– مقدمة :
لقد منع الله عبادة الأوثان، لكنه أوصى شعب العهد القديم بصنع بعض الأدوات واستعمالها وإيلائها الإكرام والتقدير . فقد أمر الله موسى أن يدون كلامه على " ألواح من حجر "( خروج34:1 ) ، وشرح له حتى أدق التفاصيل ، كيف يصنع تابوت العهد ومائدة التقدمة ( خروج 25 ) والمذبح( خروج27:1 – 8 ) ، وخيمة الشهادة ( خروج26: 1 -37 ) وسواها وأكثر من ذلك، فان الله أوصى بصنع كروبين تمتد فوق الحوض المطهر ، وكروبين كبيرين فوق قدس الأقداس في هيكل سليمان ( 3 ملوك7:23 – 28 ) وأشكال مختلفة لعشرة أبقار نحاسية وتماثيل اسود وتماثيل أخرى منقوشة ( 3 ملوك7:16 – 22 ) .
ويدل هذا على ان الله عندما أوصى:" لن تصنع لنفسك وثنا ولا صورة " لم يحظرّ استعمال أدوات للعبادة.لقد منعت عبادة الأصنام لكنّ الرموز والأدوات والوسائل المستعملة في عبادة الله لم تمنع، لان الشعب لا يعبدها أو يكرمّها لـ " ذاتها " أي بالاستقلال عن علاقتها بالله الحي الذي تعود العبادة إليه وحده [1].
يقول القديس يوحنا الدمشقي، في السجود للأيقونات:" الممنوع إنما هو عبادة الأصنام والذبائح المقدمة للشياطين:والكتاب المقدس قد تكلم بتشهير عن الساجدين للمنحوتات والذابحين للشياطين وكان اليونانيون واليهود أيضا يذبحون . لكنّ ذبائح اليونانيين كانت للشياطين وذبائح اليهود لله . وكانت ذبيحة اليونانيين مرذولة ومحكوما عليها، وذبيحة الصدّيقين مقبولة لدى الله . فان نوحا قد اصعد محرقات لله، "فتنسّم الرب رائحة الرضا "(تكوين 8: 21 ) وتقبّل استعداده الطيّب الواصل إليه تعالى فعلى هذا النحو كانت إذا الأصنام اليونانيين أي تماثيل الشياطين مرذولة وممنوعة[2] ".
لم يكن الاستعمال الأيقونات دارجا في العهد القديم لان الله لا يرى، السبب في دخول هذه العادة في العهد الجديد، السجود للأيقونات من التقليد الكنسي . "
أما في العهد الجديد فقد تجسد كلمة الله " وحل بيننا ورأينا مجده " ( يوحنا 1:14 ) . أي ان الآب نفسه ظهر للبشر بشخص الابن (يوحنا14: 9 ) وأقام علاقة شخصية معنا، لذلك نستطيع ان نصوّر الله في شخص المسيح . وفي هذا المجال يقول القديس يوحنا الدمشقي[3] :" في الحقبة القديمة لم يكن تصوير الله ممكنا لأنه لم يكن اتخذ جسدا . أما الآن ، فبعد ظهر الله بالجسد وعايش البشر ، فأنني أصوّر الله الذي يمكنني أن أراه، والذي أصبح مادة من أجلي .ولن أنقطع عن احترام المادة التي اكتمل بها خلاصي " . وبالتالي ، فان إكرام الأيقونات يستند الى أهم عقائد الإيمان الخلاصية. ألا وهي تجسد المسيح وحضوره الحقيقي بيننا. وعندما نكرم الأيقونات فإننا نعلن إيماننا بحقيقة التجسد وتأنس المسيح . والأيقونة التي هي اعتراف بتجسد الإله في المسيح تقودنا الى النموذج، أي الى المسيح نفسه. وتعبر الأيقونة أيضا عن شوق الإنسان العميق الى المسيح ،الإله المتأنس ، وتشكل دافعا قويا لرجوع الإنسان إليه .
لذلك تعتبر الكنيسة الأرثوذكسية ان إيمانها المستقيم الرأي يشمل تكريم الأيقونات، وتطلق على الأحد الأول من الصوم، الذي تعيّد فيه لذكرى رفع الأيقونات المقدسة، اسم" أحد الأرثوذكسية ". وبالتالي فان أحدا لا يستطيع الإدعاء أنه أرثوذكسي إذا لم يكرّم الأيقونات[4] .
