اسبيرو جبور
روحانية الكنيسة الأرثوذكسية
2005
الذكرى الأربعون
لرقاد الصديق الأكبر البطريرك العظيم
ثيئوذوسيوس أبي رجيلي
الذي أولاني ثقةً ومودّةً دفعتاني إلى الانتقال من المحاماة إلى التصنيف اللاهوتي. ولذلك فكل مصنّفاتي اللاهوتية مكرّسة لذكراه العطرة. ورحم الله أركانه من الراقدين اي الشهيد الدكتور يوسف صايغ وموريس حدّاد وجورج سكريّة وسواهم. فالبطريرك المذكور هو رجل كنيسة أكبرُ من الطراز الأوّل رفع الله به شأن الكرسي الأنطاكي بين كنائس المسكونة.
الخلود لخدّام الكنيسة المخلصين.
19/9/2010
اسبيرو حبور
باسيليوس الكبير الكبير جداً
شيخ آباء الكنيسة
(مجمع خلقيدونيا)
طوّق عاصمته قيصرية بلاد الكبادوك بمدينة أخرى من المؤسّسات: مدارس، معاهد، مشافي، أديرة، مياتم، دور عجزة…. فصار نموذجاً لكل أسقف متألِّه اللب، منزوف اليدين في الخدمات والمبرّات والصدقات وكل عمل صالح. كان اللاهوتي الأعظم والخطيب المفوّه ورجل الأعمال والمشاريع النافعة والخطط الكنسية اللامعة، والإداري المثالي.
كان بولساً جديداً أخاً لكل جريح وواقع.
1/1/2005 عيد باسيليوس
كلامُ الآباء ملكُ الكلام
قال يوحنا الذهبي الفم بلسان يسوع أي كأن يسوع يتكلم:”أي شيء يستطيع أن يعادل سخائي؟ أنا أبٌ، أخٌ. زوجٌ، بيت، قوت، ثوب، جذر، أساس، كل ما ترغب فيه. إذاً أنتَ لست بحاجة إلى شيء، حتى إني سأصير خادمك، لأني أتيت لأخدمَك، لا لكي أكون مخدوماً.
أنا أيضاً الصديق، العضو، الرأس، الأخ، الأخت، الأم. أنا الكل. أما أنت فلا تكنْ سوى صديقي. لقد صرتُ فقيراً من أجلك، متسولاً من أجلك، لقد صُلِبْتُ من أجلك، دُفِنتُ من أجلك، وفي السماء أتوسَّل إلى الآب من أجلك.
أنتَ الكلّ بالنسبة إليَّ، أخ، مساهم في الميراث، صديق، عضو، فماذا تريد أكثر من ذلك” (مين اليوناني، 58: 699. عن كراسة شخص يسوع المسيح عماد المسيحية).
وقال الذهبي الفم (عن لسان يسوع الإنسان): “أنا (أي يسوع) أؤلف نسيجاً واحداً معك. لا أريد أي شيء بيننا نحن الاثنين: أريد أن يصبح الاثنان واحداً” (مين اليوناني 62: 586). وأيضاً: “يجب أن يتراءى المسيح فينا من كل جهة” (مين 60، في الجزء الثالث من تفسيره لمتى الانجيلي، ترجمة عدنان طرابلسي).
الآباء القديسون امتازوا بعشق ربنا يسوع المسيح عشقاً خلب عقولهم، وخطف قلوبهم. ما قرأوا الكتاب المقدس بعقول من جليد مثل النقَّاد الألمان الملحدين، بل بنار الروح القدس. بدون هذه النار يسقط القارئ في فخاخ العدو. الآباء القديسون ينقذونه منها. الذهول المطلوب هو الذهول بيسوع لا بسواه.
الآباء القديسون هم تلاميذ يسوع لا تلاميذ كبرياء العلم الباطل. الإيمان الحارّ هو أداة المعرفة الإلهية لا العقل الطبيعي الساقط. في لحظة الموت ينهار الثرثارون ويخلد الذين جعلوا قلوبهم كهوفاً ليسوع. علّمنا يسوع أن الجسد لا يجدي نفعاً. الروح هو الذي يُحيي الجسد (يو64:6). برفيريوس صور اللبناني (310) ناشر الأفلاطونية الجديدة هو الذي علَّم قراءة الكتاب المقدس بمعزل عن مفهوم الوحي، فكرّر ذلك هرناك الألماني. هو الجد البعيد لهرناك وبولتماف وكل العقلانيين.
بطرس وبولس الرسولان (وبخاصة في الرسالة إلى العبرانيين) علَّمانا أن الله هو المتكلم، الروح القدس هو الملهم. بدون الروح القدس سأنحرف حتماً. من جهة أخرى، الروح القدس الحالُّ فينا هو الذي يحفظ وديعة الإيمان (2كور14:1). نحن ككل مقرّ لهذا الروح القدس. فينا وبنا تُحفظ وديعة الإيمان. ولذلك كانت الكنيسة تُصاب بذعر عندما كان رؤساء الهرطقات يخرجون على وحدة الإيمان المحفوظ بالروح القدس. الانفراد محظور قطعاً. الجماعة كتلة واحدة روحها هو الروح القدس وقلبها هو يسوع المسيح. الخروج على تقليد الكنيسة هو إذاً طعنة ليسوع ولروحه. والطاعن فيهما لا يحبهما، لأن من لا يحب الكنيسةَ، جسدَ يسوع ومسكنَ الروح القدس، يضلّ ضلالاً فاحشاً. الوفاء هنا هو الوفاء لحوالي 19 قرناً من التقليد الأرثوذكسي المستمر بحماية الروح القدس.
المقدمة
انشأتُ أقساماً من هذا الكتاب قبل 15/8/2001 ثم كلَّ النظر، فأهملته حتى آن الآوان بفضل الله وعناية الدكتور الماهر الحنون روجيه إميل صايغ. أعدتُ النظر فيما كتبت سابقاً ووسّعته، وأضفتُ أموراً جديدة. الموضوع يتطلب كتاباً من 3 مجلدات في 900 صفحة. تجاوزت الثمانين في 25/12/2003 والنظر كليل والقبر ينتظرني. فهل يكون هذا الكتاب خطبة الوداع؟ ما أتممت السعي. عاقني سوء النظر وسواه. فلتتدارك رحمةُ الله ما فات[1].
ذكرت في الكتاب مراجع هامة تسدّ بعض نقص هذا الكتاب. فالفصول الأخيرة من كتاب لوسكي “اللاهوت الصوفي” (ترجمة دير الحرف والدكتور نقولا أبي مراد) مهمة جداً وبخاصة فصل رؤية الله. ولدى لوسكي كتاب فرنسي بعنوان “رؤية الله”. في الفصل الأخير هنا نصّ هام لبالاماس لم يذكره لوسكي. وصدر الآن مقاله (1957) المنوه به في هذا الكتاب. كما أنشأ الدكتور عدنان طرابلسي فصل “النعمة المخلوقة والنعمة غير المخلوقة”. طالعته واعتمدت عليه.
الكتاب مكثّف أحياناً. وبسبب تأليفه في مراحل عديدة لا يخلو من التكرار.
يعرف المخلصون همومي لاستعادة الكرسي الانطاكي مكانته الروحية واللاهوتية. لا كبير عندي إلا القديس ولو كان ماسح أحذية أو زبَّالاً. طفل قديس أكبر في قلبي من امبراطور مائع. واللاهوتي الحقيقي مثل Losky لوسكي أو لارشيه Larchet أغلى من سواه أياً كان منصبه. الدنيا وكل ما فيها رماد، إمَّا أن تكون مع يسوع وإماَّ أن لا تكون.
هذا الكتاب يضع القارئ الرصين مع يسوع. فليطالعه مراراً. يعطي الشعور بأن كل شيء فناء إلا من اقتنى يسوع. رحم الله الأهل والصحب وكل الذين آزروني في مسيرتي الأدبية اللاهوتية وعلى رأسهم أبو الوفاء الصديق الكبير المغبوط أليكسي عبد الكريم مطران حمص السابق (7/7/1999). إنه أبي وأخي وصديقي الوفي الذي كان ينادي:”ما من أحد في العالم يحب اسبيرو جبور مثلي”، حتى على فراش الموت. جعله الله مع الرسل والقديسين.
عيد القديس يوحنا فم الذهب
27/1/2004
أهمية الصوم لدى يوحنا السلميّ
1 ـ للصوم لدى يوحنا السلمي أهمية كبرى لكي نستطيع لجم الجسد والسيطرة عليه. أورد أدناه فقرات هامة، بينما روح الكتاب مترع من الموضوع.
المقالة 1:1
“على الذين يتقدّمون إلى هذه السّيرة أن يجحدوا كلّ شيء ويستهينوا بكلّ شيء ويهزأوا بكلّ شيء ويطرحوا عنهم كلّ شيء لكيما يضعوا أساساً صالحاً. والأساس الصالح المثلّث الركائز هو الإقلاع عن الشر، والصوم، والاعتدال. فليبتدئ الذين ما زالوا بعد أطفالاً في المسيح بممارسة هذه الفضائل الثلاث مقتدين بالأطفال. فإنه ليس عند هؤلاء شرّ أو خداع، وليس عندهم نهم أو تخمة، ولا جسد بهيميّ ملتهب بالشهوة، إذ إنهم لا يزيدون غذاؤهم إلاّ بقدر ما يحتاج نموّهم إلى حرارة”.
المقالة 29:14
“إن كنت عاهدت المسيح على سلوك الطريق الضيّق الضاغط فضيّق معدتك لأنك إن أرضيتها وأوسعتها خالفت عهدك”.
المقالة 31:14
“متى أتيت مائدة الطعام فاذكر الموت والدينونة فإنّك بهذا الذكر تتمكّن بالجهد من إعاقة الشراهة قليلاً. ومتى شربت مشروباً فلا تكفّ عن ذكر الخلّ والمرارة اللذين شربهما سيّدك وهكذا تضبط هواك أو على الأقلّ تتحسّر وتتّضع”.
الصفحة 165 الفقرة 15
“لا نستطيع أن نطرح عنا استعدادتنا السابقة العتيقة وعتاقة نفسنا وننزع ثوب إنساننا العتيق ما لم نسلك طريق الصوم الضاغطة”.
والفقرة 26
“…الاستعدادات السابقة الشريرة التي صارت عادات تطغى على صاحبها”. (استعمل السلمي عبارة الاستعدادات السابقة الشريرة في عدة أمكنة).
في 10:14و11
“الإمساك ضروري وبخاصة إذا حمي وطيس الحرب مع نار الجسد”.
في 2:15
“الطاهر هو من دفع عشقاً بعشق وأطفأ نار الأرض بنار السماء”. نار الأرض هي نار الجسد (انظر أيضاً الفقرة 11).
أما في 18:30 فقال:
“الذين وصلوا إلى هذه الحالة الملائكية كثيراً ما ينسون طعام الجسد. وفي ظني أنهم غالباً لا يشتهونه على الإطلاق. ولا عجب في ذلك: إذ كثيراً ما صدَّت شهوة الطعام شهوة أخرى مضادّة”.
وقال في الفقرة 99:
“…إذ إنهم تنقّوا بلهيب الطهارة اطفأوا به لهيب الجسد. وإني لأعتقد أنهم يتناولون طعامهم بدون تلذّذ …… تغذّي النار السماوية نفوسهم”. (راجع4:15-14).
يوحنا السلمي ركزّ جداً على أهمية الصوم والنسك لإطفاء نار الجسد بنار السماء أي الروح القدس. وركز على أهمية تحويل عشق الجسد إلى عشق إلهي فيطرد عشقُ الله عشق الجسد. فالصوم يجفِّف الجسد. وبعبارة أخرى يجفِّف، بنار الروح القدس والشوق إلى الله، العنصرَ البشري في العشق. فالحب طبيعي لدى كل الناس وحتى لدى الحيوانات. والجنس ملتصق بالحب. فكيف نستطيع الفصل بينهما بدون الصوم والنسك والصلاة والروح القدس ليضحي حبنا طاهراً، لا عواطف بشرية بدون الروح القدس. العملية شاقة إن لم ينجزها الروح القدس. الأمر صليب كبير جداً. يوحنا المعمدان قال إن عليه أن ينقص وعلى يسوع أن يزداد. الأمر كذلك: يتناقض المرء ليملأ يسوعُ الفراغ. في النهاية يصبح المرء بفعل الروح القدس بيتاً من بلور ليسوع، خيمة ليسوع. هو اللبّ.
وطرق السلمي هنا أيضاً موضوعاً هاماً. الذين سمَوا إلى رتبة الملائكة بحبهم الطاهر المكوي بنار الروح القدس المطهِّرة والمنيرة يأكلون بلا تلذذ. في المقالة 18:30 و19 و15: 4-14 يطرح السلمي أمراً هاماً: الكاملون جمَّدوا الجسد الأولي الفاسد الساقط. يأكلون ويشربون وينظرون ويسمعون ويلمسون بدون انفعال. التلذذ رافق اشتهاء حواء. الكاملون ذوو أجساد فردوسية لا تتأثر لا في اليقظة ولا في الحلم. هم أموات قبل الموت وقائمون قبل القيامة. مات جسدهم وقامت روحهم في النور الإلهي. يذكرني هنا السلمي Dalbiez[2] الذي يفرّق بين الحاجة إلى الطعام والتلذذ به. فالفم ذو وظيفتين: يأكل ويتلذّذ. والجسم كله مناطق تلذذ واشتهاء. والأمر واضح جداً في مواضع عديدة من “السلَّم إلى الله”. وخزة إبرة قوية قليلاً ومفاجئة تجعل الجسم كله يرتعش. كل الأعصاب تثور. الانتقال من حرّ بيروت الملوثة إلى صفاء ضهور الشوير ينعش الرئتين والجسم كله. وجبة “خروف محشي” مشبعة بالدهن والسمن البلدي تزعج المرء فيتثاقل، بينما تنعش المعدة “كأس” عصير البرتقال الحامض قليلاً. وهناك ما هو أغرب من ذلك: الماسوكيون يتلذذون بنيل الصفعات والجلدات. يصبح الألم مصدر سرور. في نهاية المقالة 15 يسبح السلّمي في الحيرة بعلاقات الروح بالجسد (18:14 وانظر أيضاً ص 292 من بستان الرهبان). في النهاية الأهواء أفسدت المكوّنات الأساسية للطبيعة البشرية (159:26 و163 و1:14و21و17:15و19و24و85-90) أما الفقرة 86 فتعرض أمراً عجيباً: البعض يتلذّذ بالاعتراف بخطاياه… طبيعتنا فساد.
الغرب المسيحي حذف الصوم (البروتستانتية) أو أهمله (الكاثوليكية). الأولون يهتمون بالمسلك الأخلاقي الخارجي. الأخيرون يتركز اهتمامهم على المحبة. ولكن لاحظت دائماً عليهم بقاء الانفعالات البشرية العاطفية في وجوههم وحركاتهم. وما ينقص الفريقين هو عقيدة الاستنارة والتألّه بالقوى الإلهية، هذه العقيدة تلهمهم الصلاة الدائمة. ومن طبيعة الصلاة الدائمة أن تفرض عدم حشو البطن بالأطعمة الدسمة وسواها. فالبطن المترَع يخبل الذهن ويُخسره صفاءه. الغرب ساير أهواء الناس وتراخيهم فأهمل الصوم. المسيح قال إنه جاء ليلقي ناراً. الرخاوة عداوة لله. العودة إلى السلّمي ضرورية جداً لتنشيط العالم المسيحي كلّه.
