة على هواك، سرقته. في نهاية الصوم إن وقعت على الشهيّ من الطعام واشتهيته ولم تستطع السيطرة على هواك، ارتكبت الشراهة. وقس على ذلك كل تصرفاتك.
قال يوحنا السلّمي في هذا الموضوع في المقالة 15 من كتابه الشهير:
(74) ـ في تحديد الآباء ذوي التمييز، يختلف هاجس الخطيئة عن محاورتها، (وتختلف) المحاورة عن القبول، (ويختلف) القبول عن الأسر، والأسر عن الصراع، والصراع عمّا يسمونه “الهوى المستقرّ في النفس” فالآباء المغبوطون يعرّفون الهاجس بأنه مجرد الفكرة الخاطرة أو الصورة الأولى التي ترتسم في القلب عن شيء ما جديد. و(يعرّفون) المحاورة بأنها مخاطبة تلك الفكرة الخاطرة أو الصورة الظاهرة في القلب سواء بانفعال أو بدون انفعال، والقبول بأنه رضى النفس بها، و(يعرّفون) الأسر بأنه انقياد القلب لها قسراً وكَرهاً لها، أو وصالٌ بها مستمر يطيح بسلامنا. أما الصراع فيعرّفونه بأنه قوة تقابِل القوة التي تقاتلنا وتساويها. فإما أن نقهرها أو أن ننهزم لها بحسب اختيارنا. وأما الهوى الكامل فيقولون إنه داء معشش في النفس منذ أمد بعيد. وقد آلت بها هذه الأُلفة إلى العادة، فأصبحت تخلد إليه طوعاً وتستسلم له. فالحالة الأولى (الهاجس) بين هذه الحالات كلها تخلو من الخطيئة، والثانية (المحاورة) ليست دائماً بريئة من الخطيئة، والثالثة (القبول) تختلف الخطيئة فيها بحسب حال المجاهد. أما الصراع فيسبِّب للمرء الأكاليل أو العقوبات. وأما الأسر، فيُحكم عليه إذا حدث وقت الصلاة بخلاف ما يُحكم عليه في حدوثه خارج وقت الصلاة. وحكمه في الأفكار الأثيمة غير حكمه في الأفكار الأقلَّ إثماً. وأما الهوى فلا مناص من أن تقابله توبةٌ تعادله أو أن يعاقَب عليه. فمن يلقى الهاجس الأول بفكر خالٍ من أي هوى يقطع بالتالي الحالات الأخرى كلها دفعة واحدة.
ملاحظة: في هذه الفقرة وفي العديد سواها، (25:24…) فكر يوحنا السلمي النسكي هو فكر صراعي بين الضمير الحي وبين الأهواء. فهناك قوتان تتصارعان. بولس الرسول سمّاهما في الفصل 7 من رسالته إلى أهل رومية: ناموس الروح وناموس الجسد. هذا الصراع يقع إجمالاً ـ لا كلياً ـ في الوعي لدى الراهب السليم. أمّا لدى المرضى النفسيين فيقع في اللاشعور فيحتاج إلى التحليل النفسي (راجع “الاعتراف والتحليل النفسي”: فصل اللاشعور بالذنب وو…).
(75)ـ وهناك أيضاً عند الآباء الأكثر دقة ومعرفة ذكرٌ لفكر آخر أدقَّ من الحالات المذكورة أعلاه. يسميه بعضهم الفكرَ الخاطفَ قائلين إنه يدفع بالهوى إلى القلب بسرعة قصوى بدون أي زمان أو قول أو صورة. ولا يوجد أسرع منه في عالم الأرواح ولا أبعد منه عن الملاحظة. يظهر في النفس بمجرد ذكر ما بسيطٍ غير مقترن بذكر آخر ودونما زمن. فلا يُستطاع تداركُه بل لا يدركه البعض إطلاقاً. فمن استطاع بفضل نوحه أن يدرك لطافة هذا الفكر فذاك يقدر أن يخبرنا كيف يمكن بنظرة واحدة أو بلمس يد أو بسماع لحن أن تزني النفس خلواً من أي تصوّر أو تفكير.
(76)ـ يقول البعض إن الجسد ينقاد إلى الزنى من جراء الأفكار السمجة، ويعكس آخرون الأمر فيقولون إن الأفكار السمجة تتولّد من خلال حواسّ الجسد. أما الأولون فيزعمون أنه لو لم يتحرك العقل أولاً لما تبعه الجسد، وأما الآخرون فيسندون نظريتهم إلى كيد الجسد قائلين إنه كثيراً ما تجد الأفكار مدخلاً إلى القلب من خلال رؤية منظر حسن أو لمس يد أو استنشاق طيب أو استماع نغمة حلوة. فمن يستطيع أن يفيدنا في هذا المجال بنعمة الرب فليفعلْ، لأنَّ مثل هذه المعرفة نافعة وضرورية جداً لمن يسلكون بوعي وفهم في السيرة النسكية. نعم إن السالكين فيها ببساطة القلب المغبوطة التي هي الدرع الواقي لكل مكايد الشرير ليست أيضاً للجميع.
(77)ـ إن بعض الأهواء تبدأ في النفس وتسري إلى الجسد، أمّا الأهواء الأخرى فتدخل بالعكس من الجسد إلى النفس. وتلازم الثانية أهل العالم، أما الأولى فالعائشين في العزلة، وذلك لفقدان الأسباب المادية للخطيئة في العزلة. غير أني أقول في هذا الشأن ما قاله الحكيم: “تطلب عند الأشرار انتظاماً فلا تجد” (أمثال6:44) في الأصل “فهماً”.
ملاحظة: هذه نظريات عميقة في علاقة الجسد والنفس ببعضهما بعضاً. السلمي يدرك تماماً قدرة النفس على التحكم في الجسد. قال: العشق الإلهي يصرفنا عن عشق الطعام والجسد. والكتاب كله يقوم على تحويل النفس من التعلق بالماديات وسواها إلى التعلّق المطلق بالله.
كم تحتاج الحرب الروحية إذاً إلى نعمة الروح القدس، والصلاة، والضمير المستنير بالروح القدس والعهد الجديد، والإرادة الفولاذية المتمرّسة بطاعة الضمير الطاهر بصورة فورية آلية! الضمير الحي يتغلغل إلى أحلامنا ولاشعورنا. في اليقظة الواعية، وفي اللاوعي، وفي الغفلة والسهو، يبقى ضميرنا الحيّ يقظاً بنسب مختلفة. حتى في أحلامنا يقع الصراع بين ضميرنا الحي وأهوائنا. وكلما ترقَّينا في السلَّم الروحية ازدادت أحلامنا خضوعاً لضميرنا. لذلك ينصح الآباء بالصلوات الطويلة قبل النوم لتستمرّ الصلاة ونحن نيام، فنستيقظ وكلمة الصلاة والترتيل في حلوقنا.
أعرف أنَّ ذلك شاق جداً على العاديين. ولكني سأُطمَرُ في الأرض وتذهب روحي إلى المجهول. أفضّل أن ينـزف دمي هنا على عذاب جهنم. إذاً الصليب هنا ولا جهنم هناك.
وتذهب دقة الآباء إلى استبعاد الصور في الصلاة. نحصر ذهننا في كلمات الصلاة دون حاجة إلى تخيّل أي شيء من مضمونها. لا نتخيّل يسوع وآلامه وقيامته مثلاً. في رأي يوحنا السلّمي، الصور تدعو الصور في الصلاة فيقع الشطط في الصلاة. ويفضّل الاعتدال في الترنيم لأنّ الأصوات المتنوّعة تُضعف استجماع الفكر أثناء الصلاة. هو ينصح بالانطواء على الذات الداخلية لجمع النفس بكل قواها داخلياً. كان مكاريوس المنحول السوري قد نصح بجمع الذهن في القلب. وسنعود إلى ذلك لدى السلّمي.
نبدأ باستبعاد الصور. نصل إلى ترداد الصلوات في الحلق. في النهاية نصل إلى صلاة القلب الطاهرة بدون صور أو كلام.
المسألة تربوية دقيقة ومهمة. يبدأ الطفل بالصور. الذاكرة البصرية لديه قوية. ينتقل إلى الألفاظ.
المصلي العميق ينسحب شيئاً فشيئاَ من عالمَ الصور فعالمَ الألفاظ إلى عُمْق القلب المدهوش بالله. المسألة مسألة انتقال من السطح إلى أعمق الأعماق.
وهناك الدموع الروحية المشهورة. دير الحرف ترجم كتاب اللاهوتية المشهورة بورودين “عطية الدموع في الشرق المسيحي”. طبعاً هناك دموع كاذبة ليخدعنا الشيطان بأننا كاملون ومماثلون للقديسين أفرام وسمعان. هذه عطية للمتقدمين لا للمبتدئين. هكذا صنَّف يوحنا السلّمي الدموع.
الفصل السابع
التأمل الروحي
لا بدّ من إذكاء الحياة الروحية بالتأمل. يولد الإنسان فينمو سريعاً ليبلغ في سنوات سنَّ الشباب ثم الرجولة. بعد ذلك تتراجع فتوّة الجسد. أما روحياً فيولد صفحة بيضاء لينمو وسط تمارين روحية متواصلة تتجدّد فيها الروح لحظة تلو لحظة حتى يبلغ ملء قامة المسيح. لا تصحّ نظرية التطور إلا في الحياة الروحية حيث الترقّي هو القانون، بينما التخلّف في الجسد هو القانون. ونفسياً يسير المرء نحو الهرَم والخرف وانحلال القوى العقلية. أما الروحاني الأصيل فيذكو ويزداد حكمة وبراً وقداسة. ألمح إلى ذلك يوحنا السلمي. لا شيخوخة في الحياة الروحية بل نضارة متنامية وتألّق روحي متواصل. الجسد يذبل، أما الروح فتشعشع.
نتأمل معاني الكتاب المقدس. نتأمل الكون فندهش لصنائع الله. نتأمل أسرار إيماننا وخلاصنا فيهيم قلبنا بالثالوث القدوس. نستعرض عالم الفناء لنـزهد في كل ما في الكون. نتأمل في حالة الذين في القبور وفي العذاب، العذابِ الأبدي والمجد السرمدي، لنلجم أهواءنا ورغباتنا وملذاتنا.
فمن هم أبناء جهنم؟ هم عبَّاد البطون والزناة، والمخنَّثون، والقتلة، واللصوص، والسحرة، والكذابون، والمراؤون، والوشاة، والمفترون، والظالمون، والمرتشون، والماكرون، والحاقدون، والطمّاعون، والأنانيون، والمتعجرفون وو… وكل الذين يخالفون الانجيل.
لا يَنَم أحد على حرير. ليس عند الله محاباة. لا يستوي الأبرار والأشرار لديه. في هذا العالم بابُ التوبة مفتوح. بعد الموت المصير واحد: إمَّا إلى النعيم وإمَّا إلى الجحيم ولا مكان ثالث لأحد البتة (يوحنا السلمي 107:26). فليستيقظ المتراخون قبل فوات الأوان. الرخاوة والتلذذ يعوقاننا. بولس الرسول طالب أن نقمع شهوات الجسد وأهواءه. القمع بطولة. المسيحي بطل روحي لا خيال.
الشيطان هو أبو الإلحاد والكفر والتجديف. إنْ لم يكن الله قد خلق الكون، فالمادة هي الله. هذا هو كفر الملحدين. الطبيعة عمياء بينما الإنسان حرّ خلاّق. الفكر غير مادي. الجسد أداة الفكر لا مبدعه. أنا إنسان بروحي أولاً لا بجسدي فقط. فروحي خالدة. ولا يمكن أن يكون الله قد خلقها لتشقى هنا وتزول. لا يليق بمجده الأعظم أن يخلقني كائناً عاقلاً حراً روحانياً لأموت كالحيوانات. الإله الذي خلقني وأحبَّني يحفظني لمجده. هو الكمال المطلق. الأم لا تهمل ابنها. فكيف يجدِّف المجدِّفون؟ اللَّهم ارحمهم واهدِهم سواء السبيل، فأنت أرحم الراحمين.
الفصل الثامن
البتولية
الرب يسوع نفسه بتول وأشاد بالبتولية. قال: “يوجد خصيان خصوا أنفسهم من أجل ملكوت السماوات. فمن شاء أن يستوعب فليستوعب” (متى12:19). فالبتولية اختيارية طوعية لقوم يعقلون. العذراء مريم بتول. وكذلك النبيّان ايليا ويوحنا المعمدان. حنة النبية أرملة متعبدة بالصوم والصلاة ليلَ نهارَ لا تفارق الهيكل، ابنة 84 سنة. ترملت بعد سبع سنوات من زواجها (لوقا36:1-38). وبولس الرسول آثر أن يكون كل الناس متبتلين مثله. وأمر بأن لا يمسّ رجل امرأة. ولكن بسبب الزنى نصح بالزواج، فالزواج خير من التحرق. وكان في كورنثوس آباء لهم بنات عذارى قد تجاوزن السن. ففضل بقاءهن عذارى. ولكن لا يخطأن لا هنّ ولا آباؤهن إن تزوجن. والأزواج أنفسهم يتعَّففون، فيتفقون على الانقطاع حيناً عن الجنس ليتفرغوا للصلاة والصوم. ولا يسمح بالزواج الثاني إلا على مضض.
