البطريرك الانطاكي غريغوريوس حداد
صفحة من صفحات تاريخنا المضيء
بقلم المحامي اسبيرو جبور
(1965)
في عام 1890 اختار الله مطرانا لطربلس الخالد الذكر غورغوريوس حداد. وفي عام 1906 اختاره ثانية لتولي سدة البطريركية الانطاكية. فله اليوم في ذمتنا تهيئة احتفاء بيوبيل بلاتيني،والاحتفاء في العام القادم بمرور 60 سنة على توسده البطريركية .فهل يهتم المجمع الانطاكي وخاصة تلميذه غبطة البطريرك الحالي ثيودسيوس السادس بهذا الامر؟ فالظروف تدعو الى ذلك لايفاء الرجل بعض حقه واعلانه مثل اعلى لرجال الله ورجل الوطن في هذه الظروف القاسية،فيكون قدوة للناس ..
كان غريغوريوس قديسا ذا سيرة لا عيب فيها واكرم من حاتم الطائي حتى صار يجب ان يقال :”اكرم من غورغوريوس حداد”ولكن هل هناك في العالم اكرم منه ؟
هيهات ان يأتي الزمان بمثله ان الزمان بمثله لبخيل
فالبلاد طرا تعرف انه باع واستقرض إبان الحرب الاولى لينفق على الفقراء. وتصدق حتى بثيابه.لله دره من تلميذ صادق لمعلمه يسوع.فالكفر بالمال وبمبون (اله المال في سورية بعصر يسوع ) هو الشهادة التي تدل على ان تلميذ المسيح وبولس الرسول لا يعبد الاوثان ولا ينحني لاصل الشرور .(فالجبة والمنسك لا يصنعان الراهب بل القلب الموسوم بالانجيل .ومهما كانت مساؤى الصراحة فهي خير من النفاق والقبور المكلسة) .
ولمع نجم غورغوريوس في الدنيا فكان قبلة انظار العالم الارثوذكسي وكوكب دمشق الساطع. وكانت شخصيته ساحرة فسيطرت على جميع من عرفه وانتزعت الانحناء اجلالا من الجميع فتقدم واحد من تابوته قائلا :” لو لم يكن محمد خاتمة الانبياء لقلت انك نبي” ورثاه العلامة الشيخ مصطفى العلاييني بهذه الدرر:” لقد ادعاك النصارى والمسلمون والكل يزعم انك بطريركه اما انا فاقول: انك لم تكن بطريرك طائفة من الطوائف وانما بطريركا لانسانية الفاضلة ” .
وقال سفير يوغوسلافيا :” انه حقيقة بطريرك مسكوني “(اي بطريرك للدنيا لا لانطاكية فقط).ويذكره المرحوم محمد كرد علي في مؤلفاته باحترام واجلال.ومن مواقفه الخالدة على ممر الزمن قصة زيارته عام 1913 لروسيا بدعوة القيصر فخرجت بقضها وقضيضها قيصرا واكليروسا وعشرات ملايين تحني رأسها خاشعة على نمط لا مثيل له في تاريخ روسيا وتاريخ العالم . وبتاريخ 6- 3- 1913 ترأس الاحتفال الرسمي بكنيسة قازان مرتديا حلة ملوكية وواضعا القيصر الى يمينه والاكليروس الى يساره وجماهير اتقى شعوب الدنيا بين يديه. لقد افل نجم قيصر يحكم اوسع ارض واكبر شعب في اوروبا امام سطوع شمس غورغوريوس الآتي من دمشق المستعمرة العثمانية التي قضت مضاجعها قرون عديدة من التسلط الاجنبي الغاشم . هذا هو سلطان الروح الذي يخضع الملوك والرؤساء والشعوب بدون جيش او عتاد فهو خاصية الانسان الروحي فقط. وكان غورغوريوس روحا ملائكية في جسد ترابي فكتب على صورته:”انا تراب ورماد ولكن الرب قد رفعني”.ترفع عن عبادة المال فمقته فصار العالم المادي عبدا له. واحتمى بالله فتخلص من الشعور بالحاجة الى اية حماية وتحول الى حامي الزمار. فالعفيف الكبير النفس يمد كل نفس بالطهر والرفعة والسؤدد والحماية بما تعجز عنه اية قوة مادية في العالم .
اما في الحقل الوطنيفغورغوريوس درة جهاد العرب ضد كل لون من السيطرة الاجنبية كره او بغض.فقد ولد عام 1859 فترعرع في زمان ولادة اليقظة العربية فواكب تفتح الشعور القومي العربي وتبنى معطايته بصدق واخلاص وشرف. وكانت وحشية عهد الطاغية تزيد الشعور القومي حدة للتخلص من نير اناخ بكلكله على العالم العربي قرونا فافقده هويته وقوميته وحضارته وثقافته وضربه بالجهل والتخلف والتمزق والظلام والبؤس وحوله الى مسرح لتغلغل نفوذ الدول الاوروبية تحت ستار الالوان. وقد حصر جل همه كرجل ديني في تخليص طائفته من آثار الماضي البغيض….
