الكنيسة– الأب إفرام كرياكوس
الخميس 23 تموز 1992، في الجبل المقدس
1 – الكنيسة شعب الله
عن طريق المعمودية المقدسة يولد الإنسان من جديد ويصبح عضواً في جسد واحد، مقدّس جامع ورسولي هو جسد الكنيسة، هو جسد المسيح المقدّس.
يصبح خروفاً ناطقاً في رعيته المقدسة تماماً كما يطلب خادم الأسرار من الله: “أتحِده في رعية مورثك، اغرسْه غرسة حقة، في كنيستك المقدسة الجامعة الرسولية“.
في يوم العنصرة، المستمعون للرسول بطرس تقبّلوا بفرح توصيته وحثّه على التوبة وعلى المعمودية.
اعتمدوا إذاً وأضافوا في ذلك اليوم على جماعة المؤمنين ثلاثة آلاف شخص جديد:
“فقبِلوا كلامَه بفرح واعتمدوا وانضمّ في ذلك اليوم نحو ثلاثة آلاف نفس. وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات. وصار خوف في كلّ نفس وكانت آيات وعجائب كثيرة تُجرى على أيدي الرسل وجميع الذين آمنوا كانوا معاً وكان عندهم كلّ شيء مشتركاً. والأملاك والمقتنيات كانوا يبيعونها ويقسمونها بين الجميع كما يكون لكلّ واحد احتياج. وكانوا كلّ يوم يواظبون في الهيكل بنفس واحدة. وإذ هم يكسرون الخبز في البيوت كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب، مسبّحين الله، ولهم نعمة لدى جميع الشعب وكان الرب كلّ يوم يضمّ إلى الكنيسة الذين يخلصون( أعمال2: 41 – 47. )
بعد المعمودية المقدسة والمناولة الإلهية ينتمي المؤمن إلى شعب الله.
القديس غريغوريوس النيصّي يحثّ غير المعمّدين بهذه الأقوال:
اتّحدْ بشعبِ الله السري. سبّحْ معنا كما يسبّح السرافيم ذوات الستة أجنحة مع المسيحيين الأتقياء. إرغبْ في تناول الطعام الذي يقوّي النفس أي جسد الرب القدّوس. تذوّق الشراب الذي يبهج القلب أي دم الربّ القدوس:
إنك كموعوظ توجد خارج الكنيسة، خارج الفردوس، أمّا الآن عن طريق المعمودية المقدّسة يفتح الباب لكي تدخل إلى الفردوس الذي منه خرجت بعد السقوط” [1]
عن طريق المعمودية المقدسة تدخل إلى الكنيسة التي هي الفردوس الجديد، فردوس المحبة الإلهية.
وداخل الكنيسة المؤمنون كلّهم يؤلفون جسداً واحداً، وروحاً واحداً، كما دُعينا في رجاء واحد لدعوتنا – ربٌ واحدٌ، إيمان واحد، معمودية واحدة.
يسأل القديس يوحنا الذهبي الفم: ماذا يعني بجسدٍ واحد؟ فيجيب:
“الجسد الواحد هو المؤمنون كلّهم معاً المنتشرون في المسكونة كلّها، الذين يعيشون اليوم والذين عاشوا والذين سوف يعيشون في المستقبل“.
جسد الرب القدّوس هذا هو كنيستنا المقدّسة تجتمع معاً وتمجّد الله.
عن طريق الليتورجيا الإلهية يتراءى لنا سرّ جسد المسيح وينكشف. القديس يوحنا الذهبي الفم في شرحه للمقطع:
“فإننا نحن الكثيرين خبزٌ واحدٌ جسدٌ واحدٌ” (1كور10: 17)
يكتب ما يلي: ما هو هذا الجسد الذي نتناوله؟ هو جسد المسيح، لا أجساداً كثيرة بل جسداً واحداً.”
عن طريق المعمودية المقدّسة نصبح جسداً واحداً مع شعب الله المقدّس.