" ان الأيقونة تجتذب الأنظار وتجعل الحقيقة التي تمثلها أقرب إلينا، وأحب الى عقولنا، وأعمق وأسرع وأبقى تأثير في نفوسنا[5] ". أيضا الأيقونات:" هي وسيلة شريفة للتذكير ،فكما ان الكتاب يذكر المتعلّمين الذين يطالعونه هكذا تذكر الأيقونات الذين ينظرون إليها باحترام من غير المتعلّمين، وكما ان الكلام يؤثر في السمع هكذا تؤثر الأيقونة في البصر ويتم الإدراك في كلا الأمرين عقليا . " ( القديس يوحنا الدمشقي، الدفاع عن الأيقونات المقدسة )
أقدم ما وصل من النصوص الابائية التي تتطرق الى الصور المسيحية تعليق من اقليمنضس الاسكندري يدعو فيه أبناء كنيسته الى اختيار رموز لأختامهم تتوافق مع إيمانهم كاليمامة والسمكة والمركب والمرساة . إذا في البدء تأتي الصورة في صيغة الرموز حيث أصبحت علامة الجماعة المسيحية .
الصورة الرمز لا تقتصر على معنى واحد .السمكة وهي رسم بروجي قديم، تصير علامة صوفية للمسيح، والمسيحي، يسوع المسيح كصفة له. عندما يعتمد المسيحيون ليولدوا في المسيح، يكونون على صورة سيدهم. السمكة الكبيرة هي أيضا صيادة السمكات الصغيرة .
ينشدها اقلميمنضس أسقف إسكندرية في نشيد له للمسيح المخلص:" يا صيّاد الناس، الذين لتخلصهم، في بحر الشر تأخذ السمكات الطاهرة من الموج المعادي، وتقودها الى الحياة السعيدة "[6] .
صورة الراعي تهمين على الوسط الرعوي. الصورة في حد ذاتها لا شيء جديدا فيها . في اغلب الأحيان، يظهر الراعي بلا لحية مرتديا قميصا قصيرا مشدودا بزنار . الأصل القديم هو صورة حامل الكبش . ونموذجه الأكبر صورة هرمس الذي رد ذات مرة البلية عندما جال في المدينة حاملا حملا على كتفيه . أخذ المسيحيون هذه الصورة وجعلوها للمسيح . ضد " رعاة إسرائيل الذين كانوا يرعون أنفسهم " يأتي بشخصه ليهتم بقطيعه ويجمع خرافه الضالة. في انجيل القديس لوقا يتحدث يسوع بمثل الراعي الذي ذهب يبحث عن الخروف الضال ( لوقا 5: 15 )، مظهر ذاته راعيا صالحا أتى يجمع خرافه من كل حدب وصوب .
سواء أكانت مرسومة أم منحوتة، تبدو الصورة غير شخصية وعامة . أحيانا نجد معها صورة اورفيوس الموسيقي الذي يحمل غناؤه السلام حتى الى الجحيم . لئن كانت هذه الصورة مألوفة لدى المسيحيين الأوائل، إلا انها تبقى فارغة من كل خاصة كتابية . بعد نزع الطابع الوثني عنها ،جعلها المسيحيون صورة حيادية جاهزة لتقبّل رمزية مسيانية .وحدهسياقها يعطيعها هوية مسيحية [7].
بعد مرحلة الصورة الرمز تدخل الوجوه لتمثل المسيح والأنبياء والرسل بملامح أبطال حضارات الإغريق والسوريين والمصريين المنتشرة في أراضي الإمبراطورية الرومانية والمتداخلة فيها [8] .
هكذا نهل الفنانون المسيحيون من الفنون المعاصرة لهم وتأثروا بالحضارة الرومانية وبالأساليب المتعددة التي طبعت فنون الإمبراطورية الرومانية قبل ان تختمر المؤشرات المتباينة في صياغة جديدة عرف معها فن التصوير المسيحي ولادته الحقيقية.