هذا كله في الفصل 7 من رسالته الأولى إلى كورنثوس. ففي كورنثوس قام آنذاك آباء مشغوفون ببتولية بناتهم عن تقوى وزهد[2]؟ فالرجال هنا، يبدون مندفعين في التقوى ومشجعين لبناتهم على حياة البتولية. فالذهبي الفم ذكر عذرة البنات في القرنين 2 و3. وأوريجنس امتدح البتولية جداً حتى قبل نشوء الرهبنة. وفي سفر يشوع ابن سيراخ، البنت هاجس أبيها. ويتولى رقابتها (9:42-10). ومازالت الفتاة في شرقنا هاجس أهلها لتبقى مُصَانة من الشوائب ومحافظة على عذرتِها. فالرصينة هي في بيوتنا ملء البيت وعموده. تستقطب احترام أهلها جميعاً.
إذاً: تحتل البتولية المكانة الأولى في حياة المسيحيين. يسوع نفسه ضرب مثل العذارى الفطنات والعذارى الحمقى. الفطنات دخلن عرس الرب ومجده. هل يعني هذا أن المتبتِّلات فقط يدخلن السماء؟ لا. إنما بتولية النساء نموذج لعفة كل المخلَّصين من المتبتلين والمتزوجين والمتزوجات. وكيف يكون المتزوجون والمتزوجات عذارى فطنات؟ ليس الزواج دنساً بل هو مكرّم (عب 4:12). وإنما بيوت المؤمنين كنائس صغيرة بالقداسة والصلاة والعفة والسيرة الفاضلة. فالعفة في الزواج فضيلة كبرى. الأمانة الزوجية بعفة وسلوك طاهر قداسة. أمانة زوجية بدون شبق وانحراف….
وهكذا يكون المتبتلون والمتزوجون قادرين على نيل ملكوت الله.
الذهبي الفم يقول: انظروا زينة الكنيسة العذارى (الصبايا هنا لا الراهبات) والأرامل. كيف تكون العذارى (الصبايا) زينة الكنائس إلاّ إذا كنَّ طاهرات تقيات؟
وهنا لا بد من طرح السؤال: لماذا اختار الرب العذارى في المثل ولم يختر الرجال؟ في كتابي “المرأة في نظر الكنيسة” أجوبة الآباء القديسين. الكاتب الفرنسي الكبير فرنسوا مورياك قال في خطبة في الأكاديمية الفرنسية إن لفظة “فضيلة” هي مؤنثة في جميع اللغات. والمرأة عنوان الفضيلة.
وشرقنا المحافظ منذ بداية المسيحية عليه أن لا ينخدع بمظاهر الفساد في أوروبا وأميركا حيث تيارات الكفر والإلحاد العلنية والسرية خرَّبت الأخلاق. فرنسا العام 1960: كان 32٪ غير معتمدين. وفيها 200 مذهب. في أميركا اليوم أكثر من 25٪ لا يؤمنون بوجود الله أي أكثر من 70 مليوناً. وفيها مذاهب وسحرة وكنيسة الشيطان. وهكذا دواليك فضلاً عن الضعفاء روحياً. نحن الأرثوذكس لا نقلّد أحداً. نحن القدوة، نحن المسيحية الأصلية الأصيلة. كمال الدين عندنا. فلنرفع الرأس عالياً بدون عجرفة ولكن بقوة عسكر ربنا الذي نحن جنوده الفرسان، بدون فريسية وغطرسة ولؤم.
عبر التاريخ كانت الأديرة محجات للمؤمنين. يوحنا السلمي يسميها مستشفيات ويسمي المرشدين فيها أطباء روحيين.
في تاريخ الروحانية الأرثوذكسية، البتولية والعفة هما أول مظهر للبرّ. لدى الرهبان الزنى هو السقوط. العبارة قوية إنما تدل على مدى تشدّد الأرثوذكسية ضد الخلاعة.
وبما أن النسك والأصوام الكثيرة والصلوات الطويلة هي السمات الغالبة والعامة في الأرثوذكسية فلا غرابة أن تكون رهبانيتها متشددة.
فبلادنا أخرجت أوائل العموديين (سمعان، سمعان، دانيال) وأوائل الحبساء، والقرن السادس الميلادي هو قرن رهبانيتها في العالم كله.
في دير الروح القدس في اليونان تستمر الصلوات يوم الأحد سبع ساعات يتخللها نصف ساعة من الاستراحة. في موسكو تستمر الصلوات مساء السبت 4 ساعات ويستغرق القداس ـ صباح الأحد ـ 3,30 ساعات والناس وقوف. وتستغرق السهرانية في جبل آثوس 16 ساعة. وعندنا تستغرق 7/8 ساعات.
في كل العالم الأرثوذكسي الصلوات طويلة لأن الصلاة هي رئتا الأرثوذكسي ليتنشق يسوع. وتحتل خدمة القداس صدر الصلوات وتاجها. كل ضجر منها هو دليل على الضعف الروحي. الذهبي الفم يقول إن كل خدمة قداس هي احتفال بصلب المسيح. لا تخاذل. عرس الأعراس هو خدمة القداس. كل أعراس الكون وحفلاته على مدى الزمان كله لا تعادل بهجة المناولة لدى إنسان تقي. لذلك فكل احتجاج على طول الصلوات خطأ فاحش. يجب أن نقاوم كل من يسعى إلى اختصارها. هي رباطنا الحي القوي بكل العالم الأرثوذكسي. هي التي تجمع أفواه الأرثوذكس معاً في تسبيح مجد الله. حاشا لي أن أحرم نفسي من هذا المجد مجد الفم الأرثوذكسي الواحد: الوحدة هاجسنا الأقوى لا الفرقة والتنابذ. كل محاولة تجعلنا مخالِفين للعالم الأرثوذكسي هي بدعة. المولعون بالفذلكة مبتدعون. الوفاء الكامل للتراث الأرثوذكسي فخرنا. المولعون بالتغيير منحرفون وخارجون على التراث. تراثنا محفوظ بالروح القدس الحالّ فينا (2 تيمو 14:1). الخروج عليه هو خروج على الروح القدس وخروج على وحدة القلوب والأفكار. لماذا فصلْنا الهراطقة؟ لأنهم خرجوا على تقليدنا. فَصَلوا أنفسهم عنّا وقطعوا شركة الوحدة والمحبة راكبين هواهم الشيطاني.
الخلاصة
الأرثوذكسية هي معمودية وميرون وقربان. هي ضمير حي ينخس القلب بالمناخس. هي اعتراف بتذلل أمام الله وتواضع. هي توبة صادقة عن كل ذنب اقترفناه منذ مولدنا حتى اليوم قارعين صدر الروح وواعدين الله بأن نبدِّل أنفسنا جذرياً. هي عيش الفضيلة في الروح القدس حتى نبلغ قامة المسيح. هي الخروج من الذات في عشقٍ إلهي يُفرغنا في يسوع. في النهاية هي ـ عبر كل الوسائط الروحية ـ المسيح في المؤمنين به، بصورة كاملة حتى لا يبقى لنا أي شيء سوى يسوع ابن الله الآب. الأرثوذكسية مثل بولس الرسول في تسالونيكي الأولى، لا تبتغي سوى قداسة أبنائها. فتعلقها بالقداسة ديدنها سواء كان القديس ملكاً أو راعي غنم. القديس اسبيريدون العجائبي كان راعي غنم قديساً فاختاره أهل البلد أسقفاً وبقي راعياً. وكان أحد النجوم البارزة في المجمع المسكوني الأول. وسمعان العمودي كان راعياً أمياً، فصارت سمعته المقدسة ملء الدنيا والتاريخ، وصار أعجوبة العالم. لا وزن عندنا إلاّ للقداسة. لا نركع للغنى والجاه والمنصب والعلم بل للقديسين من رعاة وسواهم.
ولذلك فالأرثوذكسية هي دين السماويين على الأرض. يجعلنا والملائكة رعية واحدة (أف وكول وترنيمة من اللحن الأول). قال بولس الرسول: “فأقامنا معه وأجلسنا في السموات في المسيح يسوع” (أف 6:2). “قد قمتم مع المسيح، فاسعوا إلى الأمور التي في العلى حيث المسيح قد جلس عن يمين الله … قد متّم وحياتكم محتجبة مع المسيح في الله …” (كول 1:3-4).
الذهبي الفم قال: بطبيعتنا البشرية في المسيح قد جلسنا في الأعالي فوق الملائكة (سر التدبير ص 64 و66).
الأرثوذكسية هي الخميرة التي أودعتها امرأة 3 مكاييل دقيق حتى اختمرت كلها (متى 33:13-34). المسيح يخمِّرنا برمتنا به. ما هذه الوظيفة التي تتولاَّها الأمهات: يصنعن المسيح فينا؟ فهل تعقل النساء هذه الوظيفة؟
هل يعقلن هذه الأمانة التي أودعها إياهنَّ اللهُ؟ هذا هو أهمّ عمل خصّهن به اللهُ، لا البطر، ولا المسرح، ولا العبث، ولا “الفلتان” والخلاعة في اللباس والمأكل والمشرب والسلوك. في رقبتهنَّ مسؤولية رسولية لتفريخ أولاد الله. الكاهن يعمِّد والأمّ تُنمي المسيح في القلب. كل أمّ صالحة هي نسخة عن مريم العذراء. وكل مَن يمسخ هذه الصورة سيمسخه الله. مصمِّمو الأزياء الخلاعية مسوخ شيطانيون. العذراء مريم هي نموذج الرصينات البطلات.
ممارسة الأسرار
من الأجدى نفعاً أن يسعى الأهل إلى تعميد أولادهم باكراً لينموا في النعمة الإلهية، وأَن تحمل الأمهات الأطفال إلى الكنيسة لتناول القربان الإلهي قدر المستطاع بدون تعليل التقصير بالعلل الفارغة. وليس هذا فقط، بل أنصح الحبالى أن يتناولن باستمرار. وبعض الناس ينزعجون من بكاء الأطفال في الكنيسة. عليهم أن يبتهجوا لأن الأطفال سيتناولون المسيح. الحرب ضد الأنانية هي حرب ضد أفعى ذات مليون رأس. علينا ألا نهتم فقط برغباتنا بل بخلاص الآخرين. الطفل المعتمِد هو عضو في جسد المسيح. إذاً هو عضونا. مَن منَّا يكره أعضاء جسده الترابي؟ علينا أن نفرح بما يصيب الغير من خير.
ومن المفيد جداً أن يعوِّد الأهل الأطفال على تقبيل الصليب والإيقونات باكراً. ما نغرسه فيهم باكراً هو ثابت خالد كالنقش في الحجر. الميول الروحية تتفتق على يدي الأم. ليس الدين قناعات عقلية لدى الكبار فقط بل هو تربية روحية في الطفولة تفتق لدى الطفل الميل إلى العبادة والشوقَ الإلهي وإلاَّ نشأ كمركَّب نفسي ـ جسدي مشوّه بالخطايا. فما هي القيم الروحية لدى شاب بلغ الخامسة عشرة من عمره بدون إيمان؟ يكون قد استسلم لشهوات الجسد ومصالحه بدون عفة. مَنْ يستطيع إقناعه بالعفة؟ أَبَعد غرقه في أهواء الجسد نستطيع سحبه؟ لذلك يرتكب كفراً الذي لا يعمِّدون أطفالهم ويلقِّنونهم مبادئ المسيح. يحرمونهم من نور المعمودية وجسد المسيح ودمه. يبعدونهم عن الحياة في المسيح. يا للكفر! في العهد الجديد بيوت المؤمنين كنائس. يسوع احتضن الأطفال الصغار وباركهم. الإله ـ الإنسان بارك الأطفال، فكيف نحرمهم نحن من هذه البركة؟ الجنين يوحنا المعمدان بورك وهو في بطن أمه ابن 6 أشهر. النشأة الأولى تزيل العوائق التي تعوق النموّ الروحي، بينما تعوق عيوبنا السابقة المتأصِّلة قدرتنا على تبديل ذاتنا. فالعوائد السيِّئة السابقة تندفع إلى التكرار مجدّداً باستمرار (يوحنا السلمي).
مريم العذراء في الكنيسة الأرثوذكسية
تحتل مريم العذراء في الأرثوذكسية مكانة لا تعلوها سوى مكانة ابنها المسيح. كتبنا الطقسية مترعة بالترانيم للعذراء مريم. إحصاؤها يستغرق مجلداً هاماً.
وإنما أعظم عبارة مديح لها هي:”يا والدة الله”
فبما أنها والدة الله فمن يستطيع أن يذكر اسمها إلا خاشعاً؟
هي أم يهوه المخلص (متى21:1)، أمّ عمانوئيل (متى23:1)، أم ابن الله، أم ابن العلي، أم الرب (لو43:1).
وابن الله هو الله. والرب هو الله. وعمانوئيل هو الله.
فيا والدة الإله تقبّلي هذا القربان وارحمي أرواح البطريركَين ثيئوذوسيوس والياس والمطران الكسي، ووالديّ وأخوتي وذويهم، والدكتور يوسف صايغ، وبولس وحنا اسعيد وجورج سكّريّة واجعليهم في كنفكِ في ملكوت ابنك الحبيب.
ولكن كيف هي أم الله؟ وقعت حديثاً على أخطاء في طرح الموضوع.
