اسبيرو جبّور
كنائس الشرق الأوسط
الجزء الرابع
الذكرى 1550 لمجمع خلقيدونيا
الطبعة المجدّدة والمنقّحة
الكورة (لبنان 2010)
15- البِدَع المسيحيّة
طوى الدهر بدع القرون الثلاثة الأولى(21). وقع الإنشقاق الأول الأكبر على يد الأريوسية (القرن الرابع). طواها الدهر حتى ظهور شهود يهوه. لا يمكن تضخيم هذا الكتاب ليصبح مجلّدات. إنما من الضروري أن أذكّر هنا بما يلي: جميع تواريخ الكنيسة وتواريخ شعوبها وتواريخ العقائد المسيحية والبترولوجيات تتعرض لتحليل بدعة أريوس. وهناك كتب عنه وعن هرطقته في جميع اللغات الأوروبية. إنما الدراسة الكبرى عن سرّ الثالوث القدوس فهي كتاب الأب الفرنسي تيئوفيل دي رينيون في أربع مجلّدات كبيرة. ثم دراسة تاريخ عقيدة التجسّد في كتاب لوبريتون. وهناك معجم لامبس الإنكليزي وكتاب بريستيج، وفصل “أقنوم” في معجم اللاهوت الكاثوليكي الفرنسي. وهو فصل هام جداً في الجزء السابع المفقود في البلمند ومكتبة اليسوعيين إنما نسخته في 1967 عن نسخة مكتبة بطريركية أورشليم. وسوى ذلك كثير في المعجم المذكور وأمثاله. تاريخ العقائد الروسي 4 أجزاء ضخمة هامة. ذكرت المراجع العديدة في “سرّ التدبير الإلهي”. في هذه المراجع جميعاً يرى المرء أن لاهوت الثالوث القدوس وقفٌ على الكتبة الكنسيين باليونانية. وهو لاهوت الكنائس المسيحيّة القديمة.
تنكر الآريوسيّة لاهوت المسيح، والثالوث القدوس، وتقول أن ناسوت يسوع جسد بلا روح. أشهر مكافحيها أثناسيوس الإسكندري وإيلاريون بواتييه وباسيليوس الكبير وأخوه غريغوريوس وصديقه غريغوريوس اللاهوتي وكيرللس الأورشليمي وافرام نصيبين وأمبروسيوس ميلانو وسواهم في القرن الرابع. انتقلت إلى الجرمان، فعاثوا في إسبانيا وشمال أفريقيا وسواهما فساداً، ثم تحطّمت سفينتها وعاد الجرمان إلى الكنيسة، إلى أن شقّهم لوثر في العام 1518، فتشقّق أتباعه لاحقاً.
16- المكدونيـّــة
أنكر مكدونيوس لاهوت الروح القدس، فصفعه المجمع المسكوني الثاني في 381 برئاسة علَم لاهوت الثالوث الأكبر أي غريغوريوس اللاهوتي. فتوارت.
17- الأبوليناريـّــة
أبوليناريوس لاذقيّة سوريا اشتهر في الإخلاص لأثناسيوس الذي حلّ ضيفاً على أبيه أبوليناريوس كاهن اللاذقية، وذلك في العام 346. إلاّ أنه طلع في العام 360 بهرطقة شقّت العالم المسيحي أخطر انشقاق بذيولها اللاحقة وتفسيخ العالم المسيحي. وما زالت تجربة كل إنسان يستسلم مثل الأعمى أو يعتمد على ذاته دون الله. هو مونوفسيتي مونوثيليتي في سلوكه. الأول يتصرّف كأنه يؤمن بالقضاء والقدر الإلهيين، والثاني كأنه بدون إله. الأرثوذكسي الحقيقي كتلة نشاط حكيم حاذق فطِن محنّك عاقل رصين واعٍ في إيمان راسخ بالله وقلب ملتصق بالله حتى يختبر مشيئة (إرادة) الله الصالحة ويمتلئ منها، فينقاد بالروح القدس، ويميت به شهوات الجسد (رومية 13:8 – 14 وغلاطية وفيلبي و…). وهذا يعني أنه على الأرثوذكس أن يختاروا قيادات روحية تربّت لدى أهلها خير تربية، فنشأت في القداسة والسخاء (لا في الشحّ والبخل) لتبذل نفسها لأجل الرعية. أما الرعاة الذين كانوا كالقصبة تحرّكهم رياح السياسة، فيوّقعون للأباطرة كالعبيد ليحافظوا على التاج والصولجان فقد خانوا المسيح وصلبوه لأنفسهم كما يقول بولس الرسول.