ولما كان غورغوريوس شماسا جاهد ضد الارساليات الاجنبية بقوة ليقينه بانها عامل انحلال في صفوفنا.ولما صار مطرانا الب زملاءه فخلع آخر بطريرك يوناني. وكانت روسيا تؤيد ذلك فتوهمت انها جرت مغنما,ولكن خابت آمالهاعام 1906 فانتخب المجمع غورغوريوس بطريركا لانه اشد المطارنة مضاء واقواهم شكيمة واقساهم تشبثا بالنزعة الاستقلالية التحررية. وكان عبد الحميد انذاك في اقسى سطوته وكانت اوروبا ( ماعدا الجرمان) مشغولة بتصفية الامبراطورية العثمانية وتوزيع رقعتها .فكانت فرنسا تعج برجالات تركيا الفتاة ودعاة الانفصال والحرية تعطف عليهم اشد العطف.وكان رسلها وجواسيسها يجوبون الامصار حتى انها اوفدت حميد باشا سلطان مراكش المخلوع عام 1913 الى بعلبك لعقد الاجتماعات والدعاية لها . وفي اوائل الحرب القيت محاضرة في غرفة تجارة مرسيليا بعنوان :”سورية الفرنسية” .ولكن غورغوريوس بقي في صف غلاة العرب فتصرف في روسيا كعربي متطرف فتلا الصلوات وحتى الانجيل والقى الخطب جميعا بالعربية ( لو لم يرد الالحاح على عروبته لئلا على الاقل الانجيل بالاصل اليوناني لا بالترجمة العربية في بلد يفهم المثقفون من اكليروسه اللغة اليونانية (التي هي اللغة الاصيلة للاهوت المسيحي) فتنبهت لذلك المجلات اليونانية فطعنته بالتعصب لعروبته.
ويوم تمت البيعة في 8- 3- 1920 كان غورغوريوس كوكب المجتمع فذهبت بيعته حديث الناس الى اليوم فبعد اعطاء فيصل العهود والمواثيق على نفسه كان كلام غورغوريوس:” بيننا وبينكم عهود في هذه القاعة لا تغيب عن ذاكرتكم الشفافة اذا كنتم لا تزالون عليها فاننا عليها لراسخون” ولكن اغاظ لندن وباريس قيام حكم عربي لامع في دمشق الامويين حيث التاريخ واخز كبير لاستعادة امجاد ماضية.فظهر تخطيط معقد جدا لم يعرف مؤرخ عربي بعد كيف ينسل خيوطه لنزداد خبرة ضد لون من اخبث الوان التآمر على القضية العربية في اروقة الدول الكبرى لاقتسام بلاد العرب الى مناطق نفوذ لها كاننا صرنا نحن الرجل المريض. وقد اكتوينا بعمل مماثل في نكبة فلسطين ويحاك لنا ما يحاك اليوم (ليس لدينا وياللاسف مؤرخ يجمع صفات السياسي اللامع والخبير الماهر بالاعيب التجسس الى جانب التحليل النفسي والاجتماعي والاطلاع الواسع فدهاقنة من هذا النوع فقط كفيلون بفك الخيوط).وغادر فيصل ضحية ثقته بالحلفاء فانفرط عقد الناس من حوله اما غورغوريوس فبقي رجل الوفاء فانفرد تقريبا بوداعه فالقى فيصل اليه بعباءته وعقاله علامة الاستسلام لشهامته. ودخل غورو دمشق فاتحا في ظروف بلبلة واسعة خان فيها البيعة من خان وامتدح الانتداب من امتدح الا غورغوريوس الطود الاشم .وعبثا حاول غورو مقابلته واسترضاءه فخرج حانقا في قلبه ولكن دون ان يستطيع كتم اعترافه:” انني بالحقيقة قد شاهدت رجلا عظيما لا يمكنني الا ان احني رأسي له احتراما “.وقد قضى بقية عمره دون اي تودد لفرنسا فحنقت عليه ونصبت له الشراك العديدة حتى فاضت روحه الى الله عام 1928 .
وما تزال اخباره حديث الناس في دمشق.وفي اعوام 1945 – 1948 على ما اذكر كان مدرس الديانة الاسلامية في تجهيز دمشق بين طلابه قائلا ما فحواه:” كان في دمشق في يوم من الايام رجل عظيم هو البطريرك غورغوريوس حداد …” ثم كان يأخذ في الاستفاضة عن تاريخه المجيد. فبعد 75 سنة من توليه المطرنة نقف امام ذكراه دينيا وقوميا فنراه معلما اكبر .في ميدان الديانة علمنا الفضيلة وعزل الدين عن السياسة عزلا كاملا وخاصة عن التلوث باية عمالة خارجية مهما كان لونها معتبرا ان الدين رابطة روحية فقط تجمع الناس من شعوب عديدة.وفي ميدان الوطنية علمنا حب الوطن والاستقلال والتجرد من كل تعصب طائفي او مذهبي والتخلص من كل الوان السيطرة الاجنبية .لذا كان يردد حتى النهاية :”الدين لله والوطن للجميه ” .
ان حياته سجل حافل بالارتقاء الروحي الى الله وبحب الوطن والمواطنين دون تمييز.فالحقد نقيصة النفوس التي ربيت بين ابوين سيئين فاقدي العواطف السليمة نحو الانسان عامة او نقيصة الارواح التي تستغل الاعتبارات الطائفية لجر المغانم . وحياته فوق هذا وذاك سجل الاباء والعزة والكرامة،الرفعة والشهامة والسخاء، البطولة والجرأة وتوقد الذكاء.
ملاحظة : نشكر السيدة نوسيا جبران حبيب حفيدة اخت البطريرك والاستاذ رياض بن المرحوم عيس اسكندر المعلوف مؤرخ حياة البطريرك على تقديم الرسم وبعض المعلومات .
المحامي اسبيرو جبور
1965