الرب يسوع أخذ من العذراء طبيعة بشرية ضمّها إلى أقنومه الإلهي. في يوم البشارة اتحدت الطبيعتان الإلهية والبشرية في أقنوم يسوع الواحد. كيف والآب والروح القدس لم يتجسَّدا؟ هذا سرّ إلهي يفوق قدرة الملائكة على الفهم. أقنوم يسوع واحد لا اثنان. شخصي واحد لا اثنان وإن كان فيه روح وجسد من جوهرين مختلفين. بسبب وحدة الأقنوم واتحاد الطبيعتين اتحاداً محكماً خالداً سمَّى الكتابُ المقدس والكنيسةُ مريمَ العذراء “أم الله”.
اللاهوت لاهوت الابن. الطبيعة البشرية مأخوذة من مريم يومَ البشارة أي في الزمن لا منذ الأزل. الدمشقي وبالاماس أوضحا الأمر: الطبيعة المأخوذة من مريم العذراء وحدها اتّحدت أقنومياً بالابن يسوع. أمّا مريم العذراء والقربان المقدس والكنيسة فاتحادهم بيسوع هو اتحاد بالنعمة الإلهية. طبيعة يسوع البشرية وحدها جزء في أقنوم يسوع. صار أقنوماً لها فنقول: “قنّمها”. لم يقنّم لا أمه ولا الكنيسة ولا القربان ولا البشر.
الاتحاد في أقنوم يسوع هو اتحاد طبيعتين أي اتحاد الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية في شخص (أقنوم) يسوع. طبيعة مريم لم تتحد بالطبيعة الإلهية. تسميتها “أمّ الله” تتضمن كل سر التدبير الإلهي لأنها تعني أن يسوع أقنوم واحد في طبيعتين. هي أمه لأنه واحد لا يتجزّأ. ما هو ضلال نسطوريوس؟ هو رفضه عبارة “والدة الإله” وقوله إن العذراء هي أم الإنسان يسوع فقط: فَصَلَ الطبيعتين. لذلك دانته المجامع المقدسة بشدة واعتبرته جاحداً. والهرطقات المعاصرة التي ترفض عبارة “أم الله” وإن كانت تؤمن بالأقنوم الواحد تزجّ نفسها في هرطقة رفض عبارة “أم الله”. أما الذين يتهجمون على بتولية العذراء (شهود يهوه…) فيجدِّفون على الله وأمه. ومن الضلالات الأخرى ما ذهب إليه أوريجنس وبعض الكتَّاب البروتستانت: خامر مريمَ العذراء الشكُ في ابنها لمَّا رأته مصلوباً. نفى ذلك القديسون غريغوريوس اللاهوتي وابيفانيوس والدمشقي والعديد من تراتيلنا.
وداع عيد تجلي ربنا يسوع المسيح 13/8/2001
المراجع: لا مجال لذكرها بالتفصيل. إنما خبرتي الحقوقية في المحاماة شحذت تمييزي فلم أرَ أجمل من العهد الجديد وآباء الكنيسة لبناء الإنسان الروحي. والباقي نوافل وعلم فارغ وكاذب، وغطرسة، وعجرفة. المزامير الروحية (للقديس أفرام) أطيب مذاقاً من كل ما كتبه الغرب وتابعوه في الديانة. الآباء أبواق الروح القدس وسواهم متغطرسون.
أعيدَ النظر فيه يومَ عيد الروح القدس الله في 16/6/2003
و 17/6/2003 و 28/6/2004
فيا أيها الثالوث القدوس ارحمنا وخلصنا. آمين!
الفصل التاسع
الحياة الروحية ذبيحة
قال بطرس الرسول: “كونوا أنتم مبنيين كالحجارة الحية بيتاً روحياً وكهنوتاً مقدساً لإصعاد ذبائح روحية مقبولة لدى الله بيسوع المسيح… وأنتم جيل مختار، وكهنوت ملوكي، وأمة مقدسة وشعب مقتنى يخبرون بفضائل الله الذي دعاكم من الظلمة إلى نوره العجيب” (1 بط5:2-9، راجع شرحنا لأفسس14:1).
وقال يوحنا في الرؤيا: “يسوع المسيح… الذي أحبنَّا وغسلنا من خطايانا بدمه الكريم، وجعلنا مملكة وكهنة لإلهه وأبيه” (رؤيا 5:1-6، كما في طبعة القسطنطينية).
فنحن جميعاً كهنة نقدم ذبائح روحية. وقال يوحنا الانجيلي في رسالته الأولى:”يطهرنا من كل إثم”(1يو9:1).
وقال بولس الرسول: “أسألكم برأفة الله أن تقرّبوا أجسادكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله عبادتكم الذهنية” (رو1:12).
وطلب يسوع من تابعيه أن يكفروا بأنفسهم ويحملوا صليبهم كل يوم ويتبعوه (لو 24:9). وبولس قال: “مع المسيح صُلبتُ، فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ …” (غلا 20:2).
فكل مسيحي هو كاهن يقدم ذاته والآخرين ذبائح لله. جاء في خدمة القداس الإلهي: “لنودع ذواتنا، وبعضنا بعضاً وكل حياتنا للمسيح الإله”.
المسيحي الحق يحمل صليبه كل يوم. هو مصلوب دائماً مع المسيح. هو دائماً قربان للمسيح.
فسرّ الفداء هو سَدى ولُحمة حياتنا.
العشار صلّى، فقال: “اللهم، اغفر لي أنا الخاطئ”[3] اللفظة اليونانية مرتبطة بلفظة Elastirion. هذه تعني “كفارة”. وهي الغطاء الذي يغطي تابوت العهد ويرمز إلى قبر الخلاص. فالغفران مرتبط بسرّ الفداء. دم المسيح هو يطهرنا من كل خطيئة لا سواه. وحياة المؤمن توبة متواصلة بلا انقطاع توفّر له الغفران بدم المسيح. المسيحي يتنفَّس التوبة تنفسَّه الهواء. بدم المسيح تنال توبتُه الغفران. صلوات الأرثوذكس مدموغة دمغاً قوياً بمشاعر الندامة والتوبة، بالخشوع ونخس القلب. للدموع في التراث الآبائي أهمية كبرى[4]. فيها الاغتسال من الخطايا بدم المسيح وبهجة قيامته. كل حياتنا توبات متواصلة ممتزجة بدم المسيح حتى نصبح، قولاً وفعلاً، المسيح.
في الصلاة الربانية: “واترك لنا خطايانا… كما نغفر (حرفياً: نترك) للناس…” الفرق بين اللفظتين كبير.
لفظة “ارحمني” التي يقولها العشار مصبوغة بلاهوت الفداء. الحاجة إلى الفداء لنيل المغفرة مصحوبة حتماً بانسحاق كبير، وشعور بالعدم: “أنا دودة ولست إنساناً” (المزامير). ما أنا بشيء. دم المسيح يصنع مني شيئاً ما.
ولكن متى رُسِمنا كهنة؟
في المعمودية وُلِدنا في المسيح. في الميرون مَسَحنا الروحُ القدس كما مسح يسوعَ يوم البشارة وسكن فيه. في الرسالة إلى العبرانيين (بخاصة الفصلان 5 و7) الله دعا يسوع كما دعا هرون ولكن على رتبة ملكيصاداق، ملك شاليم، ملك البر، ملك السلام، رئيس كهنة الله العلي. الذي دعاه هو الذي قال له: “أنت ابني وأنا اليوم ولدتك… أنتَ الكاهن إلى الأبد على رتبة مليكصاداق” (عب 5). الآباء العظام قالوا إن الروح القدس سكن في يسوع يوم البشارة، وإن حلوله يوم الظهور الإلهي كان شهادة ليسوع بأنه هو المقصود في كلام الآب: “هذا هو ابني الحبيب”. ولما تلا فصلاً من أشعيا النبي في مجمع بلده السابق الناصرة، قرأ: “روح الرب عليَّ مسحني…” كان قد مُسِحَ.
لاهوتياً الروح القدس ساكن في الابن سرمداً. ولكن يوم تجسّد يسوع، في لحظة التجسُّد، سكن الروح أيضاً في جسده، فمسحه ملكاً ونبياً ورئيس كهنة. المجوس سألوا عن الملك المولود وسجدوا له كملك ورب ومصلوب. والملاك بشَّر الرعاة بقوله لهم: “وُلِدَ لكم اليوم… مخلصٌ هو المسيح الرب”. فهو المخلص والمسيح (أي الممسوح) حتى في ذلك اليوم. وكل كلام آخر لغو.
هو رئيس الكهنة والباقون كهنة لديه وفق درجاتهم. ما هذه المنّة الإلهية؟ أشركَنا في كهنوته، له الحمد والشكر للأبد.
إذاً: في دعاء العشار ذوبان أمام الله واعتراف بالنفاية حتى يتحنن الله أبو المراحم جميعاً.
اللهم، ألهمْنا هذه التوبة الانسحاقية مغموسة بدم الفداء، وقد أبيضَّت ثيابنا بدم الحمل الرافع خطايا العالم. فلا رجاء لنا في أنفسنا بل فيك لأنك أنت حياتنا ورجاؤنا، وموئلنا وصخرتنا.
“فالذبيحة لله روح منسحق” (المزمور50).
تقبَّلْ، اللهم، ذبائحنا!
قال بطرس الرسول: “… بل بمقدار ما تشتركون في آلام المسيح افرحوا، لكي تفرحوا وتبتهجوا في ظهور مجده أيضاً” (ابط13:4).
وقال بولس الرسول:”لكي أعرفه، وأعرف قوة قيامته وشركة آلامه، صائراً مطابقاً له في موته، لعلي أبلغ القيامة من بين الأموات” (10:3-11).
وقال في رسالته إلى رومية: “… لأننا نتألم معه، لكي نُمجَّد معه أيضاً” (17:8؛ انظر 2 كور 7:1 وغلا 17:6 وكول 24:1).
المطابَقة مع موت المسيح، شركة آلامه… كل هذه الأمور تجعلنا “مشابهين لصورة ابنه” (رو 29:8).
فالمسيحي الحقيقي يصنع من نفسه بالروح القدس، شبيهاً ليسوع والباقي قشور. لا مسيحية بدون انطباع المسيح فينا. وقال بطرس الرسول: “إذاً، بما أن المسيح قد تألم لأجلنا في الجسد فتسلَّحوا أنتم أيضاً بهذا العزم عينه، لأن من تألم في الجسد قد انقطع عن الخطيئة، لكيلا يحيا فيما بعدُ في الجسد، الزمان الباقي، في شهوات الناس، بل في مشيئة الله” (1 بط 1:4-22). وأيضاً: “لأن المسيح أيضاً تألمَّ من أجلكم، تاركاً لكم قدوةً لتقتفوا آثاره” (1 بط 20:2-24).
أما يوحنا الانجيلي فقال: “من يقول إنه مستقرٌّ فيه يجب عليه ـ كما سلك ذاك ـ أن يسلك هو أيضاً كذلك” (1يو6:2)[5].
المسيح هو مَثلنا الأعلى في كل شيء. هو قدوتنا التي نقتدي بها كما علّم هو نفسه وكرّر بولسُ الرسول.
حين لا تُنصَبُ لنا منابر الاستشهاد بالدم، تبقى لنا التوبة. التوبة الكاملة هي انصلاب مع المسيح. بل أكثر من ذلك: هي قبر المسيح.
كيف؟ التائب شريك في آلام ا لرب وصلبه، فيغسل ـ بتنهداته ونخسات ضميره ـ نفسَه بدم المسيح، ويدفن خطاياه في قبر المسيح ليقوم معه أبيض من الثلج وأسطع من الشمس. ويعطيه الله نعمة الدموع فيزداد اشتراكه في آلام الرب وصلبه ودفنه وقيامته. الدموع نعمة لا حسَّاسيّة عاطفية. فالنساء قادرات دوماً على البكاء. فهل هذه دموع النعمة؟ لا. علينا أن لا ندع الشيطان يخدعنا بدموعٍ كاذبة لنتوهَّم أننا صرنا كاملين. هنا دور شيوخ النساك هام. ولكن ـ ويا للأسف الشديد ـ ليس الناس جريئين بما فيه الكفاية لكي يكشفوا حالتهم المهترئة. قد يصيبهم الإغماء إن حاسبوا أنفسهم بدقة فائقة. إجمالاً، ما من إنسان ما ربي على كبت الشعور بالذنب. الكبرياء تمنعنا من رفع غطاء الكبت لئلا نرى عوراتنا وخزينا وهُزالنا وحقارتنا.
ولذلك ينهار الناس إن لم نحسن أسلوب الكشف لهم عن عيوبهم ونقائصهم: يخجلون، يغضبون، يحقدون، يثورون، ينفرون… العائشون في التقوى يُضطهدون (2 تيمو). فمَن العملاق الذي، في يسوع، يتحمّل تشنيع عملاء الشيطان عليه؟ عبد يسوع المسيح الحقيقيُّ يفرح إن اشتدت حملات الشتائم عليه، فيمجّد الله لأنه وُجد أهلاً لأن يُشتم من أجل يسوع. هنا هشَّمني الناس. ولكن الأعظم من ذلك بما لا يقاس أن أهشِّم أنا نفسي في التوبة فالتواضع. قد احتمل شتائم الغير ولا أحتمل لوم نفسي لكي أدفنها في قبر المسيح لأقوم مع المسيح. التوبة تُلاشي الجحيم وتغزو حضن يسوع.
