لمحة عن الرهبانية او الشهادة البيضاء
بقلم المغبوط المتوحد الراهب
المثلث الرحمات الارشمندريت
الاب الياس (الحرفي) مرقس.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم :" ان سكان الاديرة يعيشون كما كان يعيش المؤمنون الاولون .. ولكن الناس اليوم يخشون ذلك اخشى من وقوعهم في بحر لا قعر له ولا شاطئ."
اذا رجعنا الى سفر اعمال الرسل نقرأ فيه ما يلي:" وكان جميع المؤمنين معا وكان كل شيء مشتركا بينهم وكانوا يبيعون املاكهم وامتعتهم ويوزعنها على الجميع على حسب حاجة كل واحد.. ويلازمون الهيكل كل يوم بنفس واحدة ويكسرون الخبز.. ويتناولون الطعام بابتهاج ونقاوة قلب، مسبحين الله ونائلين حظوة لدى جميع الشعب" ( اعمال الرسل 2: 41- 56 و 4: 32- 35 ) .
ولكن زمن الاضطهادات جاء سريعا وشتَت المؤمنين وداهمهم في كل مكان .. فكان عهد الشهداء : فخر الكنيسة وطليعتها.
ولما انقضى زمن الاضطهادات على عهد الملك قسطنطين واضحت الديانة المسيحية الديانة الرسمية فتهاون المسيحيون في مسيحيتهم قام معشر الرهبان وحلَوا محل الشهدء في الشهادة لانجيل المسيح وصليبه. وقد سمَى القديس باسيليوس الكبير شهادتهم هذه " الشهادة البيضاء" مقابل شهادة الدم .
ثم كرَست الكنيسة رسميا وجود الرهبان وحياتهم الرهبانية في المجمع المسكوني الرابع المنعقد في خلكيدون عام 451،وانتشرت الرهبانية في الشرق والغرب
واليوم لا تزال الكنسية في عهد " الشهادة البيضاء" ولا يزال الناس يخافون من الرهبانية " اكثر من وقوهم في بحر لا قاع له ولا شاطئ.
الرهبانية والكتاب المقدس:
يظن الكثيرون ان الرهبانية لا مستند لها في الكتاب المقدس . والواقع خلاف ذلك.
– فقد قال الرب يسوع :" ان اردت ان تكون كاملا فاذهب وبع املاكك واعط الفقراء وتعال اتبعني "( متى 19- 21) .
– وقال ايضا :" كل واحد منكم لا يترك جميع امواله لا يقدر ان يكون لي تلميذا "(لوقا 14: 33) .
وقال ايضا:"يوجد خصيان خصوا انفسهم لاجل ملكوت السموات.فمن استطاع ان يفهم فليفهم "(متى19: 12).
– وقد ورد في سفرالرؤيا:" هؤلاء هم الذين لم يتنجسوا مع النساء لانهم اطهار. هؤلاء هم الذين يتبعون الخروف حيثما ذهب.هؤلاء اشتروا من بين الناس باكورة لله وللخروف"(رؤيا 14: 4).
– وفد قال:"يسوع عن يوحنا المعمدان نموذج الرهبان" انه اعظم مواليد النساء" (متى 11: 11).
– وقال ايضا :" مرتا مرتا انك مهتمة في امور كثيرة وانما الحاجة الى واحد فاختارت مريم النصيب الاصلح الذي لا ينزع منها" ) لوقا10 : 41- 42 ) .
– وقال يسوع لبطرس عن يوحنا الحبيب:" ان شئت ان يبقى هذا الى ان اجيء فماذا لك انت اتبعني"(يوحنا 21: 22).
– وآيات اخرى لبولس الرسول في رسائله …
هذا والكتاب المقدس كله يتجه اتجاها عميقا نحو فكرة " التكريس الكلي" للرب، ومن يعرف الكتاب جيدا يتبين فيه بسهولة سلسلة متواصلة من الاشخاص " المفروزين"لله سلسلة ملوكية تبدأ بابراهيم الذي ارتضى بالطاعة ان يذبح وحيده( تكوين 22) وتمر بملكيصادق" الذي بلا اب بلا ام بلا نسب "(عبرانيين 7:3) وبايليا العفيف " الواقف امام الله"وكافة الانبياء وتستمر في " البقية" الامينة من اسرائيل ( اشعياء 1: 9 ) وفي جماعة قمران التي تؤلف جماعة رهبانية بكل معنى الكلمة. ثم بعد المسيح " الامين" الوحيد (رؤيا 3: 14) تتكمل السلسلة الملوكية في جماعة المسيحيين الاولين في اورشليم ( اعمال الرسل 5: 12- 13 ) كما راينا اعلاه، ثم في الشهداء ، ثم الرهبان وفي جميع المسيحيين " الامينين " حقا وكليا .
الرهبان والمجتمع :
يعتقد الناس ان الرهبان لا يفيدون المجتمع وانهم يعتزلونه هاربين من مسؤولياتهم فيه،والحقيقة غير ذلك:لان خدمة المجتمع اولا لا تتم دائما في " الحضرة الجسدية " فيه.بل كثيرا ما يساعد الانصراف عن المجتمع على خدمته خدمة اجدى.فالناس يقبلون ان ينزوي العالم مثلا من اجل اختباراته واكتشافته العلمية خدمة للمجتمع. وهذا امر الرهبانية عينه على صعيد آخر.