عن طريق الليتورجيا الإلهية، شعب الله هذا يبتهل إلى الرب ويمجّده. إن الكاهن الذي يقدّم العبادة غير الدموية هو ممثل شعب الله، يتكلّم باسمه.
لذلك يقول ساعة التقديس الشريفة: شعبك وكنيستك يبتهلان إليك (قداس يعقوب أخي الرب).
في الليتورجيا الإلهية لا أحد يصلّي فردياً من أجل نفسه. الكنيسة كلّها تقدّم القرابين المكرّمة. لذلك الليتورجية ليست خاصةً أو فرديةً، وكلمة “ليتورجية” تعني “عمل الشعب“.
شعب الله المنتشر في كلّ المسكونة يشترك في الذبيحة المقدّسة.
هناك مع المسيح، مع والدة الإله، مع القديسين وجميع القوات السماوية، شعب الله يمجّد محبة الله ويبتهل إليه من أجل الإستمرار في مسيرته نحو الملكوت.
2 – الكنيسة بيت الرب
الكنيسة هي مجموعة المؤمنين بالرب يسوع المسيح، الذين يعترفون به ربّاً ومخلّصاً، وقد اعتمدوا على اسم الثالوث القدّوس.
ولكن الكنيسة هي أيضاً المكان الذي فيه يجتمع شعب الله ويمجّد الرب ويقدّم العبادة غير الدموية، خدمة سر الشكر الإلهي.
القديس جرمانوس بطريرك القسطنطينية يجمع بين معنيي كلمة كنيسة ويعطي التحديد التالي:
“الكنيسة هي هيكل الله، مكانٌ مقدسٌ، مكانٌ للصلاة اجتماع شعب الله، جسد المسيح واسمه، عروس المسيح التي تدعو الشعوب إلى التوبة والصلاة… الكنيسة هي سماء على الارض فيها يسكن الله السماوي ويتحرّك… الكنيسة هي بيت إلهي. هي مكان تقدّم فيه ذبيحة المسيح السرّية (أي الجلجلة الرهيبة)…
وهي مغارة بيت لحم المقدّسة. هي قبر الربّ الكليّ القداسة ومائدة العشاء السري المغذية للنفس والمحيية“.
الهيكل المسيحي الأول هو المكان الذي أقام فيه يسوع المسيح العشاء السري. هو العلّية حيث هيّأ تلاميذ الرب العشاء الفصحي.
هناك سلّم المسيح لتلاميذه سرّ الشكر الإلهي، هناك كلّمهم عن سرّ محبته غير المحدودة، هناك ظهر للأحد عشر بعد قيامته. هناك، بعد صعود المسيح كانت العذراء الكليّة القداسة مع التلاميذ يواظبون معاً على الصلاة والتضرّع. هناك في عليّة المدينة المقدّسة كانت والدة الإله الفائقة القداسة مع التلاميذ عند حلول عيد العنصرة… فظهرت ألسنة من نار موزّعة ومالئة الكلّ بالروح القدس“.
هذا الهيكل المسيحي الأول يدعوه القديس يوحنا الدمشقي أمّ الكنائس المنتشرة في كلّ المسكونة.
في الزمن الرسولي كان سرّ الشكر الإلهي يُقام في بيوت المسيحيين مرتّبة بشكل مواقف يسمّيها بولس الرسول: “الكنائس التي في البيوت“.
وابتداءً من القرن الثاني بدأ إنشاء الأبنية المخصصة لعبادة الله.
في زمن الاضطهادات المكان الذي فيه يجتمع المسيحيون لعبادة الله هو الدياميس (Catacombes) التي كانت في القديم مقابر المسيحيين.
عندما بدأت الاضطهادات على الكنيسة أصبحت الدياميس أمكنة العبادة اليومية. وفي تلك الأيام كان المؤمنون يشعرون أنّ الهيكل هو المرفأ الأمين الروحي الذي يسود فيه سلام الله.
