منذ البدء الفردية مرفوضة عند الله، والشركة أعلنها عندما خلق آدم، ويليه عندما خلق حواء لآدم. كل نفس منفردة هي مشتتة ولا تستطيع الوصول إلى الله. فالله هو الباب للوصول للآخر، الآخر هو الباب للوصول إلى الله.أخطأ آدم وشوّه علاقته مع الله ومع الآخر ومع نفسه. فالشركة التي صنعها الله تصدّعت نتيجة الخطيئة تلك.
لم يدع الله البشر على أنهم نفوس مشتّتة منفردة بل جمع شعباً فيه وبه يحمل كل فرد، وفيه يحمل كلُّ فرد الآخرين. العلاقة بين البشر تتم فقط وبصورة صحيحة عندما يكون الله فيما بينهم. والوصول إلى الله لا يتم إلا من خلال وحدة تامة وكلية بين البشر.
قبل كل شيء نوضح معنى كلمة الكنيسة الواردة في الكتاب المقدس. وهل يمكن تحديد زمن لم تكن فيه الكنيسة؟ ونعرض أثر الخطيئة الجدّية على الشركة الأولى، ووضعية الكنيسة في العهد القديم. ومع مجيء الرب يسوع المسيح كيف أصبح وضع الكنيسة؟ وما هي طبيعتها وماهيتها.
شرح الكلمة:
إن كلمة Ecclesia باللاتينية، ومنها بالفرنسية Eglise هي نقل للكلمة اليونانية Ekklhsi1a التي نقلتها الترجمة السبعينية من اللفظة العبرية "قاهال"
إن لفظة "قاهال" العبرية تعني "محفل"، "جماعة" أو اجتماع الشعب، واستعملت بالمعنى العالمي والديني (تث 1:13) (نح 1:13). بالمعنى العالمي هي جماعة الشعب، جمعية مدنية، مجتمع بشري. مثلاً المزمور (5:25) "أبغضت مجمع الأشرار". بينما بالمعنى الديني تدل على جماعة الله أي، كما في العهد القديم، على جماعة الإسرائيليين (مز 23:21-26) (مز 10:39).
وإذا حاولنا أن نتفهم معنى لفظة Ekklhsi1a ، وجدنا أن الفعل اليوناني هوKale1w أي "أدعو" والاسم هو Klh1sij أي "الدعوة". نلاحظ التأكيد على أن هذه الجماعة مدعوة من الله.
"فاللفظة اليونانية التي اتخذها المسيحيون الأوائل للدلالة على الحقيقة الجديدة التي أدركوا أنهم شركاؤها، تفترض فهماً دقيقاً جداً لما كانت عليه الكنيسة. فهذه اللفظة التي تبناها المسيحيون تحت تأثير استخدامهم للترجمة السبعينية تؤكّد أولاً الاستمرار العضوي بين العهدين، لأن الوجود المسيحي قد فُهم من خلال المنظور المقدّس للإعداد المسياني ولتحقيقه (عب 1:1-2)"[1][1].
المعنى الجديد في العهد الجديد يدل على "اجتماع" أو "جماعة" المسيحيين، سواء أكانت جماعة بمفردها كالجماعة التي في بيت أكيلا وبريسكلا "وعلى الكنيسة التي في بيتهما"(رو 5:16) والتي في أورشليم (أع 1:8) والتي في إنطاكية (أع 1:13، 26:14). أو جماعة المسيحيين عموماً "وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي" (متى 18:16)، أنظر (أع 31:9، 28:20)، (أفس 22:1، 23:5).
الكنيسة قبل خلق العالم:
إن الرب خلق الإنسان على صورته، الأمر الذي يجعل ممكناً دخول روح الكنيسة الإنسان وتجسد الإله، فليس يمكن أن يتخذ الله إلا طبيعة كائن مُشاكل له، مالك صورته.
إن وحدة الكنيسة، التي هي على صورة الثالوث، هي نواة وحدة الجنس البشري التامة. لذا فمن العسير تحديد زمن لم توجد فيه الكنيسة في الإنسانية. على الأقل بموجب اعتقاد الآباء وُجدت كنيسة أولية حتى في الفردوس (تك 8:3) [3][3]. قبل الخطيئة كان الرب يتحدث إلى الإنسان وكان بحالة اتصال به. وبعد الخطيئة، وضع الرب أساس ما يسمى كنيسة العهد القديم.
يذكر بولس الرسول "تدبير ذلك السر الذي كان مكتوماً طوال الدهور في الله خالق جميع الأشياء ليكون الفضل للكنيسة في إطلاع أصحاب الرئاسة والسلطة على حكمة الله التي لا تحصى وجوهها وما ذاك إلا تحقيق للقضاء الأزلي الذي عزم الله عليه في ربنا يسوع المسيح" (أفس9:3-10، أنظر 26:1) بهذا المعنى ثمة كنيسة في الفرودس، ولكن سقوط الإنسان من الشركة الأولى أدى إلى انتقال الكنيسة من الفردوس إلى الأرض. الكنيسة هي صلة الوصل بين البشر أنفسهم، وبينهم وبين الله، على صورة الشركة القائمة بين الأقانيم الثلاثة، وبالخطيئة تهشمت هذه الصلة (الشركة) (الكنيسة).
قال القديس إغناطيوس الأنطاكي: "حيث يكون المسيح فهناك تكون الكنيسة الجامعة" [4][4]. وقال القديس إيريناوس: "حيث تكون الكنيسة يكون الروح القدس، وحيث يكون الروح القدس تكون الكنيسة"
وبما أن المسيح والروح القدس كائنان منذ الأزل، فالكنيسة إذاً أزلية. ولكن كونها أزلية لا يعني أنها غير منظورة، فنحن نعلم أن الرب يسوع تجسد وأصبح منظوراً، والروح القدس حضر في يوم الخمسين "الذي ما كان حاضراً فيه مثلما صار فيه الآن" [5][5]
أثر الخطيئة الجدّية على الشركة الأولى:
في الحقيقة، إن نتائج الخطيئة الجدية لا تؤثّر على علاقة الإنسان مع الله فقط، بل على علاقته مع أخيه الإنسان أيضاً. فمن يبتعد عن الله تجري حياته تحت تأثير الأهواء وقوة الخطيئة الهدّامة (رو 18:1-32) (غلا 9:5-21). وأولى نتائجها هو التمزق الداخلي لشخصية الإنسان ذاته، كما يشدد بولس الرسول (رو15:7-25)، (غلا17:5).