يبدو الفن المسيحي الأول فنا جنائزيا . من دياميس روما الى تلك التي اكتشفت في سالونيكي العقود الأخيرة وصولا الى مقبرة البجوات في واحات مصر، ثمة برنامج ايكونوغرافي تتكرر نماذجه شرقا وغربا . المواضيع الإنشائية قليلة للغاية ، فالفن هنا لا يسعى للسرد بل لتصوير ما يدعوه اندريه غرابار " إشارات الخلاص " التي تتذكر بها صلوات التعازي القديمة التي تعد المؤمنين الراقدين بالخلاص ،هذا الخلاص الذي اختبره وعاشه نوح واسحق،موسى،دانيال، ويونان .
تتغير المواضيع مع انتشار الكنائس واعتناق الإمبراطورية المسيحية الدين المسيحي . تتراجع صور أنبياء العهد القديم أمام صور المسيح والقديسين . الأساليب متباينة ومتعددة تتنوع وتتداخل قبل ان تتآلف في صيغة جديدة[9] .
في القرن الثامن تصدرت قضية صور المسيح والقديسين واجهة الحياة الدينية والمدنية وأصبحت ساحة لطرح الخلافات القائمة حول شخص المخلص وخصائص طبيعته البشرية وصورته المادية . كانت نتيجة الخلافات حربا أهلية ومباحثة جدلية في اللاهوت والناسوت دامتا سحابة مئة وعشرين سنة.
انقسم المجتمع في هذه الحقبة حزبين: الأول يرفض الصور رفضا قاطعا وآخر يناصرها ويعلن ولاءه لها . فريق يتهم خصمه بالفكر والتجديف والخصم يرد التهمة عليه ويتهمه بالوثنية والعودة الى عبادة الأصنام عام 787، انعقد المجمع المسكوني السابع في نيقية حيث دعى الأساقفة المجتمعون الى تكريم الأيقونات بالإكرام نفسه الذي يقابل به الصليب والأناجيل المقدسة . هدأت حرب محطمي الصور وعاشت الإمبراطورية هدنة امتدت سبعا وعشرين سنة، اندلعت بعدها الحرب من جديد ولم تتوقف نهائيا إلا مع إعادة الإمبراطورة تيودورا الاعتبار الى إكرام الأيقونات . ساهمت هذه الحروب الطويلة في إرساء لاهوت التصوير المسيحي .
إذا ينطلق الفن المسيحي من الإشارة الى الرمز، ومن الرمز الى الصورة. وينتقل من الصورة الترابية الى الصورة السماوية . أي من الفن الديني الى الفن المقدس . في معنى آخر ستطلب المسيحية في القرن السابع، أي في المجمع البندكتي في القسطنطينية إلغاء الرموز لتصوير الأشياء على حقيقتها، أي عدم رسم الحمل الذي يشير اليه يوحنا المعمدان، بل تصوير المسيح لتأكيد حقيقة دخوله العالم حسيا ( تجسده )[10] .
2 – ايقونة الميلاد تاريخها وتأليفها:
ان الجدارية الأولى التي تمثل الميلاد تأتي من القرن الثاني؛ إن تصورها كذلك أقدم من تصور رسومات رواية القرن الثالث الإنجيلية. إنها لا تمثل الحدث المذكور في إنجيلي متى ولوقا لكن تتكلم عن تحقيق وعد العهد القديم. يمكن أن يعود الفضل في إنجازها إلى وثني مهتد الذي ربما لم يكن استوعب تماماً في نفس وقت استيعاب المسيحية التأثيرات اليهودية.
هذه الجدارية الصغيرة لدياميس القديس Priscille في روما التي تمثل العذراء والطفل والنجم ونبياً يمكن أن لا تلفت انتباه عابر غير مجرب. مع كونها مشوهة تشوهاً كبيراً في قسمها السفلي فإنها تسمح أن نميز والدة الإله جالسة، تحمل الطفل المتجه صوب النبي. النبي المذكور ممثل بهيئة شاب لا لحية له ويحمل سفراً في يده، في الوقت الذي فيه يدل على العذراء باليد الأخرى. والنجم الذي يعلو اللوحة يدل على أن المقصود هنا هي العذراء والمسيح الطفل. إن ملابس العذراء تسمح بأن نفترض تاريخاً للجدارية التي من الممكن أنها رسمت قبل القرن الثالث، بينما لون بشرة الوجوه الصلصالي لا يسمح بالقول بأنها آتية من قبل القرن الثاني[11].