فيا يسوع، يا من أقمتَ لعازر من القبر أقم روحي المنخورة بالشرور. ولا تنسى أحداً من الساقطين، بل ردّ الناس أجمعين إلى قبضة يدك ونوارنية ملكوتك.
الفصل الأول
الأسُس العقائدية
للروحانية الأرثوذكسية
يقول هيسيخيوس دير العليقة (سيناء) وفيلتشكوفسكي الروسي إِن الروحانية الصحيحة تقوم على العقيدة الصحيحة. ربما استوحيا الفقرتين 96 و 97 من “رسالة إلى الراعي” للقديس يوحنا السلّمي و32:24 منه.
في كتبي “سر التدبير الإلهي”، و”الله في اللاهوت المسيحي”، و”التجليات في دستور الإيمان”، عرضتُ الإيمان الأرثوذكسي في سر الثالوث القدوس وسر التدبير وباقي قواعد الإيمان. وفيها أيضاً نبذات في الانثروبولوجيا الأرثوذكسية. إلاّ أن كتاب الدكتور عدنان طرابلسي “الرؤية الأرثوذكسية للإنسان” طرق الموضوع بصورة كاملة تقريباً.
فالروحانية الأرثوذكسية الآبائية رأت حسن صياغتها في بالاماس. هذا قال: المسيحي مؤلف من النعمة الإلهية ومن روحه وجسده. كما قنَّم يسوع الطبيعة البشرية في أقنومه الإلهي كذلك المؤمنُ يقنِّم النعمة الإلهية في شخصه البشري (عن سر التدبير). والقوى الإلهية ليست انبعاثات كما في الفلسفة الأفلاطونية الجديدة. أفلوطين قال: إن الواحد يلد الذهن والذهن يلد النفس التي تلد الكون: سلسلة انبعاثات دينامية (Lucien Jerphagnon, histoire de la pensée p. 1284). أما القوى الإلهية، ومنها النور الإلهي، فهي مقنَّمة في شخص الذي ينالها من الروح القدس (بالاماس3، 9:1). هذا ما أشار إليه مايندروف في المدخل والمقال الذي ترجمته الأخت مهى عفيش بعنوان “غريغوريوس بالاماس”، أي تصير جزءاً من الشخص الذي نالها.
فالإيمان بالإله الواحد في ثلاثة أشخاص (أقانيم) لهم جوهر واحد بعينه مسلَّمةٌ أولى لنعتبر المعتمِد مسيحياً. ثم الإيمان بأن الابن الوحيد الرب يسوع المسيح الأقنوم الثاني من الثالوث قد تجسَّد من العذراء مريم بمسرة الآب الأزلي وفعل الروح القدس، وهو إله تام وإنسان تام، أقنوم واحد في طبيعتين وفعلين ومشيئتين وعِلمين وحكمتين. الطبيعتان متحدتان أقنومياً لأن أقنومهما (أي شخصهما) واحد. المشيئة البشرية مطيعة للمشيئة الإلهية. لا تكون طبيعة يسوع البشرية تامة إن كانت بلا مشيئة ولا فعل ولا عقل. إنما الأقنوم هو المريد والفاعل بطبيعتيه وفعليه ومشيئتيه. إذاً: طبيعته البشرية هي عاقلة ذات فعل بشري ومشيئة بشرية.
جاء يسوع ليخلِّص الإنسان برمته روحاً وجسداً، ليشفي مشيئته (إرادته) السقيمة وفعله المعوج. طبيعة يسوع البشرية ذات نفس عاقلة وجسد. جاء يسوع لينقذ نفسي العاقلة وجسدي برمتهما. جاء ليؤلّه روحي وجسدي.
النفس العاقلة تكون حرة ذات فعل وإرادة. وإلا كانت مبتورة. الكنيسة دانت أبوليناريوس لأنه بتر المسيح فقال إنه بلا نفس عاقلة. ودانت سرجيوس لأنه قال إن يسوع بدون فعل بشري ومشيئة بشرية. ودانت اوطيخا (افتيشيوس) لأنه قال بابتلاع الطبيعة الإلهية للطبيعة البشرية. كل هؤلاء بتروا الطبيعة البشرية في يسوع فدانتهم الكنيسة كما دانت نسطوريوس القائل بأقنومين وو… وطبيعتين غير متحدتين أقنومياً في أقنوم واحد.
النفس، إن كانت غير عاقلة، بلا ذهن noûs، كانت جسداً (كما قال ابوليناريوس) لا إنساناً. يسوع إله تام وإنسان تام. كيف يكون إنساناً تاماً إن كان بلا ذهن noûs وبلا عقل وبلا فعل وبلا إرادة؟ بدونها يضحي جسداً لا إنساناً كاملاً. بولس الرسول استعمل في رسالتيه إلى رومية وتيموثاوس عبارة “الإنسان يسوع المسيح”. والإنسان ذو روح وجسد، ذو روح عاقلة فاعلة مريدة.
المجامع المسكونية السبعة هي أعمدة الإيمان. غريغوريوس اللاهوتي وكيرللس الاسكندري قالا: ما لم يأخذه يسوع لم يخلّصه، لم يشفهِ. وما هو المريض فينا؟ أليس الإرادة كما قال غريغوريوس النيصصي والذهبي والدمشقي وسواهم؟ يسوع شفى إرادتنا المريضة. إذاً: أخذ إرادتنا. الآباء قالوا إن الجسد هو أداة الروح. الرب يسوع قال:”الجسد لا يجدي نفعاً. الروح هو الذي يحيي الجسد” (يو 63:6). كيرللس الأورشليمي أوضح: الجسد بلا الروح هو جيفة. (راجع “سر التدبير” و”الاعتراف والتحليل النفسي”). أبوليناريوس الهرطوقي قال إن في يسوع أقنوماً واحداً وطبيعة واحدة وفعلاً واحداً ومشيئة واحدة. لقد بتر الطبيعة البشرية في يسوع فجعلها بلا ذهن noûs، فبترته الكنيسة من عضويتها. يسوع جاء ليشفي الروح أولاً.
يسوع أقنوم في طبيعتين، والإنسان أقنوم في جوهرين: الروح والجسد. نحن على صورة يسوع كما أجاد الدكتور عدنان طرابلسي في رائعته “الرؤية الأرثوذكسية للإنسان”.
يسوع صار إنساناً ليصير الإنسانُ إلهاً. الغاية الأخيرة من الوجود هي التأله، بدايةً في الأرض ونهايةً في القيامة العامة، كما تجلَّى المسيح على الجبل المقدس. والتأله يصيب الروح أولاً والجسد ثانياً. فالروح هي التي تقتني الفضائل.
يسوع هو الطريق والحق والحياة. هو حياتنا (كولوسي1:3). بولس الرسول قال:”لستُ أنا أحيا بل المسيح يحيا فيّ” (غلا 20:2). المعمدان قال إن عليه أن ينقص وعلى يسوع أن يزداد. جوهر الحياة الروحية هو نقصان الإنسان أمام طوفان يسوع في وجوده كله، حتى يبلغ ملء قامة المسيح، في الروح القدس. بمقدار ما اتخلّى عن ذاتي يتغلغل المسيح فيَّ. لذلك كان الكفر بالذات مرحلة هامة في طريق الحياة. المسألة عسيرة: عليَّ أن انخلع من ذاتي لكي أرتدي المسيح. الطبيعة البشرية متحدة بأقنوم يسوع اتحاداً اقنومياً، لكي أتحد أنا به ـ لا أقنومياً ـ بل بالنعمة الإلهية.
هذا هو لبّ إيماني: اتحدَّ يسوع بي لكي أتَّحد أنا به. والباقي نوافل. بدون يسوع تضحي المسيحية مذهباً في جملة مذاهب. أما يسوع فهو الإله المتأنس لأجلي لكي اتألّه. رددت مرة على شخصٍ ذكر بوذا: “هل بوذا إله متأنس”؟ قال: “لا”. قلتُ: “المقارنة مستحيلة. الذي يميز المسيحية هو شخص يسوع المتأنس”.
بدون يسوع المتأنّس، بيني وبين الله هوة سحيقة فلا أستطيع إطلاقاً الاتصال به. بيسوع صار اللهُ فيَّ ومعي ولي. وترى لهذا الكتاب تكملة ممتازة في كتابي السابق: “الظهور الإلهي، الله في المؤمنين”.
ولذلك فالحياة الروحانية هي هذا الوجود عبر يسوع في الآب والابن والروح القدس. قال بولس: “…فيه نحيا ونوجد ونتحرك” (أعمال28:17). يسوع عاش معنا وبيننا، ثم أعطانا ذاته يوم العنصرة في الروح القدس[3].
العنصرة هي امتداد التجسد الإلهي. اعتمد الرسل يومها فلبسوا المسيح. عاد يسوع إلينا في الروح القدس، لا ليمشي معنا، بل ليتغلغل فينا، فهو الباب الذي ندخل ونخرج منه ونجد مرعىً (يو 10)، ومرعانا جسده ودمه.
قال بولس الرسول: “…لكي أحيا لله. مع المسيح صلبتُ، فأحيا ـ لا أنا ـ بل المسيح يحيا فيَّ، وما لي في الحياة في الجسد أنا أحياه في الإيمان بابن الله الذي أحبَّني وبذل نفسه في سبيلي”(غلا 20:2). وأيضاً: “حاشا لي أن افتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح، الذي به صُلِبَ العالم لي، وأنا صُلِبتُ للعالم” (غلا 14:6).
فإيمان المسيحيين ليس تصديقاً بحروف مكتوبة، بل هو إيمان يخلع الإنسانَ من ذاته ليحيا فيه المسيح. فنحن هيكل الله، هيكل الروح القدس، أعضاء جسد المسيح… (بولس).
يوحنا السلّمي وحَّد الفضائل الثلاث لدى بولس الرسول (1كو 13:13). جعلها على صورة الثالوث القدوس في بعض التشابيه الآبائية: المحبة قرص الشمس والإيمان شعاعها والرجاء نورها (المقالة30). وفي أعقاب غريغوريوس النيصصي في شرح “نشيد الأناشيد” جعل المحبةَ ناراً وسهام نار تخترق المؤمن. فقال: “…لقد جرحتنِي، يا محبة…” (المقالة 2:30… و36).
الإيمان المسيحي شعاع قدسي وهبنا إياه الروح القدس. هو نار ونور. هو ملتصق بحرارة شمس المحبة المحرقة ومغذّى برجاء النار الملتهبة. هو كتلة نارية من العشق الإلهي والحميّة. ولذلك رافقت المسيحية عبر التاريخ بطولات الشهداء والنساك. الشهداء بذلوا دماءهم من أجل المسيح. بعضهم قاسى من الآلام ما لا تحتمله طبيعة الإنسان لولا نعمة الروح القدس المحيي. في القرن العشرين (بحسب نشرة إنكليزية في الانترنت) سقط ما يزيد عن 48 مليون شهيد أرثوذكسي. الشهيد يبذل نفسه من أجل إيمانه. زوجة الشهيد يعقوب المقطع العراقي وأمه هدَّدتاه بالتنصل منه إن تراخى فأنكر إيمانه. موقف كهذا يعطي صورة رائعة عن ابتلاع الإيمان للشخص بتمامه: الأم والزوجة تهلَّلان لاستشهاد أعزّ الناس على قلبيهما. فكم حرارة الإيمان قوية إلى حدّ الاستبسال في الاستشهاد!
وفي نظر الآباء القديسين، النساك شهداءُ كل لحظة من العمر لا شهداء ضربة سيف و”انتهى الأمر”. (راجع أقوالهم في كتابنا “الاعتراف والتحليل النفسي ص72-77 ومقال مجلة “البشارة” العدد 2 الصادرة عن مطرانية حلب).
والمعروف أن الروحانية الأرثوذكسية رهبانية الطابع. فالأرثوذكسي مشدود بحبال متينة إلى الشهداء والنساك. وما خالف ذلك سقوطٌ من محبة المسيح. لا فتور في الأرثوذكسية بل اشتعال بنيران الروح القدس. أو السقوط في برودة العالم.
وهناك أمر هام بالنسبة للإيمان الحارّ. فالحبّ ليس فكراً مجرداً جامداً. الحب العميق مشبع بإعجاب المحب بمحبوبه. هو مشغوف بشمائله، بكل حركة من حركاته، بكل لمحة من لمحاته، بكل نظرة من نظراته. عشّاق الجسد المتيَّمون أشباه مجانين. لا تفارقهم صورة المحبوب. هم معجبون به إلى حدّ الكفر بكل ما عداه. السلّمي على هذا: يسوع الذي طأطأ السماوات وصار إنساناً لأجل خلاصنا، وقرّب نفسه على الصليب ذبيحة ليغسل روحنا ويزيل خطايانا ويصير طعاماً وشراباً لنا هو أحق بعشقنا وإعجابنا بمليارات المرات من خلائقه.
فالفاترون روحياً لا يعرفون رقة القلب الحسَّاس الذي يرتكض ويدهش عندما يخطر في ذهنه اسم يسوع، فيشعّ فيه نور الروح القدس.
وأخيراً لا بدّ من التنويه بأنّ ما يميّز الأرثوذكسية تمييزاً باهراً كالشمس في رابعة النهار هو التركيز في عقيدة الثالوث القدوس على أشخاص الثالوث أولاً وكذلك على شخص الإنسان في علم الإنسان. لاهوت الأرثوذكس شخصاني يركزّ على الشخص الموجود في الواقع، لا على الجوهر والطبيعة كما في الفلسفة اليونانية الوثنية. الأرثوذكسية نبذتها كلياً. هذا ما عمّقه في العربية الدكتور عدنان طرابلسي في “الرؤية الأرثوذكسية للإنسان”، واسبيرو في “سر التدبير الإلهي” و”الله في اللاهوت المسيحي”، و”التجليات في دستور الإيمان” وطبعاً لا ننكر تأثرنا الكامل بآباء الكنيسة والمرحوم فلاديمير لوسكي.
فيا ابن الله أصعدنا من هوّة الهلاك وضمنا إلى صدرك كما ضممتَ حبيبك يوحنا الانجيلي. ولا تهمل كنيستنا الانطاكية التي اشتريتها بدمك الكريم. وزيِّنها بالرعاة الصالحين والوعاظ المفوّهين. وارحم أهلي وصحبي الراقدين!
25/1/2004
عيد القديس غريغوريوس اللاهوتي الأعظم
و16/12/2004: استشهاد يوسف الصايغ
الفصل الثاني
ما أعظم أعمالك، يا رب، كلها بحكمة صنعت (المزمور 103/24:104)
لا شك أن جميع أعمال الله عظيمة، وأعظمها على الأرض هو الإنسان. اندساس أرسطو والفكر اليوناني الوثني على الغرب انتهى به في القرن 19 إلى محاولة تفسير الظواهر النفسية بالبيولوجيا والفيزيولوجيا، وإلى الزعم أن التطور يصنع من القرود العليا إنساناً. طبعاً هذا سقوط كبير. والحقيقة الساطعة هي أن في العالم اليوم أكثر من 5,6 مليارات إنسان. لا يشبه فيهم التوأمان بعضهما بعضاً 100٪، بل لكل منهما شخصه المستقل وشخصيته الفريدة. وليس للحيوان والجماد شخص وشخصية. هنا فرادة الإنسان. منذ حين ذهب البعض إلى أن للبشر 3 أصول. ثم قيل لاحقاً بصورة جازمة إن أصلهم واحد فقط.
