أولاً: ليس عيد الميلاد بالنسبة للمسيحيين احتفالاً بنهار مؤكّد من وجهة النظر التاريخية، ولم يكن كذلك قط، أكان يُحتفل به في 6 كانون الثاني أو في 25 كانون الأول. كما أن الاحتفالات الأولى بالميلاد لم تتعلق قط "بتاريخ ما"، بل "بحقيقة" مهمة في منظور الكنيسة المسيحية لا تربطها علاقة بهذا النهار، وهي حقيقة " ظهور المسيح على الأرض".
ثانياً: لم يأتِ الدافع للاحتفال بميلاد المسيح من الخارج، بل نتج عن فكر مسيحي يتعلق بالمعنى اللاهوتي والعقائدي للعمل الخلاصي الذي من خلاله تجسّد الله في يسوع المسيح واتضع لاجلنا.
السؤال المطروح بالنسبة للمسيحيين هو حتماً التالي: وفقاً للعهد الجديد، هل يجب إيلاء التجسّد احتفالاً خاصّاً أم أن المسيحيين الأوائل كانوا محقين في رفضهم لاحتفالات كهذه معتبرينها غير مسيحيّة. في هذا الخصوص، تجدر الإشارة إلى أن المبالغة في تقدير هذا العيد، أي الأفضلية التي لها على نهار الفصح لا تمت بصلة، لا إلى الممارسة المسيحية التي لم تعرف في الأصل سوى هذا العيد الأخير، ولا إلى الفكر اللاهوتي لدى المسيحيين الأوائل.
ومع أخذ تبعية هذا العيد بعين الاعتبار، إن جعل ميلاد المسيح موضوع احتفال كنسيّ خاصّ هو في المقابل أمر مطابق تماماً للإيمان المسيحي في العهد الجديد. ففي الواقع يجسّد متّى، لوقا ويوحنا الإنجيليون أمام هذا الحدث حين يسعى كلّ منهم إلى توضيحه بطريقته الخاصّة، وهم يمثّلون الجماعة المسيحية التي نقلت إلينا هذه التقاليد.
كما تجدر الإشارة إلى النشيد الذي يذكره بولس الرسول في رسالته إلى فيليبي (2: 6 و ما يليها) التي يدور موضوعها حول تجسّد المسيح آخذاً صورة عبد– ولكن في إطار مرتبط حصراً بالمسيح المصلوب والسيّد الممجّد. بإمكاننا تسمية هذا النشيد بالتحديد " نشيد الميلاد ".
يُظهِر الاحتفال الأقدم بميلاد المسيح، في الشكل الليتورجي دوافعاً مسيحيّة بالتحديد. فالعقيدة الرئيسية التي تبرز في هذه الليتورجيا والتي بحسبها المسيح هو نور العالم الذي يقتحم الظلمة، لا ترتبط بأي شكل من الأشكال بعيد "الشمس التي لا تغلب" الذي تحتفل به ديانة " المِثرا " في 25 كانون الأول .
فمصدر العقيدة لعيد الميلاد حتماً لا يعود إلى العيد الوثنيّ الخاص بالشمس الذي كان يحتفل به في 6 كانون الثاني، بل على العكس هو يرتبط بالأسُس الثابتة في فكر المسيحيين الأوائل والعهد الجديد. ففي هذا الأخير، يظهر هذا الفكر لدى البحث في مسألة تجسّد المسيح، (مسألة الخريستولوجيا ) خاصّة في استهلال إنجيل يوحنّا: النور يضيء في الظلمة.
إذ يذكّرنا الميلاد بصفة الظهور الإلهي المتمحور حول المسيح في العهد الجديد، ففي هذا الأخير كلّ الخليقة ترتبط بالمسيح إذ إنها تنتظر أن يخلّصها (الرسالة إلى أهل رومية 8: 19). وفي يوم ميلاد المسيح الذي فيه تُغلب "الشمس التي لا تُغلب" دون أن تمّحي، بل تخضع ليوم ميلاد يسوع المسيح المخلص. و في هذا الأمر دلالة، على أن كلّ ظهور لله في الطبيعة، وفقاً للعهد الجديد، هو في الوقت نفسه ظهور له في فعل محبة المسيح.