فاذا سألنا التاريخ اولا نجد ان للرهبانية تحقيقات تشهد لها في مختلف الميادين ولا تزال نفيد من تراثها الى الآن .
ففي حقل العبادة والطقوس ان معظم ما تصليه الكنيسة اليوم الى الله صباحا ومساء ان لم نقل كله من صنع الرهبان (تيبيكون دير القديس سابا وتيبيكون دير سطوديون في القسطنطينية المدعو تيبيكون القسطنطينية ومعظم القوانين والافاشين والقطع والالحان على مدار السنة…).
وفي حقل اللاهوت والروحانية فأول من عرض الايمان في مؤلف جامع مبوب منسق هو الراهب القديس يوحنا المشقي من دير القديس سابا. ولا يزال كتاب " سلم القضائل" لراهب القديس يوحنا السلمي رئيس دير سينا ينبوعا خالدا للنسكيات والروحانيات ،فالرهبان اوضحوا العقائد القويمة وثبتوا الايمان ودحضوا الهرطقات.
وفي حقل الرجال اخرجت الرهبانية الرجال الافذاذ الذي اداروا دفة الكنسية في العواصف الهوجاء امثال باسيليوس الكبير ويوحنا الذهبي الفم وغريغوريوس الكبير الخ …
وفي حقل الفن فأن العالم يكتشف اليوم فن رسم الايقونات ويعده فنا عالميا رائعا وهو فن رهباني بحث في اصله وجوهره وكذلك فن الموسيقى البيزنطية..
وفي حقل العلم والحضارة فالرهبان حفظوا العلم عن طريق نسخ المخطوطات قبل اختراع المطابع، وهم الذي اعطوا الغرب الحضارة اذ فتحوا الغابات وعلموا الناس الزراعة والري ومارسوا الصناعات الخ..
وفي حقل الاجتماعيات فأول مستشفى عمومي في التاريخ انشأه الراهب القديس باسيليوس الكبير واداره الرهبان – عدا المياتم والمأوي والمدارس . والرهبان في الغرب اطعموا الشعب ايام المجاعات الكبرى الخ..
والرهبنات اليوم تمارس مختلف الزراعات والصناعات واعمال النشر والتأليف الى ما هنالك من اعمال من صميم المجتمع.
فالرهبانية اذن ليست عقيمة بالنسبة للمجتمع ولا تعيش بالنتيجة خارج المجتمع بل خدمتها له خدمة صادقة مجردة لا تشوبها شائبة.
ثم ان الرهبنات القائمة في مختلف بقاع العالم تؤلف نماذج صغيرة للمجتمع المثالي : اشتراكية مع محبة.عائلة واحدة،ارادة واحدة هي اراد الله تتخلل هذا المجتمع الصغير وتحييه، فالرهبنات بالتالي تؤلف نماذج اجتماعية تذكر المجتمع الكبير بالهدف الذي يجب ان تسعى اليه البشرية جمعاء وتنتصب فيه كعلامات ثابتة لامكانية التحقيق وكمراسي للرجاء.
القيم الروحية:
ولكن عدا التحقيقات الاجتماعية والحضرة " الجسدية" في المجتمع " فحضرة" الرهبانية الاكثر اصالة ونفعا وديمومة هي الحضرة غير الجسدية ، " الحضرة الروحية" .
مهما تقدمت الانسانية في الحقل المادي فالقيم الروحية تبقى الاصلية التي تتوق اليها النفس في اعماقها، لانها قيم الخلود وعربون الحياة الابدية، وبذلك فان جميع الفوائد والحسنات في ميدان العمل الاجتماعي لا توازي المنفعة الروحية لان تلك وقتية تزول بزوال الحياة اما هذه فأبدية تؤول الى الحياة التي لا تفنى.
ومهمة الرهبانية هنا هي الاتصال بالله، هي استمطار الرحمة الالهية على الانسان،هي فتح القلوب لسكنى الله وتأمين استمرار تدفق الروح في العالم ..
ان سر فاعلية القديسين اثناء حياتهم او بعد انتقالهم غير قائم في اعمالهم بقدر ما هو قائم في اتصالهم الشخصي بالله.ليس المطلوب اشخاصا يقودون الكنيسة والعالم بل اشخاصا يقودون انفسهم لان اتصال انسان واحد بالله اتصالا صحيحا كفيل بانارة الكنيسة والعالم .
ثم هناك سر الصلاة التي تفيد العالم ولو بقي المصلي مجهولا من الناس اجمع دون استثناء ان فاعلية الصلاة سر غير مبني على نواميس الفيزياء والكيمياء: ان كنا نؤمن بان الكنسية هي جسد المسيح ابن الله وبأن دورة الدم فيها هي دورة نعمة المسيح ننتهي الى ان اعضاء هذا الجسد مرتبطون بعضهم ببعض بصورة سرية غير منظورة.ان صلاة حقيقية في عضو واحد تجلب النعمة للجسد كله . ولذلك فالرهبان يصلَون من اجل الذين لايعرفون والذين لا يستطيعون والذين لا يريدون ان يصلوا…
ولذلك قال الفيلسوف الروسي برديايف :" لا يمكن للكنسية ان تعيش بدون مطارنة وكهنة مهما كانت مؤهلاتهم البشرية ولكنها بالحقيقة تتنفس وتحيا داخليا بالقديسين والشهداء والنساك والرهبان …" .
المتوحد المغبوط
الارشمندريت الياس (الحرفي) مرقس