هذه الجدارية هي حقاً الشهادة على بداية بلورة موضوع التجسد كحدث تاريخي في الفن. هنا، المقصود هو تحقيق الوعد الكامن في العهد القديم، لأن تبرز لنا الطفل عمانوئيل الذي "تنبأ Balaam عن نجمه، "[12] الذي "لمع في السماء أكثر من كل النجوم الأخرى."[13] هذه المقاربة قديمة: إن الأحداث مذكورة نسبة إلى المعنى العميق الذي كان يحمله للتجسد من أجل البشرية: وهو واقع أن عمل الخلاص شمل كل المؤمنين منذ بدء الزمان الشيء الذي سيوسع ويعبر عنه في أيقونة قيامة المسيح (النزول إلى الجحيم). ذو مغزى أنه من بين التمثيلات المسيحية الأولى تمثيل الميلاد هو الذي يلخص التجسد وعمل الخلاص. سنرى كيف أنه رويداً رويداً مع إعلان العقائد الخريستولوجية صار هذا الموضوع الإيقوني في الميلاد أعقد وذلك كي يعكس تعليم الكنيسة.
3 – الميلاد في النواويس :
إما الظهور الفعلي لتمثيلات الأولى للميلاد بدأت في النصف الأول من القرن الرابع، في جو الانتصار الذي خلقه السلام الديني، إذ حلت التمثيلات الواقعية للميلاد محل تمثيلات أقدم للتنبؤ المتعلقة بنبؤات العهد القديم في مولد المسيح الذي ولدته العذراء، تبتغي هذه التمثيلات تمجيد تجسد الكلمة والتنويه على الميزة الحقيقية لتجسد المسيح على الأرض .
أيضا هذه التمثيلات الأولى للميلاد ظهرت في نفس العصر الذي تأسس فيه عيد الميلاد.
اذ كان عيد التجسد ( الميلاد ) قديماً هو نفسه عيد عماد يسوع المسيح. بالنسبة لمسيحيي القرن الثاني والثالث، ظهر التجسد لدى ظهور المسيح للشعب بكلمات الآب: "أنت ابني الحبيب…".[14] وإذا ما اعتبرنا التوجه العام الذي كان ينص على إعطاء تفسير واسع لكلمات الكتاب المقدس فإن المبرر كان كافياً من أجل الربط العاجل للتعييد بالميلاد بعيد تثبيت التجسد الخلاصي لابن الله.
غير أن الكنيسة، بسبب عدم وضوح المضمون العقائدي لعيد الظهور الإلهي في ما يختص بصيغ التجسد تجاه التعليم الهرطوقي الغنوصي والدوستياني والآريوسي، سرعان ما عمدت إلى التشديد على عبارات المجمعين الأولين العقائدية مؤكدة على ولادة المسيح البشرية.
وهذا ما كان ممكناً إلا بتسليط الضوء على كل الأحداث المحيطة بالميلاد المذكور في الأناجيل. الشيء الذي أدى إلى أن يكون عيد الميلاد-الظهور المزدوج ذا تشعب كثير وبالتالي إلى تسهيل عملية قسمه إلى عيدين مختلفين.
الميلاد هو إذاً عيد يعبر عن الرؤية الأرثوذكسية للتجسد على نقيض الظهور (عماد المسيح) الذي في ذلك العصر بدا وكأنه كان يثبت بعض الهرطقات.[15] بالمثل، على الأيقونة، تعبر والدةُ الإله والتي هي أيضاً والدة ابن الإنسان والطفلُ، الإله الذي هو قبل الدهور والنائم في النور غير المخلوق الآتي من فوق .
نستنتج من هذا وجود يقظة الاهتمام بموضوع الميلاد، وهو اهتمام تشهد عليه محاولات مقاربة للحدث الميلادي أكثر فأكثر وليس مجازية أو رمزية وحسب.
لذا اخذ المؤمنون بعين الاعتبار بعض التفاصيل المذكورة في الكتاب المقدس. لكي تولد الأيقونة إنطلاقاً من هذه الوقائع المحدودة الملموسة والقابلة لأن تُمثَّل .