كيف تنوّع هذا الأصل الواحد فأثمر فرادة المليارات؟ اللاهوت الأرثوذكسي وحده يعطي الجواب: الإنسان شخص فريد ذو أصالة خاصة. لا يمكن حصر شخصه في جسده المائت. ولا تفسير لتباين البشر بأي تحليل كيماوي ـ بيولوجي. الشخص أبعد من البيولوجيا. الجسد في الشخص وليس هو الشخص. ولذلك ليس الشخص مركباً كيماوياً ـ بيولوجياً بل كائناً نشعر به بوعي روحي داخلي. هل من “أنا” للحيوان؟ لا. هنا عظمة الخلق الأولى: مليارات البشر التي لا يشبه فرد فيها فرداً آخر. تشبه الحيوان جسدياً من بعض النواحي إنما تختلف عنه جذرياً بفرادة أشخاصها وأصالتها.
هنا السرّ العجيب المحيِّر. وكل إنسان قابل للنمو روحياً إلى حد الاتحاد بالنور الإلهي. فهل لدى الحيوان حياة روحية أو فكر فلسفي أو قدرة على الإبداع والقراءة وتصنيف ملايين الكتب؟ وهل أنثى الحيوان تشبه أنثى البشر 100٪؟ لا، ثم لا…
الله 3 أشخاص. والبشر أشخاص. الغاية النهائية هي التحام الشخص البشري بالأشخاص الإلهيين بطاقاتٍ يمدّه بها الله. بذلك يتجاوز الإنسان نفسه بقدرة إلهية، ليتحدّ بالله. هنا سرّ عظمة خلق الإنسان: يستطيع بالعون الإلهي أن يصير كائناً سماوياً، أن يرتقي من الترابي إلى السماوي ومن الجسدي إلى الروحاني، ومن الاجتماعي إلى الإلهي. يصير عضواً في شركة أبناء الله المفديّين بدم المسيح. حقوقه هي حقوق المواطن السماوي (فيلبي 20:3) لا الأرضي.
عالَم الشخص هو عالَم الانفتاح الشخصي الإرادي الحر الطليق المبدع الخلاّق المبتكِر المنفتح على مليارات الخيارات. أما عالم الحيوان فهو عالم المحدودية. الإنسان قابل للتطور الخلاّق في نعمة الله لكي يبلغ ملء المسيح. الشخص البشري مخلوق، ومع ذلك هو منفتح على الإله الخالق غير المحدود بقدرته الفائقة. يصير مسكناً للإله غير المخلوق. كيف؟ أنا جاهل بل أنا الجهل بعينه، إنما أؤمن بأن العذراء وسعت ابنها الرب يسوع، وأن الرسل وأندادهم من القديسين هم حاملو المسيح، حاملو الله. الله هو مجالنا الحيوي. كيف أصبح، أنا المحدود، هيكلاً لله غير المحدود؟ إنه سرّ الشخص. لذلك إعلانات حقوق الإنسان المدنية في التاريخ كلام فارغ ما آخى البشر. اللاهوت الشخصاني الروحي الأرثوذكسي هو العلاج. لا يخدِّر الناس بالكلام بل يؤلِّههم بالنعمة الإلهية.
الثورة الفرنسية استعمار. والثورة الشيوعية استرقاق وإبادة عشرات الملايين. فالعيوب على ما نرى ونسمع. المثاليات كلام[4]. اللاهوت الأرثوذكسي هو صليبٌ وقيامة وصعود مع الرب يسوع، وجلوس سرّي (مستيكي) عن يمين الله. فلا غبطة إلا في الامتلاء الشخصي من الروح القدس. من أجل هذا الهدف السامي مات الشهداء والنساك. فلا المال ولا الجاه ولا العلم أنقذت الإنسان من بؤسه الداخلي. “العلم ينفخ” (1 كو 1:8). الجاه يُفسد. المال يستعبِد ويجلد صاحبه. لا افتخار إلاّ الافتخار بالله. المصيبة الكبرى هي أن الإنسان يهدر نفسه خارجياً بدلاً من التركيز على ذاته داخلياً. لو عاد الأطباء والبيولوجيون إلى ذاتهم الداخلية وتأملوا معجزة تكوين الإنسان لوقعوا في الدهش الإلهي. يعاملون الإنسان كما يعاملون الحجارة فتعمى عيونهم عن رؤية مجد الله.
يوحنا السلمي لفت الأنظار إلى أن مشاغلنا تصرف ذهننا عن الانشغال بشهوات جسدنا. ولكن إن دخلنا الدير وتبخرّت مشاغلنا عادت حرب الجسد. ومن يغرق في بحر العلم أو المال أو الجاه أو الهموم الجسدية المتنوعة كظم الجوانب الأخرى، بما فيها التأمل في الكون والمصير ومعجزات الله. لقد شوّه الإنسان المادي ذاته بالكبت والكظم ليستسلم إلى ميل يجرفه بعيداً عن الله. أما الروحاني فعقد العزم على حصر فكره أولاً في الله موحِّده.
فكل تنظيمٍ أرضي لشؤون الإنسان يتجاهل كينونته مواطناً سماوياً لا يؤول به إلى السعادة الحقيقية. وقد ينقلب السحر على الساحر. الله أولاً وأخيراً. وهذا يعني الحياة في الله لا التعصب لدين أو فئة. الله هو الهدف. تكريس الروح له كلياً هو الواسطة. وما المتألهون الحقيقيون سوى آنية للروح القدس. حوَّلوا إليه كل طاقاتهم. صاروا ملائكة في أجساد. هذه هي الروحانية الحقيقية. وكل إنسان مدعوّ إليها. والقضية قضية إرادة فولاذية. ضعف الإرادة هو المرض العضال.
شدّد، أللهم، إرادتنا لتكونَ وحدك القوةَ الجاذبة المطلقة التي تجذب قلوبنا.
عيد رفع الصليب 14/9/2004
الفصل الثالث
الإنسان العتيق والإنسان الجديد (أف22:4-24 وكول9:3-10)
استعمل العهد الجديد هاتين العبارتين: فما هو الإنسان العتيق؟
خلق الله آدم وحواء بريئَين لأن الله لا يخلق الشرّ. خلقهما على صورته ومثاله مزوَّدَين بروح عاقلة حرة. هذه الصورة الحية مملوءة من الشوق إلى أصلها. خلقَها لمجده. نقول إن الآب بذل ابنه وإن الابن بذل نفسه من أجلنا، بينما نحن ساقطون وأعداء. فكم بالأحرى أن تكون محبته لآدم وحواء عظيمة ليجعلهما متجهَين إليه يعيشان في كنفه ورضوانه؟
في انجيل لوقا:”آدم ابن الله” (38:3). كم كان هذا الابن عزيزاً غالياً؟
ولكنه سقط. كانت قواه وأشواقه جميعاً متجهة إلى الله. شابها الاعتلالُ. تمزّقت الصورة إرباً إرباً إلى ألف قطعة وقطعة. تهشّمت المرآة. مال آدم وحواء إلى العالم الخارجي وجسديهما. صار جسدانيَّين. اشتهيا ما في الأرض. سقطا من رؤية الله ومعرفته. نسيا الله. كان الله مركز ثقلهما، فصار جسداهما والدنيا مراكز ثقلهما. خالفا وصية الله. أغراهما الشيطان بتعدّي وصية الله طمعاً في تألّه كاذب. نفخهما بكبرياء فارغة سقط هو نفسه بسببها.
يا لهول هذا السقوط!
يُولد الإنسان اليوم كما يُولد جرو الحيوان. يهتم أهله بجسده فيوقظون فيه أحاسيس الجسد، وحواسَّ الجسد. إن كانت الأمّ مؤمنة ألقت في خلده شيئاً من حبَّات الإيمان والتقوى وإلاّ … طبعاً ليس الإنسان حيواناً. الأرثوذكسية تؤمن بأنَّ الله يكوِّن في رحم المرأة الجنين كشخص فيه روح وجسد. فهو شخص منذ لحظة تدخّل الله. تكوينه كشخص سرٌ إلهي. فالله هو الذي يصنع له الشخص والروح لا أبواه. قدس الأب بريك ما ألمَّ بما فيه الكفاية بهذه النقطة في كتابه “الحياة هبة مقدسة” الذي ترجمته الأخت المجتهدة كاترين سرور. ولم يذكر العملية كسرّ إلهي. واجتهد في تحديد لحظة انعقاد الإنسان في الرحم. هذا شطط غربي لا أرثوذكسي. هو مثلي يؤمن بتدخل الله. اليوم يقول العلم كذا. وغداً قد يقول خلاف ذلك. وهو في جميع الأحوال على خطأ. الله وحده يعلم اللحظة الخاطفة التي يتدخل هو فيها لتكوين النواة الأولى. بريك ما أعطى السرّ الإلهي مكانه. انعقادي في جوف أمي سرّ إلهي. أسجد لإلهي الذي تدخل في اللحظة الأولى لوجودي. كل ما في الإنسان ـ وعلى الأخص روحه ـ معجزة كبيرة. كل خلية فيه معجزة. لو انتبه الأطباء والبيولوجيون إلى ذلك لسبّحوا الله آناءَ الليل والنهار. ولكن طرائق العلم الأوروبي ـ الأميركي مادية ساقطة تمنع التسبيح بحجة الموضوعية والوضعية والعلمية الشيطانيات. حتى المؤمنون صاروا عبيد هذه الطرائق لأنهم جبناء لا شهداء ورسل.
تاريخ البشرية يعرّفنا بالإنسان العتيق. لن أسرده برمته.
انتفخ الألمان في القرن 19 بتفوقهم العلمي، فصاروا عرقيين متعاظمين. اجتاحوا فرنسا في 1870. ساقوا العالم إلى الحرب العالمية الأولى، فسقطت دولتهم وامبرطوريات روسيا والنمسا وتركيا. واندلعت الثورة الشيوعية، فقتل اليهود حوالي خمسين مليوناً بحسب الاحصاءات الرسمية. وكانت نكبة الأرمن والأرثوذكس في تركيا وكيليكيا. وانتعشت ألمانيا وبريطانيا تضحك لئلا تنتفخ فرنسا، وذلك بعد الحرب العالمية الأولى. وكانت الحرب العالمية الثانية، فداس هتلر أوروبا ثم داسها ستالين على جماجم عشرات ملايين القتلى، وترميل النساء، وتيتيم الأطفال، ودمار البيوت وسرقة الممتلكات، وهتك الأعراض وو … وكان تشرتشل قد ورَّط روسيا وألمانيا في التقاتل فنجت الجزيرة البريطانية من الغزو الألماني ونجت الدنيا من هتلر. ومع هذا أشار تشرتشل أن تبدأ حرب جديدة مع روسيا فورَ سقوط ألمانيا ما دامت أميركا تمتلك القنبلة الذرية بينما لا تمتلكها روسيا. تشرتشل بطل الحرب العالمية الثانية بفكره يتنكرَّ فوراً للجميل وينصح بإحراق روسيا منقذة شعبه وشعوب العالم. أي شيطان أوحى له بذلك؟ ومنذ 1969 سعى حلف الأطلسي لشنّ حرب نووية. وفي عهد الرئيس الأميركي ريغن استفحل تيار حرب الفناء الذري. صادقَ الرئيسُ الروسي غورباتشوف ريغن فانخفضت حرارة جهنم.
لا دين للسياسة والسياسيين. الله هو إله المتواضعين الخاشعين لا إله المصارف التي تبيّض أموال الجرائم المنظمة وتهريب المخدرات، لا إله المنتفخين بالمجد الباطل والسلطان والمال وو…
العِلْم الأوروبي الأميركي أفاد من نواح ٍ ولكنه شوّه الكرة الأرضية. صارت بحاجة إلى طوفان جديد من نوع آخر، طوفان نعمة الروح القدس. إنسان القرن 20-21 مسحوق وعاجز عن التطلّع إلى السماء.
هذا كله في أوروبا العلم والحضارة والثقافة وحقوق الإنسان…
وتضخمت الآلة الحربية حتى صار الروس والأميركان والانكليز والفرنسيون والألمان قادرين على تذويب الكرة الأرضية تقريباً. وتدرب الناس على السلاح في الخدمة الاجبارية أو الطوعية، فانتعشت عدوانية الإنسان، حتى ضد زوجته وأولاده.
وكانت سدوم وعمورة الجديدة في برجي بابل الجديدة نيويورك وواشنطن في 11/9/2001 فورم قلب كل إنسان شعر بهول الفاجعة. ما هذا العملاق الكرتوني أميركا الذي يخيف الكون ولا يسهر على بلده في زمن هو يعرف فيه أن الارهاب انتشر في بلده ونسف ما نسف؟ يزعم الاميركان أنهم يقرأون الانجيل؟ ألم يسمعوا الرب يسوع يقول:”احذروا الناس”؟
وهناك تجار المخدرات الذين يسمّمون الناس ويودعون أموالهم في مصارف الغرب. ما أذيع هو أنها خمسة آلاف مليار دولار تتاجر بها المصارف الغربية. يحاربون المخدرات وهم يُثرون على حساب المخدرات.
وهناك الهوايات من مخدرات ودخان وقمار ومسكرات: انتحار.
في باريس ـ على ما يقال ـ خمسون ألف تنبل لا عمل لهم سوى التسوّل ليشتروا خمراً. ينامون على الأرصفة. وإن هبطت الحرارة التفوا حول بعضهم بعضاً على فوهات الميترو والحرارة 10 دون الصفر أو أقلّ من ذلك.
وهناك أهل البطن. أعرف من دخل المستشفى بعد التخمة. إِلَهُهُم بطنهم كما قال إشعيا النبي. وهناك عبادة المال والمقتنيات، هناك من يستبيحون في سبيل كسب المال كل الموبقات. وهناك أهل الهوى المفسدون الضالون عبّاد الجسد قاتلو الروح.
على كل حال في القرن 20 مات 110 ملايين إنسان بالسلاح. وميزانية التسلح أكبر الميزانيات. هذا غيض من فيض. “الفساد وباء عالمي” إلاّ أن الدنيا لا تخلو من الأفاضل. الله قال لابراهيم إنه ما كان ليحرق سدوم وعمورة لو كان فيهما 10 أبرار. فالحمد لله على وجود نفر من الصالحين والصالحات الذين يستمطرون لنا مراحم الله.
هذا هو الإنسان العتيق المهترئ بالرذائل. فالرهبان اليوم حاجة قصوى لاستمطار مراحم الله.
أما الإنسان الجديد المتجدد على صورة خالقه فهو الإنسان الصدِّيق، غير الموبوء بالمآثم والجرائم.
في الكنيسة شهداء آثروا كل أنواع الميتات بسبب رفضهم أن ينكروا ربنا يسوع ولو باللسان. هؤلاء قمة الحب الإلهي.
لدينا قديسون لا يُحصَون: عاشوا على الأرض عيشة الملائكة. لدينا الآن في العربية سنكسار الأب توما وبعض سير القديسين مثل القديس سيرافيم ساروفسكي الذي ترجمه سيادة الأسقف باسيليوس منصور، أو سيرة القديس سمعان العمودي التي أنشأتُها، أو ما ترجمه دير الحرف وسواه.
