بحسب كتاب "في المعمودية"
تتناول هذا العجالة عرض لخدمة المعمودية كما كانت تتم في أيام القديس يوحنا فم الذهب. لقد تناول القديس سر المعمودية باهتمام كبير كيف لا وهو العرس الروحي والتعبئة العسكرية الرائعة لجنود المسيح[1].
وتجلى اهتمامه هذا من خلال إلقائه ثمان عظات، فريدة من نوعها، وُجهت إلى الموعوظين المتقدمين لنيل سر المعمودية في الليلة الفصحية.
كانت هذه العظات مجهولة إلى أن عُثر عليها في مخطوط موجود في دير ستافرونيكيتا في جبل آثوس.
المتقدمون إلى هذا السر:
يؤكد القديس أن الدعوة لاقتبال هذا السر هي لجميع المكتتبين في مدينة المسيح، للأغنياء والفقراء، للرجال والنساء، للأحداث والشيوخ، للغارقين في المعاصي والخطايا. وما هذا إلا بسبب عطايا الله وغزارة صلاحه ومحبته القصوى للبشر[2].
الكفيل:
كما في عالمنا الأرضي هناك كفلاء عن المدينين، كذلك هناك كفيل روحي (عراب) لكل متقدم إلى هذا السر، وتقع على عاتق هؤلاء الكفلاء مسؤولية النصح والإرشاد والوعظ. وهذا واجب عظيم يتوقف على نجاحه تقدم الإنسان في طريق الفضيلة، لذلك يصفهم القديس أنهم آباء روحيون فبعطفهم وحنانهم الأبوي يهذبون الأبناء ويقودونهم في الأمور الروحية[3].
وهؤلاء الكفلاء لهم مكافأة إذا قدموا العناية الجيدة، والعقاب إذا أهملوا.
مراحل العماد:
1- تهيئة المتقدمون (الوعظ):
كانت جموع كبيرة من الموعوظين تتقدم لنيل سر المعمودية في ليلة الفصح، بعد أن تتلقى تعاليم ودروس يومية تجعلها مهيأة لاستقبال الملك السماوي. إذاً هناك وعظ يومي.
والمطلوب من هؤلاء الموعوظين أن ينقوا أنفسهم وقلوبهم وأرواحهم، ويطردوا منها كل خبث ومكر ووسخ، لكي تكون جديرة باستقبال سيد الكل[4].
كما أن عليهم أن يؤمنوا بالله سيد الكون أبا ربنا يسوع المسيح، وبربنا يسوع المسيح ابن الله الوحيد المساوي للآب في الجوهر، والمعروف بأقنومه الخاص، المولود من الأب بطريقة تفوق العقل، والذي في آخر الأزمنة أخذ صورة عبد وصار إنساناً لأجل خلاصنا، وصلب ومات وقام في اليوم الثالث، وبالروح القدس الذي هو أيضاً إله وذلك بحسب قول المسيح لتلاميذه: "اذهبوا وتلمذوا كل الأمم وعمدوهم باسم الآب والابن والروح القدس"[5].
2- طرد الشيطان والاتحاد بالمسيح:
يبدأ طقس العماد بطرد الشياطين، حيث تكون أرجل طالبي الاستنارة عارية والأيدي مرفوعة[6]. والغاية من هذا الطرد تنقية الروح لكي تصبح أهلاً لمجيء الملك. وإثر استدعاء سيد الكل يستحيل إلا أن يهرب الشيطان.
فبداية يأمر الكاهن الذي يقوم بهذا السر المتقدم بأن يركع ويرفع أيديه نحو السماء ويصلي، وفي هذه المرحلة يتذكر المتقدم حياته الماضية، ويدرك ما هو مقدم عليه وبمن سيرتبط.
عندها يبدأ الكاهن بالاستماع إلى اعتراف المتقدم[7].
* ثم يقوم المتقدم برفض الشيطان إذ يتلفظ بكلمات العقد بناء على طلب الكاهن فيقول:
"أرفض الشيطان وأعماله ونياته"
* وبعد أن يأخذ الكاهن من المتقدم عهداً على طرد الشيطان يطلب منه أن يعترف بقبول المسيح فيقول:
"أوافق المسيح وأتحد به"
وهكذا تسجل كلمات العقد هذا في الكتب السماوية[8].