مات الشهداء يرتكضون طرباً. فأية شدة أخرى تستطيع أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع؟ (رو 36:8). لا ينفصل عنه إلا الجبناء الانهزاميون الأنانيون القليلو الإيمان… لا يرمي الصليب إلا الخائن الفاقد الشهامة والمروءة. أرملة صرفت صيدا في القرن 9 قبل الميلاد كادت أن تموت وابنها الوحيد جوعاً وهي محتفظة بشرفها الكامل لا تبيع جسدها لتحيا وابنها. أدركها الله بإرسال ايليّا النبي إليها. هذه المرأة في بلاد الوثنيين تكاد تكون شهيدة الأخلاق الكريمة. ولذلك لا حجة لمن يسترخون في رخاوتهم.
الموت من أجل المسيح أفضل من خيانته ولو بزلقة لسان. الموت من أجل المسيح أفضل بمليار مليار مرة من خيانة شهود يهوه وأضرابهم في سبيل دريهمات أنجس مما قبض يهوذا الاسخريوطي. الملكوت معدّ للذين أفناهم عشق يسوع. فليست المحبة المسيحية عواطف سطحية بل أتّون نار لا يُبقي مكاناً للرخاوة والتقلقل. المحبة هي أقوى العواطف. حملتْ الآبَ على إرسال ابنه ذبيحة في سبيلنا. وتحمل عاشقيه على الخلاص من كل ذرة حقد وخمول ومن كل الرذائل والشوائب ليصبحوا عمود نار. ما لون هذه النار؟ الروح القدس ـ النار مصدر كل خير ومحبة يضحي محبة الله الساكنة في هذا الإنسان. البرودة الروحية من الشيطان.
سفر أيوب من العهد القديم هو قصة تألم الرجل البار. يتوّهم البعض أن آلام الأتقياء أمر غريب. بولس الرسول علمنا أن كل الذين يعيشون بالتقوى يُضطهدون. الشيطان هو عدو الأبرار لا الأشرار. وهو مطمئن بصورة خاصة إلى وفاء الفاترين المتكاسلين المتقاعسين المائعين المخبولين … هؤلاء فاقدو النخوة والهمة والحميّة. سمّاهم يوحنا الإنجيلي في الرؤيا “الفاترين” (16:3).
فالحياة الروحية انصلاب مع المسيح، واشتراك في آلامه وقيامته ومجده.
الكنيسة تجلُّ العذراء والرسل أولاً. ثم تجلُّ الشهداء. والشهداء نوعان: نوع مات بحدِّ السيف ونوع يموت في النسك (كتابنا “الاعتراف والتحليل النفسي”). وليس النسك مهنة أهل البراري فقط. ففي قصص الرهبان علمانيون أذهلوا آباء البرية. أحدهم دبّاغ يمارس الصلاة الدائمة من الفجر حتى الرقاد. والثاني طرد الشيطان من إنسان مودع لدى أحد آباء البرية لطرده. مرَّ الفلاح بقرب الممسوس فهرب الشيطان. والثالثة ربة أسرة كبيرة لا فراغ لديها للذهاب إلى الكنيسة، فحوّلت بيتها إلى ليتورجيا وقربانة.
ليست القداسة وقفاً على أحد. هي لكل إنسان يحمل صليبه ويسير وراء يسوع ولو كان طفلاً يقع شهيداً. فالقديس كيريكوس (عيده في15/7) طفل مات شهيداً. عدو القداسة هو الرخاوة. بدون القداسة لا يرى أحد وجه الله (عبرانيين). واقتناء القداسة يتم بمعركة روحية لا بالتخمة والسرقة وباقي المفاسد.
في النهاية الحياة الروحية هي اشتراك في حياة الله (أف 7:2). الارتقاء من حمأة الأرض إلى حياة الله يتطلب خروجاً من المحدود إلى غير المحدود. هذا يعني تحوّلنا من بشر ترابيين إلى أناس ملائكيين. هذا التحوّل هو عمل الأبطال الأشاوس الذين امتلكوا الروح القدس وتألهوا. هم ظاهرياً في الجسد وداخلياً في السماء. لا يتم هذا إلاّ في نضال مرير بالروح القدس إذ ليس التحول ذهنياً فقط بل هو تحوّل كل الكيان.
الحياة الروحية حرب ضد الشياطين وكل قوى الشرّ (أف 6). والحرب هي الحرب. إنما حربنا روحية بأسلحة الروح القدس لا بالحديد والنار المادية. وهي حرب مستمرة ما دام المرء حياً. ولذلك فأعداء هذه الحرب هم الفرار من المعركة، التباطؤ، الكسل، التواني، الإهمال، التقاعس، المماطلة والتأجيل، التثاؤب، التوقف عن القتال، مهادنة الأهواء والشهوات، التساهل مع الأخطاء، الامتناع عن رؤية عيوبنا وذنوبنا وخطايانا، الكبت، إخفاء عيوبنا عمداً أو لا شعورياً. فالكبرياء تمنعنا من التدقيق في سلوكنا بمجهر الروح القدس. الروحاني محتاج دوماً إلى القديس أفرام ليتعلم الاعتراف بخطاياه.
حتى البشر الجيدون قد يكبتون الشعور بالذنب لئلا يشعروا بنقصان في فضيلتهم. لا فضيلة بدون اعترافات أفرام وأندراوس (القانون الكبير). أعظم القديسين هو الأعمق في الشعور بأنه مذنب، فيرتمي أرضاً بندامة عميقة وخشوع وتضرعات، وإلاّ كان مريضاً نفسياً.
الروحاني دوماً ذبيحة مثل بولس الرسول أُعِدَّ لها السكيب (تيموثاوس الثانية). يقرِّب نفسه لله كل لحظة بلا توانٍ. يقرِّب جسده وروحه، وأفكاره وأقواله، وحركاته وأعماله. فيها جميعاً يتجلىّ يسوع.
في النهاية الروحانية هي يسوع العايش في كل دقائق كياننا ليلاً ونهاراً. متى صار يسوع هو الكل في حياة إنسان ما صار هذا روحانياً.
إنها روحانية القلب الممتلئ من يسوع بالروح القدس لمجد الله الآب. آمين.
وهنا لا بدّ من ذكر دور المنـزل في توجيه المرء توجيهاً روحياً جيداً. الرسول بولس العظيم امتدح في أخصّ تلاميذه تيموثاوس نشأتَه الجيّدة على يدي أمه وجدّته ومعرفتَه الكتب المقدسة بفضلهما منذ سنّ باكرة، فصيَّرته حكيماً للخلاص بالإيمان بيسوع المسيح ربنا.
بولس يمتدح هذه النشأة. ولذلك نرفض رفضاً قاطعاً قول القائلين: إنه يجب عدم تعميد الأطفال لكي يختاروا هم في الكبر دينهم. لذلك أكرّر النصح بتنشئة الأطفال تنشئة دينية منذ الأشهر الأولى بعرض الأيقونات لأنظارهم، ورؤية أهلهم يرسمون الصليب ويقفون للصلاة، وتعميدهم باكراً، وتقديمهم إلى كأس القربان المقدس دائماً لترعرع يسوع فيهم منذ الأشهر الأولى.
الفصل العاشر
يوحنا السلّمي: أبو الفكر النسكي، وقطب تصوفي.
لا نعرف الشيء الكثير عن حياته. يقدِّر أهل الاختصاص أنه وُلِدَ في 578 ورقد في 649 بينما يقدر مايندروف أنه وُلِدَ في 580 ورقد في 650م. إذاً: في فترة شديدة الاضطراب في مشرقنا. كتب باليونانية ولكنه ليس يونانياً. هو من مشرقنا. لا نعرف اسم مسقط رأسه في سورية. صار رئيساً لدير سيناء التابع لبطريركية أورشليم لا الاسكندرية. لغة الكتاب اليونانية موجزة جداً. هي لغة الحِكَم والخواطر للحفظ غيباً لا لغة البحث المنهجي. في أيامه صار القديس صفرونيوس الدمشقي بطريركاً على أورشليم (634 ـ 11/3/638). وهو معاصر وصديق لقطب الأرثوذكسية القديس مكسيموس المعترف المولود في الجولان (580 ـ 682). وإن كان لا يستحسن أن ينصرف الراهب إلى الدراسات إلاّ أنه مطلع على آباء الكنيسة وآباء البراري، وعلى مذهب صديقه مكسيموس في الطبيعتين والمشيئتين والفعلين. وهو أيضاً معاصر نسبياً للقديس اسحق أسقف نينوى (الفرات) الراقد في أواخر القرن السابع. هؤلاء هم مشاهير الكنيسة في القرن السابع. تتلاقى كتاباتهم، إلا أن مكسيموس عسير جداً جداً.
كتاب السلَّم يتضمن 30 مقالة أو درجة. إلاّ أن التفاصيل والاستطرادات تحت كل درجة تبلغ المئات أحياناً. فمثلاً: المرشد الروحي. الأمر مطروح في مقالات عديدة. وكذلك التواضع والطاعة والعفة وو… لذلك ليس الكتاب للمطالعة في أيام معدودات. هو دليل عملي للراهب في حياته اليومية. وهو في الدرجة الأولى كتاب في حركات أهواء النفس ينفع عن طريق مطالعته باستمرار وبإمعان شديد في التدرّب على حرب الأهواء.
طابعه نسكي جداً. ولكنه لا يخلو من شذرات صوفيّة mystique عالية النبرة في الصلاة، وعدم الهوى، والعشق الإلهي، والاستنارة وو…
صار الكتاب كلاسيكياً في العالم الأرثوذكسي. تأثر به القديس ثيئوذوروس الاستوديتي. أما القديس سمعان اللاهوتي الجديد فمال إلى التصوف. بالاماس معتدل، إنما عاد بقوة إلى المتصوفين الكبار: النيصصي ومكاريوس المنحول (غالباً سمعان من منطقة الفرات) وديونيسيوس الأريوباغي المنحول (500 ـ 510 م) الذي لا نعرف من أي بلد هو، من بلاد الشام قد نشأ. ثم مكسيموس المعترف. يبقى التراث واحداً.
لا شك أن يوحنا عالمُ نفسٍ كبير. لديه تحليلات ونظرات تشبه فرويد. مثلاً ينصح الراهب بألا يبدّل أباه الروحي. (94:4 و…). هذا مبدأ في التحليل النفسي. اكتشف عجز الهادئين والوديعين والعفيفين والبسطاء بالطبيعة عن التقدم الروحي. لم يستطع تحليل الأمر لأنه يحتاج إلى تحليل نفس معاصر. سبق لنا أن عالجنا الأمر في كتابنا “معنا هو الله فانهزموا” (ص86-97).
يوحنا السلّمي صاحب رؤية صراعية في الحياة. هؤلاء البسطاء والهادئون والودعاء والعفيفون بالطبيعة لا يجاهدون، ليسوا رجال حرب ضد الأهواء. تعذّر عليه فهمهم. على ضوء التحليل النفسي المعاصر نفهم وضعهم: في الطفولة الباكرة تسلّط أحد الأبوين على الولد فغارت في الرمال الطاقةُ الحيوية الضرورية للكفاح… غارت القوةُ الغضبية. بدون قدرة على الغضب يضحي الطفل وديعاً هادئاً بسيطاً عفيفاً… ليس في ساحة وعيه صراعٌ بين ضميره وفروع الغضب، الاحتداد، الحدّة، الحسد، الغيرة، نزوات إلى الإيذاء والتحطيم وو… السلّمي يفضّل الناس الذين يصارعون الشياطين وأهواءهم حتى النصر المبين. تكثر لديه ألفاظ “المصارعة، الكفاح، السلاح، الحرب، الحلبة، الجندي، السيف، الدرع، الترس، الخوذة، التسلّح، سهام الشيطان…” بولس الرسول استعمل مثل ذلك وبخاصة في الفصل 7 من رسالته إلى أفسس حيث قال أيضاً: “وسهام الشرير الملتهبة” (16). فالحياة الروحية لديه حرب لزرع الفضائل مكان الرذائل. القوى فيها مختلفة الأطوار بحسب تقلبات المعركة. في التحليل النفسي الطرح مشابه: صراع (Otto Fenichel) في اللاشعور بين ما يسميه المحللون “فوق الأنا” والـ”هو”.
إذاً: الروحانية الأرثوذكسية تقوم على جهود جبارة. السلمي يعتبرها حرباً خطيرة لأن أعداءنا الشياطين لا ينامون. ويعتبر سقوط الإنسان أسهل جداً من توبة المتمرغ في الإثم.
في النهاية لا يمكن في عجالة عرضُ كل الكتاب. سأقدم تحليلاً لأهم قواعد النسك في الكتاب كمدخل إلى مقاصد النسك الرهباني الأرثوذكسي. ونظراً لصعوبة إنشاء الكتاب، سألجأ إلى أسلوب خاصّ سهل المنال ليقرّب الموضوع من أفهام الناس ويجعله شائقاً للحريصين على استيعاب الموضوع.
النسك المسيحي علاج لسقوط الطبيعة البشرية. قال مكسيموس المعترف: تمزقت طبيعتنا إلى ألف قطعة. وجاء في”أمسية في جبل آثوس” أنها مثل مرآة سقطت أرضاً فتهشمَّتْ.