صلبوا الجسد وأهواءه وشهواته، ووجَّهوا كل قلوبهم وطاقاتهم نحو الله. استنار جسد سمعان وجسد سيرافيم. كيف؟ هما أيضاً هيكل للروح القدس. متى جذب الله الروحَ انجذب الجسدُ وراءها. الجسد والحواس أدوات الروح. أنا الذي يُغرق جسده في نور الروح القدس، وأنا الذي يُغرقه في بحر الزلاّت.
وبسبب الحرية يستطيع الإنسان أن ينتقل من أقصى اليسار (الرذيلة) إلى أقصى اليمين (الفضيلة). خلاصي بيدي. وكل الأعذار مرفوضة رفضا قاطعاً. أدافع عن إهمالي وكسلي. فدفاعي مرفوض.
في النهاية: لا العلم، ولا المال، ولا الجاه، ولا المناصب، ولا البشر، ولا العالم برمته، بشيء يُذكر حين خروج روحي من جسدي.
الفضيلة وحدها زادي للآخرة. الإنسان إنسان بفضيلته وتقواه وإلا كان خيراً له ـ كما قال ربُنا في يهوذا ـ لو لم تلده أُمّه. الرذيلة تشوّه الإنسان أبشع تشويه، تفقده وجهه الإنساني وتُلبسه وجه الشيطان إلاّ إذا تاب.
يحتمي أهل الرذيلة بالكفر ليستبيحوا المحرّمات. ولكن منجل الموت سيحصدهم ويخزنهم في جهنم. ما نجا أحد من الموت. إنَّ ذكرَ الموت سيف قطَّاع يقطع عليَّ دروب الانغماس في الرذائل. تخيّلُ الموت وجهنم ضروري جداً. أنا ضعيف إلى حدّ حاجتي إلى هذه المكواة لأكوي بها أهوائي وشهواتي. ومن يرفض ذلك فهو متكبِّر متعجرف أناني عدو الصليب أو جبان لا يشاء أن يجلد أهواءه ورغباته بهذه المجلدة. النسك هو العمود الفقري للروحانية الأرثوذكسية. وهو الضرورة الملحة اليوم للمسيحية الغربية لتتجدّد روحياً. أهملتْ النسك والصوم فخسرتَ أحد الجناحين للطيران إلى السماء. الجناح الآخر هو الصلاة الدائمة.
هناك من يتكبّر حتى روحياً عن بعض المآثم. ولكنه روحاني مزيَّف. لا روحانية حقيقية إلا في قرع الصدر والانسحاق والتذلّل أمام الله في خطى القديس أفرام وأنداده. ليست الروحانية كلاماً روحياً، بل تمزّق القلب ندامةً (يوئيل النبي). روحانيٌ لا يسمح للشعور بالذنب بالعمل هو روحاني مزيَّف. يتم اكتشافه حين رفضه النقد والملامات. الروحاني الحقيقي يفضل المذمات على المنافخيات. الامتحان الأكبر لروحانيتنا هو صبرنا الجميل على أطنان الشتائم الموجَّهة إلينا مع الابتهال إلى الله من أجل شاتمينا. هذا هو صبر الشهداء والقديسين.
الفصل الرابع
الضمير الحي
الحياة الروحية حرب ضد الشياطين والأهواء. سلاحها النعمة الإلهية والضمير الحي الطاهر. النعمة الإلهية، والصلوات الحارة، واليقظة، والانجيل، وإتقان الفضائل المسيحية هي مجتمعة تشحذ الضمير حتى يصبر مرهفاً يكوي مصادر الأهواء بالروح القدس. في هذه الحرب الضارية ـ وهي أضرى الحروب ـ يكتشف المرء الطبيعة البشرية الساقطة عاريةً، فيقول مع بولس الرسول والذهبي الفم ليسوع:”جاء ليخلص الخطأة الذين أنا أولهم” (ا تيمو 15:1 والمطالبسي). يكتشف أن طبيعته تحتوي جميع بذور الإجرام الموجودة في عامة المجرمين والسفّاحين والخلاعيين، والشرهين، واللصوص الخاطفين وو…
كيف ذلك؟ يحارب الكبرياء، والعجرفة، والاعتداد بالذات، والعنجهية، والغطرسة، والتعالي، والتعاظم، والفخر، والزهو، والتباهي، فيحطّم شيئاً فشيئاً أجهزة الدفاع عن نفسه. متى سقطت أجهزة الدفاع هذه لا يُخفي عيوبه وذنوبه وخطاياه، ولا يخجل من معاينتها، ولا يتهرَّب من رؤية نفسه على حقيقتها السافرة. الاعتراف والأب الروحي يساعدانه جداً في هذا الباب[5]. النعمة الإلهية تشحذ قواه ليُبصر في العمق ويحفر عميقاً جداً. جاء في الرسالة إلى العبرانيين:”الطعام القويّ للكاملين للذين قد تروّضت حواسُّهم (الأخلاقية) بالممارسة على التمييز بين الخير والشر” (14:5 من ترجمتي المخطوطة). تتعرّى آنذاك له الطبيعة البشرية من الزيوف جميعاً، من “الكذب على أنفسنا” ومخادعتها. تسقط الأوهام، نعرف أننا نفاية النفايات، وإلاّ لَمَا احتاج تطهيرنا إلى دم المسيح.
بقدر ما دم ابن الله ذو قيمة غير محدودة، بالقدر نفسه خطاياي فاحشة جداً. حاجتي إلى دم ابن الله هي حاجة قصوى. بدونه أنا الجحيم قبل الجحيم الآتية. وهكذا نفهم نواح قديسٍ عظيم مثل أفرام، وضراوة نسك فاحش مثل نسك سمعان العمودي، وصلوات مستمرة مثل صلوات سيرافيم وكل القديسين، واستبسال الشهداء. كان القديس اغناطيوس الانطاكي (107) يشعر بالضعف لأنه لا يموت شهيداً. فتوسَّل إلى أهل روما لئلا يحولوا دون موته شهيداً. هذا هو ثمن نيلنا ملكوت السموات، لا الانتفاخ بالمال والجاه والمنصب والعلم والفصاحة وفتات الخير، ومظاهر الفضيلة الكذابة بينما الأخوة يهلكون جوعاً، والكنيسة في مرارات وضيقات، والناس عن أمرها غافلون. قال بولس الرسول في الرسل: صاروا كنعاج معدّة للذبح. يُماتون كلَّ يوم من أجل المسيح.
وأعلمَهم يسوع بما ينتظرهم في العالم من شدائد. ما دعا يسوعُ الرسل والرهبان والشهداء فقط إلى صلب أنفسهم بل دعا كل الناس. الأرثوذكسية لا تميّز الراهب من البطريرك والمطران والكاهن والعلماني. كلهم مدعوون إلى الموت كل يوم من أجل المسيح، إن لم يكن بالسيف فبسواه: الصوم، النسك، الفضائل، أعمال الخير، بذل الذات… الكل مدعوون إلى صلب أثرَتهم وأنانيتهم وحبّهم لذاتهم وذلك في المأكل والمشرب والملبس والمظهر والمسلك. هناك صوامع في الأديرة للرهبان، وهناك صوامع في المنازل للصلاة والتذلّل أمام الله. الله دعا الكل إلى الخلاص. يسوع مات من أجل كل الناس. ينتظر عودة الخاطئ والمجرم. ليست القداسة وقفاً على الرهبان. هي دعوة لجميع الناس. كتبت إلى دار النشر الفرنسية التي نشرت “معجم الروحانية”: هذا لأرباب الاختصاص. فماذا فعلتم للشعب؟ كان الرد نبيلاً: باشرت طبع أقسام منه مفيدة في كتب.
لا طبقية في الروحانية الأرثوذكسية. القيمة فيها للخشوع، للاستنارة. كلنا أرض ورماد وعشب ودخان أمام مجد يسوع. الذين يعفِّرون وجوههم في التراب توبةً وانسحاقاً من صميم القلب هم الأقربون، هم الذين يمشون على الأرض وقلوبهم في السماء: تجرّدوا من كل تعلّق أرضي بالطعام، والشراب، والملبس، والمال، واللذات، والجاه، وتعلَّقوا بيسوع وحده. قال كاباسيلاس: إن الله مجنون بحب الإنسان. بالمقابل الإنسان الروحاني مجنون بحبِّ الله. هذه هي المسيحية. وكل مسيحية أخرى زيف باطل. خطيئتنا تجعلنا نصوّر المسيحية حفلة فاخرة في قصور الملوك والارستوقراطيين. لا يبهرنا الذهب والماس بل نور الرب يسوع. لو دُفع الكون برمته ذهباً إلى أيدينا لا يعادل في نظرنا قطرة من دم المسيح. فلنرفع رؤوسنا إلى فوق بدلاً من انحنائها إلى أسفل مثل رؤوس الحيوانات.
المسيح جالس في السماء عن يمين الآب لا أسفل. الروحاني لا يعيش لنفسه بل للآخرين. الاحساس بالغير أمر مسيحي هامّ. أخوك على نار وأنت لا تحسّ به. فما هذه الأخوَّة الكاذبة؟ الحسّ السميك مرض روحي عضال. المؤمنون الحقيقيون يتناضحون، يتنافذون، ينفذ الواحد منهم إلى قلب الآخر. يشاطره أحاسيسه وعواطفه، يشاطره أفراحه وأتراحه. ولكن الخطيئة تجعل الحسَّ سميكاً والقلب قاسياً والمشاعر مائتة.
الروحاني دم مبذول على مذابح الغير. إن كان راهباً بذله في الصلوات والخدمات واللطف. إن كان في العالم بذله بكل ما وهبه الله من طاقات وإمكانات.
الصليب هو قلب الحياة الروحية. كان موسى وايليا يحدثان الرب يسوع أثناء التجلي في الجبل في شأن صلبه. لا تجلٍ بدون العبور في الصليب. وضميرنا الحي هو المطرقة التي تطرق المسامير. هذا هو الانجيل. لم أخترع شيئاً جديداً.
فيا أيها المتراخون، شدّوا أعصابكم. يا أيها الغافلون، استيقظوا واصنعوا خلاصكم، والخلاص معروض لجميع الناس. لا يستعفِ أحد من الجهاد. بين القديسين ملوك وملكات وأمراء وأميرات، وقادة عسكريون لامعون، وعسكر، وأطفال، ورجال ونساء من كل طبقات المجتمع والجنسيات. هناك ملوك وملكات زهدوا في العرش والمجد ودخلوا الدير. مؤخراً ايفون أرملة الرئيس شارل ديغول ماتت في الدير. الله هو مدير عملية الخلاص. يُلْبس كل واحد من مختاريه اللباس الموافق له[6].
الفصل الخامس
1ـ رحاب روحانية الكنيسة الأرثوذكسية
الأمور الروحانية أمور تفوق العقل البشري، لأنها أمور الروح المتحدة بالروح القدس. الروح القدس هو قلبها النابض. ولذلك فالتعريف بالروحانية الأرثوذكسية لا يكون بتحديدات عقلانية، بل بعرض تاريخيّ للحياة في الكنيسة الأرثوذكسية.
يسوع أقام رسله نماذج بشرية لما أراد أن يكون عليه المسيحيّون عامّة. عمّدهم بالروح القدس يوم العنصرة. هذا يعني أن الآب أرسل بواسطة الابن الروحَ القدس ليطبع المسيحَ فيهم ويكويهم بناره الإلهيّة، فيحرق خطاياهم وينير خفاياهم، ليضحوا بيتاً من بلّور يتلألأ منه المسيح. والمسيح هو ابن الله المتجسّد من العذراء، المصلوب، المدفون، القائم من بين الأموات، الجالس عن يمين الآب وقد تحوّل جسدُه الآدميّ إلى جسد روحانيّ.
يوحنا المعمدان قال إن يسوع سيعمد الناس بالروح القدس والنار. ما عمَّد أحداً أثناء وجوده على الأرض. هو يعمِّد بعد حلول الروح القدس يومَ العنصرة المجيدة. إذاَ: المعمودية هي عمل الله، وما الكاهن إلا خادم الله فيها. بالاماس العظيم قال إن نعمة الآب والابن والروح القدس تحل في ماء المعمودية، فنولد الولادة الثانية. الكاهن يصلي على الماء فيقول: فلتحلَّ فيه نعمة الفداء وبركة الأردن. نعمة الفداء هي نعمة دم المسيح المصلوب، نعمةُ الدم الخارج من جنب يسوع. الكنيسة تعلِّمنا أن الماء الخارج من جنب يسوع هو المعمودية، والدم هو القربان. الكنيسة قائمة على هذين السِّرَّين العظيمين.
وبولس الرسول علّمنا أن المعمودية هي: 1) الميلاد الثاني، نحيا مع المسيح. 2) وأننا بها نُصلب ونُدفن ونقوم مع المسيح ونصعد معه إلى السماء ونجلس معه عن يمين الآب، 3) وأنّ حياتنا الآن مستترة مع الله في المسيح، 4) وأننا سنظهر معه في المجد متى ظهر في نهاية العالم.
وعلَّمنا في فيلبي 20:3 أن موطننا هو في السماوات التي منها ننتظر المخلِّص الرب يسوع المسيح. وفي أفسس علَّمنا أننا رعية الله، وفي أفسس وكورنثوس الأولى ورومية وكولوسي والعبرانيين علَّمنا أننا جسد المسيح، وأننا أعضاء هذا الجسد، وأن هذا الجسد هو الكنيسة، وأن الملائكة والأبرار الراقدين هم أعضاء فيه. الأباء القديسون علَّموا أن الروح القدس يسكن في ناسوت يسوع منذ يوم البشارة. فم الذهب قال إن الروح القدس يسكن في رأس الكنيسة، أي يسوع ومنه ينساب إلى جميع الأعضاء أي إلينا. فنحن نتحرك ونحيا ونوجد في الله (أعمال28:17). انجيل يوحنا قاطع في التركيز على استقرارنا في الله واستقرار الله فينا. وهو يدعو يسوع العريس ويدعو الكنيسة العروس. ومتى وبولس وسواهما صريحون في هذا المعنى. يسوع هو الكرمة ونحن الأغصان (يوحنا 15). في (أفسس 6:3) نحن ويسوع جسد واحد. اللفظة اليونانية واسعة التعبير. في رومية 6 نصبح وإياه غرسة واحدة كما يوحي الأصل اليوناني. غريغوريوس اللاهوتي ويوحنا فم الذهب أبرع من استوعب ذلك: نحيا مع المسيح والمسيح يحيا فينا. نواكبه من الداخل في كل مراحل حياته.
في النهاية المسيحية هي التصاق بالله كما سيجيء: هي تحوّل جذري من آدم الساقط إلى يسوع. في يسوع نحن الآن عن يمين الآب.
هذا الوجود في يسوع هو لبّ المسيحية. فليست مجموعةَ مواعظ وتعاليم فلسفية وأخلاقية. إنها تقوم على يسوع ابن الله المتجسد. بدون التجسد، لا معنى أبداً للمسيحية. الحياة في المسيح هي المسيحية. وغاية كل تعليم فيها هو دمج المعتمدين بيسوع. لا مسيحية بدون شخص المسيح الإله ـ الإنسان. الاندماج الكامل به هو غاية الحياة المسيحية. والروح القدس هو فاعلُ الاندماج.
