بقلم
المعلم اللاهوتي العلامة قدس الأب
الشماس اسبيرو جبور
يصور لنا الكتاب المقدس حالة الفردوس قبل الخطيئة فاذا بها حالة برارة لم يخامرها الغش بعد. ولكن الحرية تمتع بها آدم كانت تحمل في ذاتها امكانين: امكان ملازمة الحق والخير واتباع ناموس الله وامكان المخالفة وادارة الظهر لمشيئة الله.فالتقديس رهن بالامتلاء من ارادة الله المتجلية في الوصية الالهية خارجيا والواصلة الى الانسان بصورة خفية باطنيا.فكان ان انزلقت رجل آدم الى المعصية فعرف الشر بالخبرة العملية وعرف معه النتائج المحتومة لكل جرثومة فاسدة فأظلمت الطبيعة البشرية وصارت مسرحا لصراع عنيف بين ميولها الشريرة وسليقتها الاولى البارة في الامس والمغلوبة على امرها اليوم .
ويصف لنا الكتاب فعل الخطيئة فيرينا ان بداية الشر كانت تجربة الشيطان وان المرحلة الاولى في داخل الانسان كانت الوقوع في اشتهاء الشر والمعصية بينما كانت المرحلة التالية تذوق الشر عمليا: النفس اشتهت والجسد ذاق. اما الهدف البعيد للمعصية فهو الصيرورة الها، الصيرورة الكل في الكل . وكانت النتيجة ان هوى آدم فتحول من كائن تائق الى الله، الى كائن يتوق الى الارض ومن كائن يبتغي الله ككل في الكل الى كائن فقد مركز ثقله فصار لنفسه كلا في الكل،فصار مملؤءا من الغرور والانكماشية والتمركز الذاتي ولكن بصورة ناقصة جدا لان الفراغ بقي ملء جوانبه. كيف لا وقد فقد الله المالئ الاكوان.
من هنا نشأ هذا الصراع بين الروحي والجسدي الذي يصوره لنا بولس الرسول في امكنة عديدة من رسائله وخاصة في الفصلين السابع من رومية والخامس من غلاطية.ونكتفي هنا بايراد بعض الآيات تاركين للقارئ اللبيب أمر مراجعتهما فقال في رسالته الى رومية:" فاذ اتخذت الخطيئة بالوصية سبيلا فعلت فيَ كل شهوة.. فما اريده لا افعله، وما اكرهه إياه افعل.. فلست أنا بعد من يفعل هذا بل الخطيئة الساكنة فيَ. اجل،اني اعلم ان الصلاح لا يسكن فيَ اي في جسدي،اذ في وسعي ان اريد الخير، واما ان افعله فلا .. فان كنت افعل ما لا اريد فلست انا بعد من يفعل هذا، بل الخطيئة الساكنة فيَ.. الانسان الباطن في يسر بناموس الله ، بيد اني أرى في اعضائي ناموسا آخر يحارب ناموس عقلي ويأسرني لناموس الخطيئة الذي في اعضائي. يا لي، من انسان شقي! من ينقذني من جسد الموت هذا" .
وقال في رسالته الى غلاطية:" اسلكوا بالروح فلا تقضوا شهوة الجسد فان الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد،فكلاهما يقاوم الاخر حتى انكم لا تصنعون ما تريدون… واعمال الجسد بينة، الفجور والنجاسة و.. اما ثمر الروح فهو المحبة والفرح والسلام وو .. لان الذين هم للمسيح يسوع ، صلبوا الجسد مع الاهواء والشهوات.." . وفي رسالته الى اهل كولوسي اوصى:" اميتوا اذن اعضاءكم الارضية،الزنى،والنجاسة،والاهواء،والشهوةالرديئة، والطمع الذي عبادة الاوثان "(3: 5).ويرى القديس مكسيموس المعترف في مقالاته عن المحبة،ان الرسول تسلسل من الفعل الخارجي الى قعر الخطيئة الداخلي اي " الشهوة الرديئة" الاساس لفعل الشر.
فالفساد الذي عم آدم انتقل الى ذريته:" هاءنذا بالأثام حبل وبالخطايا ولدتني امي" (المزمور 50) فما سلم انسان من الخطيئة ولو كان عمره يوما واحدا.
وهكذا سقطت نظرية جان جاك روسو القائل:" ان الانسان يولد صالحا ولكن المجتمع يفسده" .
واذا ما اردنا الاستفادة من العلوم النفسية والتربوية المعاصرة وقعنا على النتائج نفسها. والى القارئ الكريم خلاصات لا تتقيد بالتعابير الفنية العسيرة.