3– مسحة الموعوظين بزيت طرد الشرير:
بعد أن يسمع الكاهن إلى تعهد المتقدم، وبعد اتحاد المسيح بكلامه، وإذ يقترب الليل يخلع الكاهن ثياب المتقدم. ثم يقوم بمسح المتقدم بالزيت المقدس فوق الجبهة وفي أماكن أخرى من الجسد راسماً إشارة الصليب الكريم حتى إذا رآها الشيطان يفر هارباً وخلال هذا يقول:
"يمسح عبد الله باسم الآب والابن والروح القدس"
وهذه المسحة هي بمثابة درع روحي وقوة كبيرة لا يستطيع الشيطان التغلب عليها[9].
4– التغطيس بالماء:
بعد أن ينتهي الكاهن من المسح بالزيت، يُنزِل المتقدم إلى النهر، وإذ يلفظ الكاهن:
"يعمد عبد الله باسم الآب والابن والروح القدس"
يغطس رأس المتقدم بالماء ثلاث مرات، ثم يرفعه ليحل الروح القدس على المتقدم.
وهنا يوضح القديس يوحنا الذهبي نقطة هامة جداً وهي أن الكاهن يعير يديه للروح القدس الذي يحل في الماء بصورة غير منظورة[10]. فما يحدث ليس من صنع الإنسان بل من فعل النعمة الإلهية، التي تقدس الماء[11]. لذلك يقول الكاهن "يُعمَد" وليس "أُعمد". إذاً فالمتمم في هذا السر هو الآب والابن والروح القدس.
وبعد أن يخرج الموعوظ من جرن المعمودية (النهر) يستقبله الحاضرون بفرح فيعانقوه ويحتضنوه (القبلة) ويهنئونه ويقاسموه فرحه، لأنه كان مقيداً فتحرر وصار ابناً للمائدة الملوكية[12].
5– الاشتراك بسر الشكر:
بعد خروج المعمد من الماء، يُحمل إلى المائدة المقدسة (هذا يدل أن طقس العماد لم يكن يتم في الكنيسة)، لكي يشترك في جسد ودم المسيح ويصبح مسكناً للروح القدس[13].
فضائل المعمودية:
بالمعمودية يحصل الإنسان على البنوة الإلهية، كما تغفر الخطايا ويصبح من ينالها قديس، مبرر، ابن، وارث، أخ للمسيح، أداة للروح القدس.
لهذا السبب يتم تعميد الأطفال العادمين الخطيئة، وذلك حتى تزداد فيهم تلك الفضائل، ليكونوا إخوة وأعضاء بالمسيح، وليصيروا مسكناً للروح القدس[14].
يطالب القديس أولئك المعمدين أن يحافظوا على النعمة العظيمة التي اقتبلوها وعلى بريق هذا اللباس الجديد الذي لبسوه بعد أن طرحوا عنهم بالمعمودية ذاك الرداء العتيق. وذلك بالصلاة العميقة والشكر على الإحسانات التي قبلوها والحمد على ما أعطاهم الله من قوة وبالأعمال الصالحة[15].
[1] الذهبي الفم، القديس يوحنا، في المعمودية، العظة الأولى، فقرة 1، ص 9، ترجمة بطريرك أنطاكية الياس الرابع.
[2] المرجع السابق، العظة الأولى، فقرة 27، ص 17.
[3] العظة الثانية، فقرة 15، ص 30.
[4] العظة الثانية، الفقرة 12، ص 29.
[5] العظة الأولى، الفقرة23، ص 16.
[6] العظة الثانية، فقرة 14، ص 30.
[7] العظة الثانية، فقرة 17، ص 31.
[8] العظة الثانية، فقرة 20، ص 32.
[9] العظة الثانية، فقرة 22-25، ص 33.
[10] العظة الثانية، فقرة 25، ص 33.
[11] العظة الثانية، فقرة 11، ص 28.
[12] العظة الثانية، فقرة 27، ص 33.
[13] العظة الثانية، فقرة 27، ص 33.
[14] العظة الثالثة، فقرة 4، ص 36.
[15] العظة الثامنة، الفقرة 23،27،ص 83.