يسوع هذا مرسوم فينا. إذاً: الرسل هيكل للآب والابن والروح القدس. في يوم العنصرة تأسّست الكنيسة. الروح القدس فيها عمّد الرسلَ ليصيروا أعضاء في جسد المسيح، أي الكنيسة. وسُقيناه فسكن فينا (1 كور12، وتفسير الذهبيّ)، فصرنا مسيحيّين. كيرلّس الأورشليميّ قال: يسوع هو المسيح، ونحن المسحاء. الذهبيّ الفم قال إنّ الروح القدس ساكن في يسوع، ويسوع هو رأس الكنيسة، فينساب الروح القدس من الرأس يسوع إلينا. نحن أعضاء جسد يسوع. إيريناوس قال: صار الإله إنساناً ليصير الإنسان إلهاً. الذهبيّ قال: صار يسوع إيّانا لنصير إيّاه. وكان بطرس الرسول قد قال: إنّنا صرنا شركاء الطبيعة الإلهيّة (2 بط 4:1).
بولس الرسول ويوحنّا الانجيلي واضحان: نحن في السماء، في يسوع، عن يمين الآب. نرى الآن الله رؤية جزئيّة كما في لغز، كما في مرآة. متى ظهر يسوع سنظهر معه وسنراه وجهاً لوجه. (1 كو 12:13).
إذاً: يسوع بالروح القدس ملأ الرسل فوقفوا يوم العنصرة يجهرون يإيمانهم بيسوع ويدعون الناس إلى الإيمان به والتوبة والمعمودية، بشجاعة نادرة.
قبل حلول الروح القدس كانوا بعدُ يهوداً يسألون يسوع عن ردّ المُلك إلى اسرائيل (أعمال6:1). حلّ الروح، فانقلبوا إلى أسلاك كهربائية كهربها الروح القدس بناره. نالوا صدمة روحية تحولوا معها إلى شهداء أحياء حتى قضوا العمر بحد السيف (يعقوب بن زبدى وبولس وو..) وبالصليب (بطرس و…) وسوى ذلك. هرب بطرس يوم الخميس العظيم، أما في يوم العنصرة فتحوّل إلى خطيب مِصقَع تحدّى بعد حين المجمع اليهودي الأعلى واتهمه بقتل يسوع.
ألم يقل يسوع إنّ الروح القدس سيكون زميلهم في الشهادة ليسوع (يو 26:15)؟ وبماذا بشرهم على الأرض؟ ما المصير الذي تنبأ لهم به؟ قال لابنَي الرعد إنّهما سيصطبغان بالصبغة التي سيصطبغ بها، وبأنّهما سيشربان الكأس التي سيشربها (متى 22:20-23). إذاً تنبأ لهما بالموت والعذاب على مثاله. فكان يعقوب الناريّ السِمات أوّل شهيد بين الرسل. وتنبأ لبطرس بالموت شهيداً فمات مصلوباً. وتنبأ للباقين بألوانٍ شتى من العذاب وكراهيةِ العالم لهم، فذاقوا ما ذاقوا. واستشهد استفانوس البطل. واستشرى الاستشهاد حتى رأينا القديس أغناطيوس الانطاكي في العام 107 يشكو شعوره بالنقص لأنه لم يمت بعد شهيداً، ويتوسل إلى المؤمنين في روما أن لا يفوِّتوا عليه فرصة الموت شهيداً بين أنياب الأسُود. أمّا بولس الرسول فسلعة بين أيادي الجلاّدين، حتى مات بالسيف، وقد حمل في جسده سمات الربّ يسوع وإماتته.
وانساب الرسل في الأرض يَهدون الناس إلى يسوع ويعمّدونهم معرّضين حياتهم لجميع ألوان الضراوات كأنهم مسوقون دومّاً إلى الذبح كالخراف. فكانت المسيرة الطبيعية للمسيحية الأولى الاستشهاد. فنرى يعقوب المقطّع يصاب بالجبن، فتهدّده أمّه وزوجته بالنكران إن جحد المسيح.
ولماذا الاستشهاد؟ لأنه الوجه الأكمل للالتصاق بيسوع. الشوق إلى يسوع بارز لدى بولس (فيلبي 20:1-23) وفي دعاء المسيحيين الأوائل:”ماران اتا” بالأرامية، أي “ربِّ هلمّ” أو “الرب آتٍ” (1 كو 22:16)، “تعال أيها الرب يسوع” (رؤ 20:22).
الشهيد يصلب نفسه للمسيح. هو مثل بولس: مصلوب مع المسيح، لا يحيا هو بل يحيا المسيح فيه. الروح القدس الساكن فيه جعله ابناً بالنعمة لله، فينادي الآب:”أبا، الآب” (رو 15:8 وغلا 6:4)، و”أبانا الذي في السموات”. يسوع هو ابن للآب بالطبيعة، ونحن أبناء بالنعمة.
أوريجنس أنشأ كتاباً في الصلاة للموت شهيداً. أنطونيوس الكبير كان يشجّع الناس على الاستشهاد. اللون الثاني هو البتولية. بولس يشجّع عليها. هي بطولة جديدة لمعت فيها سريعاً النساء. ففضلت القديسة بيلاجيا الارتماء من على سطحٍ والموتَ، على عدوان العسكر الروماني على عفافها (العام 100). وانتهي الأمر إلى ظهور بولس البسيط وأنطونيوس الكبير وجيش الرهبان.
والرهبنة استشهاد يومي في عرف الآباء القديسين. فهي حرب ضد الشياطين وضد طبيعة آدم الساقطة ليتحول المرء جذرياً إلى صورة يسوع (2 كور 18:3). هذا التحول مستحيل بدون النعمة الإلهية: على مدى العمر أصلبُ آدم فيَّ بالأصوام والأسهار والصلوات والحرمانات لينمو يسوع فيَّ إلى ملء قامته (أفسس 13:4): أي أني طوال العمر أدفن في كل لحظة آدم وأهواءه الشريرة وأقيم يسوع. بتعبير آخر: أنا قبر يسوع. في كل لحظة أدفِن آدم وأُنهِض يسوع. قال بولس الرسول: “الذين هم للمسيح صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات” (غلا 24:5). وقال أيضاً:”مع المسيح صُلبت فأحيا، لا أنا، بل المسيح يحيا فيّ” (غلا 20:2).
يسوع علَّمنا أن نكفر بأنفسنا ونحمل صليبنا كل يوم ونتبعه.
في غلاطية 17:5-22 ورومية 7 عرض بولس الحرب الروحية بين الروح والجسد. الروح تشتهي ضد الجسد، والجسد يشتهي ضد الروح، وكل منهما يقاوم الآخر. الحرب ضد الجسد هي حرب ضد الرذائل في سبيل زرع الفضائل المعاكسة. سقوط آدم هشّم الصورة الإلهية فينا كما تتهشم المرآة الساقطة أرضاً (أمسية في جبل آثوس)، فصارت ألف قطعة. الجهاد الروحي يرنو إلى جمع هشيمها على صورة المسيح. الخطيئة مزقت وحدة كياننا. بالروح القدس الرب المحيي نجمع قوانا المبعثرة في وحدة تامة. هزال الإرادة ينقلب إلى قوة جبارة نلجم بها الأهواء الشريرة ونبني إنسان الفضائل. لا بد من تحويل كل طاقات الإنسان إلى عمل الخير.
المجرم الكبير السفاح يبذل طاقات في الإجرام. المهربون يغامرون بحياتهم. المقامرون ينفقون صحتهم وقد يرهنون أثاث المنـزل، ويبيعون المرأة والأولاد. لا أبالغ. أعرف الأمر شخصياً. الشبِق جنسياً ينتحر روحياً ويتلف جسدياً. وهذا أعرفه شخصياً. ينتهي صاحبه حيواناً. عشاق المال متكالبون بضراوة النمور. عشاق المناصب قد يضحون وحوشاً ضارية، فيقتل أحدهم أهله كما كان يفعل بعض سلاطين بني عثمان. في كل الرذائل ينفق المرء طاقات كبرى. في الرذائل ينفق الناس طاقات تفوق قدرتهم الطبيعة. رجل الفضيلة ينفق هذه الطاقات في محاربة الرذائل واقتناء الفضائل. الحرب مستمرة ليل نهار.
لا تستسلم الأهواءُ الفاسدة إلاّ في لحظة موتنا أبراراً. والشيطان حريص على تدنيس فضائلنا. فقد يمتهن أحدهم الإحسان إلى الغير. ولكن قد يتلوث الإحسان بمقاصد خاصة: طلباً للمديح، للشهرة، للزعامة، للاستزلام، للايقاع بالمحسن إليهم وعرضهم وشرفهم، لتلويث ضمائرهم… المحبة الطاهرة المكوية بنار الروح القدس نادرة. المحبة عاطفة بشرية عامة. الأم الحنون تجسيدٌ ما لها. ولكن قد تكون الأم أنانية في حبها. وقد يكون المرء معقداً بالتضاد. أي في لاشعوره يتعايش الحب والكراهية. فقد ينقلب الغلوّ في الحب إلى غلو في الكراهية. التمايل عاهتنا. لا حب إلا حب الله. البشر يتقلبون ويخونون. لذلك المطلوب هو الأمانة. الأمين في حبه موثوق. والأمانة وفاء حتى الموت. والتجربة أكبر برهان. عند الشدة يخون الأهل والأصدقاء بعضهم بعضاً. لذلك ما يجب الفحص عنه هو الوفاء. فإنسان غير وفيّ هو إنسان عاجز عن الحب الكامل الحميم الاستشهادي. هو متقلّب تقلّب رياح الصحراء. نقول: الوفاء الزوجي كماله في زوجة أو زوج لا يخون ولو قُطِعَ رأسه. هذا وفاء وسواه هواء.
الإنسان قادر على إفراز هبات هوجاء من الحب والولاء. في علم النفس الاجتماعي العلماء لا يثقون بهبات عواطف الجماهير. لهم ولفرويد تحاليل خاصة: تنقلب الجماهير فوراً من أقصى الحب إلى أقصى الكراهية. ولذلك يجب في التربية الروحية التركيز على الوفاء والثبات دون التصلّب الأعمى. فالضمِير الحرّ النـزيه الحيادي البريء من الهوى هو المِقود. الضمير الطاهر هو الحَكَم. ولكن هل من السهل اقتناؤه؟ أباؤنا القديسون ركزوا على حالة روحية اسمها “عدم الهوى”. عدم الهوى هو حالة روحية عالية السويّة. لوسكي أثبت أنها انتصار المرء على الأهواء. يوحنا السلمي علَّمنا أن نغرس الفضائل مكان الرذائل عبر جهاد روحي مرير. عندما لا أبقي لأهوائي الرديئة متنفَّساً ولا قدرة على العمل، تكون طاقاتي كلها قد أحرزت النصر واقتنت الفضائل، وصرتُ حراً من كل ما هو دنيوي. آنذاك ضميري يلمع بالروح القدس، فلا ينحاز إلى شبه شر. الضمير الطاهر الشريف اللماع هو ابن الروح القدس. نحن ضعفاء ضعفاء ولو قضينا ألف سنة في الجهاد الروحي والصحة صحّة عملاق جبَّار. فالقوة في الروح لا في الجسد.
والوجه الثالث هو استشهاد الضمير كما يذكر أثناسيوس الكبير في “حياة أنطونيوس الكبير”. ونرى ذلك لدى ذياذوخوس فوتيكي. فأجاد التعبير عنه أندراوس الدمشقي، أسقف كريت، في قانونه الكبير:”من هنا قد أُدِنت، من هنا قد شُجبت، من قِبَل ضميري الذي لا يوجد أكثر عنفاً منه في العالم” (5:4 من الجزء الأول).
بدلاً من مسامير يسوع وسيوف الجلاّدين، ضميري هو السيف القطّاع الذي يلجم فيَّ كل نهضة نحو الشر (إن كان بالفكر أو باللسان أو بالفعل) لينتشر فيَّ يسوع في بهاء نوره القدوس.
فمن لا يموت منا شهيداً بالسيف أو في الدير، يموت شهيداً بضميره الحي. والراهب هو أيضاً هذا الشهيد. يساوي الأرثوذكس في هذا المجال، فلا نفرّق بين الروحانية الرهبانية والروحانية العلمانية. كل معمَّد شهيد في حال القوة والإمكان. متى تأتي ساعته؟ ربه أعلم منا.
فما هو الضمير الحي؟
الإنسان كائن عاقل قادر على عمل الخير وعلى عمل الشر. بسبب سقوط آدم وحواء صارت قوانا النفسية مريضة. لذلك في نفْس الإنسان تفسُّخ. فقد أعرف الخير ولا أريده، وقد أعرفه وأريده فلا أفعله. والأسباب الموجبة لذلك لا تُحصى أبداً. كل يوم تتبدل مواقف الإنسان مراراً. نحن ريشة في مهب الرياح. وأعسر ما في الموقف هو أن الانجيل ملأ القوى العاقلة بمفاهيم روحية وأخلاقية تناقض أهواء الإنسان وشهواته.
الحياة في العائلة والمجتمع فرضت منذ البدء مفاهيم أخلاقية كانت بدائية ومحدودة. يسوع وسَّع الدائرة إلى حد أقصى. القوى العاقلة في الإنسان تلتهم المسيح وانجيله (أفسس 3: 17 ومقاطع عديدة أخرى من إنجيل يوحنا…)، فينشأ فيها ضمير حي حادّ في تفريقه بين الخير والشر. الرسالة إلى العبرانيين ذكرت أن كلمة الله أمضى من كل سيف ذي حدَّين… (12:4…). كلمة الإنجيل، بالروح القدس، تخترق كل كياننا، فيضحي الضمير يقظاً ساهراً صارماً يزجّ المسيحي في الخير ولو كان في فرن النار، ويردعه عن الاثم ولو كان في جنات نعيم الأرض. هو كالسيف القطّاع يقطع بين الحق والباطل، بين الفضيلة والاثم. هو دوماً مع الحق والحقيقة (2 كو 8:13)، ومع الخير ضد الشر. هو صارم تجاه صاحبه، رئيف تجاه غيره. يرأف بضعف الناس ليقودهم إلى يسوع. ليس فريسياً ولا مرائياً. هو قبسات من الروح القدس.
النسك؟ ما دوره؟
عبر التاريخ قدمت الكنيسة الأرثوذكسية كمية هائلة من الشهداء. ورهبانها هم الذين شرَّعوا طريقة النسك في جنوب البحر المتوسط وشرقه.
فالنسك في العالم المسيحي ظاهرة أرثوذكسية واضحة:
1- الأصوام والحرمانات. كل التيار الرهباني الأرثوذكسي ومعلميه (آباء البراري، باسيليوس الكبير، يوحنا السلمي، مكسيموس المعترف، اسحق النينوي وسواهم) جعلوا الأصوام قوام الحياة. نعرف أن سمعان العمودي كان يقضي الأربعين (48 يوماً) بدون طعام أو شراب. كثيرون منهم كانوا يأكلون مرة أو مرتين في الأسبوع. وما نوعية أكلهم؟ نوافل الطعام الناشف.
