الصلاة
هدف كل مسيحي وكمال قلبه هو المثابرة على الصلاة بلا انقطاع، فيجاهد قدرما يسمح ضعفه البشري لينال العقل المستنير الهادئ غير المضطرب والنقاوة الدائمة حتى يمارس الأعمال الجسدية بانسحاق قلب ثابت بغير قلق.
يوجد نوع من الوحدة المشتركة غير المنفصلة بين الاثنين (الصلاة الدائمة والفضائل)، فكمال الصلاة هو تاج بنيان كل الفضائل، فإذا لم تتحد كل فضيلة اتحادًا كاملاً بالصلاة لا تكون لها قوة أو ثباتًا. ودوام الهدوء في الصلاة وثباتها لا يمكن أن يكون أكيدًا وكاملاً ما لم تسندها الفضائل، ولا يمكن اقتناء الفضائل ما لم تثبت في الصلاة.
كيف نقتني الصلاة النقية؟
لكي نرفع الصلاة بالغيرة والنقاوة اللازمتين لها ينبغي مراعاة الآتي:
أولاً: ترك كل قلق متعلق بأمور جسدية.
ثانيًا: ألا نترك فرصة لأفكارنا أن تشرد في الاهتمام أو حتى مجرد ذكر أي عمل من الأعمال. وأن نلقي جانبًا كل الوشايات وكثرة الكلام الباطل (القال والقيل). وقبل كل شيء نترك الغضب، وننزع الكآبة المملوءة قلقًا، ونقتلع جذور الشهوات الجسدية المميتة والطمع.
وتتحرر النفس من كل أحاديث وأفكار هائمة، ويبدأ في التأمل الإلهي، وترتفع النظرة الروحية قليلاً. لأنه بالتأكيد يرِد علينا أثناء الصلاة ما كان يشغل أذهاننا في الساعة التي تسبقها، وذلك من جرّاء دوام نشاط الذاكرة.
عندما نتقدم للوقوف للصلاة، تتراقص أمام أعيننا صُور الحوادث والكلمات والأفكار التي سبقت الصلاة، أو نتذكر مناقشتنا التي سبقت الصلاة.
فإن كنا لا نريد أن يزعجنا شيء أثناء الصلاة، يلزمنا أن نحترس قبل الصلاة لنطهر القلب بعزم من كل هذه الأشياء، ونحن لا نقدر أن ننفذ هذه الوصية ما لم يتنقَ عقلنا من كل بصمات الخطيئة ويلتصق بالفضيلة، حتى يكون صلاحه طبيعيًا، ويتغذى بالتأمل المستمر في الإله القدير.
إمكانيتنا للصلاة
طبيعة النفس تشبه ريشة غاية في النعومة أو جناحًا غاية في الخفة، فلو لم تتلفها أو تفسدها رطوبة خارجية، ترتفع طبيعيًا إلى أعالي السموات بحكم خفة طبيعتها وبفضل نفخة بسيطة…
هكذا نفوسنا إذا لم تُثقل بالخطايا التي تلمسها، واهتمامات هذا العالم، أو تتلف برطوبة الشهوات المؤذية، فإنها ترتفع بمواهب نقاوتها الطبيعية، وتُحمل إلى الأعالي بنفخة خفيفة من التأمل الروحي وإذ تترك النفس الأمور الارضية المادية تنطلق نحو الأمور السماوية غير المنظورة.
فإذا أردنا وصول صلواتنا لا إلى السماء فحسب بل وإلى ما وراء السماء، لنهتم أن تعود نفوسنا إلى خفتها الطبيعية مغسولة من الأخطاء الأرضية ونقية من كل الخطايا. وهكذا تصل صلواتنا إلى الله من غير أن تعوقها أية خطيئة.
ما الذي يثقل النفس؟
الرب يسوع لم يشر إلى الدعارة أو الزنا أو القتل أو التجديف أو الاغتصاب، هذه الأمور التي يعرف كل إنسان أنها مُهلكة ومميتة، إنما ذكر التخمة والسكر واهتمامات هذا العالم، هذه الأمور كثيرًا لا يتجنبها البشر، بل ولا ينظرون إليها على أنها مُهلكة، هذه الرذائل الثلاث تثقل النفس، وتفصلها عن الله، وتُحملها بالأمور الأرضية…
إلا أنه من السهل جدًا أن نتجنبها، إذ انفصلنا بعيدًا عن كل رجاء وأمل في هذا العالم الفاني، وليس لنا عذر أن نرتمي في أحضان الاهتمامات المنظورة والسكر والتخمة.
أنواع الصلاة
أظن أنه لا يمكننا أن نقتني كل أنواع الصلاة بدون نقاوة القلب والروح مع استنارة الروح القدس.
هناك أنواع كثيرة للصلاة تختلف باختلاف الظروف وأحوال النفس… صلواتنا تتغير كل وقت حسب درجة النقاوة التي تكون عليها النفس،، لهذا لا يقدر إنسان أن يقدم على الدوام صلوات على نمط واحد.