ومن بين كل مواضيع جداريات الدهاليز التي أحصاها المؤلفون لم يذكر الميلاد إلا مرة واحدة.[16] الطفل ممثل راقداً على نوع من فراش وإلى جانبه مع الثور والحمار أمُّه ترتدي رداء رومانياً وشعرها منسدل.
إن أقدم نقوش النواويس التي تمثل الميلاد تعود إلى بداية القرن الرابع. ليست هذه التمثيلات عديدة إذا ما قارناها بكثرة المواضيع الأخرى التي وصفناها أنها "مجازية."[17] إنها شديدة التنوع في تفاصيلها.يبدو أن التمثيل الأبسط موجود على ناووس كنيسة القديس Ambroise في Milan: الطفل المقمط يرقد على فراش وعند رأسه ورجليه الثور والحمار ممددان[18]. فوق الطفل نرى النجمة. مع ذلك، على نقوش من نواويس أقدم (نحو 32.-325)، يرقد الطفل في مذود وحوله ما عدا الثور والحمار شخصٌ (راع؟) يستند على عصاه. في مكان آخر، نرى العذراء جالسة إلى جانب المذود وأحياناً شخصاً يعتبره بعض المؤلفين راعياً وأُخَر القديس يوسف.
هناك أيضاً بعض النواويس حيث المجوس ماثلون أمام المذود.[19] لكن التمثيل الأكمل للميلاد موجود على ناووس الvia appia:[20] الطفل نائم في معلف مزخرف بجدائل موجود تحت إفريز؛ إلى يمين المذود يوجد القديس يوسف (كشخص كهل يحمل في يده قضيباً صغيراً) ووالدة الإله جالسة يغطيها معطفها من رأسها إلى أسفل قدميها وتشيح بوجهها عن السرير المفترض؛ وإلى اليسار هناك الثور الحمار وثلاثة المجوس (كأشخاص يرتدون الثياب الفارسية: القبعات الافرنيجية والسراويل chausses والجلابيب القصيرة) يحملون هدايا متنوعة تبدو وكأنها عصافير وفاكهة وخبزاً بشكل إكليل؛ [21] الأول بينهم يدل الآخرين على النجم؛ لا ينقص إلا الرعاة.
من جهة أخرى، إن وجود الثور والحمار وحسب عند قدمي العذراء على ناووس القديس Trophime في Arles (منتصف القرن الرابع) يدل على تشكيل مختصر لمشهد الميلاد واندماجه بمشهد سجود المجوس (Ws, لوحة 242، 1). بالمقابل، نرى بشكل خاص على نواويس القرن الرابع أكثر مما نرى عموماً مريم ويوسف راعياً، أو أكثر، بسيطاً لباسُهم وفي يدهم baculus (قضيبٌ) أو أداة عمل (Ws, لوحة 243، 6)؛ نراهم يسجدون للطفل أو يشيرون إلى النجم. في التمثيلات الأقدم، تظهر مريم جالسة إلى جانب المذود (راجع مثلاً Ws, لوحة 198، 1؛ 2.1، 5؛ 226، 1؛ 249، 11).
وانطلاقاً من القرن السادس، تصور عموماً على العكس ممددة على سرير؛ ربما أن هذا الوضع يشدد على مسألة أن المسيح لبس فعلاً طبيعتنا؛ وتجعل أيضاً ألم العذراء ملموساً أكثر (راجع مثلاً Volbach, Elfenbeinarbeiten). في مؤلفات لاحقة، وانطلاقاً من القرن العاشر بشكل خاص، تبدو مريم أحياناً منحنية فوق السرير (راجع لويحة Codex Egberti من العام 98. تقريباً: Kraus, Miniaturen). يظهر يوسف في تصاوير
الميلاد إنطلاقاً من القرن الخامس؛ ويُصوَّر في معظم الأوقات جالساً (مثلاً Volbach, Elfenbeinarbeiten: إنهما المثالان الوحيدان حيث هناك منشار في يده)؛ ويندر أن يصور واقفاً إلى جانب الطفل (مثلاً، على زجاج في كاتدرائية Maximien في Ravenne: Cecchelli, Cattedra وفي لويحة من الورقة 4ب من إنجيل Rabbula السرياني: Cechhelli, Rabb. Gosp. …). فيما خص إطار المشهد، فإن التمثيلات الغربية القديمة تظهر المذود تحت كوخ cabane أو تحت تعريشة pergola بينما في الشرق فقد فضلوا أن يظهروه في العراء أو في مغارة.