في سفر التكوين بدت الثمرة المحرمة شهية للنظر وطيبة المذاق. اندست الشهوة واللذة إلى حواسنا. اختلّ توازننا. عجزنا عن السيطرة على النفس وضبطها ضمن الحدود المعقولة. اندسّ إلينا سوء الاستعمال. لم نعد نملك القدرة العقلية والإرادية والعاطفية على حصر أنفسنا ضمن السلوك السليم لطبيعتنا الفردوسية البريئة من الانحرافات. فُقدت الحالة السويَّة. محلل نفسي كبير كتب في 1956: الحالة السوية normalité مفقودة. وإن وُجدت، كانت حالة مرضية محتاجة إلى التطبيب.
لنضرب مثلاً على ذلك الشراهة وتعاطي المسكرات وما أشبهها. ليس من أم في العالم قادرة عقلياً ونفسياً وعاطفياً وروحياً على ضبط الرضاعة وتغذية الطفل واستعمال “المصاصة” له وفطامه بصورة مثالية لأن الأم ساقطة والطفل ساقط. يرضع بشراهة. يُفطم فيُصدم. تنشأ لديه ألوان من الهوس. يودّ لمس كل شيء ووضعه في فمه. نظره حادّ. حواسه أقوى من عقله البدني غير المنطقي. باختصار: أساس ألوان الهوس قائم في عيوب عهد الطفولة.
أهداف النسك الرهباني
إن أردنا وصف الحياة اليومية لعامة الناس، فما الحصاد؟
الناس مهتمون بنسائهم (أو النساء برجالهنَّ) وأولادهم وأهلهم وصحبهم، ورفاهيتهم في الطعام والشراب والكساء والمسكن، وكسبهم المشروع (أو غير المشروع) بطمع لا يعرف الحدود. بلهوهم، بتسلياتهم، بملذاتهم، بهواياتهم، بأطماعهم، بمحاسداتهم، بمكايدهم، بحقدهم، بتنافسهم في العمل والوجاهة والسلطة، بحب الرئاسة، بالنجاسات المتنوعة، بالثرثرة، بالنميمة، بالوشاية، بالعدوان… يقضون يومهم في هموم الدنيا وأفكارهم جحيم. عدوهم اللدود هو ذكر الموت.
الراهب الروحاني يقمع هذه الأشياء جميعاً:
1- يقمع أفكاره واهتماماته، بذكر اسم يسوع وذكر الموت والعذاب الأبدي. وضبط شرود الأفكار أمر عسير اعترف به السلمي والدمشقي وكاسيانوس وسواهما. ففكرنا متموج لا يستقرّ أبداّ، يتنقل مثل رمال الصحراء وسط هبوب الرياح العاتية العاصفة.
2- يلجم لسانه عن كل كلمة سوء أو بذاءة. ومن يستطيع أن يلجم لسانه، هذه الجحيم التي وصفها يعقوب الرسول أحسن وصف؟
3- يقمع جسده فيتعفف في الطعام والشراب والملبس والمسكن والهوايات محارباً الشهوات الجسدية جميعاً.
4- يقمع أهواءه جميعاً. فلا يتعلق بالأهل والصحب وإرادته الذاتية ولا بشيء آخر، حتى بنفسه.
5- يزرع الفضائل مكان الرذائل. أي يحوّل أهواءه.
6- بعبارة عامة يحوّل تعلقاته جميعاً إلى عشق لله. مثل أسد يتضوّر جوعاً، يتضوّر هو جوعاً إلى الله. مثل العاشق المجنون يهيم بالله. مثل المتكالب على المال والمقتنيات بشراسة الوحوش الضارية، يتوق إلى الله. مثل الهواة المغامرين الانتحاريين والمقامرين المهووسين يلهث إلى الله.
هذه التحوّلات مستحيلة بدون النعمة الإلهية والبطولة الإيمانية. الرخاوة عقم.
في القرن العشرين سمعنا وما زلنا نسمع بشراسات بشرية تفوق شراسات النمر بألوف الأضعاف.
هذه الشراسة التي اغتالت في القرن العشرين مائة وعشرة ملايين إنسان تتحوّل لدى الراهب المناضل إلى بطولة في مقاومة الرذائل واقتناء الفضائل حتى الامتلاء من الروح القدس.
“خلاصك بيدك، يا اسرائيل”. خلاصي هو بيدي. إن شئت صرتُ خزياً وإن… كل الأعذار مرفوضة. أعرف أني سأرقد في قبر فينحلّ جسدي إلى تراب لتذهب روحي إما إلى الفردوس وإما إلى الجحيم (يوحنا السلمي 107:26). إن أَمَتُّ جسدي بالنسك ربحَتْ روحي الفردوس. إذاً: فليمُتْ جسدي لتحيا روحي.
أنا أعلم أن الجهاد مرير إنما أعلم أيضاً أن الروح القدس يقوده والملائكة والقديسين يدعمونه ويرعونه ويراقبونه. السلمي قال إن الله أقام لنا ملاكاً حارساً يوم اعتمدنا. لسنا وحدنا في المعركة. الكنيسة جسد المسيح الحامل الروح القدس بأعضائها وما فيها من قوى إلهية ومواهب وصلوات تدعم جهاد المجاهدين. لا يدع يسوعُ عاشقيه يسقطون ما داموا بأهدابه متمسكين. فالناسك شهيد كل لحظة كما قال الآباء. ونحن للشهداء عاشقون وللرخاوة والجبن والانهزامية كارهون. العيش الكريم الحر السماوي السمات للأبطال لا للأوغاد. أرخص ما يقدمه الناسك ليسوع هو أعراقه وأسهاره ودمه.
ولكن عملية تحويل رغبات الإنسان وأهوائه وشهواته وتعلقاته وأشواقه وطاقاته عملية شاقة جداً. يسوع أوصى بقلع العين المُعِثرة وقطع اليد المُعِثرة. يتم القلع بمخرز والقطع بمنشار كهربائي على يد الأطباء. الأمر اليومَ يتم بفن طبي راقٍ. ولكن إن قمتُ أنا نفسي بذلك احتاج الأمر إلى قوة خارقة. القلع هنا والقطع هنا عملان إراديان جباران.
لا بد من طبيب ماهر جداً خبير بالنفس البشرية. إنه المرشد الروحي. كاسيانوس خصَّ التمييز بفصل جيد. يوحنا السلمي خصّه بفصلين شاسعين يقطران حكمةً وفهماً. وسيلتا المرشد الممتازتان هما:
أـ صراحة الراهب المطلقة المتواصلة بلا انقطاع حتى يصير صفحة بيضاء لدى مرشده.
ب ـ طاعة الراهب المطلقة.
جرّب الشيطان دوروثيئوس غزة فاتخذ قراراً: لا اعتبر رأيي صائباً حتى يوافق عليه أبي الروحي. ليست الطاعة للاستعباد بل لخنق الكبرياء وقساوة القلب وفتور الهمة والتململ في الخدمة ولقتل الإرادة الذاتية والتشبثِ بالرأي الشخصي و”الرأس اليابس” وروح المشاكسة والمماحكة والمعاندةِ والتمردِ والعصيانِ. الطاعة التامة تجعل الراهب طريّاً ليّن العريكة مرِناً سهل الانقياد. تجعله ذهباً محميّاً بالنار قابلاً لكل قولبة مقصودة. تحطم النفس “العجرة”. الاعتراف المتواصل الصريح والطاعة المطلقة يجعلان الراهب كالذهب المحميّ الذي يسهِّل على الصائغ صوغه كيفما شاء. من ناحية التحليل النفسي هذا يخلّص الراهب من التضاد ambivalence ويجعله منفتحاً على الغير ومحباً وجاهزاً للخدمة الأخوية بطيبة خاطر تامة. يصير الراهب جاهزاً للشركة التامة. له رأس مدبّر يلقي همومه عليه. بدلاً من تعايش الحب والكراهية في لاشعوره يصفو لاشعوره للحب وتتحوّل طاقات الكراهية إلى دعم الحب. فعندما يتطهّر اللاشعور من نزوات الغضب والعدوان، والحسد والغيرة والكراهية، والرغبة في الإيذاء والانتقام، ومن مشاعر الانفصال والتحسُّس، تتحوّل الطاقاتُ المحرَّرة إلى قوة هائلة تدعم عاطفة الحب. أي الطاقات المهدورة سلفاً تُنفق الآن إيجاباً.
على ضوء التحليل النفسي المعاصر صرنا نقدّر تقديراً عالياً الاعتراف الرهباني. كما يجلو الأولُ نفسَ المريض نفسياً يجلو الاعترافُ الرهباني نفس الراهب. الصراحة المطلقة تجعله بلّوراً. يتعلم الصدقَ المطلق والعتابَ الأخوي الفوري بدلاً من سوء الظن وسوء التأويل. تسقط الحسّاسيةُ المفرطة وسرعة الانفعال ويزول التناقض بين الفكر واللسان…
مسألة التضاد أي تواجد الحب والكراهية في اللاشعور أخطر مشكلة تواجه الأم والمربين. كيف نساعد الطفل بالتدريج لكي يتخلّص من غيرته وحسده وعدوانيته، ويصير محباً لطيفاً أنيساً خيّراً رحيماً عطوفاً؟ العدوانية شراسة. الأم والمربون يحوِّلونها شيئاً فشيئاً نحو السخاء والعناية بأهل البيت والصحب، والخدمة المنزلية، واللعب باعتدال، وأنواع من العمل المؤآتية لعمره، وأعمالِ البناء الصغيرة للتسلية في الحقل، والسباحة، وأحكام الأخوة وو… والمهم جداً تعويده بتدرج كبير على الاعتدال في طلباته، والتمرس بطول البال، والصبر، والتأني، وتلطيف حالات غضبه وتشجيعه باكراً على حب المدرسة والدراسة و… وإن بدا عدوانياً فالسماح له بتمزيق الجرائد، ونشر أعواد الخشب، وحفر الأرض، وتكسير اللوز والبندق والجوز والحجارة وو… المهم هو الانتباه إلى لبّ هذه الملاحظات والتوسُّع في التدريبات…
ولله درّ السلمي: أدرك خطر العوائد الرديئة السابقة التي تعوق الراهب في سعيه للتخلّص منها. هذه العوائد نكتسبها بسبب أخطاء الأهل أو المجتمع أو سوء تربيتنا وسلوكنا. فالراهب يسعى لكي يصل إلى حالة عدم الهوى. يعرّفها السلمي تعريفاً رائعاً: هي صيرورة الفضائل طبيعةً ثانية. أرسطو قال: العادة طبيعة ثانية. متى صارت الفضائل طبيعة ثانية؟ عنى ذلك أن الأهواء تحوّلت وحلَّت الفضائل محلَّ الرذائل. فصاحب الماضي التعيس يكدُّ جداً في حربه ضد الرذائل التي صارت لديه طبيعة ثانية.
ويتساءل كثيرون لماذا الرهبنة وعناؤها؟ في عظة للشهيد الخوري حبيب خشه في أيار 1947 الجواب الشافي: “الرهبان هم أسلاك تلفونية تصلنا بالسماء”.
لو كان في سدوم وعمورة 10 أبرار لما أحرقها الله. والآن صلوات الرهبان الأماجد تحمي المسكونة من الطوفان والنار.
متى زرعنا ديراً زرعنا منحلة لتنشق روائح الروح القدس ونشرها في محيطها. في الثلاثينات في أحد كتب التاريخ الفرنسي لمؤلفه Aimond جاء أن ثلث القرى الفرنسية نشأ إلى جوار الأديرة. أما روسيا فهي بنت الأديرة والرهبان. وشكراً لقداسة البطريرك أليكسي الثاني ولغبطة رئيس أساقفة أثينا لتدخلهما لدى البرلمان الأوروبي ليزيد في دستوره عبارة “الإرث الديني” في تكوين أوروبا الضائعة الشاردة الضالة.
فالرهبان كانوا منارات منذ نشأتهم في القرن الرابع. انطونيوس الكبير قلعة شامخة مهما تمادى الزمن. وكان لهم في القرن الرابع دور تبشيري في مهود الرهبانية (مصر وفلسطين وسوريا وبلاد ما بين النهرين)[6].
وفي القرن 19 كان دير أوبتينو في روسيا منارة إشعاعاً روحياً وثقافياً يرتاده اللاهوتيون والفلاسفة وكبار الأدباء (تولستوي، دوستويفسكي، غوغول …)
وفي اليونان أسَّس الأب البار شيروفيم دير المعزي فصار الدير منارة روحية في المنطقة. ولما رقد سارت النساء في مظاهرة لحضور الجناز. فالدير لا يسمح بدخول النساء إليه. فاضطر خليفته الأب البار اغناطيوس أن يسمح لهنَّ بالدخول لتقبيل يمين الراقد منتظمات في صفوف نظامية طويلة. وعندنا تقتنص الأديرة الشعب للعبادة والتقوى والإرشاد الروحي بعد قحط استمرَّ عقوداً.