في داخل الإنسان الخاطئ يدور النزاع بين الإنسان وأناه. في هذا الانقسام الداخلي لشخصية الإنسان الخاطئ نلاحظ أنه يحاول يائساً أن يفك قيود الشيطان وقيود الخطيئة الساكنة فيه ويصعد إلى الله. لكنه لا يستطيع أن يحقق ذلك بدون المسيح. حالة الإنسان المأساوية هذه، غريبة عن الشخصية التي جبلها الله في البدء جاعلاً إياها ذات عوامل نفسية وروحية منسجمة و متناغمة، بحيث لا يستطيع أي عامل بمفرده أن يعبّر عنها، لأن التناغم المتوافق واشتراك كل عوامل الكيان الإنساني هما اللذان يؤلفان الشخصية للإنسان بحسب الله، بينما يؤلف تفرّق هذه العوامل وتمزقها وعدم انسجامها شخصية الخاطئ [6][6].
التمزق الداخلي لوحدة الشخصية الإنسانية، يساهم في تفكك هذه الوحدة مع الله ومع الإنسان يلاحظ كاتب سفر التكوين بعد الخطيئة الجدية مباشرة، أن "خطايا الناس قد ازدادت على الأرض، وأن كل تصور أفكار قلوبهم هو شر في جميع الأيام". عيش الخطيئة احتل الإنسان العاصي، ومن هنا انقياده بشكل دائم نحو الشر تجاه اخوته البشر الذي يفترق عنهم نفسياً ويبتعد. " أنحن أفضل.. كلنا تحت الخطيئة.. الجميع فسدوا وزاغوا.. لا يوجد فرق الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله (رو 9:3-23).
التجزؤ لم يحصل على مستوى الجنس البشري وحسب وإنما طال عالم الملائكة فتشكل هناك جدار فاصل بين عالم الملائكة ودنيا البشر [7][7]. وأن أبناء آدم الواحد، لا يرون وحدتهم، لا يفطنون لها، رغم أنها كائنات اجتماعية، ورغم أنهم متعلقون باخوتهم. هكذا فقد الإنسان المحبة التي بواسطتها تتحقق الوحدة، حيث تكون المحبة أساس حياة الكنيسة الإلهية أي المسيح.
الكنيسة والعهد القديم
بعد الخطيئة، وضع الرب أساس ما يسمى كنيسة العهد القديم، تلك الكنيسة التي تعلم فيها الإنسان أن يتحد بإلهٍ مشتركاً معه. وحتى أقصى ظلمات الوثنية كانت النفس البشرية تبحث بالسليقة عن إلهها، بصورة أنه كانت "كنيسةً وثنيةً عاقراً" كما تسميها بعض التراتيل الكنسية[8][8]. لم تتوصل الكنيسة، طبعاً إلى ملء وجودها، "لأن الوحيد الذي يملأ الكنيسة هو المسيح لأنه الملء الكامل في ذاته الذي يستطيع وحده أن يملأ الكل في الكل" [9][9]
حسب العهد القديم لا توجد شركة بين الله والناس، لأن علاقة الإنسان مع الله تُحَدَّد على أساس البعد بينهما وخضوع الأول للثاني. الإنسان ينتمي إلى الله بينما الله يتدخل بطرق عديدة في حياة إسرائيل[10][10].
إنكلمة Ekklhsi1a المترجمة عن العبرية "قحال" تتضمن تشديداً خاصاً على الوحدة العضوية للشعب المختار مدركة بأنها كلٌ مقدس، وقد كانت الكنيسة شعباً، شعب الله، الشعب المقدس[11][11]. "جنسٌ محتار وأمة مقدسة وشعب مقتنى" (بط 9:2). شعب الله المختار كان كنيسة أكثر منه أمة كالأمم الأخرى. استعملت اللفظتان Ta Ge1nh. Ta e1qnh (الأمم) لتصفا الأمميين والوثنيين بخلاف الشعب الواحد أو الأمة الذي كان أساساً كنيسة الله. إن الشريعة أعطيت لإسرائيل بوصفه الكنيسة كي تشمل الحياة الروحية والزمنية للشعب [12][12].
كان إسرائيل جماعة مؤمنين أقامها الله، متحدة بالشريعة الإلهية والإيمان الحقيقي والسلطة الكهنوتية والطقوس. وهكذا اختار الله شعباً له (خر 6:6). فالعهد تم وأدخله أرض الميعاد، ولم يف هذا الشعب بوعده، لكن ظل الله أميناً وفياً لعهده، وقطع معه عهداً جديداً واعداً إياه "سيكونون شعبي وأنا سأكون إلههم" (إر 38). إذاً هو شعب يتكون ويصير [13][13]، وكلمة الله هي التي تكوّن هذا "الشعب القديم"، وبالتالي هو جماعة مدعوة بالصوت الإلهي. يمارس الله ألوهيته وربوبيّته عليهم. وهم إذا رأوا بأن الله يراهم يعرفون أنهم تكونوا شعباً. "هؤلاء هم في حالة صيرورتهم شعباً إلهياً تكوّنهم الكلمة الخارجة من فم الله: "اسمعي أيتها السماوات وأصغي أيتها الأرض لأن الرب يتكلم" [14][14].