إن هدايا المجوس غير المتوقعة على ناووس via appia ليست الوحيدة في تاريخ هذا المخطط الإيقوغرافي. يجب أن نلاحظ أن الأناجيل المنحولة وأساطير الملوك المجوس تشير إلى الهدايا المتنوعة التي من المفترض أنهم قدموها للطفل يسوع. على سبيل المثال، نجد في انجيل متى المنحول(16،1-2) ذكراً لقطع مالية مقدمة إضافة إلى ذهب وبخور ومر كما أننا نجد في السراديب المجوس يحملون أواني مرصعة بقطع الذهب .
يرتبط مشهد القطع الذهبية هذا، حسب أسطورة غامضة، بأجداد المسيح. وعلى مثلث واجهة كاتدرائية القديس Bernard de Comminges (من القرن 12) يشار إلى الهدايا بالكتابة التالية: "Et leo far et miron, aspron filium Dei"[22]. هناك تمثيلات مشابهة في Germigny-l’Exempt على شباك من الواجهة الغربية لكاتدرائية Chartres.
لنذكر أيضاً هدية أخرى تثير التساؤل وتظهر في تمثيلات العصر الوسيط: كتاباً. يـأتي هذا التفصيل حتماً من تأثير الأساطير المأخوذة من Livre de Seth [كتاب شيت] وlivre araméen de l’Enfance du Christ [كتاب طفولة المسيح الآراميُ]: "Melkon، ملك الفرس، هو من ان أحضر المر واللؤلؤة aloès والموصلي mousseline والبرفير والأوشحة rubans الكتانية والكتب التي كتبتها ومهرتها إصبع الله"[23]. ويمكن أن يكون المقصود كتاباً يحتوي على نبؤات Balaam كما هو الحال بالنسبة للدروج rouleaux على جداريات fresques كبادوكية[24].
إن هدايا المجوس الممثلة عموماً على النواويس هي عبارة عن سلة من الفاكهة أو عن إكليل[25]. وهي عبارة عن كعكة galettes من خبز كما على إنجيل Etchmiadzin (ق5-ق6). في بعض الأحيان هي عبارة عن قرون خصب cornes d’abondance (كما على dyptique كاتدرائية Milan من القرن الخامس). إن الهيئة غير المألوفة لهدايا المجوس لا تعني دوماً أنها لا تتوافق مع نص متى. إذ في الواقع في التمثيلات الغربية يصور المر بشكل خبز مستدير الشكل والبخور بشكل كرات صغيرة[26].
في كل الأحوال، علق الآباء أهمية على نص الأناجيل القانونية التي تتكلم عن الذهب والبخور والمر حتى ولو اختلفت شيئاً ما فيما بينها في تأويل معنى الهدايا. وعليه مثلاً يذكر القديس إيريناوس أن المر كان مخصصاً للرجل والذهب للملك والبخور لله[27]، الشيء الذي يُعتَبر التفسيرَ الكلاسيكي. القديس أفرام السرياني يربط الذهب بالملك لكنه يربط البخور بالكاهن والمر بالطبيب. في أثيوبيا، كان الذهب يُربَط بالملك والبخور بالله والمر بالآلام Passion
الشيء الذي يلتقي بالنتيجة مع تفسير القديس إيريناوس. هناك اقتراح تفسير آخر قدمه G. Ryckmans:[28] قدم المجوس للمسيح "ذهباً وبخوراً ومراً. ليس من شيء يتعارض من وجهة نظر فيلولوجية مع مسألة أن الأول من بين هذه التعابير يفسر كالباقيين اللذين هما من الأطياب… فاسمها يذَكِّر بجواهر الأطياب essences aromatiques المخصص للعبادة الإلهية في بلاد المجوس والتي نقوشها المحفورة على هياكل عطور سبأ الصغيرة تعد شواهد حقيقية: dhb، lbny، mrt … في العالم الهلينستي ترجم إسم أول العطور بكلمة "ذهب".