فما يصلّيه الإنسان وهو نشيط غير ما يصلّيه وهو مثقّل بالحزن أو القنوط. ويصلي بطريقة أخرى عندما يكون منتعشًا بالفضائل الروحية، وبطريقة أخرى عندما يطلب الصفح عن خطاياه، وأيضًا عندما يطلب نعمة أو فضيلة ما، أو يتوسل من أجل إزالة خطية معينة. وعندما يُنخَس
قلبه بالتفكير في الجحيم ويهاب الدينونة المقبلة، غير ما يصلّيه عندما يكون ممتلئًا بالرجاء والاشتياق إلى الأمور المقبلة. كذلك عندما يكون في مخاطر غير ما يصلّيه وهو في سلام وأمان.
الأربعة أنواع من الصلاة
أنواع الصلاة حسب تقسيم الرسول بولس إذ قال: “فأطلب أوَّلَ كلّ شيءٍ أن تُقام طلبات وصلوات وابتهالات وتشكُّرات” (1تي1:2). ماذا يقصد بالطلبات والصلوات والابتهالات والتشكرات؟!…
الطلبات
“فأطلب أوَّلَ كلّ شيءٍ أن تُقام طلبات”، الطلبة هي تضرع أو التماس بخصوص الخطايا، يقدمه الإنسان طالبًا الصفح عن خطاياه الحالية والماضية.
الصلوات
الصلاة هي التي تقدم شيئًا كنذر لله، “أوفي نذوري للرب” (مز14:116)، يُترجم عن اليونانية “أوفي صلواتي للرب”،
ونحن ننفذ الصلاة عندما نَعِد باحتقار الكرامة الأرضية، وازدرائنا بالغنى الزمني، ملتصقين بالرب في حزن قلبي وانسحاق روحي.
الابتهالات
تأتي بعد ذلك “الابتهالات” حيث اعتدنا، أن نقدم صلاة من أجل الآخرين أيضًا ونحن مملوءين بحرارة الروح، سائلين من أجل الأعزّاء علينا، ومن أجل العالم كله، مستخدمين عبارة الرسول بأن نصلّي “لأجل جميع الناس لأجل الملوك وجميع الذين هم في منصبٍ” (1تي1:2،2).
التشكرات
حيث نقدم لله الذهن، رافعين إيّاه، متذكرين بركات الله الماضية، متأمّلين في بركاته الحاضرة، متطلعين إلى البركات المقبلة التي أعدها للذين يحبونه.
لزوم الأنواع الأربعة لكافة البشر
تساعد الظروف نفسها على إيجاد هذه الأنواع الأربعة بغنى ووفرة. فالطلبات تنبع عن الحزن من أجل الخطية. والصلوات تصدر من الثقة في تقديم تقديمات والقدرة على إيفاء نذورنا بضمير نقي. والابتهالات تأتي عن حرارة الحب. والتشكرات تتولد عن التأمل في بركات الله وعظمته وصلاحه.
فهي نافعة ولازمة لكل البشر. أن الأولى (الطلبات) تناسب بالأكثر المبتدئين، الذين لا يزالون مضطربين بوخزات خطاياهم وتذكرها. والثانية (الصلوات) تناسب الذين تمتعوا فعلاً بشيء من السموّ الذهني في تقدمهم الروحي وطلب الفضيلة. والثالثة (الابتهالات) تناسب الذين حققوا كمال نذورهم بأعمالهم، وهؤلاء لهم غيرة للصلاة من أجل الآخرين خلال ضعفهم مع غيرة حبهم. والرابعة (التشكرات) تناسب الذين ينزعون من قلوبهم أشواك الضمير المذنبة، متحرّرين من الهمّ، وبهذا يقدرون بذهن نقي أن يتأملوا في بركات الله وتعطفاته.
يصلّي بهذه الأنواع الأربعة جميعها في وقت واحد، ويكون كلهيب لا يُوصف، مقدمًا لله صلوات غير موصوفة عظيمة النقاوة،
بهذا يحدث أنه في أية درجة يكون فيها الإنسان، يجد نفسه أحيانًا يقدم صلوات نقية مقدسة…
الرب يضع أساس الأنواع الأربعة من الصلاة
وهب لنا الرب نفسه مثالاً في تأسيس هذه الأنواع الأربعة من الصلاة. بهذا يتحقق ما قيل عنه “ما ابتدأَ يسوع يفعلهُ ويعلّم بهِ” (أع1:1).
1- لقد استخدم النوع الأول أي “الطلبات” بقوله: “يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس” (مت39:26)، وما رتل به النبي في المزمور على لسانه قائلاً: “إلهي إلهي لماذا تركتني” (مز1:22).