أقرب حد يمكن أن تصل إلية علاقة الإسرائيلي مع الله هو الثقة المطلقة به. حتى تبنّي الله لإسرائيل هو علاقة ذات طابع قانوني، نابعة من العهد والناموس وليست العلاقة طبيعية كعلاقة الآباء بالأبناء. وهكذا يبقى الله بعيداً بطبيعته الإلهية غير المقترب إليها من الإنسان وغير المشترك فيها بالطبيعة [15][15]. لكن كل هذا تمهيد وتحضير لشركة حقيقية ومعنى وعهد جديد، فالعلاقة وثيقة بين الله وشعبه والحب ذات حرمة فإن الله يحث شعبه في زمن تمرده وعصيانه على الرجوع إليه، يوصي هوشع أن يتخذ امرأة زانية (هو 2:1) التي ترمز إلى حالة الشعب العاصي الحقيقية، وفي الوقت نفسه يبشر بلسان نبيه أن علاقة الحب بينه وبين المرأة الخائنة، لن تنقطع وأنه سيطهّر شعبه ويجدد علاقة الخطبة معه (هو 19:2-23).
إسرائيل القديم رمزاً للجديد الذي هو الكنيسة الجامعة وليس رمزاً لأي أمة معينة. فشمولية الخلاص ألّفت الإطار القومي لكنيسة العهد القديم، وصارت هناك بعد المسيح أمة واحدة "الأمة المسيحية".
نبوءات في العهد القديم عن شعب الله الجديد:
في العهد القديم تألفت الكنيسة من شعب الله المختار الذي سلك طريق البرية سائراً نحو أرض الميعاد ولهذه المسيرة علاقة بشخص المسيح. قال الله بلسان هوشع النبي: "من مصر دعوت ابني" (هوشع1:11). انطبق هذا القول على شخص المسيح الذي يجمع شعب الله الجديد(متى15:2). تمّ التنبؤ عن جمع شعب الله الجديد ليؤلف جسد المسيح، جسد الكنيسة الواحد من خلال استخدام أحداث مثل الخروج من مصر، والسير نحو أرض الميعاد، وسبي بابل، التشتت من جراء هذا السبي، والوعد بالعودة والتجمع.
يذكر النبي ارميا أحفاد راحيل (إرميا15:31-17). "يلمّح النبي إلى سبي شعب الله والعودة فهي صورة ونموذج لحدث آخر، هو تشتّت البشر بعد السقوط ثم جمعهم في شعب لله وحيد، أي حدث جمع الكنيسة في شخص المسيح (أنظرمتى2: 18)"[16][16]
وقد تحدث النبي ارميا عن الحدث نفسه حين ذكر ذلك اليوم الذي سيعطي فيه الرب شعبه "عهداً جديداً" يختلف عن عهد جبل سيناء بأنه لم يكتب على ألواح حجرية بل على قلوب البشر(ارميا31:31-33). ويستعمل بولس الرسول هذا المقطع الكتابي ذاكراً أن وسيط "الخدمة" لهذا العهد الأفضل هو المسيح ( عبرانيين6:8-13).
ويؤكد يسوع المخلص أن هذا العهد يشير إلى دم الرب الذي أريق من أجل شعب الله الجديد: الكنيسة (متى28:26، لوقا2:22). وحده دم الرب "الذي يراق من أجل الكثيرين لمغفرة الخطايا" يجعل بالإمكان إعادة جمع أبناء الله المشتتين، وضم شعب الله إلى "القلب الجديد" الذي يقود البشر إلى الوحدة في جسد المسيح الواحد: الكنيسة. وهذه ثمرة حضور الله في شعبه الجديد (1كو3:12، أفس13:1-14) ولذلك يؤكد حزقيال النبي "هذا ما يقوله الرب: إني سأجمعكم من بين الشعوب أحشدكم من الأراضي التي شتتكم فيها …… وأعطيكم قلباً واحداً وأجعل في أحشائكم روحاً جديداً وأنزع القلب الحجري من جسدكم …"(حز17:11-19).
لقد تنبأ الأنبياء بعهد جديد ، أي عصر المعزي (الروح القدس) الذي لم يكون عصر شعب واحد بل عصر الجنس البشري كله . لذلك هي أيضاً "خليقة جديدة"، عند اقتراب اليوم الذي يعاد فيه جمع شعب الله الجديد (اشع16:45-17). وقد أعلن أنبياء العهدالقديم مجد الكنيسة كما في رؤيا يوحنا الحبيب(رؤ12:3،10:22) وجمعها سائر الشعوب والأمم (ميخا1:4-7). يصف الأنبياء العهد القديم الكنيسة بمحبة المؤمنين بعضهم لبعض والفرح والابتهاج بحدث الخلاص الذي يتم بوحدة الكنيسة (14:3-17). يبدو أن الفرح سيتم بحضور الرب في وسط الشعب الجديد"رنمي وافرحي يا بنت صهيون فها أنذا آتي وأسكن في وسطك فتتصل أمم كثيرة بالرب في ذلك اليوم ويكونون لي شعباً فأسكن في وسطك" (ذك10:2-11).
"وشمولية ومسكونية الكنيسة ظهرت مع النبي "قال رب الجنود لأنه من مشرق الشمس إلى مغربها اسمي عظيم بين الأمم وفي كل مكان تقرب لاسمي تقدمة طاهرة، لأن اسمي عظيم في الأمم"(ملا11:1)"[17][17]
تأسيس الكنيسة والجماعة المسيحية الأولى:
جاء الإعلان الأخير والإنجاز المسياني ومجيء الوعد، إن أيام الانتظار انتهت وبزغ يوم الرب "الله بعد ما كلم آبائنا في الأنبياء قديماً كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في أبنه الذي جعله وارثاً لكل شيء الذي به أيضاً صنع العالمين" (عب1:1-2).