عالجت الأمر في “سرّ التدبير الإلهي”. مراجعته ضرورية. أبوليناريوس عبقري ضلّ السبيل. طرق موضوع التجسّد الإلهي، فكان عبقرياً إنما موحّداً يقول بأقنوم واحد وشخص واحد وطبيعة واحدة… ويقول أيضاً إن جسد يسوع بدون روح عاقلة. الباحثون مختلفون. منهم من يقول إنه ردّ بذلك على مدرسة أنطاكيا التي تركّز جداً على تمامية الطبيعة البشرية في يسوع وذلك على يد رئيسها ذيوذوروس طرسوس وتلميذه ثيئوذوروس المصيصة. ومنهم من يقول إن المدرسة الأنطاكية قالت بذلك دحضاً لهرطقته. إنما نعلم أن هرطقته افتضحت سريعاً فشجبها أثناسيوس الكبير في مجمع 362 مع الشرقيين، وذُهل منها باسيليوس وحطّمها الغريغوريوسان. أمام الهجوم الصاعق أخفى الأبوليناريون كتبهم تحت أسماء كبيرة: أثناسيوس الكبير، جوليوس بابا روما، غريغوريوس العجائبي، البابا فيلكس. أما هرطقة الأنطاكيين فلم تفتضح إلا مع نسطوريوس (428 – 431) إذ أخذ كاهنه الأنطاكي في القسطنطينية يقاوم تسمية مريم العذراء بوالدة الإله. كان الكتاب الأبوليناري المختفي باسم أثناسيوس موجوداً في مكتبة كيرللس الإسكندرية الوفيّ الكبير لسلفه العظيم، في الكتاب المذكور عبارة: “طبيعة واحدة متجسّدة للإله الكلمة”.
قاوم المحامي أفسابيوس نسطوريوس وكاهنه، فهبّ كيرللس لنصرته بحماس منقطع النظير. هاجت الدنيا. ناصر السوريّون مواطنهم نسطوريوس. قطبهم وقائدهم ثيئوذوريتوس قورش اتّهم كيرللس بالأبوليناريّة وسواها من الهرطقات في هجوم صاعق (الرسالة 4 إلى الرهبان). فأبوليناريوس علَّم في أنطاكيا، ونشر هرطقته فيها. وكلّما غضب أمبراطور على أنطاكيا عزَّز اللاذقيّة على حسابها. وهما جارتان. المسافة بينهما عبر الجبال 100-105 كيلومترات. فالتنافس قائم. وكل منهما تعرف الأخرى معرفة تامة. فأبوليناريوس بعبع لأرثوذكس أنطاكيا. انقسمت سوريا.
18- النسطوريـّـــة
هزّت هرطقة نسطوريوس العالم المسيحي، وزرعت انشقاقاً بين مدرسَتَي الإسكندريّة وأنطاكيا. الإمبراطور ثيئوذوسيوس الصغير الضعيف هو الذي أتى به أسقفاً للقسطنطينية وكان صديقاً له. احتدمت المعركة بين كيرللس وثيئوذوريتوس. اندلع الصراع حول وحدة أقنوم يسوع في طبيعتين تامتين. عرضنا الأمر بدقّة في “سرّ التدبير الإلهي”. حظي الأمر في هذا القرن بدراسات رائعة أهمّها:
أ- داليس، عقيدة أفسس.
ب- De Juaye، كيرللس الإسكندري (فرنسي).
جـ- مقالات في داس كونسيل فون خلقيدونيا. ذكرناها وسواها في “سر التدبير الإلهي”.
وهناك التواريخ والدراسات الخاصة عن النسطوريّة وهي عديدة في اللغات الأروبيّة.
انتهى الصراع إلى تفاهم بين كيرللس وثيئوذوريتوس، فأنشأ الثاني رسالتين إلى كيرللس وقّع الأولى منها يوحنا أنطاكيا، والثانية أكاكيوس حلب صديق ثيئوفيلوس (خال كيرللس) في حربه على الذهبي الفم. وقّع كيرللس على الصيغة في العام 433، فصار اسمها “دستور الإتحاد”. وتصادق الإثنان في إثرها على ما ذكر الأول في رسالته 83 إلى ديوسقوروس.