فالرهبنات هي قلب الأرثوذكسية والكثلكة النابض. وكبار اللاهوتيين رهبان: باسيليوس الكبير، غريغوريوس اللاهوتي، يوحنا فم الذهب، ثيئوذوريتوس، صفرونيوس، مكسيموس، يوحنا الدمشقي، سمعان اللاهوتي الجديد، غريغوريوس بالاماس… تيوفانيس الحبيس الروسي…
ماذا بعد حالة عدم الهوى؟
الذي يبلغ حالة عدم الهوى يكون قد انتصر على الأهواء وزرع مكانها الفضائل وما هي الفضيلة الكبرى في الفصل 13 من كورنثوس الأولى؟ إنها المحبة. تبلغ المحبة هنا درجة عليا. يصبح معها كل تعَلّق الإنسان محصوراً بالله. هذا العشق يطرد عشق الجسد والعالم (17:30…) ويصبح لظى نار (نشيد الأناشيد). السلمي قال: “لقد جرحتِني يا محبة!” (36:30). واستعمل في الفصل نفسه “نار” و”سهام نار” للمحبة. غريغوريوس النيصصي أخو باسيليوس استعمل عبارة سهام يرشق بها يسوع محبيه. وفي المحبة يتم الاتحاد بالله بفضل الروح القدس الذي يطهّرنا وينيرنا.
الشراهة تستقطب هموم صاحبها منجرفة. لذة الطعام تستعبده. يخسر السلطة على ذاته. ينفق طاقة كبيرة في هواه هذا. يضحي ضحية لعقدة نفسية خطيرة سادية ـ مازوكية. يخرِّب روحه ونفسه وجسده دون قدرة على ضبط نفسه. إذاً: الهوس ينطوي على سادية ضد نفس مازوكية.
كبار المدخنين ومتعاطي المخدرات والمقامرون ومدمنو الخمر والقهوة والشاي وسوى ذلك: انتحاريون. الشهوة واللذة الكاذبة اتحدتا بنزعة سادية لإتلاف الذات. المنتحر سادي كبير جداً ولكن ضد نفسه لا ضد غيره. حاولت دراسة نفسية المنتحرين بالخمر. هدَّدني أحدهم بالقضاء علي. افتضحت ساديته. مكسيموس المعترف اعتبر “الأثرة” أُمّاً للأهواء. حاول يوحنا السلمي دراسة أمر توالد الفضائل والرذائل الواحدة من الأخرى فذكر توالد الرذائل في (33:26 و39-48 و…) وتوالد الفضائل في (49:26و143…).
ولديه نصّ ممتاز في اندساس الرذائل إلى الفضائل (58:26).
الكبرياء أميرة الأهواء (62:26). ولكن النار الإلهية قد تستأصل الأهواء وتطهّر النفس (63:26).
ويعدّد درجات الدموع وأنواعها بحكمة بالغة (142:26).
في 50:26 يعتبر اللذة والخبث والدَي كل الشرور. ولا يجدي طرح اللذة نفعاً ما لم نطرح الخبث معها.
مكسيموس يعتبر “الأثرة” (نوع من حب الذات) أُمَّ الأهواء. ويذكر اللذة والألم. اللذة ترافق الرضاعة والطعام وألوان الهوس والعهر… الخبث التواء النفس. الرب يسوع اعتبر الرياء خمير الفريسيين: الخبث، الرياء، الكذب، الالتواء، التزوير، الافتراء، النميمة، الوشاية، الاحتيال، السرقة… انحرافات عن الاستقامة والحق.
المسألة جديدة بدراسة عميقة. ولكن الأمر يحتاج إلى مكسيموس جديد يعيش في القرن 21 أو يوحنا سلمي جديد.
باختصار: قراءة القانون الكبير (لاندراوس الدمشقي أسقف كريت) وأفرام والمطالبسي وما إليها. تعطي صورة قاتمة عن الطبيعة البشرية الساقطة.
ولكن تجسّد ربنا يسوع وآلامه وصلبه وقيامته فتحت لنا أبواب السماء، فصرنا بالنسك الممزوج بالروح القدس ودم المسيح قادرين على عيش سماوي.
نبلغ السماء قبل رقادنا. إنها السماء على الأرض. وللسلمي ملاحظة هامة في طبيعة النفس وأهوائها[7]: “ليس في طبيعتنا رذيلة أو هوى في الأصل، لأنّ الله لم يخلق الأهواء، بل أوجد فينا فضائل طبيعية كثيرة. ومنها بدون شك: الرحمة… المحبة لأن البهائم العديمة النطق كثيراً ما تذرف الدموع على فراق رفيقاتها، ثم الإيمان…، ثم الرجاء… فإن كانت المحبة فضيلة طبيعية فينا، وهي “رباط الشريعة وكمالها” (أف3:4 وكول14:3 ورو10:13) فالفضائل ليست بعيدة عن طبيعتنا”. فلا عذر للمتخاذلين “عن اكتسابها” (67:26).
ثم يعدّد بعض الفضائل الفائقة الطبيعة: الطهارة، وعدم الغضب، والتواضع، والصلاة، والسهر، والصوم، ونخس القلب المتواصل. يعلمنا الناس بعضها، والملائكة البعض الآخر، والكلمة الرب يسوع الباقي ويعطينا إياه (68:26).
وهنا ترد الملاحظة رائعة تفسّر قول القديس غريغوريوس اللاهوتي في اختيار أهون الشَّرين: علينا أحياناً أن نزن الأمور بميزان دقيق. مبدئياً لا نردّ طلباً تقدم به أحد الأخوة (74:26) ولكن إن كان طلبه يُحرج ضميرنا نرفض طلبه. وقد يقع التعارض بين الصلاة والمحبة. آنذاك نترك الصلاة من أجل المحبة لأن المحبة أفضل من الصلاة. هذه وصية جزئية، أما المحبة فتشمل الفضائل كافة ولا تتعارض معها (69:26) والأمر يعرض كثيراً: فقد يقدم الناس لزوارهم في الصوم حلويات بالسمن أو البيض. مبدئياً، الصائم يكتم صومه لئلا يكون مثل الفريسيين، فيأكل ما قدِّم إليه. ولكن هل نسلم من ألسنة الناس؟ إن أكلنا أشاعوا أننا لا نصوم. وإن قلنا: “نحن صائمون”، ألحّوا علينا لقطع الصوم ولو مرة واحدة… الأفضل هو تقديم مآكل الصوم في الصوم.
الصلاة
الصلاة هي أم الفضائل. السلمي أوصى بربط صلاة يسوع بالتنفس. هذا يعني أن تلازمنا مثل تنفسنا أي في كل لحظة. هي التي تجعل الروح القدس يسكن في ذهننا وقلبنا. بالاماس قال إنه علينا أن نتجاوز أنفسنا لنتحد بالله في الروح القدس. النعمة الإلهية لديه أبعد من الفضائل والطبيعة وكل شيء. هي التي تجعلنا نمتلئ من الروح القدس ونوره.
وطلب السلمي أن نجلد الشيطان ونكويه بصلاة يسوع. تصبح الحياة صلاة. ولكن ذلك يحتاج إلى اليقظة وحراسة القلب. فالشطيان غدّار كبير.
ويقول السلمي إن المحبة والمعرفة في الآخرة تستمر في ازدياد للأبد. هذا هو رأي القديس غريغوريوس النيصصي.
فالسلمي وإن كان ضد انصراف الراهب إلى الدراسات، يعرف الآباء. ورسالتا القديسين برصنوفيوس ويوحنا (غزة، القرن 6) 600 و602 تدلّ على أنهما كانا يعرفان الآباء. الدمشقي ومكسيموس وبالاماس رهبان ولاهوتيون.
من الأبواب الواسعة في كتاب السلمي المقالات: 4 (الطاعة) و5 (التوبة) و26 (التمييز) ورسالة إلى الراعي. هذا إلى جانب تركيزه في مواضيع عديدة على التواضع والعفة.
التوبة هي العمود الفقري في حياة الراهب. في الموعظة على الجبل في التطويبات، اللفظة اليونانية المستعملة هي مشتقة من “الحداد”: “طوبى للحادّين فإنهم سيعزون” (متى4:5).
في آخر المقالة السلمي في هذا الخط الذي أولاه مكسيموس المعترف أهمية بالغة: الراهب هو دوماً في حالة حداد على خطاياه.
الطاعة هي طعام الراهب وشرابه. أما الأب الروحي فهو كموسى حيناً وكملاك حيناً أخرى (المقالة الأولى). ويجب أن يكون قد بلغ حالة عدم الهوى (الراعي 15 و21). المقالة 29 تتعلق بحالة عدم الهوى. تسبق المقالة 30 المتعلقة بالإيمان والمحبة والرجاء.
فما هو عدم الهوى هذا المطلوب في الأب الروحي؟ عنوان المقالة المسحوب من إحدى فقراتها هو “في اللاهوى وهو الكمال المتشبّه بالله، وقيامة النفس قبل القيامة العامة”. هو السماء على الأرض. إنه معرفة الله. والعفة هي عدم الهوى أيضاً لأنها مقدمة القيامة العامة، وبداية عدم الفساد ولمن كانوا فاسدين[8]. ومن بلغ حالة عدم الهوى صارت الفضائل لديه طبيعة ثانية، وصار مسكناً ليسوع، وصار الله ملهمَه وقائدَه. وقد نزل ذهنه في قلبه… (راجع المقالة 29).
في المقالة 65:26 في بعض الطبعات قال السلمي: يستحيل أن يصير جميع الناس عديمي الهوى ولكن ليس من المستحيل أن يخلص جميع الناس ويتصالحوا مع الله. هذه صورة جيدة من اعتدال السلمي.
إن كان الأمر كذلك فالأبوة الروحية الحقيقية وقفٌ على آباء في مستوى رهبان جبل آثوس.
المسألة مسألة تمرّس في دير على أرفع مستوى من التدريب الرهباني والعيش الكمالي. القديس غريغوريوس اللاهوتي قال في الإرشاد الروحي إنه علم العلوم وفن الفنون. أما السلّمي المتأثر به فسمّى الأطباء الروحيين “رجال فن” تطبيب المرضى روحياً القادمين إلى المستشفى أي إلى الدير (103:26).
أما التمييز بين الأرواح لمعرفة الخيّر منها من الشرير فهو موهبة من مواهب الروح القدس في رسالة يوحنا الأولى.
في نهاية المقالة 26 ترك لنا السلمي ملخصاً رائعاً وسهلاً لما سبق مطالعته كله.
السلمي يلحّ على ضرورة الحميّة للرهبان المبتدئين. إجمالاً يرى أن القادمين إلى الأديرة في أيامه هم إمّا مرضى روحيون يسألون عن العلاج لدى الأطباء في المشافي (أي الأديرة) أو خاطئون كبار مثل ايسيذوروس المذكور في الكتاب، وسواه القادمون لدينونة أنفسهم على جرائمهم. ايسيذوروس نموذج ممتاز: عرض منذ البداية أن يكون حديداً محمَّى بين يدي مرشده ليصنع منه ما يشاء. السلمي يطالب بهذه الجاهزية: حميّة، بطولة، ثقة مطلقة، تجنب التكلّف والتصنّع والرياء، واعتراف صريح مطلق بالخطايا. بعض الآباء كانوا يطلبون تدوين الخطايا في لوحات للاعتراف بها. الاعتراف يخلع الحية من القلب (باسيليوس، كاسيانوس، السلمي). ويذكر السلمي أن ذلك يعود على المبتدئ بالقوة النفسية. حتى في التحليل النفسي، الأمر وارد. المريض يُسقط أموره على المحلل. يتخلص من السلبيات. تتحررّ طاقاته المهدورة فتندمج بشخصيته. يتقمّص طبيبَه. هنا يتحرر الراهب من سلبياته. يتعلق بمرشده بمحبة طاهرة. يتقمص شخصيته الحكيمة الرصينة البريئة من الأهواء: يلمع. ويجعل التواضع والبساطة والوداعة فائقي الأهمية. طبعاً الصوم لديه هام جداً.
إجمالاً الكتاب يستعرض الرذائل ويصف الوسائل اللازمة لمحاربتها وزرع الفضائل مكانها. وليس تجنّب الرذائل عمل الراهب فقط بل هو عمل كل الناس ليصبحوا أفاضل وينالوا الملكوت السماوي.
والسلمي لا يفصل النسك عن الصلاة الطاهرة. واستوعب أحد خلفائه في سيناء لبّ الموضوع فانشأ كتاباً من مئتي فقرة ركزّ فيه على الصلاة واليقظة فقلّده في القرن 13-14 في جبل آثوس القديس نيكيفورس المتوحد. ولا يتسع الكتاب لمختارات آبائية في الصلاة، فالأمر مطروق مطولاً في الفيلوكاليا.
إجمالاً من كل كتاب السلّم إلى الله نستنتج:
1ـ إن الشعور بالذنب هو المحرّك الأكبر لشعورنا بالحاجة الدائمة إلى التوبة الحارة والدموع الساخنة. وإن اقتنى المرء أي درجة كانت من درجات الطهارة، أو إن كان قد ارتقى كل سلّم الفضائل فعليه أن لا ينام على حرير الثقة، وعليه أن يصلي من أجل غفران خطاياه.
2ـ يركزّ كاسيانوس والسلمي على خطر العجب بالذات والمجد الباطل والكبرياء. الشيطان يندسّ بواسطتها ليخدعنا بمئات الوجوه فنكظم الشعور بالذنب لنفتخر بشيء ما فنصير مثل الفريسيين مقتدين ببرِّنا الذاتي (لوقا 9:18).