الإثني عشر هم أول جماعة مسيحية، أقامها الرب يسوع بنفسه وباختياره، وأعطاها على الأقل نظاماً وقتياً بإقامتهم في الخدمة. الذين دعاهم "رسلاً" (لو13:6)، أعطاهم "قدرةً وسلطاناً ثم أرسلهم ليعلنوا ملكوت الله"[18][18] (لو1:9-2، متى1:10)، لأن الرسالة علنية دعوا إليها ولم تكن عملاً تبشيرياً عابراً. أوصاهم أن ينشروا الإنجيل في الأمم، الإنجيل الوحيد الذي هو لغةً مشتركة ليسوع المسيح، وتهدم الحائط الذي يفصل بينهما، وقال لهم أنتم شهود حدث الخلاص[19][19]. وأكد أنه سيرسل إليهم ما وعدهم به الآب (لو48:24-49). ثم جدد الرب هذا الوعد قبيل الصعود (أع8:1). كانوا مكلفين وحدهم أن يثبتوا بنفس الوقت الكرازة و الحياة المشتركة. الرسل هم الرباط الذي يصل حياة الشعب الجديد بالقديم، لأن إسرائيل والشعب المختار، هذا الشعب الذي أقامه الرب ثانيةً ودعي لكمال جديد "فالإثني عشر يثبتون الاستمرار للعهدين والوحدة الحية العضوية لإسرائيل مستمر، كانوا البقية الأمينة المفرزة عن الشعب الذي انتحب قديماً وطرح لخيانته[20][20].
إن شخص المسيح وعمله هما العاملين المسببين للكنيسة، يحددان بالضرورة طيّات حقيقتها التاريخية المختلفة، وطابعها الاجتماعي، أي أنها ثمرة مخطط العناية الإلهية، وبالتالي ثمرة عمل يسوع فخلاصي. بدأ الرسل عملهم الفعلي يوم العنصرة بالذات ، انضم ثلاثة آلاف نفس ( أع41:2). تكونت الجماعة المسيحية الأولى في أورشليم " كنيسة الله الأولى" تميزت بالشركة مع الرسل الإثني عشر، ثم يسهب كتاب الأعمال في وصف مظاهر الشركة للجماعة الأولى، مما يؤكد الشركة الرسولية كصفة لهذه الجماعة (أع43:2-47).
بهذا المعنى نقول: إن الكنيسة أُسست، أسسها الرب يسوع المسيح وأعطاها شكلاً داخلياً حيويّاً بكلماته التأسيسية التالية: " حيث اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فأنا أكون بينهم" (متى20:18)،" أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي" (متى 18:16) وانظر (متى19:8، لو32:22، يو15:21-18).
من هذا الكلام نرى أن السيد أسس كنيسته في مكان (حيثما)، وأن للكنيسة أعضاء متساويين بعضهم لبعض (اثنان أو ثلاثة). إن هؤلاء الأعضاء مرتبطون بعضهم لبعض بمبادئ معينة (باسمي). وإن حق الرباط موجود تحت نظام وقيادة (فأنا بينهم). وهذا يدل على أن الكنيسة البشرية ابتدأت بالأشخاص وكثرت بالفرق المحلية وانتشرت في كل العالم (كنيسة الله)، وامتدت إلى الحياة الأخرى حياة الأجيال المستقبليّة[21][21].
الكنيسة والعنصرة
إن الوجود المسيحي كان له منذ البداية معنى وصفة آخرين " اسخاتولوجي". ومع ذلك فإن العهد الجديد الذي دشّنه يسوع الميت والقائم، والمجد الذي ختمه الروح القدس في سر العنصرة العظيم، هذا العهد لم يكن العهد السابق نفسه إنه معاداً مكملاً مجدداً. جاء الإعلان الإلهي الأخير التاريخي بالمسيح، ومن خلال قوة ونتائج هذا الحدث أُعطي بعداً تاريخياً جديداً وحالةً جديدة للأشياء في التاريخ الذين يتبلوران في جماعة المخلصين بالمسيح. هذه الحوادث مع الإيمان دفعت المسيحيين الأوائل إلى الكرازة لأنهم اعتبروها عوامل نافذة مولدة لواقعهم الجديد، لهذا رغبوا في أن يشترك آخرون أيضاً في هذا الإعلان[22][22]. فكان محتوى الإيمان وكرازة المسيحيين الأوائل دليلاً على سلطة الماضي الخلاصية.
عندما نزل الروح القدس على الرسل مع الذين كانوا معهم يوم العنصرة،"هذا الروح الذي انتقل إلى جميع المؤمنين بواسطة وضع اليد وسر المسحة فيما بعد"[23][23]،معطياً الختم للعهد الجديد أي معاداً ومكملاً ومجدداً للعهد السابق. فالابن والروح القدس وأحدهما يكمل دور الآخر في عملهما بين البشر. فكون الكنيسة جسداً للمسيح يعني بالضبط أنها أيضاً هيكلاً للروح القدس ومحل إقامته. المسيح يوحدنا، والروح القدس يؤمن تعدديتنا ضمن الكنيسة. الألسنة النارية مقسومة، تنزل على كل شخص منفرداً. هبة الروح هي هبة الكنيسة. هي هبة شخصية يستوعبها كل إنسان على طريقه "فأنواع مواهب موجودة ولكن الروح واحد"(1كو4:12).الحياة في الكنيسة لا تستوجب فرض نموذج موحد جامد على الجميع بل لكل واحد ميزاته الخاصة واستقلاليته المميزة.برهن القديسون على أنهم شخصيّات متمايزة جداً فليس القداسة مملة ورتيبة وإنما الشر هو مصدر الضجر. إذن يرشد الروح القدس البشر لكي يعرفوا المسيح.
ولا ينشر المسيح حقيقته بطريقة عجائبية، بل هو والرجال الذين اختارهم للعمل في تحقيق هدف الرسالة بوسائل بشرية ومدركة بالطبيعة البشرية لتحقيق هدف البشر وهي الشركة مع الله، فالكنيسة ليست بشرية لأنها تضم كل أجناس البشر فقط(متى47:13-50) بل لأنها تسعى لتحقيق أهدافها بين البشر بطريقة بشرية وبواسطة البشر"[24][24]
الكنيسة جسد المسيح:
يؤكد يوحنا الإنجيلي أن الرب يسوع تألّم وصلب "ليجمع شمل أبناء الله" (يو52:11). الصليب إذاً كان العملية الوحيدة لجمع وتجميع أبناء الله. شعب الله القديم المشتت يتحوّل ويصير جماعة بقلب واحد مستعيدة نقاوتها وطهارتها الأوليين، وذلك تمّ عندما اقتنى الرب الكنيسةَ بدمه (أع28:20). ولطالما يرتبط الصليب بسائر الأحداث في حياة يسوع، أصبح تجسّد الرب حتى إرساله الروح القدس هو السبب في إعادة جمع وتوحيد أبناء الله. هذه الصورة الجديدة هي شعب الله الجديد، الكنيسة.