الأب يوحنا رومانيديس يتحامل باطلاً على ثيئوذوريتوس والتحق به مقال في
La Pensée Orthodoxe 1998 رددتُ عليه بمذكرة مستفيضة، فتراجعت في مقال لزميلتها Contacts ودافعتُ عنه في “سر التدبير الإلهي”. في الحاشية 23 من هذا الكتاب يجيء أن القديس البابا لاون الكبير اعترف له بأنه صاحب النصر على النسطوريّة والمونوفيسيّة الأوطيخيّة (الرسالة 120). في تاريخ باباذوبولوس دعم كبير لي. اعترف المونوفيسيّة في لقاء 533 أنه صادق كيرللس. رسالته إلى ديوسقوروس (83) تثبت هذه الصداقة. قال باباذوبولوس فيه: “الكاتب المعروف واللاهوتي والمؤرّخ الكنسي” (ص 251؛ أيضاً 315). “…ألمع اللاهوتيين الشرقيين. كان متعاطفاً شخصياً مع نسطوريوس، ولم يعتنق أفكاره، ولم يكن
نسطورياً” (263).
في الصفحات 255 – 259 يبيّن أن ثيئوذوريتوس هو دماغ المجمع الأنطاكي وقلمه النابض “الأسقف اللامع الشهير” (285)؛ “هو ألمع الأساقفة” (288). وقال المجمع الخلقيدوني: “…ولتتخذ الكنيسة معلمها الأرثوذكسي” (ص 299).
موري يذكر أن ثيئوذوريتوس أنشأ رسالة مجمع الأنطاكيين في أفسس الموجّهة إلى الأمبراطور والتي هي تقريباً أساس “دستور الإتحاد”. وهذه تعود إلى العام 431 لا 433. وتعني أن ثيوذوريتوس ومجمعه في أفسس ما كانا أبداً نسطوريين. وموري هذا يعتبر جميع المكتوبات تقريباً من إنشاء ثيئوذوريتوس (457:3 و468).
ونشَرت رسائله “الينابيع المسيحيّة”. الناشر اعتبر رسالتي يوحنا أنطاكيا وأكاليوس حلب من إنشائه. هو نفسه يذكر أن صورتي الرسالتين موجودتان لديه، فأرسلهما إلى دومنوس أنطاكيا. هذا يعني أن المسودّة لديه لا في أنطاكيا (الينابيع، 50:111 – 51 الحاشية 2 و52 – 53). والنقّاد الكبار يقولون بذلك (غريلماير وسيلرز وكيلر وو…). وفي رسائله إلى البابا لاون ودومنوس أنطاكيا وديوسقوروس يعلن تمسّكه بدستور الإتحاد. وفي رسالته إلى دومنوس يعتبر نفسه قد انتصر في صراعه مع كيرللس. وكيرللس نفسه هلّل للنصر. والمنتصر الحقيقي هو الرب يسوع وروحه القدّوس بواسطتهما.
وحديثاً في كرّاسة “أنطاكيا صنعت اللاهوت الأرثوذكسي والكاثوليكي” أقمتُ الدليل من راسالة ثيئوذوروس إلى الرهبان (4) ما ذهبت إليه أيضاً في “سر التدبير”: هو مكمِّل غريغوريوس اللاهوتي. بل أيضاً اغناطيوس الأنطاكي. والمجمع الرابع أخذ منه عقيدة الطبيعتَين فقط، أما المجمع السادس فأخذ منه الشقّ الثاني أي عقيدة الفعلَين.
وفي رسالته 83 إلى ديوسقوروس يذكر أنه وعظ في أنطاكيا طيلة ست سنوات بحضور أسقفها ثيئوذوتوس وثلاثة عشر سنة بحضور خليفته يوحنا. وكان الأخير يتهلّل ويصفّق وينتصب واقفاً في كرسيه.
قيل لي إن الأب رومانيديس يزعم أن يوحنا هو البطل. ما أوردناه أعلاه يدلّ على ان ثيئوذوريتوس هو البطل الذي يقود يوحنا. القديس يوحنا أفخايطا (عيده في 5/10) اعتبره رابع آباء الكنيسة (باباذوبولوس ص 470). أخطأ لوسكي وأتبعه مايندورف فاعتبراه رأساً نسطورياً. أما اللاهوتي اليوغوسلافي جوستين بابوفيتش فاحترمه واستشهد به وسمّاه “المغبوط”.
وكان قد انعقد اجتماع في خلقيدونيا بحضور الأمبراطور ثيئوذوسيوس. الناشر يعتبره زعيم الوفد الأنطاكي (الينابيع، 111: ص 52 الحاشية 3).