2- استخدم أيضًا “الصلاة” عندما قال: “أنا مجَّدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملتهُ” (يو4:17)، وأيضًا: “لأجلهم أقدّس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضًا مقدَّسين في الحق” (يو19:17).
3- استخدم “الابتهالات” عندما قال: “أيُّها الآب أريد أن هؤُلاءِ الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني” (يو24:17). أو عندما قال: “يا أبتاهُ اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لو34:23).
4- استخدم “التشكرات” بقوله: “أحمدك أيها الآب ربَّ السماءِ والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحكماءِ والفهماءِ وأعلنتها للأطفال. نعم أيها الآب لأن هكذا صارت المسرَّة أمامك” (مت25:11،26)، أو على الأقل عندما قال: “أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كلّ حينٍ تسمع لي” (يو41:11،42).
العوامل التي تساعد على الصلوات
أحيانًا التسبيح بمقطع من المزامير يبعث فينا صلاة حارة.
• وأحيانًا انسجام التلحين لصوت أحد الاخوة يثير الأذهان الخاملة إلى ابتهالات كثيرة.
• كذلك طريقة النطق والوقار الذي للمرنم (بالتسبيح) يلهب غيرة من هم معه.
والحديث الروحي غالبًا ما يرفع مشاعر الحاضرين إلى صلاة غنية.
كذلك يمكننا بواسطة موت أخ أو عزيز لدينا أن نُحمل إلى ندامة كاملة. وأيضًا عندما نتذكر برودنا وإهمالنا تشتعل فينا حرارة الروح.
بهذا لا يقدر أحد أن يشك بأن فرصًا لا حصر لها – في أيدينا – تنزع عن أذهاننا برودنا ونومها.
الثقة في استجابة الصلاة
يجدر بنا ونحن نصلي ألا نرتاب بنوع من اليأس أو تتزعزع ثقتنا من جهة استجابة طلباتنا.
يعلمنا الإنجيل والأنبياء الأسباب المتنوعة لاستجابة الصلاة حسب حالة النفوس.
– فقد أشار الرب عن ثمار الاستجابة في حالة اتفاق اثنين معًا إذ يقول: “إن اتَّفق اثنان منكم على الأرض في أيّ شيءٍ يطلبانهِ فإنهُ يكون لهما من قِبَل أبي الذي في السموات” (مت19:18).
– كذلك في حالة كمال الإيمان، الذي يشبه حبة خردل، إذ يقول: “لو كان لكم إيمان مثل حبَّة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل انتقِلْ من هنا إلى هناك فينتقل ولا يكون شيء غير ممكنٍ لديكم” (مت20:17).
– وأيضًا في حالة الاستمرار في الصلاة، إذ طلب الرب أن نستمر مثابرين بلجاجة بغير قلق،
– وأيضًا الاستجابة للصلاة تكون ثمرة من ثمار العطاء “اغلق على الصدقة في أخاديرك فهي تنقذك من كل شر” (ابن سيراخ15:29).
– وتكون الاستجابة في نقاوة الحياة وأعمال الرحمة،
– وكثرة الضيقات تجعل الصلاة مستجابة. “إلى الرب في ضيقي صرخت فاستجاب لي” (مز 1:120).
رأيتم أنه كيف بطرق كثيرة ننال عطية الاستجابة للصلاة، لكي لا يصطدم أحد باليأس من جهة ضميره، ضمانًا لتلك الأمور الأبدية العظيمة المقدار.
فإنه بالتأكيد لا يمكن أن يحرم أحد من تلك الفرصة التي يقدمها الله لكل المشتاقين إلى استجابة الصلاة، وهى وعده بأن كل ما يسأله في الصلاة يعطيه لنا. فيجدر بنا أن نثابر بغير ارتياب، ولا يكون لنا أدنى شك في أنه بالمداومة على الصلاة ننال كل ما نطلبه حسب فكر الله.
أن يهب المثابرين ما يطلبونه، قائلاً: “اسأَلوا تُعطَوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يُفتَح لكم. لأنَّ كلَّ مَنْ يسأَل يأْخذ. ومَنْ يطلب يجد. ومَنْ يقرع يُفتَح لهُ” (لو9:11،10). وأيضًا: “وكلّ ما تطلبونهُ في الصلاة مؤْمنين تنالونهُ” (مت22:21)، “ولا يكون شيء غير ممكنٍ لديكم” (مت20:17).
من المفيد لنا أن نأخذ في اعتبارنا ما قاله الإنجيلي الطوباوي يوحنا… “وهذه هي الثقة التي لنا عنده انهُ إن طلبنا شيئًا حسب مشيئَتهِ يسمع لنا” (1يو14:5). إنه يأمرنا أن تكون لنا ثقة كاملة بغير ارتياب من جهة استجابة الطلبات التي ليست من أجل نفعنا (الأرضي) أو راحتنا الزمنية، إنما تطابق مشيئة الرب.