3ـ زرع الفضائل مكان الرذائل حتى تصير الفضائل طبيعة ثانية. أي بتعبير التحليل النفسي أن تتحوّل كل طاقات المرء إلى الخير، إلى العشق الإلهي الكامل في نهاية المطاف.
4ـ أن يختمر المرء بالصلاة الدائمة. فالصلاة حوار مع الله ينتهي لدى الكاملين بنزول الله في القلب كنور وفي سواهم كنار. يحلّ غير الجسماني، أي الله، في قلب الجسماني.
الفصل الحادي عشر
عيوب الطباع
عيوب الطباع ونقائص الإنسان كانت موضوعاً هاماً في تراثنا المشرقي: أفرام، الذهبي، يوحنا السلمي، مكسيموس المعترف، اسحق النينوي[9]، اندراوس الدمشقي أسقف كريت… فالإنسان لديهم ملوّث جداً بالخطايا، والذنوب، والهفوات، والعيوب، والعاهات…
فكيف يمكن إصلاحه بدون الاعتراف والطاعة؟ يسوع علّمنا أن نقلع العين ونقطع اليد والرِجل اللواتي يُعثرننا. هذا يتطلب بطولة القادة العسكريين الأشاوس. بولس كان يقمع جسده. والقمع يحتاج إلى إرادة فولاذية.
وهذا كله يتطلب قدرة هائلة على التنفيذ فوراً بلا إبطاء. بالطاعة يعود الراهب إذاً رجل حرب جبّاراً لا عبداً ذليلاً.
بالاعتراف والطاعة يصير مطواعاً كالطفل لا يشيخ ولو بلغ الثمانين من العمر. يعود نضراً ما طال العمر. وينفتح على الغير فتسقط سلبيات لا شعوره. ويضحي ذا جاهزية كبيرة لكل عمل صالح ومحبة أخوية. هو دوماً على أهبة الاستعداد. فعلى ضوء التحليل النفسي نفهم أهمية ذلك لخلاصه من التضاد اللاشعوري أي ambivalence. تتفتَّتُ المشاعر العدوانية والغيرة والحسد. يصير إيجابياً.
بولس الرسول نصحنا بأن لا نطيع الجسد في شهواته. فكم نحن بحاجة إلى إرادة قوية! إذاً: التراث النسكي الأرثوذكسي لا يهمل الإرادة البشرية بل يوليها أهمية كبرى، لأن الراهب جاهز للتنفيذ بسرعة البرق. هو صاروخ تنفيذ فوري. وهل ننسى مكسيموس بطل تحليل الإرادة الحرة؟ هو عدو أكبر للاستسلام والسبحانية والعشوائية وو…
في التحليل النفسي تتحرّر طاقات النفس من المعوقات، فتندمج بشخصية المريض، فينسجم مع الحياة ومع المجتمع.
في الطب الروحي يزول الشقاق بين قوى النفس العاقلة والغضبية والشهوانية، فتتحد قوى الإنسان وشخصيته، وتصفو فيه الصورة الإلهية (مكسيموس). يصير المرء بيتاً من بلور يتراءى يسوعُ من كل جنباته.
مرّ معنا أن الروحاني يحوّل أهواءه، على موجب كلام مكسيوس. قواه العقلية تتأله فيصير فكره إلهياً. وقواه الغضبية تتحول إلى بنزين الفضائل، والوداعة وسعة الصدر، والصبر والتحمّل. وقواه الشهوانية تتحوّل إلى العشق الإلهي بدلاً من عشق الأجساد والمواد، والهيام بأي أمر من الأمور[10]. فالمقامر مثلاً عاشق مهووس.
العملية شاقة. التوبة النارية من كل الكيان، والطاعة، والاعتراف، وسائل ناجحة. ولكن، لا بدّ في أيامنا من إخراج المرء من تحصّنه بدرع الحسَّاسية، ودرعِ شعوره بذاته. هذا الدرع ثخين بصورة خاصة لدى العذارى اللواتي تجاوزن الثلاثين من العمر. ولا بد أيضاً من تركيز دائم عليه منذ البداية ليفهم الراهب أنه يرتدي عدواً رهيباً لا ينهزم إلا بالتعوّد على الاغتباط بالنقد والملاحظات وحتى التوبيخات والعقوبات، فلا ينفعل. حضارة العصر جعلت الناس شديدي الحسَّاسية.
لا تدليل في الرهبنة لأنه يميّع الروح وصلابتها. والنسك نفسه يضغط على الأعصاب، فلا تختفي 100٪ “النرفوزية” الخفيّة، والحساسية الرقيقة. الراهب الصاعد إلى العلاء يبني بيته بحكمة واعتدال، لأن التطرف هوى وجموح لا فضيلة تامة. إن طار العصفور قبل الأوان سقط من عشه ومات. الله والطبيب الروحي كفيلان بنجاحنا وخلاصنا.
الجهاد الروحي حرب روحية لها قواعدها الفنية. والحرب مهنةُ أبطال مدرَّبين لا أغرار سذَّج. الروح القدس هو القائد الأعلى. ولكن النشاط البشري مهمّ في المعركة. نحن نؤمن بتعاون النعمة الإلهية والإرادة البشرية. لسنا من أهل المشيئة الواحدة بل من أهل المشيئتين والفعلين والطبيعتين.
ولذلك فعدوّ الحرب هو الرخاوة. وفي أيامنا الرفاهية والبذخ والتدّلل وسواها ترخي العزائم. وظروف الحياة القاهرة تربك الناس. أذاعت مرة راديو مونتي كارلو أن نصف الفرنسيين يشكو الشقيقة والحساسية ووجع الظهر لأسباب نفسية. وكتبت مجلة فرنسية إحصائية بالمبالغ الضخمة التي ينفقها الفرنسيون على الأدوية المهدّئة للأعصاب.
ذكرنا الرفاهية والبذخ والتدليل. من مساوئ هذه التربية الفاسدة: الفردية، والأنانية، والأثرة، والغطرسة، والغموض، والانغلاق، وانعدام الصراحة والمواجهة، فضلاً عن الكذب الذي هو في بلادنا طبيعة ثانية راسخة. فالشكوى من انعدام المحبة والتعاضد عامة. قالت لي سيدة: لماذا ليس في البلد مَن يحبّ غيره؟ فضلاً عن ذلك هناك عدوانية دفينة تتضح في الذمّ بالناس، والطعن فيهم، والوشاية بهم، والافتراء عليهم، وسوء الظن بهم، وتلفيق الأخبار عنهم، والشماتة بمصائبهم، والكذب في نقل أخبارهم، وإيقاع الفتنة بين الناس، و… ويعتذر البعض عن تناول القربان بحجة سوء علاقة مع أحدهم. ولدى الفحص نكتشف تفاهة الأسباب، أو العجز عن التصالح لأنّ القلوب جحيم من حقد دفين يُغطّى بكلمة:”أنا غير حاقد”. مسيحيون مزيَّفون. وهناك من يتناولون وهم حاقدون حقداً دفيناً يسترونه بحجة أنهم غير حاقدين، أو بحجة عدم إمكان التعامل مع فلان من الناس. حجج واهية إن كان باب العتاب والإصلاح ممكناً.
بولس مارس عقوبات إصلاحية خالية من الحقد. وأوصى المؤمنين بمقاطعة الإخوة الضالين حتى يتوبوا، في بلادنا يُقال: “الأقارب عقارب”. لو حلَّل المحلِّلون نفسيات الناس لَرَاعهم ما في بطون الناس من مشاعر عدائية. أحاديث مجالس طعن وشتم وتشهير، وحديث مقيت عن أخبار الغير. القلوب مشحونة. القلب المفتوح الواسع الصريح المنطلق عملةٌ نادرة.
وأخبث ما في الأمر إدّعاء مغفَّل ما أنه يحبك بينما يكون قد “قتلك وسار في جنازتك”. يحطمك ويزعم أنه يحبك. وهناك ناكرُ الجميل. هؤلاء قنابل ذرية من الحقد. يصحبون ألدّ أعدائك. يكيدون لك أكثر من كل خصومك. إن لم يستدركك الله كفرتَ بسببهم بالناس جميعاً وخسرتَ طبعك المعطاء. لا تفتش عن اللؤم فيهم، فقد يكون أردأهم ساذجاً لا يعي أنه دمَّر المحسن إليه. صارت المحبة كلمة جوفاء. الله وحده قادر على انتزاع كل خيط عداء من داخلي المجبول بالعداء ولو تظاهرت بسكب نفسي قُبلاً على الوجنات. النفاق صار معدن الناس.
من أنواع الطبائع
واستكمالاً للبحث أطرح الآن مسألة الطباع الروحية الصافية تجاه مثيلاتها غير الصافية. على ضوء التحليل النفسي هناك طباع تقوم على صفاء اللاشعور من تعقدّات الكبت المتنوعة ولو نسبياً. المحبة هنا خالية بنسب كبيرة من السلبيات العدائية ولو بالكلام أو الأفكار. الوداعة لا تستر غضباً مكبوتاً في اللاشعور يظهر في المناسبات الحادة بفورات غضب أو “بنرفزة” مكظومة مخنوقة.
التواضع طبع عادي لدى الروحاني الحقيقي. لدى الآخر هو ممزوج بالرياء وسواه. الصدق طبيعة ثانية لدى الأول. وهو ممزوج بالنفاق والكذب لدى الآخر. السبب هو أن الطباع غير السليمة تقوم على الكبت. الوداعة ضد الغضب. الوديع الصحيح حوّل أهواءه إلى عكسها فصارت وداعته طبيعة ثانية. الآخر قامت وداعته على كبت الغضب. فمهما بدا وديعاً عجز في ظروف معينة عن ضبط نفسه. تراه حليماً الآن ثم تراه بعد قليل متصلباً. هو جامعة متناقضات. وفيما هو كالزئبق يتوهم أنه مستقر في رأيه وعمله. تزدحم على صدره التناقضات. هو رحيم الآن ولكن قد يقسو بعد قليل. صداقته زئبقية. وفاؤه زئبقي. قد يبدو رجل تضحية ولكنه أنانيّ كبير. يتدروش في الظاهر ولكنه في الداخل موبوء بحب الظهور والرغبة في المدائح. قد لا يشبع من المجد الباطل. يدعي العمق اللاهوتي وهو فارغ.
بعضهم يُصاب بقصور إكليلي يتعذّر اكتشافه إلا لدى الفحص في عيادات الطب النفسي ـ الجسدي. بعضهم حسود غيور أناني ولو كان في الظاهر روحانياً كبيراً. وإن نصحته بمراجعة اختصاصي تذمّر منك. بعد 17 سنة بجهد جهيد وبعد نفقات طبية باهظة اهتدى آخر طبيب إلى اكتشاف القصور الإكليلي. شخص آخر رفض في 1974 النصيحة فاستمرّ على التسكّع في المستشفيات عبثاً. وفي النهاية، وإن كان الإنسان معقّداً يعجز كل ألوان الطب والعلم. إلاّ أني أجد في هذه التعقيدات التي لا تحصى عظمة الخالق.
عالم الحيوان هو عالم البساطة. عالم الإنسان هو عالم الترقي غير المحدود. أنا اليومَ في الـ 81 وشهراً: جسدي في التفكك والعجز، وروحي في تجدّد لا يتحمل جسدي أعباءه. الكتابة مهنتي منذ حوالي 69 عاماً. انطلق فيها كالسهام. اليوم جسمي عاجز عن مسايرة روحي. روحي إلى الأمام بنشاط ذهنٍ وذاكرة وعقل وملكاتِ نقد وتحليل. وجسمي أداة عاجزة. أليس هذا سرّ من أسرار الخلق لقوم يعقلون؟ سقطت نظرية التطور. وأنا كنت ضدها منذ أربعينات القرن الماضي. إن العلم الأوروبي غرق في المادية فعمي. هذا التناقض بين جسدي وروحي يقنعني بأن الروح هي الأساس وأن الجسد رفيق درب جيد أحياناً وغير جيد أحياناً أخرى.
ربي! أين ستخزن روحي؟ ما هذا همي. همي هو أن امتلأ هنا قبل هناك من روحك القدوس. فلا تحرمني منه…
الغطرسة سرطان عام. كيف نستأصلها بغير الطاعة الرهبانية؟ العجب بالذات غولٌ ذو مائة رأس (كاسيانوس). الطاعة الرهبانية تقطعها رأساً بعد رأس. يبلغ العجب عند البعض حداً يعجز معه المصلحون عن توجيه أي نقد أو ملاحظة. تقوم قيامتهم إن أثار أحد الناس شعورهم بالذنب. بعضهم ممتلئ من نفسه ومن شعوره بالكمال إلى حدّ مزعج. بعضهم لا يشبع من المدائح. بعضهم مهووس[11] لا يمكنك أن تدنو منه إلا بالمباخر. ويحلُّ غضبه عليك إن كففتَ عن تبخيره.
أخطاء الأم يدفع ثمنها الأولاد. ولذلك ضلَّ في الغرب المنادون بتأخير المعمودية إلى أن يختار الولد دينه طوعاً. هؤلاء الأغبياء الذين يدّعون العلم ـ بل العلم الكاذب ـ يجهلون أن مفاسد هذه التربية الحرة لا تمهِّد السبيل إلى الإيمان. الأم المؤمنة الفهيمة الواعية تقوّم طباع الطفل وعاداته السيئة. المعمودية والميرون والقربان يغرسونه في المسيح فينمو في الروح القدس. من بلغ الـ 20-30 سنة بدونهم هو حقل أشواك. إن كنا قد نشأنا في جو الإيمان وما زلنا نفايات النفايات فمن أين يأتي اللادينيون بالروحانيات؟ الأخلاق الحميدة الطاهرة تنشأ منذ الرضاعة.