وإذا ما عدنا إلى نقش via Appia فينبغي أن نشير هنا إلى وضع اللامبالاة الذي تعبر عنه العذراء كما نرى في بعض التمثيلات المسيحية القديمة للميلاد دون المجوس (راجع العديد من النواويس في متحف Latran). يمكن لنا أن نستخلص من ذلك أن الفنان أراد أن يشد انتباهنا إلى الطفل الذي يسجد له إما الرعاة وإما المجوس الذي هو محور التمثيل بينما يبقى حضور أمِّه شيئاً ملحقاً (الأمر الذي تؤكده من جهة أخرى التمثيلات التي هي غائبة منها كما في جزء من ناووس روماني، ناووس Claudianus في روما .
وإذا ما لـخَّصنا، يمكن القول إنّ الخصائص الأساسية للتمثيلات الميلادية كانت منذ البدء (النصف الأول من القرن الرابع)، التفاصيل التالية: الإفريز، المذود مع الطفل المقمط، أم الله جالسة إلى جانب المذود، الثور والحمار، الرعاة والمجوس. هذا مثبت ليس خلال القرنين الرابع والخامس بالنسبة للنواويس وحسب بل وأيضاً لتمثيلات من زمن لاحق: كغلاف إنجيل Milan (diptyque) من القرن الخامس،وكرسي Maximilien متحف برلين من القرن السادس، وقارورات ampoules من الأرض المقدسة ، الزر gemme المسمى Vettori.
مع ذلك، فإن عدم تحول خصائص تمثيل الميلاد ليس سوى ظاهري. ذلك أن النسخة القانونية النهائية نفسها تتغير من فنان إلى آخر ومن بناء إلى آخر مع الأمانة للمضمون العقائدي.
ما هذا المضمون إذاً في التمثيلات القديمة؟ إنها أمثلة من الرواية الإنجيلية، وليست سوى ذلك، ترصف الشخصيات الأساسية وتعطي إشارة شاملة للمشهد. غير أن الثور والحمار يدلان أن المضمون هنا هو ميلاد المسيا مع التذكير بنبؤة العهد القديم غير أن هدايا المجوس وحضور الرعاة المثير للدهشة يدلان على ميزة المولود الفريدة والنجم على ناحية الحدث التي تفوق الطبيعة والظهورية وعلى ملوكية الطفل في نفس الوقت.
إذا ما اعتبرنا عيد الميلاد قبل كل شيء كعيد يشهد على العقيدة الأرثوذكسية في التجسد، فإن كل هذه التمثيلات الأولى تتوافق توافقاً مع الأشكال الأولى التي تحكي عن طبيعتي المسيح وعن ميلاده البشري .
[1] – آليفيزوبولس ، أنطونيوس ( الأب ) " زاد الأرثوذكسية " منشورات النور .
[2] " الدفاع عن الأيقونات المقدسة" القديس يوحنا الدمشقي ،1997
[3] – المرجع السابق
[4] – آليفيزوبولس، أنطونيوس ( الأب ) " زاد الأرثوذكسية " منشورات النور .
[5] – القديس باسيليوس الكبير، أسقف قيصرية، عظة في القديس برلعام
[6] – الزيباوي ، محمود : " المسيح على عتبة الايقونة " ، جريدة النهار ، المحلق :22- كانون الاول – 1999 الصفحة 22
–[7] الزيباوي ، محمود : " في مقام الصورة وتجلياتها " ، جريدة النهار ، المحلق :2.- أيلول – 1997 الصفحة 1.
[8] – الزيباوي ، محمود : " الآلام في الفن المسيحي من الرمز الى الايقونة " ، جريدة النهار ، المحلق :2.- نيسان – 1999 الصفحة 12
[9] – زيباوي ، محمود : " فن الايقونة الشرقية بين الاصالة والتجديد " ، جريدة النهار :21- 6 – 2..3 الصفحة 19
[10] – زيباوي ، محمود : " فن المسيحي الأول " ، جريدة النهار ، الملحق : 24- تموز – 1999 الصفحة 1.
[11] راجع N. KONDAKOV, L’iconographie de
[12] القديس إيريناوس، Adv. Haer., III, 9,2.