يعلّم الرسول بولس أن الكنيسة، جسد المسيح وأن المسيح هو الرأس لهذا الجسد، ولهذه الصورة من الرأس والجسد يكشف لنا عن الاتحاد الروحي الحميم، المبني على الإيمان والمحبة والنعمة ، بين المسيح وكنيسته "أخضع كل شيء تحت قدميه وجعله رأساً فوق الجميع للكنيسة التي هي جسده" (أف 22:1)، "وهو رأس جسد المسيح" (كو18:1). ويعلّمنا بشكل واضح أن كل واحد من شعبه هو عضو في جسد المسيح "أنتم جسد المسيح، وكل منكم هو عضو من أعضائه" (1كو27:12).
ومن خلال هاتين النقطتين نرى التأكيد على العلاقة الحميمة بين الرب وشعبه من جهة، وبين كل عضو من أعضاء كنيسته مع الآخر من جهة أخرى. علاقة وحدة قوية صميمية. من خلال هذه الصورة الرائعة التي بيّنها بولس الرسول يشير إلى العلاقة بين جماعة المسيحيين مع الله وبين أعضاء هذه الجماعة فيما بينهم، لطالما أن الجسد واحد وهو جسد الرب يسوع، فالكنيسة واحدة. كل أعضاء هذا الجسد هم بنيان وكيان واحد بعيدة عن أي انفصال. الصورة الأولى بأن كل عضو في هذه الكنيسة هو عضو في جسد الرب وطبيعة العضو هو معاضدة ومساندة الأعضاء الآخرين لدرجة أنه يتألّم عندما يتألّم العضو الآخر "فإن كان عضو واحد يتألم فجميع الأعضاء تتألم معه وإذا تمجّد عضو تفرح معه جميع الأعضاء" (1كو25:12-26). لقد تمّ التعبير عن الجسد بأنه مجموعة أعضاء، كل عضو يتمتّع بكيانه ومكانته في الجسد دون أن يستبدل عضو بآخر، أو يُستغنى عنه. إن الأعضاء ليست منفصلة وبعيدة عن الجسد لأنهم أعضاؤه، ولهذا لا يمكن أن تكون هناك أفضلية التمييز (إعطاء امتياز) بينهم.
بالحقيقة يظهر كم أحبّ المسيح الكنيسة بأن جعلها جسده، وأكثر من ذلك هو الذي أتى ليخلّصها وضحّى بنفسه من أجلها ليقدسها ويطهّرها (أف23:5-27).
بالصليب قضى المسيح على العداوة القائمة بين الشعوب باختلاف أجناسهم، وقضى على سلطان الخطيئة والشيطان جاعلاً إياها واحداً بتحويلهم إلى جسد الله الواحد، الحقيقة الجديدة[25][25] "جسد المسيح" التي هي الكنيسة (كو24:1، أف23:1). والتسليم يواصل هذا التعليم فيقول القديس اكليمندوس: "لا تجهلون على ما أظنّ أن الكنيسة الحيّة هي جسد المسيح"، وأكّد الذهبي الفم "أن المسيح قد أخذ الكنيسة وجعل من الكنيسة جسده". بهذا الوصف الرائع يعطينا الصورة التي تمثّل سر الوجود المسيحي بعلاقته مع الله وبعلاقة الأعضاء فيما بينهم، لأن جسد الرب الذي هو إلهي إنساني، تصبح الكنيسة جسد الرب الإلهي الإنساني[26][26]. كنيسة على صورة الرب يسوع فهي أرضية سماوية واحدة ولكن لكل شخص خاصيّته المميزة بشكل تام كما أن المسيح هو إله تام وإنسان تام في شخص واحد. أزلية حاضرة مستقبلية لأن الرب هو منذ البدء. مقادة إلى كمال واحد بين أعضائها ومميزة هؤلاء الأعضاء كل واحد عن الآخر. الماضي والحاضر والمستقبل فهي كنيسة أموات وأحياء كنيسة قدّيسين وملائكة.
حياة الكنيسة هي حياة المسيح في الإنسان وفي العالم كلّه. بنيان إلهي-إنساني، جسد ربنا المتأله الناهض. الآن ندرك أن الكنيسة ليست منظمة وليست هيئة، بل هي بنيان حي وجسد حي، والجسد الحي هو حيٌّ لأن فيه الروح، والروح واحد لأن الجسد واحد. بالروح القدس يتحد المؤمنون بالمسيح، ويصبحون أعضاء في جسده (1كو13:12). إن تعبير بولس الرسول بأن الكنيسة جسد المسيح ليس مجرد صورة في حين أن الأمر متعلق بسرّ اندماج المؤمنين، وبعمل الروح القدس في الجسد القائم من بين الأموات[27][27]، أي امتداد الحياة الإلهية من خلال جسد الرب في البشرية.
جسد المسيح القائم هو الجسد الجديد هو جسم روحي، يعني المليء بالروح القدس، وهو جسم يأتي من السماء (1كو47:15)، مع أنه كان على الصليب وفي القبر، جسم غير قابل للفساد وغير مائت الذي قام بمجدٍ جسم ممجّد(1كو43:15، 54:53). أصبحت الكنيسة هي الجسد أو الجسم الحي أو الكيان الذي للرب يسوع المليء بالروح القدس.
المسيح "الذي هو كل شيء وفي كل شيء" (كو11:3)، "الذي يحلّ فيه جميع كمال الألوهة حلولاً جسدياً (كو9:2)، ليس مستغرباً أن يكون هو رأساً للكنيسة وقريباً منها وحاضراً فيها في كل وقت لأن الروح القدس حاضر. والآن لا نستطيع القول أن الرب يسوع صعد وترك جماعته، بل علينا أن نعرف أن المسيح حاضر وسط جماعته بالروح القدس "وأما المعزي الروح القدس الذي سيرسله الآب باسمي فهو يعلمكم كل شيء ويذكركم بكل ما قلته لكم (يو26:14).