فالطفل يلد ككل منطو على ذاته بعد ان مارس في الاحشاء سياسة الاكتفاء الذاتي. واول لقاء له مع العالم الخارجي هو اصطدام بواقع آخر لم يألفه بعد.وفلكه الذاتي هو عالم الحاجات الجسدية. وقانون حياته الرئيسي هو الكينونة في منجى من الجوع والبرد وكل لون من الوان الانزعاج الجسدي. فاشباع هذه الرغبات يولَد لديه شعورا بالذة والامآن،وعدمه يولد النكد والانزعاج،لا يشعر بوجود عالم غيرعالمه.فكل ما هو موجود بالنسبة اليه يؤلف جزءا لا يتجزأ من ذاته.ثم يتدرج عبر الاختبار وتفتَح المدارك العقلية الى ادراك العالم الخارجي شيئا فشيئا.ويصدم على صخرة الواقع الاجتماعي الخارجي فيضطر تباعا ان يتخلى عن كثير من حقوقه السابقة ورغباته الاولى لينتقل من اطوار بهيمية وبدائية الى اطوار تتفق ومستوى المجتمع الثقافي والادبي وو.. فلا بد له آنذاك من الكفر ببعض ميوله وملذاته ونانيته.وكلما اتسع افقه الخارجي ضاق تمركزه على ذاته وفقد شعوره بانه الكلي القدرة،التام الاستقلال،وقوي شعوره بضرورة التضحية بمبدأ اللذة ليخضع للواقع الخارجي الذي يطلب منه تبديل اهدافه الطفلية بأهداف كهلية.
ولكن الجسد مرتبط بالطعام والشراب يوميا. وكلاهما يوفر للمرء ملذات عديدة وشعورا بالامان والتمام .فلا غنى له عنهما ابدا وفقدانهما يولد لديه اضطرابات هامة نفسياوجسديا.وتتلبك الامور بعامل حرص الطفل على الاحتفاظ بما يأكل كجزء حرص الطفل على الاحتفاظ بما يأكل كجزء منه فيعسر عليه تصور امكان استفراغه فتلتقي شهوة الطعام الحادة مع الحرص الشديد وحب المقتنيات .
ثم تبرز لدى الطفل حاجة هامة هي حاجته الى عطف والدته الذي يضحي قوته النفسي الذي لا يقل اهمية عن قوته الجسدي. وهنا تبدو مع الزمن اضطرابات في علاقاته مع والديه واخوته يكون لها الاثر البعيد في تكوين شخصيته ونوعية عواطفه الاجتماعية وروابطه الانسانية.وفي كل مرحلة من المراحل على الطفل ان يتبدل ويتطور في عملية خلق وابداع مستمرين،دون ان يستطيع التخلص بالتمام من اوزار ماضيه.فهو يحمل دوما تاريخه الشخصي، تارة بصورة شعورية واخرى لا شعورية.ويبقى مدى العمر مسؤولا عن تحويل "غرائزه الاخلاقية والاجتماعية كما يقول شارل بودوان ،هذه العرائز التي يحملها منذ مولوده وفي عملية التحويل هذه يكمن سر النمو الاخلاقي لانه ليس مطلوبا منا ان نميت " الاهواء" بل ان نحولها روحيا ونجعلها تتجلى في النعمة كما قال الاباء.فالعرائز كما يقول المحللون النفسيون هي "خزانة الطاقة"ولذا فعمل المربين هو انتزاع الطاقة من الغرائزلا ستثمارها في ميادين روحية وثقافية واجتماعية بدلا من تركها تنفق كليا في ميادين غريزية بهيمية.ومن هنا تنشأ الصعوبات الجمة التي يقاسيها المربون والتي تجعل عمل المربي ادق عمل على الارض.
بعد هذه المقدمة الموجزة لظروف الانسان بعد الخطيئة الاولى،يبدو من السهل ان ندرك اهمية الصوم كاسلوب تربوي روحي.
فاذا كان الجهاز الهضمي بالمعنى الواسع،ابتداء من الشفتين، المهد الذي نشأت فيه نواة القسم الاهم من مشاعرنا الاولى وتمركزت حول محوره همومنا وملذاتنا الاولى فلا عجب ان تكون كل عملية اختفاء من العالم والاشياء التي في العالم مبنية على الامساك والصوم .والعكس صحيح ايضا :فكل انهماك في العالم يبدو،على الاقل لا شعوريا ،متمركزا في الهموم المعاشية (لوقا 21- 34) ،لذا سمعنا يوحنا الرسول يقول:" لا تحبوا العالم، ولا ما في العالم … لان كل ما في العالم،شهوة الجسد،وشهوة العين، وصلف الغنى ليس من الاب بل من العالم .والعالم يزول وشهوته ايضا. اما من يعمل مشيئة الله فانه يثبت الى الابد" (1 يوحنا 2: 15- 17) .