الصوم يكبح الأهواء جميعاً. هو إمساك عن الطعام ينعكس على النفس فيضحي إمساكاً عن الرذائل. باسيليوس قال إن الصوم يطفئ الحروب. السيطرة على الحنجرة والبطن تنتهي إلى سيطرة على النفس. شراهة الفم تنقلب إلى شراهة عامة، فيشتهي المرء المال والنساء والمناصب والمظاهر وو… متى لجمناه لجمنا أنفسنا. والصوم هو وسيلة ذلك. موسى وايليا ويسوع صاموا 40 يوماً. يوحنا المعمدان عاش ناسكاً كبيراً. حنة النبية قضت عشرات السنين الطويلة في الهيكل في الأصوام والصلوات. صوم أهل نينوى مشهور. لا مهرب من الصوم.
والحرمانات نسك. نعوّد النفس على أن نعطيها ما نريد لا ما تريد هي. الصوم والحرمان بتقوى وإيمان وصلوات يقويّان الشخصية الروحية ويحررانها من عبودية الأهواء. والصوم الأربعيني عندنا هو فترة توبة وخشوع وصلوات. البرنامج مشحون جداً.
قد يعيب الغير علينا هذه النبرات العالية التوتر. لسنا نحن المسؤولين عنها. هذا هو المسيح. هو شاء أن يخلصنا بالصليب. كل تلطيف للصليب هو خيانة كبرى للمسيح. فهل الصوم أقسى من منابر الاستشهاد؟ إن كنا روحانيين نشتهي الموت شهداء رفضنا كل دعوة إلى تليين الأصوام والتقشفات والحرمانات والصلوات. الأرثوذكسية دين الصوّامين والمصلّين المطوالين. قداسنا الطويل (3,5 ساعات ـ 6,5 ساعات بحسب الأمكنة) هو رائعة المسيحية الفذّة. هو السماء على الأرض. كل مسٍّ به مؤامرة شيطانية خبيثة. الأرثوذكسية تهتم بالكيفية أولاً وبالعدد ثانياً. المتأففون من طول القداس هم غير محترفي الصلاة. نحن بحاجة إلى محترفين لا إلى متشدّقين. نحن لا نقلّد المتراخين بل المتشدّدين… ما الفائدة من المتراخين؟ عبء ثقيل علينا. وأدعياء الحداثة والتطور هم أدعياء “الفلتان” في نهاية المطاف. رأينا ماذا فعل التطور الخبيث من “فلتان”…
لا مكان في قلب يسوع للميوعة والمائعين والمتراخين. لا يُؤخذ ملكوت الله إلا غلاباً. المسيحي عسكري في الجبهة لا مخنّت على موائد المطاعم الكبرى. إما أن يكون يسوع إلهه، وإمّا أن يكون بطنه إلهه. لا تمكن عبادة ربين معاً. إما أن تعشق يسوع، وإما أن تعشق جسدك وشهواته وأهواءَه. الحرب بينهما مستمرة إلى النهاية. الشوق إلى يسوع وحده شوق. الشوق إلى يسوع يلجم الشوق إلى التخمة والزنى والفحشاء. العصر والرفاهية ونعومة العيش خنَّثت البشر. التخنَّث عدو الجهاد الروحي. أمهات اليوم يفرطن في التدليل في الطعام والشراب والملبس والسكنى وو… بدلاً من تقوية إرادة الأولاد وشخصياتهم. يزرعن في قلوبهم الخوف بدلاً من الشجاعة والمتانة.
2- العفّة، وبخاصة عند النساء. فالأرثوذكس متشدّدون في ذلك. لا تسامح في الأمر، بل ضبط نفس. الكيفية هي الأساس لا الكمية. نحرص على جميع الناس ولكن لا نمنح تبريرات للإثم. الإثم هو الإثم. الزنى هو الزنى قبل الزواج وأثناءه وبعده. لا نمنح أسباباً تخفيفية لأحد. باسيليوس الكبير لام التساهل مع الشباب. فهم ملزمون بالقانون مثل البنات. لا فرق بينهما إلاّ في غباوة الأهل الأغبياء الغائبين عن الوجود.
3- الصلوات المتواصلة. لا يتذوق الأرثوذكسي الممارس القداس الإلهي إلا إذا طال 3-7 ساعات. في بلاد الأرثوذكس المتشدّدة مثل روسيا، الصلاة مثل الهواء للتنفس. هذا ما شعر أقطاب في الغرب المسيحي بالحاجة إليه. كتب الكاتب الفرنسي الكاثوليكي الكبير فرنسوا مورياك: إن هبّت الروحانية يوماً فستهبّ من روسيا. وكتب غيره: الغائب الأكبر في الغرب المسيحي هو الروح القدس. وقال فرنسي في مقابلة تلفزيونية ما يذكِر بكلام مورياك (النور، السنة 2003). وأبدى ملاحظة رائعة: عندنا تخمة من الكتب. المسيحية صلاة لا كتب فقط. كلمة أيفاغريوس رائعة: “اللاهوتي هو المصلي، والمصلي هو اللاهوتي”. لا قيامة روحية للغرب إلا بصلواتنا الطويلة المستمرة. المسيحية صلاة لا جامعات. دير الذين لا ينامون مشهور في تاريخنا. فلنُعِده.
تتجلى الروحانية الأرثوذكسية في ما يلي:
- المعمودية[7] عنصرة جديدة: التغطيس ثلاثاً هو اشتراك في دفن المسيح وقيامته في اليوم الثالث. المعمودية ولادة ثانية مع المسيح. فالعنصرة هي امتداد تجسّد يسوع. يتجسّد يسوع فينا فنصبح أمه وأخاه وأخته (متى 49:12، وغريغوريوس اللاهوتي 1:39) وأبناءَ الآب (غلاطية ورومية). وآباء عديدون ذكروا أن لفظة “أبانا” في الصلاة الربانية تنطبق على الثالوث القدوس كله أيضاً (متى50:12)[8]، ونلبسه كرداء ونساهم في كل حياته وعند بولس الرسول نحن هيكل الله (2 كور 6) وسواه. الخطبة 45 من خطب غريغوريوس اللاهوتي روعة: “…بالأمس صُلبت مع يسوع، بالأمس دُفنت معه، اليوم أقوم معه…” الذهبي قال إن الكنيسة هي يسوع. إذاً: يسوع هو نحن ونحن يسوع[9]. ماء المعمودية يعيد جبلتنا بدم المسيح، فيغفر خطايانا فتُغفر[10]. المسيح هو حياتنا (كول 4:3).
- الميرون المقدس[11] يزرع الروحَ القدس فينا لننمو في يسوع. المعمودية هي الولادة، والميرون هو القوة الإنمائية (كاباسيلاس). وسيرافيم ساروفسكي قال: غاية الحياة هي اقتناء الروح القدس. الروح القدس هو روح الأرثوذكسية المميّز لها بامتياز. وذكر الميرون يجرّنا إلى:
- القربان المقدس: الجسم بحاجة إلى طعام وشراب. جسد يسوع هو طعامنا ودمه هو شرابنا. بهما نمتزج بيسوع، فننال غفران الخطايا وميراث الحياة الأبدية. يسوع ذبيحة حية ليصير مائدة طعامي. يا لهول السر! الصمت أفصح من الكلام.
- التوبة: دموع التوبة معمودية ثانية أهم من الأولى (يوحنا السلمي وبالاماس، بالاعتماد على اللاهوتي). التوبة هي محرِّك الحياة الروحية الأرثوذكسية. ومكواة الضمير منخس ناري يلهبها. في السلمي واندراوس الدمشقي وكتاب التريودي والمطالبسي وأفرام السوري وسواهم نتعلم الارتماء عند قدمي يسوع كالغرقى المدنفين: يأس من كل شيء، وارتماء الهارب من الأفاعي إلى المنقذ الوحيد. كل ضعف روحي هو تهاون في التهاب مشاعر التوبة. طالما نحن غير كاملين، فنار التوبة هي التي تلتهم نقصنا. لا روحانية بدون تهشم شخصي بمشاعر التوبة ببطولة الرجال لا بميوعة ضعفاء الشخصية المعوقين. لا شيء في الحياة الروحية ينفصل عن بطولة الشهداء. مَنْ البكَّاؤون الكبار التوَّابون؟ أفرام السوري واندراوس الدمشقي وسمعان اللاهوتي الجديد. هؤلاء عمالقة لا أقزام. حمى الله عدنان طرابلسي الذي أتحفنا بمزامير أفرام الروحية.
- صلاة يسوع: كانت اللغة اليونانية لغة حوض المتوسط. وكان المسيحيون الأوائل فيه يقرأون العهد القديم في الترجمة اليونانية السبعينية حيث يرد اسم الرب Kyrios أكثر من 6000 مرة. وفي الكنيسة كان يسوع الكل في الكل، على لسان الرسل للبشارة وللصلاة. وهذا ما نراه في كتاب العهد الجديد: يسوع محوره كربٍّ. ابن الله الآب يعمل في المؤمنين بالروح القدس. منذ ظهر لبولس على مقربة من دمشق، صار كليَّاً في قلب يسوع. عاشق يسوع فعلاً مكويّ بنار يسوع: يتقلَّب على جمر غرام جنونيّ بيسوع. كاباسيلاس قال إنّ الله مجنون بحب الإنسان. فلا غرابة أن يكون بين قديسي الأرثوذكسية مجانين بيسوع. وقد ظهرت هذه العبارة أولاً في حمص (سمعان ويوحنا: عيدهما في 21 تموز).
مجموع صلوات الأرثوذكس (خدمة القداس الإلهي، المعزي، التريودي، البندكستاري، السواعي الكبير) غرام بالثالوث القدوس، بيسوع الإله المتجسد، المصلوب، المدفون، القائم، بالعذراء، بالرسل، بالشهداء، بالنساك، بالقديسين جميعاً، بالملائكة. بناء الكنيسة الأرثوذكسية (بشكلها، بإيقوناتها، بخدمة القداس الإلهي) سماء على الأرض في وسطها يسوع يحيط به العذراء والرسل والقديسون. خدمة القداس هي حياة المسيح مُعادة، ونقطة الدائرة فيها ذبيحة الصليب والقبر. وكلما مرّ لفظ Kyrios في الصلوات وتلاوة الكتاب المقدس، كان يسوع في الخاطر. فكلما وعظ واعظ وبشَّر مبشِّر، كان اسم يسوع في الواجهة. وكلما مات شهيد، مات وقلبه مكوي باسم يسوع. وكلما خلا إنسان لربه اختلى بيسوع. المؤمنون يعيشون والروح تخرج من الجسد لهفة وحناناً وشوقاً إلى يسوع، يحدوها حافز يخنقها حناناً للخروج من ذاتها ليفرغها الروح القدس في يسوع. لهذا مات الشهداء.
ولِمَ هرب الرهبان إلى البراري؟ ليكونوا ليلاً ونهاراً لعبة بين يدي يسوع. ما عمل بولس البسيط وانطونيوس خلال الليل والنهار؟ هل كان لديهما مشاغل سوى يسوع؟ وأرسانيوس الذي كان يغفو ساعة ويستيقظ 23 ساعة في الصلاة؟ مَنْ همّه غير يسوع؟ وهكذا استقطب الكيريوس يسوع كل قدرات المسيحيين الأولين، فاشرأبَّت إليه أعناقهم، حتى صارت قواهم كلها ملتصقة بيسوع. بولس الرسول اعتبر الصلاة حرباً (رو 30:5 وكولوسي 12:4). لغريغوريوس اللاهوتي عبارة ذهبية: “نحن نجهل الخوف لأننا نحارب مع الله” (27:45). في المعركة الحاسمة مع قوى الشر جميعاً، يد الله ويدنا متشابكتان. ما هي هذه الحرب؟ إنها الحرب ضد الشياطين والرذائل ليحل يسوع وإنجيله فينا.
يسكن يسوع فينا بالإيمان (أفسس 17:3). وكلمة الله تسكن فينا بغنى (كولوسي 16:3). وكلام يسوع يجعلنا أطهاراً (يو 3:15). نصبح الانجيل الحي. أوغسطينوس وأوريجنس وديمتري روستوف وسواهم ألحّوا على مفعول الكلمة الإلهية. أوغسطين قال إننا نتناول الانجيل كما نتناول القربان. أغناطيوس بريانتشانينوف أتى على ذكر معرفتنا يسوع بواسطة الانجيل. اسم يسوع في العهد الجديد يطرد الشياطين ويجري المعجزات ويخلِّص[12]، وهو كل شيء. في خبرة الرهبان: إذا صار ذكر اسم يسوع واستدعاؤه طبيعة ثانية، طرد عنّا الشياطين وأبطل التجارب وأطفأ نار الأفكار الشريرة، وصار لنا مناولة مثل القربان (هيسيخيوس السينائي 97:1-99). وهو يجلد الشيطان ويحرقه (يوحنا السلمي وأغناطيوس وكاليستوس أكسينثابولي الآثوسيان).
يسوع القوي يدخل بيت عدوه فيكبله بالحديد وينهب موجوداته. أنا هو البيت الذي يغزوه يسوع ويمتلكه منتزعاً إيّاه من يد قوى الشر جميعاً (متى 29:12). لو كان الخلاص ممكناً بالفلسفة والحكمة البشرية، والعلم البشري، والبطولة الجسدية لَمَا كانت حاجة إلى التجسد الإلهي والصلب. أنا هزيل إلى الحدّ الذي يستحيل فيه اندماجي بالله إلاّ إذا تجسّد يسوع، وصار ذبيحة على الصليب، ليصير مائدتي، ليصير طعامي وشرابي، لكي يتغلغل في كل جُزَيء من ذرات روحي وجسدي. إن لم أصر مسكناً للروح القدس ومقراً ليسوع، فلا يمكن لي أن أصير طاهراً. لو قضيتُ ألف عام في النسك مثل سمعان العمودي، فباطلاً أتعب إن لم يصبح الروح القدس ويسوع ملء كياني. يسوع هو الذي يشنّ الهجمات الصاعقة على الشياطين وقوى الشر ليحتلَّ كياني إن فتحت له قلبي. ما إن أفتح له صدري مخلصاً مرتمياً عليه حتى يدخل فيَّ ويهزم قوى الشر. أسلّمه ذاتي، فتصبح أمانة بين يديه. يصبح هو المسؤول عني.
من الكتاب المقدس حتى آباء البرية وكاسيانوس وذياذوخس وفيلمون ويوحنا السلمي وهيسيخيوس ونيكيفورس الآثوسي وغريغوريوس السينائي فبالاماس والفيلوكاليا (1782) الخط ثابتٌ: غرز اسم يسوع في روح الإنسان بحرارة الروح القدس في يقظة وصحوٍ وسهر وضمير حي. من دون الدخول في النقد التاريخي لصلاة البناجية، استدعاء يسوع فيها قديم (سواعي عرمان، ص 118). بيساريون أحد آباء البرية طالب أن يكون الإنسان كله عيوناً مثل الشيروبيم، أي أن يكون يقظة دائمة.
واليقظة موضوع روحي هام جداً. يسوع طالبنا بالحذر والسهر والاستعداد، وبفطنة الحيات. بطرس وبولس استعملا لفظة اليقظة وطلبا أن نكون يقظين. الشيطان لا ينام. وهو المخادع الأكبر والكذاب الأكبر. يزأر حولنا ليبتلعنا (بطرس). يستفيد من الغفلة والسهو والشطط، من النعاس والتثاؤب والرخاوة، من الميوعة والإغراق في النوم، من امتلاء البطن بالمسكرات أو المآكل، ليشنَّ علينا الحرب ونحن نيام أو غافلون أو أو أو…
اليقظة والصلاة حربتان في ظهر الشيطان (راجع كتاب الراهب يوحنا الآثوسي، ترجمة الأب منيف حمصي وكتاب هيسخيوس المذكور آنفاً).