[13] إغناطيوس الأنطاكي، Eph., 18, 2؛ راجع أيضاً JUSTIN: (المسيح) "سماه نجماً فمُ موسى، ومَشرِقاً فم زخريا" (Dial., 126, 1)؛ "ثمة نبي آخر وهو إشعيا أعلن الشيء نفسه بعبارات أخرى: سيقوم نجم من يعقوب وزهرة تنبت على أصل يسى والأمم سيطمئنون إلى ساعده. هذا النجم اللامع الذي قام وهذه الزهرة التي نبتت من أصل يسى هو المسيح" (1Apol., 32, 12-13).
[14] مر1: 11
[15] راجع القديس إكليمنضوس الاسكندري (Strom., 4,83) الذي يذكر وجهة نظر الغنوصيين الباسيليديين: "أرسل الله روحه (nou1j)، إشعاع الألوهة الأول، الذي نزل بشكل حمامة على يسوع في الأردن، الذي كان حتى تلك اللحظة مجرد إنسان قابل أن يخطىء".
[16] ROSSI, Bullet. di archelol. crist., 1877, tav. II.
[17] KRAUS, Roma sotteranea, p. 367، يقدم لائحة في 25 موضوعاً عن التمثيلات الدينية المصنفة حسب نسق تواترها. الميلاد في الموقع ما قبل الأخير. راجع أيضاً ALLARD, Rome souterraine، وN. POKROVSKY, L’Evangile dans les monuments d’art d’archéologie chrétienne، وDom H. LECLERCQ, Manuel d’archéologie chrétienne. في أرمينيا، لا يبدو أن الميلاد مُثِّل قبل القرن السادس. يعدد رئيس الأساقفة Garegin HOSEP’IAN, Material of a Study of Armenian Art, vol. III, P. 119-123، المواضيع التالية: الصليب، النقوش: المسيح، العذراء، بعض القديسين، عماد المسيح، النسوة حاملات الطيب، ذبيحة إبراهيم، دانيال بين الأسود.
[18] ROSSI, Bull. di archelol. crist., Tav. II؛ متحف أثينا البيزنطي، نهاية القرن الرابع-بداية القرن الخامس. لِنُشِر إلى أن بساطة التأليف ليست علامة قدم كبير لنقشٍ كما يُستدل على ذلك، من بين ما يستدل منه، من قطعة عاج متحف Nevers من القرن السادس وصفيحة Adana المعدنية مع النقش PAQNI من القرن السادس، إلخ.
[19] N. POKROVSKY، المرجع المذكور، يفترض أنه في كل التمثيلات التي فيها يبدو المجوس إلى جانب المذود فإن المقصود ليس هو السجود نفسه لكن اقتراب (ارتحال) أولئك؛ وهذا تدل عليه أوضاع الشخصيات أو بعض البعد في التأليف ما خلا استثناءين إثنين.
[20] Campo Santo dei Tedeschi؛ إعادة التمثيل للدكتور A. de
[21] "… ملوك مجوس على نواويس القرنين الرابع والخامس: بدل الذهب والمر والبخور يحملون الفاكهة والعصافير والخبز بشكل إكليل". N.A. BRODSKY, L’iconographie oubliée de l’Arc éphésien de Sainte-Marie Majeure, p. 77-78.
[22] تعني المال الفضي و far تعني حلوى مصنوعة من زهر الحنطة وهذا يسمح أن نستشف الإشارة إلى العادة الوثنية لكعكة الملوك التي هي حلوى الإحتفالات القديمة المقدسةُ، "primum far" التي تكلم عنها Virigile.
[23]– نص مأخوذ من نسخة آرامية لكتاب الطفولة. تمثيل المجوسي يحمل كتاباً موجود على باب كنيسة Vézelay الديرية وعلى تاج سكرستيا le chapiteau de la sacristie كنيسة القديس Lazare d’Autan.
[24] – راجع G. de JERPHANION, Les églises rupestres de Cappadoce, Paris, 1925.
[25] على سبيل المثال على قبر أبرياء القديس Maximien. راجع G. VEYZIN، الموضع نفسه، ص81.
[26] – أنظر على سبيل المثال منمنمة كتاب مزامير Wurtemberg.
[27] – Adv. haer., 3, c. 9 – PG. 11, 772.
[28] – G. Ryckmans, De l’or(?), de l’encens et de la myrrhe, dans: “Revue biblique LVIII (1951), p. 372-376.