الأم الأم هي الأساس. الخوري يعمِّد والأم تربّي وتقوِّم وتلقِّن. من لم يرضع الإيمان مع الحليب كان حقل أشواك ومفاسد وإباحيات وو… والانحلال أودى بالأمم العظمى كما قال حتى المحلل النفسي Jones. وجونس هذا قال أيضاً: “إن الخطوط الكبرى للحياة الانفعالية ترتسم قبل الرابعة من العمر”. والحياة الانفعالية هي الأساس في تكوين الطباع والشخصية. والأمّ تلعب الدور الرئيس في هذه السنوات وإلى جانبها الأب والأخوة إلى حد ما. في هذه السنوات تنشأ أيضاً الاستعدادات للأمراض العقلية والنفسية، والنفسية ـ الجسدية (الحساسية المفرطة، الشقيقة، الربو، القرحة…). فأنواع الهوس لها أساسها في الرضاعة والعظام. العند، اللين، الخجل، الانغلاق، الانفتاح، الصلف، وسواس النظافة، القذارة، الشحّ، السخاء، الجرأة، الجبن، النشاط، الخمول، الحسد والغيرة، الأنانية والغيرة، الشعور بالنقص وعكسه الشعور بالاستعلاء، حب الظهور، الجشع، الشراهة، حدّة الطباع، المتانة والرخاوة، التردّد والحزم، ضبط النفس وانفلاتها، العفة والشهوانية، الترتيب والنظام والانفلاش والفوضى، الخ…
الناس يتوهمون أن مرحلة المراهقة هي مكمن الخطر. لا، مرحلة التأسيس هي السنوات الأربع الأولى. طبعاً هناك حالات وسطية بين المتضادات، مثلاً بين المعطاء الكبير وبين البخيل الشحيح، بين المحبّ الذي يبذل نفسه وبين الأناني البخيل الشحيح، بين المتطرف والمتراخي والمعتدل. هذه المرحلة هامة لقولبة المرء دينياً وبناء شخصيته المتزنة الرصينة الحكيمة الفطنة القوية بلطف وحلم وطول أناة، ورحابة قلب كبير. هذا غيض من فيض. الطفل تتكون شخصيته في حضن والديه. أقرب صورة في ذهن الإنسان هي صورة أمه. ومعظم الأمهات يحرصن على أن تكون بناتهن صورة عنهن. وفي الطفولة يبتلع الطفل أمه[12]. فمتى كبر نشد الحرية والاستقلال وتثبيت ذاته، وتمرّد بنسب مختلفة. يتولّى هو نفسه قيادة نفسه إلى حد بعيد أو قريب.
إذاَ: التكوين الديني السليم يتمّ في الطفولة أولاً. بعد ذلك الخطوط متفاوتة جداً. الأرثوذكسية حريصة جداً جداً منذ القديم على حسن تربية البنات في الدرجة الأولى.
وهناك تشعبات: الكبرياء، العجرفة، العُنجهية، الصلف، الاعتداد بالذات، الانتفاخ، المباهاة، الفخر، “شوفة الحال”، التبختر كالطاووس، النظر إلى الناس شذراً، الترفّع، الاشمئزاز من الناس… بعض الناس مهووسون بحبّ المدائح. لديهم جوع فاحش إليها. لينتفخوا. الممثلون المسرحيون ومن شابههم جائعون إلى التصفيق. البنات المدللات كذلك وبعض المصابين بشعور بالنقص يسعون إلى التعويض بالمدائح. رجال السلطة والأغنياء مرضى بحب المدائح.
الإنسان عظيم بفضائله وصغير بنقائصه. البطريرك المشهور غريغوريوس حداد أنّب شماساً فلم يتبعه يوم الأحد إلى الكنيسة. سأل عنه. قال له شماس آخر: جرحه تأنيبك. قرع البطريرك الباب وارتمى على قدمي الشماس طالباً العفو. فبادر الشماس إلى السجود أمامه. الملآن داخلياً متواضع. الفارغ داخلياً يسعى للامتلاء خارجياً. يسعى دائماً لكي يكون على الشاشة وسط المصفقين. يستميت لينال منصباً اجتماعياً. يقتله الحسد إن سبقه أقرانه. كثيرون من آباء الكنيسة سيقوا سوقاً إلى المنصب. غريغوريوس شيخ اللاهوتيين استقال من رئاسة القسطنطينية. حب السلطة مرض عضال. والسلطة تُفسد. والغبطة الحقيقية هي في العيش مع الناس بصدر أرحب من السماوات، ببشاشة ورفق وحنان وصفاء وصدق ووضوح وخدمة بارة، بصبر جميل وطول أناة. الإنسان الإنسان هو المرآة لنرى الله. أما المتغطرس أو المشمئز من الآخرين فرفيع القلب مرفوض لدى الله. وليس الاشمئزاز من الناس بخطيئة صغيرة. احترام الناس بكل القلب عبادة لله. كان آباء البراري يسجدون أمام الضيوف معتبرين أن يسوع قد زارهم. استعمال الإنسان للإنسان فنّ إلهي. الأم هي التي تلقننا إياه. رحم الله كل أم لقَّنته لأبنائها.
بولس الرسول قال إنه يُسر بما أصابه من ألوان الضعف والإهانة والشدة والاضطهاد والضيق لأنه متى ضعف صار قوياً إذ تظهر قوة الله في ضعفه (2 كور 12). فإن كان بولس لا يتضع إلا بذلك، إلاّ بشوكة تلطم جسده، فكم يحتاج المرشد الروحي الأصيل إلى فنون من الأعمال ليطهّر تلميذه من هذه العيوب؟ وكم الطاعة ضرورية لكي تنجح أساليب المرشد! قد يلجأ إلى أساليب فيها إذلال للتلميذ. السلّمي واضح. نحتاج إليها لنكسر عتوّ رقابنا. والشيطان بارع في إيقاعنا في المنافخيات. مثلاً علماني كان يقول لمرشده: مراراً كثيرة تظهر لي في اليقظة مشعاً بالنور. قال له مرشده: الشيطان يخدعك لتنقل الأمر إلي لأنتفخ. هذا مكر الشيطان. يستعمل الأحلام أيضاً لتحقيق حلم الانتفاخ والطمع في الرئاسة والعظمة. هذا غيض من فيض. يا يسوع، اسحقْ قلوبنا أمامك!
الرهبنة دعوة. ولكن فقدانها في مجتمعنا ناتج عن تربيتنا الفردية الأنانية المائعة التي تُفقد المرء البطولة والنخوة والحمية والغيرة والاندفاع الواعي والسخاء وبذل الذات والإقدام والجسارة بحكمة لا بتهور. الرهبنة للفرسان، لا للمائعين والمخنَّثين والبُله.
هل يعني كل هذا أن الخلاص ممكن فقط للرهبان؟ لا. في الكنيسة قديسون من الملوك والأمراء والقادة العسكريين والمتزوجين والعامة والعسكر والأطفال. قال الرب: إن دخول الأغنياء ملكوت الله أمر عسير جداً. ولكن زاد عليه أن المستحيل عند الناس ممكن عند الله. ورث ثيئوذوريتوس عن أهله ثروة طائلة فوزعها. ملوك وأمراء دخلوا الدير زاهدين في الملك والمقتنيات. لا شك أن المال أداة سهلة لينابيع من المفاسد. ولكن الله قادر على صنع أغنياء ومتزوجين ومتزوجات قديسين. أمهات القديسين وقفن وراء قداستهم غالباً. في شعبنا الأرثوذكسي في العالم قديسون وقديسات. الروح القدس يمنح المناضلين الروحيين العائشين في العالم نعمة خاصة تحصنّهم ضد إغراءاته الشريرة. بين الشهداء من ذاقوا آلاماً لا تطاق. كيف صبروا عليها؟ الروح القدس عمل فيهم. ما كابده القديس جيئورجيوس وأنداده فوق طاقات البشر. هو أقسى من سخافات الدنيا وإغراءاتها. لذلك أرفض كل حجج الناس الذين يتهرّبون من عيش القداسة، لأنها كلّها من وحي الشيطان. كما قاوم الشهداء في القرون الأولى النارَ وبركَ الكلس وعُلقوا على الصلبان، على كل مؤمن أن يقاوم الشيطان والأهواء وإغراءات الدنيا الباطلة وإلا صار ابناً لجهنم وكفر عملياً بيسوع المسيح ربنا (تيطس 16:1). المسيحية بطولة لا ميوعة وتدلُّع. المسيحية صليب لا شوكولاه.
لا مفرّ من الوقوع بين يدي يسوع. فالموت معه خير من كل الكون.
[1] الشديد اليقظة والنباهة والانتباه والسهر والفطنة والحذق، المدرَّب على الحرب، المتمرّس بالحرب الروحية ضد الشيطان
[2] من تفسير الذهبي على كورنثوس (الموعظة19) يبين أنه كانت نساء متعففات لا يجارين رغبات الرجال، فنصحهنَّ الذهبي بالاعتدال لئلا يجنح الأزواج إلى الزنى. كم كان الذهبي مرجعاً للناس في أدق قضاياهم! كان موثوقاً جداً.
ترجمة دار المشرق من Bible de Jésrualem نحت منحىً آخر: العريس يحافظ على عذرة عروسه. وكذلك ترجمة جامعة الروح القدس (الكسليك) إلاّ أن ترجمة Segond الفرنسية المحدّدة (1980) رفضت هذه الترجمة ورفضتها الترجمة الروسية الرائعة (ولندن، 1970). وكذلك رفضها سبيك في مجموعة(Pirot (223:12-224 وناقشها مطولاً. في جميع الأحوال تبقى بتولية الصبايا هي الموضوع المطروح والمحبَّب. و الذهبي الفم يعتبر النصّ منصرفاً إلى الأب لا إلى العريس (عن الفصل 7 من كورنثوس، راجع تفسير الذهبي له، الموعظة19 وص117ـ119 من كتابه “في البتولية”، دير سيدة حماطورة).
[3] في الترجمات:”ارحمني”. العشار هو جابي العشر. كان العشارون يختلسون… اللفظة اليونانية ذات معنيَيْن. أخذنا بمعنى الغفران… في الصلاة: “أيها الثالوث القدوس ارحمنا، يا رب، اغفر خطايانا. يا سيد… ” ترامبيلس شرحها بمعنييها: “تحنَّن عليَّ وسامحني، أنا الخاطئ”. المعجم اليوناني الانكليزي analytical يعطي معنى الرحمة والغفران pardon هنا (لوقا13:18).
[4] راجع كتاب ميرالوت بورودين: عطية الدموع في الشرق المسيحي (ترجمة دير الحرف).
[5] صححّتُ أحياناً ترجمة الآيات المقدسة، لأن الترجمات العربية محتاجة إلى إعادة النظر.
[6] Arch, Anastasios Yannoulatos, Monks and Mission, Athens, 1966.
Mgr. Kallistos Ware, La vie érémétique dans l´Orient chrétien; 1991.
[7] السلمي ومكسيموس المعترف وبالاماس ما قالوا بخنق الأهواء بل بتحويلها. نحوّل عشق الطعام والجسد إلى عشق إلهي أقوى (18:30…). ولدى السلمي ملاحظات هامة في علاقات الجسد بالروح في الجهاد الروحي (87:15-90) ودور الأنانية في الرذيلة فيدنو من مكسيموس. الكتاب منجم كنوز. ويبدو اهتمامه بعلم نفس الحيوان أيضاً.
[8] أي البشر الفاسدون يصيرون سلفاً غير فاسدين على رجاء الحياة في يسوع بعد الموت.
[9] هناك اسحق النينوي، وهو مولود في قطر. كاتب سرياني إنما ليس سورياً. وهناك اسحق السوري (القرن الرابع) الذي أسَّس الرهبنة في القسطنينية (أسد رستم، الفصل 19). ولدى السريان سواهما.
[10] القديس اغناطيوس برينتشينيوف يطالب باتحاد الذهن والنفس والجسد. المسألة نظريات في علم النفس. الإنسان شخص واحد إنما ممزَّق بسبب الخطيئة. الحرب الروحية الناجحة تنتصر على التمزّق والتناحر والتناقض. يتجه الإنسان بكل كيانه ـ بدون سلبيات ـ إلى يسوع. الفكر والإرادة والعاطفة، والجسد نفسه، يصبح هياماً بيسوع.
[11] قال أحدهم في أنانيٍّ كبير:”هذا لا يحبَّ الله لأنّ الله خلق سواه”.
[12] في كتابنا “الاعتراف والتحليل النفسي” مقارنات بين الثاني وتراثنا الآبائي. وقد حال النظر وظروفي العامة دون إنشاء كتاب في علم الطباع يعتمد على التحليل النفسي ومؤلفات يوحنا السلمي وكاسيانوس ومكسيموس وسواهم من الأفذاذ عندنا. تقويم طباع المرء مهمة هامة جداً وشاقة في الإرشاد الروحي.