وليست الصلاة المتواصلة بدعة متأخرة. فأساسها في الانجيل (لوقا18) ورسائل بولس (1 تسا 17:5 ومواضع أخرى عديدة).
نال استدعاء يسوع إضافات عبر التاريخ حتى أخذ هذه الصورة: “ربي يسوع المسيح ابن الله ارحمني أنا الخاطئ”. الكسانثوبوليان أعطياها تفسيراً ثالوثياً: نقول إن يسوع رب بالروح القدس (1 كور 3:12)[13]. ونقول في يسوع إنه ابن الله، فنذكر الآب، ويسوع المسيح هو الإله المتجسد. وهكذا نذكر الآب والابن والروح القدس. ويسوع المصلوب الذي غسلنا بدمه وضمّنا إلى جسده هو الرحمة واللطف والحنان الذي أحبَّنا وغسلنا وبذل دمه عنّا (رؤ 5:1).
ولكن ما لون الصلاة؟ الجواب لدى آباء البرية. قال الأنبا يوسف للأب لوط: “لا تستطيع أن تصير راهباً إن لم تصر برمتك مثل نار تلتهب”. وسأله مرة الأب لوط سؤالاً، فقام الأنبا يوسف، ورفع يديه نحو السماء، فصارت أصابعه مثل عشرة مشاعل من النار، فقال للأب لوط: “إن كنت تريده، فصر برمتك كأنك نار” (6 و7 وأيضاً بيمين 111 وكاسيانوس، المحادثة 9 و15).
ولكن هذه الصلاة النارية والنورانية لا تتوفر للمرء بسهولة. لكي تصير مقراً لنار الروح القدس ونوره تحتاج إلى جهود مضنية لتتخلص من الميوعة وصقيع الجسد. الجسد عائق كبير أمام سعينا إلى الحرارة الروحية. هو أخو الكسل والرخاوة والتثاقل، هو عبد الرفاهية والنوم، هو عبد شهوات متعددة ولذّات متنوعة. هو جليد يبرّد حرارة الروح. ولذلك لا بد من الحرب في الصلاة (رو 30:15). فعلاً هي حرب روحية ضارية.
ذكرُ اسم الرب يسوع باستمرار مكواة للشيطان. من يحتمل المكواة؟ لا أحد إلا الشهداء. ولذلك يثور الشيطان علينا بجنون هائل. بدون بطولة نادرة نهرب، ونترك الساحة له. المصلي هو مشير (ماريشال) في حرب ضروس يصلي ليلاً ونهاراً. الصلاة مهنة مثل كل المهن: الطب، المحاماة، الصيدلة، الهندسة، النجارة، الزراعة. هي مهنة كل مسيحي يسعى بجدّ نحو الصلاة. المسيحية ديانة تصوّف لا ديانة تشريع وعلم وفلسفة ومؤسسات. المسيحي الحق متصوف حق. والتصوف المسيحي هو عمل النعمة الإلهية التي تصلنا بالله.
في حوالي 500-510 للميلاد أنشأ كاتب سوري مجهول اسمه ديونيسيوس كتاباً اسمه “اللاهوت الصوفي” قال فيه فلاديمير لوسكي في مقال في 1957 ظهر حديثاً في مجلة contacts (العدد 204 العام 2003 عدد أكتوبر ـ ك1): ديونيسيوس نظَّم تعليم الكبادوكيين[14]. وكان قد نشر في العام 1944 كتاباً بهذا العنوان مترجماً الآن إلى العربية (دير الحرف ونقولا أبو مراد). فاللاهوت الأرثوذكسي صوفي لا فلسفة. والتصوف روح ملتهبة بعشق الله في صلوات لا تصمت. الصلاة الدائمة هي مهنة المتصوف كما لدى رهبان جبل آثوس وأندادهم في العالم. والصلاة هي خروج من الذات إلى حضن يسوع بملء الوعي الروحي في نور الروح القدس.
قد يستغرب الغيرُ منطقي الصوفي. لا أرى معنى للديانة إن كانت لا تصلني بالله صلةً مباشرة. لماذا خلقني إن كان لا يضمّني إليه؟ لماذا زوّدني بالروح إن كنتُ سأفنى مثل الحيوانات؟ لا معنى للوجود كله إن لم يكن الاتصال بالله شخصياً أمراً ممكناً. يسوع وحده الحلّ. ولكن الاتصال به لا يتم بحياة دينية روتينية. الروتين تطفئ الحرارة. فالصوم والصلاة وتلاوة الإنجيل بدون نار الروح القدس أمور عقيمة حتى يُلهبها الروح القدس. “إلهنا نار آكلة” (التثنية والرسالة إلى العبرانيين). والنار هي النار. بدون هذه النار كل تديّن يضحي روتيناً وجسداً بلا روح. الحميّة الدينية لهيب روحي. ننشد: “كما أن نار اللاهوت لم تحرق أيضاً مستودع البتول الذي حلَّتْ فيه”. ونحن مثل العذراء مستودع لهذه النار. فالصلاة نار نار نار… بها يحلّ يسوع النار، والروح القدس النار، في كيان المصلّين الحقيقيين.
- نزعة زهديّة تحتقر العالم وما في العالم في شوق وحنين إلى الآخرة. الزهد نزعة أرثوذكسية أصلية. وما خالفها من بذخ وأبّهة واحتفالات دخيلٌ مكروه. الاحتفال بعيد الميلاد الشخصي دخيل بغيض. المعمودية هي ميلادنا الروحي. كنا نحتفل بعيد شفيعنا، فيُقام لنا قداس إلهي. الوثنية تهجم علينا.
الرهبان الأرثوذكس أشباح، بل أرواح تنوح وتندب لتترك الدنيا وتلتحق بيسوع. الفقر الاختياري سمتهم لا البذخ. لدينا الآن في العربية كتاب جيد أصدره الأب أفرام كرياكوس: أفرام السوري[15]. بالزهد والتوبة والاعترافات بالذنوب. أفرام ورومانوس الحمصي هما أكبر شعراء الكنيسة خلال 20 قرناً. الكرسي الانطاكي هو صاحب الفضل في تحويل عقائد الكنيسة وخلجات صدرها إلى أشعار وأناشيد. صبَّ في ذلك عبقرية لم يستطع أحد أن ينافسه فيها. متى يعودون إلينا ليوقظونا من سبات أخنى عليه الدهر؟
- تنهّدٌ ليحفر الأرثوذكسي في صخر قلبه القاسي كهفاً ليسوع فيتجلى فيه الله كنور. في عرف بالاماس وأسلافه: هدفنا هو النور. وواسطتنا هي أيضاً النور. بنور الروح القدس نعاين يسوع النور. ويسوع هو صورة الآب. فيه نعاين أصله، أي الآب الذي ولده[16].
- بعد التطهّر والاستنارة نتأله. آباء الكنيسة منذ باسيليوس علموا أن الجوهر الإلهي غير مدرك وغير مقترب إليه. إنما القوى الإلهية أنوارٌ إلهية صادرة من جوهر الثالوث تحلّ فينا[17]. الذهبي الفم قال إنّ المجد على وجه موسى كان عابراً ـ كما قال بولس ـ أما في قلوب المؤمنين فهو مستقر. وقال إن المعتمد يبقى يوماً أو يومين أكثر لمعاناً من الشمس. ذياذوخس قال إن هذا النور مقيم فينا، إنما لا يشعشع بسبب خطايانا. إن زحزحناها شعشع. هذا النور يؤلهنا. نعود بذلك إلى بطرس الرسول وإيريناوس وكل الآباء: صار يسوع إنساناً ليحوّلني أنا الإنسان إلى إله بالنعمة. يوحنا الدمشقي قال ما مفاده: قام يسوع برحلة، فتجسد، وصُلب، وقام، وصعد. صنع هذا لذاته. وإنما صار هذا ملكاً لنا بالأسرار. الأسرار عمق المسيحية. مَن بترها بتر العمق المسيحي. المسيحي هو من اعتمد (السلمي 1:1) على يد كاهن قانوني. الروح القدس يسكن فينا بالمعمودية (الذهبي… بالاماس). يسوع هو ابن الله بالطبيعة. بالمعمودية نصير أبناء الله بالنعمة. يسوع إله بالجوهر. نحن آلهة بالنعمة.
يسوع أقنوم إلهي. نحن أقانيم بشرية. أقنوم لفظة سريانية. شرحنا الأمر في كتاب “سر التدبير”. مرادفها لفظة “شخص”. يسوع صار إنساناً. بالمعمودية نلبسه ونصير أعضاء في جسده الذي هو الكنيسة. نصير آلهة بالنعمة لا بالجوهر. نحن أعضاء في جسد يسوع الممتلئ من أنوار اللاهوت الأزلية. نتحد بهذه الأنوار الإلهية. ولكن لا نصير أعضاء في أقنوم ربنا يسوع.
المسألة دقيقة جداً: جسد يسوع وحده متحد أقنومياً بأقنومه الإلهي. الدمشقي وبالاماس قالا: تجسّدت الألوهة في أقنوم الابن دون الآب والروح القدس (الدمشقي 3:3 و6 و11 وبالاماس، الفصول75:150 وسر التدبير الإلهي، ص66). التجسد تمّ بمسرة الآب وفعل الروح القدس. المسألة سر إلهي لا يدركه العقل أبداً. والكنيسة نفسها، جسد المسيح، لا تتحد به أقنومياً. هذا ما أخطأ فيه لوسكي وبوبوفيتش (حاشية في ترجمتنا لرسالة بولس الرسول إلى أفسس).
هذا العمق في الأرثوذكسية يجعلها ديناً على مستوى الملائكة. هم ملائكة بلا أجساد والأرثوذكس الحقيقيون الممتلئون من الله هم ملائكة في أجساد.
كل محاولة لجعل الأرثوذكسية منظمة أو مؤسسة اجتماعية أو سياسية أو فلسفية أو أنسية أو أو… تبوء بالفشل. كنهها تصوّف وصلوات. أخبار الغرب تقلقني جداً جداً. تطورهُ بمعزل عنا ألقاه في الفراغ. والخلاص هو في الصلوات المتواصلة والرهبنات المتصوّفة لا في المدارس والجامعات. شَفاه الله. درس باسيليوس الكبير وصديقه غريغوريوس اللاهوتي في اثينا على اساتذة وثنيين. ودرسوا في القسطنطينية على يدي ليبانيوس انطاكيا الوثني أستاذ الذهبي وامفيلوخيوس.
العبادة أولاً والمؤسسات ثانياً. ما الفائدة من الجامعات إن كانت لا تغرس الإيمان في الصدور؟ هذه عملية نسطورية اكتسحت الغرب ففرّق بين العلم والدين، والروح والمادة، والنفس والجسد، بين الإلهي والزمني، بين… يُدرَّس الطب البشري كما يُدرَّس الطب الحيواني. ولا يحق للاستاذ أن يقول لطلابه: سبحان الخالق الذي خلق الإنسان، آية الآيات! فكل شيء فيه يعطي مجداً لله… وهكذا انصرفت عقود طويلة من الزمن كان فيها فكر الأطباء مادياً، وكان همهم جمع الأموال. صحّ فيهم قول إشعيا النبي فلم يبصروا مجد الله. ولكن أخذ التحسّن يطرأ لنرى طبيباً مثل الدكتور روجيه اميل صايغ (أو عدنان طرابلسي) يحدّث بعجائب الله في تكوين الإنسان. وعندنا سواه ولله الحمد.
- الأرثوذكسية تمحّضات في صليب الجلجلة لكي نذوق منذ الآن طعم الآخرة. فآباؤنا الفائزون هم منذ أغناطيوس الانطاكي الشهيد: الحاملو الإله، الحاملو اللاهوت، الحاملو المسيح. غريغوريوس اللاهوتي قال إن حياتنا بعد الموت هي استمرار للحظة الموت: ننتقل من مجد إلى مجد، من تجلٍّ إلى تجلٍّ، من رؤية جزئية إلى رؤية كاملة. منذ الآن نحن في السماء. نئن، نتوجع، نتضايق، بل بلغة عالمية: نختنق لنصل إلى يسوع. كان النور يلمع باهظاً في سمعان اللاهوتي الجديد فوق طاقته، فيطلب إلى الله الرأفة به. فهذا الثِقل من المجد الأبدي يشدّ بخناق الأرثوذكسية: هي في ضيق وكربة لتنتقل وتكون مع الرب يسوع دائماً.
ارتباطها بالرعاية
تميزت الرهبنات السورية القديمة بالاهتمام بالشعب. كان سمعان العمودي قطباً كنسيّاً عالمياً تهافت الناس عليه من الشرق والغرب، من القفقاس وفارس حتى الحبشة وإيطاليا وبريطانيا و… وتوسله الامبراطور ثيئوذوسيوس الثاني، وكانت له دالة كبيرة على أسقف انطاكية يوحنا. وكانت شعبيته واسعة حتى في قصر فارس الوثني[18]. وهناك باسيليوس الكبير الذي أحاط قاعدة أبرشيته قيصرية الكبادوك بمدينة ثانية من الأديرة والمياتم والمؤسسات مع أنه واضع الأنظمة الرهبانية السارية المفعول حتى اليوم في الأرثوذكسية.
وفي الكرسي الانطاكي الآن الأديرة منارات روحية للشعب كما في كل العالم الأرثوذكسي. نساء الأرثوذكس يتعاطفن جداً مع الراهبات وحتى مع الرهبان. في آب 1979 رقد في الرب الأب شيروبيم، مؤسس دير المعزي (اليونان)، فهاجت نساء المنطقة في مظاهرة حاشدة لاقتحام الدير وتقبيل يمينه وحضور جنازته. فأعطى خليفته الأب المغبوط أغناطيوس حلاً وسطاً سمح فيه بتقبيل يمينه في صفوف منتظمة. الدير منارة في المنطقة.
وهذا الاتجاه (اهتمام الأديرة بالشعب)، تجلى في القرن التاسع عشر في رومانيا وروسيا على يدي الروسي الآثوسي بابيسي فيليتشكوفسكي ورهبان دير أوبتينا الروسي المسؤولين (الكبار) عن نهضة روسيا العامة في القرن المذكور. كان كبار اللاهوتيين (ألكسي خومياكوف وصحبه) والأدباء (دستويوفسكي وغوغول وتولستوي وسواهم من الأدباء والفلاسفة والعلماء) يؤمّون الدير… ثيئوفانيس الحبيس الروسي كان أباً روحياً بالمراسلة لجماهير الناس. المطبوع من رسائله 10 مجلدات. أديرة آثوس تستقبل برحابة صدر القادمين للاعتراف والتوبة والاختلاء بالله. ولن ننسى غريغوريوس بالاماس ومعاصره غريغوريوس السينائي أبوَي نهضة جبل آثوس في القرن الرابع عشر، فامتدت إلى كل العالم الأرثوذكسي في بيزنطية وأوروبا. أما الفيلوكاليا (1782) فصارت الخبز الجوهري للأرثوذكس. ترجمها فيليتشكوفسكي إلى السلافونية للأمم السلافية، ثم الحبيس العبقري ثيئوفانيس إلى الروسية موسعة. وحديثاً ترجمها ديمتري ستانيلواي إلى الرومانية موسعة في اثني عشر مجلداً. وتُرجمت أيضاً إلى الفرنسية والانكليزية والطليانية وسواها[19]، فكان لها وقع الصاعقة. تحتوي على مختارات في صلاة القلب من خمسة وثلاثين من آباء الكنيسة على مدى أربعة عشر قرناً (4-14). وتبنَّى جبل آثوس تيبيكون دير مار سابا في وادي الأردن، فاكتسح العالم الأرثوذكسي.