الرب يسوع رأساً للكنيسة فهو العقل المدبّر، والموجه الأمين، القبطان الحكيم الذي يوصل سفينته إلى بَرِّ الأمان. يعني أن الكنيسة لا تنشأ من عمل أعضائها المشترك، بل توجد بكل كيانها من يسوع المسيح. فإذا أصغينا إلى الكلام الإلهي، تقبلنا الدفق الحي من الرأس، وجعلنا الروحُ نتواصل بالمحبة، ونصير حينئذ في وحدة وشركة بين بعضنا البعض ومع المسيح.
الكنيسة شركة إلهية بشرية:
الكنيسة هي شعب الله أي جماعة الله. فالكنيسة ليست مجموعة من الناس لها صفات اجتماعية معينة دنيوية. إن ما يخص هذا الشعب الذي ليس هو بمجتمعي على النمط المدني، وإنما هو شعب جعل من الله ما يجمعه، أي لا يجتمع إلا إذا كان الله هو ما يجعله جماعة أو مجتمع، فالله هو الفاعل والذي يكوّن تلك الجماعة في شركة معه وله ومن أجله، لكي تصير معه، فليس هناك كنيسة بدون الأقانيم الثلاثة. فالتجمع بشكل طوائفي لا يجعل من الكنيسة جماعة الله، "فعندما يصيرون جماعة الله يكونون كنيسة" [28][28].
فأي تراكم مسيحي أو تجمع للناس في الدنيا لا يعني شيئاً. لأنهم قد يكونون جماعة الله أو لا، وليس الأمر متوقفاً على عدد الأعضاء الحاضرين، بل هو وقف على حضور المسيح في الجماعة. وحضور الرب يحصل حتى ولو اجتمع اثنان أو ثلاثة في مكان ما، إذا كان اجتماعهم باسم المسيح (متى 20:18).
فالكنيسة هي الجماعة التي تجتمع حول المعلم، والمعلم صعد إلى السماء، إذاً كيف تجتمع على الأرض وحول المعلم؟ هناك حيث يحل الروح القدس يكون المعلم أيضاً "سأكون معكم حتى نهاية العالم". إنه مع الجماعة بالروح القدس. والروح يجعل المسيح حاضراً، وهذا هو الذي حدث يوم العنصرة، حيث نزل الروح القدس على المؤمنين المجتمعين فصار الاجتماع مكان حضور "الكلمة"، أي أصبح الاجتماع كنيسة [29][29]. حلَّ الروح القدس، وصنع الكنيسة، ثم بقي فيها حاضراً في الأسرار المقدسة .
منذ البدء كانت المسيحية توحّد الناس حقاً لتجعلهم جماعة واحدة. فحتى يكون الإنسان مسيحياً عليه أن ينتمي إلى جماعة [30][30].
لا تتألف كنيسة المسيح من أفراد مستقلين، يحيا كل واحد منهم حياته "الدينية" الخاصة مستقلاً عن جماعة الأخوة، المسيحي بمفرده وكفرد منعزل ليس مسيحي. فالقناعة الشخصية وحدها أو حتى طريقة العيش وحدها لا تجعلان المرء مسيحياً، لأن الوجود المسيحي يتطلب اندماجاً في الجماعة أي في الجماعة الرسولية وفي مشاركة الاثني عشر ورسالتهم، الرسل الذين أرسلوا وفوضوا ووهبوا القوة (مرقس 15:3) وكانوا شهوداً للرب (لو 48:24) استحقوا وحدهم أن يصونوا الرسالة المسيحية وحياة الشركة، فالمشاركة في حياة الرسل هي السمة الأولى "لكنيسة الله" في أورشليم [31][31](أعمال 2: 24).
إذاً، الاعتبار الأول لحياة المسيحيين هي الشركة والأخوّة، تربطهم مودة حارة، المسيحية شركة وتعاون وأخوّة ووحدة "مجتمع ود"، وهذا الاعتبار في "الوحدة والشركة" علامَ يقوم وفيمَ يتأصل؟ما هي القوة التي تجمع وتوحّد الناس؟ قلنا أنه لا دور لقوة اجتماعية أو تلاحم اجتماعي أو دافع شعوري أو أي قوى أخرى للتجاذب الطبيعي، فخلاصة القول، الجماعة المسيحية أي الكنيسة هي ليست اتحاداً بين الناس فقط بل أناس يتحدون أولاً في يسوع المسيح. هذه الوحدة مع المسيح هي التي تجعل اتحاد الناس ممكناً (فيه).
الإنسانية هي حياة بالمسيح، وعناقيد كرمة واحدة، وأعضاء في جسم واحد. وتتبع حياة الإنسان بصورة لامتناهية لتشمل كل البشرية، وليس هناك من إنسان غريب. غير أن الكنيسة الجامعة غير محصورة في الجنس البشري. فجمع الملائكة يكون كذلك جزءاً منها. ووجود عالم الملائكة نفسه لا يتوصل إليه الجنس البشري، فلا يمكن إثباته إلا بالاختيار الروحي، ولا يستطاع إدراكه إلا بأعين الإيمان[32][32].
فالكنيسة، كواقع تاريخي منظور، لا تشكّل مجموعة عناصر بشرية متباينة في الإيمان، يعيشون بالرغم عنهم بتأثير عوامل خارجية وارتباطات واحدة، كما يحدث في المجتمعات البشرية.