بيت الله يقول القديس الذهبي الفم :
“هو أساس الفضيلة ومدرسة للحياة الروحية. ليس فقط في ساعة الاجتماع حين يُتلى الكتاب المقدّس ويُعطى التعليم الروحي ويجتمع الآباء المحترمون بل وأيضاً خلال الوقت المتبقّي. دُسْ عتبة الهيكل المقدّس فتطرح للحال الاهتمامات الدنيوية. اعبرْ إلى مدخل الهيكل المقدس فتحيط بك نسمة روحية. هذا الهدوء يقودك إلى التخشّع ويعلّم الحياة الروحية. يصلح الفكر ولا يدعك تتذكر الحاضرات بل ينقلك من الأرض إلى السماء. إن كان الربح إلى هذه الدرجة كبيراً بدون اجتماع المؤمنين، بمجرّد حضورنا إلى الهيكل، فكم بالأحرى تكون الفائدة أكبر عندما يتكلم الأنبياء، عندما يكرز الرسل بالإنجيل البشارة السارة، عندما يحضر المسيح فيما بين المؤمنين، عندما يتقبّل الآب السماوي الأسرار المتممة، عندما يمنح الروح القدس بهجته الخاصة فكم يخسر الغائبون؟”
هذا السلام الذي يؤمّنه بيت الله للذين يرتادونه، يودّ القديس يوحنا الذهبي الفم أن يتمتع به المؤمنون كلّهم.
يقول: “كما هي الموانىء في المحيط هكذا أسّس الله الهياكل وسط المدن. هكذا يلتجىء إليها المؤمنون هاربين من دوخان الاهتمامات الدنيوية [2] إلى الهيكل حيث يجدون الهدوء السامي. لأنّ هنا في الهيكل لا يوجد خوف، لا هيجان للأمواج، ولا هجمات من اللصوص… لأنّ الهيكل هو مرفأ معتَق من كلّ ذلك. هو مرفأ روحي للنفوس. أنتم تشهدون على كلّ ذلك. لأنّه إن فتح أحد ضمير مكسوف يجد فيه راحة كبيرة لأن الغضب لا يزعجه ولا التعالي بنفسه ولا الرغبة تلهبه ولا الحسد يشوّهه، ولا شغف المجد الباطل يفسده. هذه الوحوش كلّها خضعت لأنّ سماع الكتب المقدسة مثل ترانيم إلهية تدخل بالسماع إلى النفس وترقّد هذه الأهواء اللاعاقلة الحيوانية“.
الهيكل هو المكان المقدس حيث يعيش كل مؤمن حضور الله. “بعد تتميم تدشين هيكل ما، يقول القديس كاباسيلاس، نعتقد أنه لا يعود هذا البيت فارغاً من الله بل يحوي في داخله السيّد” يسكن في داخله سيد البيت. ل
ذلك بعد تلاوة خدمة التدشين لا نعود “نسمي الهيكل بيتاً فقط بل مقدّساً لأنه تقدّس من الآب القدوس والابن الكليّ القداسة والروح القدس فأصبح بيتاً للثالوث القدوس” (القديس سمعان التسالونيكي).
الهيكل المقدس هو فردوس حضور المسيح: أيّ مرفأ يشابه مثل هذا الهيكل؟ أيّ فردوس يشابه مثل هذا التجمّع للمؤمنين؟ هنا لا يوجد شيطان يهاجمنا، بل المسيح الذي يدخلنا إلى أسراره” (القديس يوحنا الذهبي الفم).
عندما ندخل إلى الهيكل يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “ندخل إلى بلاط السماوات ونمشي على أرض تشرق نوراً“.
المذبح المقدس هو ينبوع يفيض موهبة المحبة الإلهية.
“إن أسرار الكنيسة والمذبح المقدّس يثيران فينا التخشّع والخوف. فاض من الفردوس ينبوعٌ انسكب أنهاراً حسية. من المائدة المقدّسة يفيض نبع ينسكب أنهاراً روحية. وبالقرب من هذا المعين نبتت أشجار تصل إلى السماء، أشجار عندها دائماً ثمر ناضر لا يذبل. كلّ من يحترق من اللهيب فليقترب من هذا النبع ويتندّى… بما أن هذا الينبوع أصله في السماء“.