فالصوم يغدو عملية ارادية يفرض المرء بموجبها على نفسه ان لا يكون عبدا لبطنه لان ملكوت الله ليس طعاما وشرابا (رومية). فيضحي الامساك عن الطعام امساكا عن الاهواء والشهوات وزهدا في الدنيا ومقتنياتها ومباهجها الفانية. وبما ان الانسان غير مجزئ الى اقسام متبانية او غير متصلة ،فيسمي الصوم حالة نفسية عامة يترفع الانسان بموجبها عن المكاره جمعيا. وهكذا يضحي تذكرة لنا بان الدنيا فانية وتقريعا لنا باننا خاطئون محتاجون الى المسوح والرماد كأهل نينوى.
فكل انسان يعلم كم الحياة مرتبطة بالعالم وبالتالي كم وجودنا مرتبط بمقتنيات الارض.ومن هنا ينشأ خطر عبادة المال بدلا من عبادة الله والاعتقاد باهمية الارض بدلا من الاعتقاد بفنائها واهية الآخرة.واذا ما اعتقد الانسان نظريا بوجود الله والاخرة فان هموم الحياة اليومية تبعده دوما عن وضع الله والاخرة نصب عينيه.فيأتي الصوم صورة حية ترتسم معها نصب اعيننا بشكل واقعي ويومي ،ايقونة الآخرة.وهكذا يكون الصوم وسيلة لتحويل انظارنا من الارض الى السماء، ولنقل حمومنا من طلب المعيشة الارضية الى طلب القوت الروحي، ولالهاب قلوبنا بعشق الالهيات بدى من شغفها بحب الارضيات الفانيات.هذا فضلا عن ان كون الصوم اهمالا للذات وملذاتها يضحي بحد ذاته انصرافا الى الغير،الى شيء آخر،فتذوب الانانية لتقوى الغيرية وليلتهب الفؤاد بحب القريب والله وليخرج الانسان من ذاته الى عالم آخر..
فلا عجب بعد ذلك ان رأينا جميع الراغبين في الاتحاد مع الله يلجأون الى الصوم كأداة لسحب طاقتهم النفسية من ميدان التبدد في شهوات الجسد لاستثمارها في ميادين العشق الالهي،"لانه حيث يكون كنوزك فهناك يكون قلبك ايضا" (متى 6:21).وابسط فحص نفسي يجري على اي انسان كان في العالم لا يعطي الا نتيجة واحدة محتومة ألا وهي كون الانسان العادي يعيش كأن الله غير موجود في حياته الا بضعة لحظات في اليوم .فامام ضعف البشرية،وقفت الكنيسة مربية صالحة فاستنت الصوم علاجا للاهمال من جهة وللانغماس في الدنيا من جهة اخرى.
ولا يخفى على القارئ اللبيب ان الصوم المعني هنا ليس الامساك الجسدي البحث. فليس الامساك عن الطعام الا الشق الحسي من الصوم الذي يرفع الحواس الى تأمل روحي هو الغاية النهائية منه. فالطعام لا يقربنا من الله كما قال بولس الرسول. وعدمه لا يبعدنا من جلالته.وانما الانسان مزيج نفسي جسدي قويت شوكة حاسته الارضية بعد الخطيئة على صولة حاسته الروحية فكان لا بد من ايصال القداسة الى الجسد.لذا كان الصوم آلة حسية لتقديس الجسد واستعماله وسيلة لتنبيه الروح.فهو صوم حقيقي متى اقترن الامساك عن الاطعمة بحالة روحية معينة.لذا راينا الصلاة والصدقة عنصرين متممين للصوم: الصلاة لكي يضحي الصوم قربانا يهدى الى الله في التوبة وانسحاق القلب،والصدقة لكي يقترن كفرنا بذاتنا، بحبنا لاخوتنا المنظورين لان "من لا يحب اخاه وهو يراه فلا يستطيع ان يحب الله وهو لا يراه"(1 يوحنا 4: 20) .
وهنا يجدر بنا ان نتعرض للحالة النسكية المسماة "بعدم الهوى"وفي اليونانية (apathia) وهي كون الانسان قد نجا من الاهواء.وهي حالة قداسة كبرى يطمح اليها كل ناسك. والصوم ركن اساسي من اركان الجهاد الروحي الموصل اليها لانه لجام يكبح جماح الاهواء وتشتت النفس ليجمع قوانا المتناثرة في ميدان السعي الحثيث نحو الله .
اما اذا ما شاء الانسان الانتقاد فاعترض على نوع الصيام لدى الارثوذكس،فليتذكر ان حالة الامساك لا التجويع هي الهدف الرئيسي وان هذه الحالة ملكة تكتسب بالمران الطويل.