الكنيسة مجموعة المؤمنين المرتبطين داخلياً بعضهم ببعض وبالمسيح، وبدون هذا العامل لا يوجد طابع جماعي للكنيسة ولا يوجد كيان لها. ذلك أن طابعها لا يفسَّر على أساس مفاهيم أو نماذج من "العالم"، لأن هذه النماذج تتضمن اهتماماً عالمياً ودنيوياً [33][33]. شعب الله يضمّ جسد الكنيسة والمسيح الذي هو رأس هذا الجسد، وحتى يكون ثمة كنيسة موحدة يجب أن تحافظ على الوحدة مع الرب ومع الأخوة أيضاً، فهذا هو الشرط الأساسي والجوهري لوجودها، ولا يمكن أن تسمّى أي جماعة كنيسة إلا إذا كان هدفها الوحدة، لا انشقاق شعب الله. لذلك سارع بولس الرسول بحكمه على أولئك الذين يدّعون أنهم من أتباع المسيح، دون أن تكون فيهم المحبة وروح الوحدة مع الأخوة والآخرين (1كو 1: 12)، لذلك طرح عليهم السؤال الشهير "ألعلَّ المسيح قد انقسم" (1كو 1: 13).
من يمتنع عن الاشتراك في حياة الكنيسة، ويرفض الاتحاد بالأسقف الذي يعبر عن وحدة الكنيسة وسط الحياة الليتورجية، فإنه يتغذى بِ "أغذية غريبة" ولو بدا له أنها على اسم المسيح أو من روح الكتاب المقدس [34][34].
اتفاق الإيمان هو وحدة المؤمنين داخل الكنيسة التي تلاشي كل دسائس الشيطان، ولذا يشكّل فتور علاقة المسيحي بالكنيسة خطراً عليه. ويكون قد حكم على نفسه، فقد كُتب: إن الله يقاوم المتكبرين (أمثال 3: 24، 1بط 5: 5)، فلنتنبه إذاً أن لا نقاوم الأسقف لكي نكون خاضعين لله.
كل مسيحي أرثوذكسي يعي بقوة أنه ينتمي لجماعة. ويقول خومياكوف: "نحن نعلم بأنه حين يسقط واحد منا، لا بد أن يسقط وحده، ولكن ما من أحد يخلص وحده. يخلص في الكنيسة كواحد من أعضائها وبشركة مع سائر أعضائها".
إلا أن هناك فارق واضح بين إنسانية المسيح وإنسانية الكنيسة، فالأولى كاملة وبدون خطيئة، في حين أن الثانية لم تبلغ هذا المستوى بعد. هناك قسم من إنسانية الكنيسة "كالقديس الذي هو في السموات" بلغ وحده حالة الكمال في حين يحدث معظم الأحيان على هذه الأرض أن يسئ أعضاء الكنيسة استعمال حريتهم الإنسانية. فالكنيسة على الأرض موجودة بحالة توتر مستمر. إنها جسد المسيح، وبالتالي كاملة وبدون خطيئة، ولكن بما أن أعضاءها ناقصون وخطأة، فعليها أن تصبح نفسها بصورة مستمرة [35][35]. لأنها لم تزل الكنيسة المجاهدة، وعليها أن تصبح الكنيسة الظافرة حيث "يكون الله الكل في الكل"[36][36]
لكن خطيئة الإنسان لا تؤثر على الطبيعة الجوهرية للكنيسة، فليس بمقدورنا القول أنه لطالما أن المسيحيين يخطئون أو انهم غير كاملين، فالكنيسة أيضاً ناقصة وخاطئة، لأن الكنيسة حتى على هذه الأرض شيء من السماء ولا يسعها أن تخطئ. كان القديس أفرام السرياني على حق حين تحدث عن كنيسة "كنيسة التائبين وكنيسة الهالكين"، لكن هذه الكنيسة بالذات هي بنفس الوقت أيقونة الثالوث، فكيف يمكن أن يكون أعضاء الكنيسة من الخطأة ومع ذلك ينتمون إلى شركة القديسين؟ "إن سر الكنيسة يتمثل في أن الخطأة يصبحون معاً شيئاً واحداً مختلفاً عن ما هو لكل واحد على حدة، هذا "الشيء المختلف" هو جسد المسيح [37][37].
فالكنيسة جماعة تاريخية بشرية وهي في الوقت جسد المسيح."هي حالياً كنيسة المشترين والبؤساء والخطأة، ولكن الحقيقة الأخيرة فقد ظهرت وأعلنت سابقاً أو بالأحرى أعطيت"[38][38]
إن الكنيسة لا تشكل فقط الدليل الملموس والعبارة الحية لحضور المسيح وقوته في العالم، بل تشكل أيضاً بصورة غير متزعزعة وحدةً وشركةً معه ومع كل عضو فيها، مشركة بهذه الطريقة الإنسان الخاطئ مع المسيح ومع أخيه (يو3:1). ومن هنا نستنتج أن صفة الكنيسة الاجتماعية لا تحدد مبدئياً بمعنى الجماعة، ولكن بمعنى الشركة كعلاقة أعضائها كلهم مع المسيح ومع بعضهم البعض. هذا الذي يكوّن المجتمع،. الكنيسة كجماعة هي أولاً شركة أناس مميزين بالطبيعة المتشابهة التي تحدد عيشهم المشترك الخاص. هذا يعني أن الكنيسة لا تظهر فقط كمؤسسة من الله لكن مؤازرةً منه أيضاً لا علاقة لها بالنماذج البشرية
بهذه النظرة لا يتغير طابعها الاجتماعي ولا يتغير مع تقدم الزمن، ولا يتشكل بتأثير عوامل تاريخية محلية، بل على العكس، يبقى ثابتاً وغير متبدل إلى الأبد كما المسيح هو "الأمس واليوم وإلى دهر الداهرين" (عب 13:8)
المشاركة بين البشر فيما بينهم وعلاقة الإنسان مع الله تعبر عن الوحدة بين المشترك والمشتَرَك به، ولكن الوحدة بين المشترك والمشترك به لا تقود إلى الاندماج بينهما. لهذا أهمية خاصة، ولا سيما فيما يتعلق بعلاقة وحدة الإنسان مع الله، والتي يحافظ فيها كل واحد على شخصيته الخاصة بصورة كاملة، وذلك على عكس المذهب السري اليوناني ومذهب الغنوسية حيث أن الوحدة كانت تفهم كامتصاص الواحد للآخر.