في كل ليتورجية إلهية تبتهل كنيستنا المقدسة من أجل الذين يدخلون إلى الهيكل “بإيمان وورع وخوف الله”، لأنه كما يلاحظ القديس يوحنا الذهبي الفم، عندما يدخل الواحد إلى قصر الملك الأرضي ينتبه إلى مسيرته، إلى نظرته وإلى تصرّفه كلّه، فكيف يمكن له عندما يدخل إلى قصر الملك السماوي أن يضحك وأن يستهزئ؟
وبينما نستلهم في الهيكل بخوراً حسياً لا نطهّره من الدنس العقلي ، لأننا لا ندنّس الهيكل كثيراً جداً إلا عندما نتكلم فيه عن الأرباح المالية… يتابع القديس أننا في الهيكل يجب أن نكون أجواقاً ملائكية، أن نجعل الكنيسة سماءً، أن لا نعرف إلا الصلوات والسماع بصوت“.
إن صلاة المؤمنين تقدّس المكان وتحوّل المصلّي إلى هيكل لله الحيّ.
“أرأيت، يقول القديس يوحنا، كم هي قوة الصلاة؟ إنها تجعل من الناس هياكل للمسيح… ذاك الذي لا تحويه السماوات يدخل إلى نفس الذي يعيش في وسط الصلاة“.
الإنسان الذي يدخل إلى بيت الله يشترك بخوف الله بأسرار الكنيسة، يتقدّس ويصبح هيكلاً حاملاً المسيح. يصبح واحداً مع الكنيسة المقدسة “الكنيسة ما هي إلا بيتٌ بنته نفوسنا”
كما يكتب بولس الرسول: “الذي فيه كلّ البناء مركّباً معاً ينمو هيكلاً مقدساً في الرب الذي فيه أنتم أيضاً مبنيون معاً مسكناً لله في الروح” (أفسس2: 20-21).
الهيكل المقدّس هو قطعة من السماء على الأرض لذاك هو موجّه نحو الشرق لكي نتطلّع إلى الملكوت. إن المؤمنين يسيرون دائماً إلى فوق إلى أورشليم السماوية.
هناك حيث الهيكل وبيت المؤمنين هناك هو الله “ولم أرَ فيها هيكلاً لأن الرب الله القادر على كل شيء هو والخروف هيكلها” (رؤيا21: 22).
خلاصة
مع القديس سمعان اللاهوتي الحديث، كل مؤمن يتوجه إلى الرب يسوع المسيح:
عندما اتخذت جسداً أعطيتنا روحك الإلهي
وأصبحنا بيت داود واحداً، كلنا معاً بخاصيتك، بقربك…
أي كلنا بعد أن جمعتنا أصبحنا بيتاً واحداً
كلنا أقرباء أخوتك كلنا.
وكيف لا يرهب الواحد من العجب ولا يرتعد.
الذي يتعلّم كل ذلك ويدركه
أنك معنا الآن وإلى الدهر
وتجعل من كلّ واحد بيتاً وتسكن فيه
فتصير بيتاً للجميع ونسكن فيك.
1- حاشية عن المعمودية أو الصلاة: يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “أن الإنسان داخل الفردوس كان يتمتع بالتكلم مع الله، وكان يبتهج لأنه يستطيع أن يتوجّه بجرأة أي بدالة نحو الرب، الملائكة كانوا يرتعدون أمام الله، الشاروبيم والسارافيم لم يكونوا يتجرؤون أن يتوجهوا إليه. أما الإنسان فكان يتعاطى معه كمثل الصديق مع صديقه”. الشركة هذه للإنسان مع الله، تتم بواسطة الصلاة. وهي تتواصل ما دام الإنسان يحب الله ويطيع مشيئته المقدسة.
2- يجب أن تعود الرعية إلى مركزها الأول ودورها الأصيل ألا وهو واحة الهدوء والصلاة والسلام والمحبة وسط العالم. الرعية ليست فقط للنشاطات وللخدمات وللقداس فقط. بل هي محجة المؤمن (قطعة من الملكوت على الأرض) في وسط العالم.