تأثرها بالعوالم المحيطة بها
لم تثبت الدراسات علاقة الروحانية الأرثوذكسية بالعوالم المحيطة بها. فهي مرتبطة بالكتاب المقدس. وأفشل فلاديمير لوسكي محاولات ربط ديونيسيوس المنتحل السوري بالأفلاطونية الحديثة، وإن كانت هناك قرابات لغوية. فقد جاء منها وانقلب عليها جذرياً. أما غريغوريوس النيصصي فقرابته بها وبأفلاطون سطحية. التريودي في أحد الأرثوذكسية أبان الحقيقة: نأخذ من اليونانية الأدب ونهمل الفكر. في كتاب “الله في اللاهوت المسيحي” تدليل على أن ما يُزعَم أنه أفلاطوني موجود في العهد القديم والعهد الجديد وخدمة قداس الذهبي.
آباء الكنيسة كانوا أدباء اللغة اليونانية وإنما هشّموا وثنية فكرها الديني. أغلب آباء البرية أمّيّون أو شبه أمّيّين. الله هو معلمهم. يوحنا السلمي السوري لخّص التراث النسكيّ المسيحيّ. لا علاقة له إلا بخبرة النسك اليومية الحياتية. معاصره مكسيموس المعترف صديقه. التعاليم النسكية ـ الصوفية واحدة. معاصرهما المتأخر عنهما قليلاً اسحق النينوي مؤلف نسكي صوفي يلتقي معهما. قبلهم مكاريوس المنتحل الفراتي، روحاني ومتصوف كبير ركّز على الروح القدس، فكان تأثيره كبيراً على سمعان اللاهوتي الجديد وبالاماس. الجماعة كلها رجال صلاة لا رجال تأمل نظري.
ليس في الأرثوذكسية لاهوت نظري ولاهوت عملي كما في الغرب. لاهوتنا صلاة. المصلي هو اللاهوتي واللاهوتي هو المصلي (إيفاغريوس، في الصلاة 60). المجمع الخامس المسكوني دان أوريجنس وأتباعه لأنهم أفلاطونيون. ثيئوفيلوس الاسكندري في إثر أبيفانيوس قبرص الفلسطينيّ، شنّ حملة على رهبان مصر الأوريجنسيين. في حاشية بكتابه Petite Philocalie de la Prière du Coeur نوّه الجامع بمقال للأب Louis Gardet 1952 يقارن فيه بين الهدوئية والنقشبندية. إلاّ أن هذه متأخرة عن نيكيفوروس المتوحد، فجهل غارديه ذلك.
تأسف باسيليوس الكبير، شيخ آباء الكنيسة ـ حسب المجمع الرابع المسكوني ـ وسواه، لأنهم أضاعوا الوقت في الدراسات اليونانية.
روحانية أفلاطون وأفلوطين Plotin عقلائية تحليلية. روحانية الأرثوذكسية إنجيلية ـ رسولية ـ شهدانية ـ رهبانية. باسكال الفرنسي صاحب عبارة هامة: “إله الفلاسفة وإله المسيحيين”[20].
الروحانية الأرثوذكسية هي فعل النعمة الإلهية الساكنة في القلب. والباقي اجتهاد الإنسان. الأب Huby في كتابه حول الأديان أتى بجملة لمستشرق: الصوفية المسيحية تقوم على النعمة الإلهية، بينما الصوفية الهندية هي بدونها.
المقارنة تحتاج إلى كتاب خاص إجمالاً، الروحانية المسيحية هي عيش في أنوار الثالوث القدوس. الروحانيات الأخرى اجتهاد بشري. مهما كانت نقاط التقارب يبقى الفرق شاسعاً بين الإلهي والبشري.
لا نستقبل الله في غيبوبات بل بملء الوعي المستنير بالروح القدس. علاقتنا هي علاقة الأقنوم البشري (الإنسان) بالأقانيم الإلهية. لقاؤنا لقاء أشخاص لا لقاء غيبوبةِ النيرفانا الهندية. يسوع أقنوم (شخص) خالق، والإنسان أقنوم خالق مبدِع مبتكِر، ابتكاره الأكبر هو صيرورته مقرّاً ليسوع ليصبح “فوتوكوبي” عن يسوع متلألئاً بأنوار الروح القدس والفضائل الانجيلية.
الذهن والقلب
ليس التصوف الأرثوذكسي تأملات ذهنية. يقول آباء بضرورة نزول الذهن إلى القلب. باسيليوس قال إن الذهن هو عين النفس. مكسيموس المعترف نادى بتوحيد قوى النفس جميعاً (مقدمتي لطبعة قانون يسوع). هذا التوحيد يعني زوال الانفصال بينها، زوال التشتت. يصفو الذهن ليسوع فلا يشغله شاغل عن يسوع. ينفتح القلب ليسوع. يتحد الذهن بالقلب، يتحد الفكر بالمحبة، يصبح المرء قطعة واحدة منسجمة. أما تشتت الذهن فيُضعف حرارة القلب. يجب أن يكون همّ الإنسان واحداً: الالتصاق بيسوع. متى اكتسح يسوع الذهن انحصر القلب بيسوع. الفصل بين العقل والقلب كان زلة الفكر الغربي الانفصالي. صار الدين عقلاً.
الدين جيشان القلب بحب الله، فيجرف المرءَ ذهناً وقلباً نحو الله. ولذلك فدور المحبة في التصوف أقوى من دور العقل. التصوف المسيحي اتحادي. نعرف الله عن طريق الاتحاد به بالنعمة والمحبة. الاتحاد، التجلي، التأله، مفاهيم أرثوذكسية أصلية. لا بد من الارتفاع فوق المنظور والمسموع والملموس، لا بد من تجاوز حدودنا الطبيعية والدخول في الغمام الإلهي، لنتجرد من المرئي لنصل إلى غير المرئي. ديونيسيوس ذكر الظلمة الأنور من النور. نتجاوزها إلى التأله إلى التشعشع في مجد الله. يسوع تجلى على الجبل. هذا هو مصيرنا بعد القيامة العامة، روحاً وجسداً، لنكون شموساً في ملكوت الله (متى43:13). سنكون مثل المسيح. هو بكرنا.
شاء الله أن يشرِّفنا، فماذا نريد نحن؟
أعرف أن في الأرض ملذات وإغراءات لا تُحصى. ولكن مجد يسوع يجعلها في نظر العقلاء سراباً ودخاناً وعشباً للنار. منجل الموت ينتظرنا ليحصدنا ويحصد الملذات والأرض كلها. فلا بدّ من إرادة فولاذية ليقمع المرء شهوات الجسد لصالح مشتهيات الروح التي تتوق إلى الله. طريق جهنم ممهَّدة، أما طريق الجنة فاستشهاد. والاستشهاد هنا خير من نار جهنم. الفردوس للشهداء بالسيف أو بالنسك، أو بصراحة الضمير الحي. والضمير الحيّ صالح للعيش في كل مكان وإنما الرخاوة والميوعة والتنخُّث، والحسَّاسيّة المفرطة، والرفاه، والتنعّم، ووو… تُرخي صرامته.
فيا يسوعنا الحبيب احملنا على منكبيك نحن الضالين التافهين الهالكين. ضمَّنا إلى صدرك كما ضممتَ الأطفال لأننا ما زلنا ندبّ على الأرض بلا نظر سماوي. أخرِجْنا من جحيم الأرض إلى نعيم نورك الإلهي. ما خلُد نعيم في الدنيا. كلّها أوهى من خيط العنكبوت. أما رحمتك فأوسع من الكون برمته. فاغمرْنا بها، يا رحمان.
[1] في 25/12/2004 قضت في شقاء نظري بالماء الأسود. لله حكمة في إذلالي هذا.
[2] – فيلسوف فرنسي توفي سنة 1976.
[3] قال الدمشقي ما مفاده: إن يسوع تجسّد وصار إنساناً وتألم وصُلب ومات وصعد إلى السماء وجلس عن يمين الآب، فقام بمشوار. ولكنه في العنصرة عاد إلينا في الأسرار. وهذا كلام عظيم، ففي المعمودية نولد في المسيح ونلبس المسيح، وفي القربان المقدس نأكل ونشرب المسيح، وفي الصلاة نتحد بيسوع وبخاصة في صلاة يسوع التي اعتبرها هيسيخيوس العليقة “سيناء” مناولة (المئويتان 1: 97). أما أغسطينوس فقال إننا نتناول المسيح على المائدة قرباناً وعلى منبر الوعظ إنجيلاً.
[4] يسوع قال: احذروا أن تحتقروا أحد هؤلاء الصغار. فإني أقول لكم:”إن ملائكتهم في السماوات يشاهدون كل حين وجه أبي الذي في السماوات” (متى10:18). وعلّمنا أن نراه في المحرومين من جياع وعطاش وعراة وسجناء ومرضى (متى 31:25-46). هذا هو الأساس الإلهي الرائع لحقوق الإنسان، لا مناداة الدول بحقوق الإنسان وهي تنتج القنابل الذرية والصواريخ ويلتهم السمكُ الكبير السمك الصغير، ويعيش 3 مليارات جائعين بينما كلاب أهل اليسر وقططهم في نعيم. 5٪ من سكان العالم يلتهمون خيرات الأرض ويستعبدون سكانها. تجارة السلاح والمخدرات والموبقات أروج التجارات، وغايتها جميعاً إزهاق أرواح البشر بينما هم مجد الله (1كور ). الرحمة والإنسانية تنتحران. الطوفان على الأبواب.
[5] لدينا الآن في العربية كتاب القديس نيقوديموس الآثوسي” في الوصايا ” (ترجمة الأب منيف حمصي). وهو كتاب أخلاق جيّد إلا في استشهاده بعقوبة في ص 89 من سفر التثنية لا تتفق مع الانجيل. وهناك كتبي: “في التوبة”، “كيف تعترف؟”، “الاعتراف الرهباني”، و”الاعتراف والتحليل النفسي”. وكتاب “الطريق إلى ملكوت السماء” روعة. وأسعى لترجمة كتاب ثيوفانيس الحبيس الروسي في الأخلاق، فإنه جيد جداً. كان يجب عليَّ إفراد فصل للأخلاق الأرثوذكسية، ولكن المجال ضيق. إنما كتاب “السلم إلى الله” (ترجمة دير الحرف) هو خير كتاب نسكي ـ أخلاقي رغم صعوبته. في فصل لاحق عن النسك تلخيص لبعض أهمّ مبادئه بأسلوبي الحقوقي المعاصر السهل الواضح.
[6] في كتابنا “الاعتراف والتحليل النفسي” فصل عن استشهاد الشهداء دفعة واحدة واستشهاد النساك كل يوم، وشهادة الضمير، فليُراجع. وبعد الفراغ من هذا الكتاب عثرنا في عدد ميلاد 2004 من مجلة “البشارة” الصادرة عن المطرانية الأرثوذكسية في حلب على مقال لسيادة الأسقف أثناسيوس اليوغوسلافي يكمّل فصلنا. عنوانه:”شهادة الدم وشهادة الضمير” (الجزء الأول) 4/1/2005.
[7] في كتابينا “المزيفون” و”الظهور الإلهي” الموضوع مطروق مطولاً. راجع أيضاً كتاب كاباسيلاس “الحياة في المسيح” ترجمة البطريرك البار الياس الرابع معوض.
[8] مكسيموس الجولاني المعترف وديونيسيوس السوري المنتحل والذهبي الفم ومكاريوس السوري المنتحل وغريغوريوس بالاماس…
[9] قال الذهبي الفم عن لسان يسوع: صرت إياكم لتصيروا إياي. وقال كيرللس الأورشليمي: هو المسيح ونحن المسحاء.
[10] فقبل معمودية الراشدين يعترف المرء اعترافاً كاملاً بخطاياه.
[11] في كتابينا “المزيفون” و”الظهور الإلهي” الموضوع مطروق مطولاً. راجع أيضاً كتاب كاباسيلاس “الحياة في المسيح” ترجمة البطريرك البار الياس الرابع معوض.
[12] راجع الفصل 9 من كتابنا “يهوه أمْ يسوع؟” وكراستنا “الدعاء باسم يسوع”، وكتاب “الصلاة” ترجمة الأم مريم زكا، ومقال الأخ ريمون رزق في مجلة “النور” الغرّاء، وكتاب هيسيخيوس العوسجة (ترجمة المطران حبيب باشا)، و”فن الصلاة” (ترجمة عدنان طرابلسي).
[13] ذهب إلى ذلك قبلهما سمعان التسالونيكي، فقال إن ذكر ربوبية يسوع يتم بالروح القدس.
[14] سرَّني جداً هذا الرأي الذي أقول به منذ دهر، رداً على متَّهميه بالأفلاطونية الجديدة. وانتقدتُ الأب ليف جيلله الذي انتقد لوسكي أمامي شفوياً في 1950 وفي كتابه “الروحانية الأرثوذكسية” (ترجمة عدنان طرابلسي المفقودة).
[15] ما زال كثيرون يقولون أفرام السرياني. السريانية لغة لا وطن. أفرام سوري كتب بالسريانية. وطنه نصيبين قرب القامشلي. (راجع مقدمتي للمزامير الروحية).
[16] راجع مقدمتي لكتاب “فن الصلاة”.
[17] راجع الفصل الأخير.
[18] راجع كتابنا “سيرة سمعان”.
[19] صدرت الفرنسية بقلم Jacques Touraille في مجموعة Spiritualité orientale وصدر جزءان انكليزيان في مكتبة S.P.C.K. ثم صدرت كاملة على يد الأسقف Kallistos Ware.
[20] النقاد الألمان حرفيون. الآباء كتّاب يونانيون. فمن الطبيعي أن يستعملوا الأدب اليوناني في إنشائهم. ولكن الفكر ليس وثنياً. وفي طرحهم القضايا من الطبيعي أن يتوجهَّوا إلى المفكرين اليونانيين الوثنيين بلغة تهدبهم إلى المسيحية كما فعل بولس الرسول في اثينا (أعمال 17)، وكما كتب في الفصل 9 من رسالته الأولى إلى كورنثوس:”صرتُ للناس كلّهم كلَّ شيء لأهدي بعضهم مهما يكن الأمر”(19-22). وكانت الخصومة كبيرة في قصر الامبراطور ديوكليشيان بين المسيحيين والافلوطينية الجديدة (كتابنا: سيرة القديس جيئورجيوس). ولكن لا نُنْكر أن إنشاء افلوطين شائق ورائع، حتى الفيلسوف الفرنسي المعاصر هنري برغسون (1941) متأثر به جداً.
أخذت بركه كبيره من هذا الكتاب ,الله يبارككم ونرجوا المزيد.
الرب يسوع المسيح يباركك ويقدس حياتك صل لاجل ابونا اسبيرو جبور حتى يكما هذه المسيرة وايضا صل لاجلي انا الخاطئ