لا تزال الكنيسة في حالة الصيرورة مع أنها أصبحت سابقاً في حالة كينونة، فهي تملك حياتين في وقت واحد في السماوات وعلى الأرض. والحقيقة قريبة المنال دوماً بالرغم من كل النقائص، ورغم كل الأخطاء البشرية.
الأرثوذكسية لا تنسى أن للكنيسة عنصراً بشرياً إلى جانب العنصر الإلهي، فعقيدة خلقيدونية تنطبق على الكنيسة والمسيح على حدٍ سواء. وكما أن للمسيح، الإنسان الإله، طبيعتين إلهية وبشرية، فإن في الكنيسة تآزر وتعاضدSunergei1a بين الإلهي والبشري.
بكلمات أخرى، لا تخضع الميزة الاجتماعية فيها لظاهرة العيش المشترك بين أعضائها مشدودة بروابط قوية بحسب الحاجة، كما يلاحظ في المجتمعات الإنسانية، لكنها تخضع لمعنى التبدل الجوهري الوجودي وفقاً لنتائج العمل الخلاصي ليسوع المسيح [39][39]. وهذا التبدل يجمع أعضائها في مجموعة مشتركة و أيضاً يلهم مؤسساتها
إن الكنيسة اتحاد الحياة الإلهية وحياة الخلائق. ووجود الكنيسة الأزلي يظهر في التاريخ عندما أسس الرب يسوع الكنيسة. الذي هو رأسها وقائدها، وهو سلطتها التي ترتكز على الحقيقة التي كشفها، أما الإيمان فهو الأساس الوحيد لها "أؤمن بكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية"
1فلورفسكي، جورج، الكتاب المقدس والكنيسة والتقليد، الأب ميشال نجم (مترجم)، منشورات النور، بيروت،1984،ص72-73.
[2][2] بولغاكوف، سرج، "الكنيسة"، أ.ج (المعرّب)، مجلة النور، العدد5، 1956، ص306.
[3][3] أليفيزوبولوس، الأب أنطونيوس، زاد الأرثوذكسية، الأب قسطنطين يني (مترجم)، منشورات النور، 1999،ص133.
[4][4] قربان، المطران الياس، "الكنيسة: ماهيتها وتطورها"، مجلة النور، العدد8، 1972، ص279.
[5][5] فلورفسكي، جورج، المرجع السابق،ص78.
[6][6] فولغاريس، خريستو، "الكنيسة أفضل مجتمع حسب العهد الجديد"، حوليات معهد القديس يوحنا الدمشقي، لبنان، 1989.
[7][7] بولغاكوف، سرج، "الكنيسة"، أ.ج (مترجم)، مجلة النور، عدد4،1956، ص283.
[9][9] المسكين، الأب متى، "مسيح واحد وكنيسة واحدة جامعة"، مجلة النور، العدد 1، 1972، ص6-7.
[10][10] فولغاريس، خريستو، المرجع السابق، ص137.
[11][11] فلوروفسكي، جورج، "جسد المسيح الحي"، مجلة النور، عدد 11، 1949، ص 306.
[12][12] فلوروفسكي، جورج، الكتاب المقدس والكنيسة والتقليد، المرجع السابق، ص 38.
[13][13] خضر، المطران جورج، "النبوة في الكنيسة وبنيان جسد المسيح"، مجلة النور، عدد2، 2001، ص65.
[14][14] المرجع ذاته، ص65.
[15][15] فولغاريس، خريستو، المرجع السابق، ص137.
[16][16] اليفيزوبولس، الأب انطونيوس، المرجع السابق، ص134.
[17][17] المرجع ذاته، ص137.
[18][18] أليفزوبولوس، الأب أنطونيوس، المرجع السابق، ص 137.
[19][19] كوفالسفكي، بطرس، " الكنيسة الخقة"، مجلة النور، عدد4، 1948، ص 85.
[20][20] فلوروفسكي، جورج، "جسد المسيح الحي"، مجلة النور ، عدد 9-10، 1949،ص185.
[21][21] اليفيزاتوس، اميليكار، "طبيعة الكنيسة من وجهة أرثوذكسية"، المتروبوليت الياس معوّض (مترجم)، عدد1-2، 1959، ص4.
[22][22] فولغاريس، خريستو، المرجع السابق، ص 136.
[23][23] كوفالفسكي،بطرس، المرجع السابق، ص48.
[24][24] الفيزاتوس، اميلكار، المرجع السابق، ص5.
[25][25] فولغاريس، خريستو، المرجع السابق، ص 142.
[26][26] الفيزوبولس، الأب انطونيوس، المرجع السابق، ص
[27][27] مجموعة من المسيحيين الأرثوذكس، الله حي، د.دعد قنّاب عائدة (مترجم)، منشورات دير مار الياس شويا البطريركي، ضهور شوير، لبنان 2000، ص 365.
[28][28] خضر، المطران جورج، المرجع ذاته، ص67.
[29][29] مجموعة من الطلاب الفرنسيين الأرثوذكس، الله حي، ، ص347.
[30][30] فلوروفسكي، جورج، المرجع السابق، ص73.
[31][31] المرجع ذاته، ص74.
[32][32] بلغاكوف، سرج، المرجع السابق، عدد4، ص283.
[33][33] فولغاريس، خريستو، المرجع السابق، ص140.
[34][34] أليفيزوبولوس، الأب أنطونيوس، المرجع السابق، ص152.
[35][35] وير، تيموثي، الكنيسة الأرثوذكسية إيمان وعقيدة، هاشم الحسيني (مترجم)، منشورات النور، 1982، ص 67.
[36][36] بلغاكوف، سرج، المرجع السابق، عدد (5)، ص306.
[37][37] مايندروف، "ماذا يوحّد الكنيسة؟"، المجلة المسكونية، العدد 12، 1960، ص298، نقلاً عن وير، تيموثي، المرجع السابق، ص 69.
[38][38] فلوروفسكي، جورج، "جسد المسيح الحي"، مجلة النور، عدد 11، 1949، ص206.
[39][39] فولغاريس، خريستو، المرجع السابق، ص 136.