وفي النهاية، نذكر نصّاً مستخرجاً من عظة الميلاد التي نسبت إلى أمبروسيوس (ِAmbroise) والتي تعبّر عن الفكر ذاته:
" الشعب محق في تسميته هذا النهار المقدس لميلاد سيدنا: الشمس الجديدة، وفي تأكيده لهذه الحقيقة بوضوح بحيث يجد الوثنيون واليهود أنفسهم مجتمعين أمام هذا التعبير. نتمسّك بهذه التسمية، فمع ظهور المخلّص، لا يتجدد خلاص البشرية فحسب، بل كذلك نور الشمس… فإن كانت الشمس قد غابت عند آلام المسيح، فهي بالتأكيد قد ازدادت إشعاعا في ميلاد [1] ".
أخيرا: إننا بتعيّدنا عيد الميلاد نثبت عقيدة التجسد نبرهن على ان الطبيعة الإنسانية التي للمسيح صارت من خلال التجسد بعدا من أبعاد الله وجزء من كيانه وأصبحت البشرية مسالمة وغير عدوة لله لأنها صارت بالتجسد جسد الله، ومن الواضح كما يقول بولس الالهي، " أنه ما من أحد أبغض قطّ جسده الخاصّ، بل إنما يغذّيه ويعتني به، كما يفعل المسيح بالكنيسة . أو لسنا أعضاء جسده ؟ " ( افسس 5: 29 – 3. ) .
بالتجسد صرنا أعضاء في جسد المسيح وبالتالي أعضاء في جسد الله، لان المسيح، بحسب مجمع خلقيدونية له " الجوهر نفسه لدى الآب "، " والجوهر نفسه الذي لنا نحن البشر " ( وفي كلتا العبارتين، يستعمل المجمع اللفظة عينها " OMOOUSIOS " التي تعني " من الجوهر الواحد " هو نفسه جوهر الآب والابن والروح كذلك تكوّن البشرية، على نحو ما جوهرا بشريا واحدا، وهذا الجوهر البشري الواحد اتخذه كلمة بالتجسد فصارت البشرية بواسطة التجسد متحدة بالله .
من هنا نظرة الكنيسة الأرثوذكسية الى التجسد وكأنه واقع حتى بدون السقطة، بوصفه تعبيرا عن الحب الإلهي والمرحلة الأخيرة للشركة بين الله والإنسان .
يرفعنا عيد الميلاد الى ابهى صورة سامية إذ حيث تقودنا عقيدة التجسد في مخطط الله الخلاصي الى ان الإنسان هو جسد الله بهذه الصورة رفعت البشرية الى المقام الإلهي، الى درجة القداسة .
هذا هو الجديد الذي أدخلته الكنيسة المسيحية الأولى ( الأرثوذكسية) على الفكر الديني بالنسبة الى العلاقة بين الله والإنسان، هذا يتضح لنا من خلال الكتب اللتورجية والكتاب المقدس، إذ نفهم من خلال عقيدة التجسد ان العلاقة بين الله والإنسان ليست علاقة بين كائنين غربيين احدهما عن الآخر، بل كائنين يكمّل احدهما الآخر . ليس بمعنى ان الله غير كامل في ذاته بل بمعنى ان الله أراد ان يشرك الإنسان في كماله ليعكس الإنسان في الجسد مجد الله الذي هو روح .
على هذا النحو يمكننا ان نفهم قول بولس الإلهي:" ان الله قد أقام يسوع المسيح وجعله فوق كل شيء رأسا للكنيسة التي هي جسده وكمال من يكتمل في جميع الكائنات " ( افسس 1: 22 – 23 ) .
إذا المسيح يكتمل في جميع الكائنات لأنه بالتجسد اتحد بالطبيعة البشرية والطبيعة البشرية هي على نحو ما واحد وهي تكمل على مدى الزمن .
في الميلاد عرفنا شخص يسوع المسيح الذي هو " عمانوئيل "، عرفنا الإله الحقيقي القريب من الإنسان الذي جاء ليقيم بيننا ." الكلمة صار بشرا وسكن بيننا " .