تاريخ الكنيسة الجديد يكيل له المدائح. فما من أحد سواه كان ليواجه أوطيخا فأصدر في العام 447 كتابه “المتسوّل” (447:1). يمرّ معنا في هذا الكتاب أن البابا لاون اعتبر نفسه وثيئوذوريتوس بطلَيْ المعركة (الرسالة 623، الرسالة 120) واعتبر الأمبراطورة بولخارية بطلة الدعوة إلى مجمع خلقيدونيا. ومرّ أعلاه مديح هذا المجمع له. إذاً: أبطال خلقيدونيا هم البابا لاون وبولخاريا وثيئوذوريتوس. وليس البابا لاون نكرةً أبداً.
وبعد كيرللس وثيئوذوريتوس ينتهي العهد الذهبي لآباء الكنيسة حتى يظهر مكسيموس المعترف (580 – 662)، ويسميهما معاً: “هذان المعلمان الكبيران، هذان الروحانيان الكبيران، هذان القديسّان” (ص 389 و393 و400). وعلى هذا ميري وبرديناوير الألماني المشهور (ميري 467:3 – 469) وغريلماير الشهير (المسيح في التقليد المسيحي، ص 484 من الترجمة الفرنسية). اعتبره داليس (D’Alès) أذكى الأنطاكيين (في كتابه “عقيدة أفسس”).
تكفير المدرسة الأنطاكية جملةً وتفصيلاً لصالح المدرسة المصرية، لا يخلو من التطرّف. المصريّون يقفون صفاً واحداً وراء فرعونهم. السوريون ينقسمون. حتى رسالة دومنوس أنطاكيا إلى فلافيانوس القسطنطينية هي اليوم في نظر النقّاد من إنشاء ثيئوذوريتوس (الينابيع 226:98 الحاشية 1). تقاتلوا باسم كيرللس وثيئوذوريتوس والإثنان بريئان من ذلك وصديقان. ما نقص أزمة 448 – 451 هو شخصية تاريخية مثل أكاكيوس حلب. هذا الرجل تهوّر جداً ضدّ الذهبي كما نرى في الملحق عن أيلبيذيوس أسقف اللاذقية. فالحسد مشهور في بلادنا. ثم شاخ فاعتدل. صادقه ثيئوذوريتوس واستعلم منه عن النسّاك والرهبان فكان مصدراً رئيساً لمعلوماته في كتابه “أصفياء الله”. في أزمة أفسس 431 وقف إلى جانب الأنطاكيين. ولكنه يمون على كيرللس بفضل صداقته مع خاله ثيئوفيلوس، فاستطاع أن يلعب في شيخوخته الصالحة – على ما شهد شمّاسه – دور الوسيط الكبير لإنجاز مصالحة 433. ثم رقد في الرب.
لم أعثر في حياة سمعان العمودي على دور لصالح ثيئوذوريتوس مع مصر كما كان له دور مع القصر ومع أنطاكيا. إنما استشرى في هذه المرحلة خطر الحسّاد والمتملّقين والوشاة. من مطالعة رسائل ثيئوذوريتوس استنتجتُ:
1- كان حسّاده المتملّقون في أنطاكيا يمتدحون خطبه ويشون به، فيتّهم الوشاة بأنهم تيلونون مثل أبي براتش.
2- شكا لديوسقوروس الوشاة فلم يعبأ بذلك واستمرّ على صرم الروابط.
3- وشوا به لدى القسطنطينية فصارحته فسقطت الوشايات. حتى كاهنه دانيال كان واشياً.
4- ما كانت قماشة ديوسقوروس مثل قماشة كيرللس العظيم، الشخصية التاريخية النادرة.
5- السوريون على المسرح والقسطنطينية حائرة. أزمة الذهبي أزمة سورية. وكذلك أزمة نسطوريوس وثيئوذوريتوس. رحم الله والدي. لما مات في 13/11/1971 أذاعت أوساط إدارة حصر التبغ والتنباك عنه: “وحده ما وشى بأحد وما ضرّ أحداً”. استعلمتُ، فكرّر القول مع تركيز على لفظة “وحده” بقوة وحزم وجزم. أصلحنا الله.
6- يتّهم ثيئوذوريتوس الواشين به بأنهم قتلة يعتالونه. اللفظة هامة جداً على لسان لاهوتي كبير مثله. فليتّعظ الوشاة وليخافوا الله ما دامت الوشاية جريمة قتل. والمصيبة في أرباب السلطة هي أنهم يديرون آذانهم لسماع الوشاة. والحلّ الوحيد هو المصارحة ورحابة الصدر. فمتى عرف الوشاة أن فلاناً سيعاتب صديقه وأن هذا الصديق سيقبل العتاب برحابة صدر دون إزعاج الواشي، انقطعت ألسنة الوشاة وافتضحت. ولكن الإصلاح عسير لأن الإنسان معقّد. الوشايات عدوان وقتل وإيذاء. وهي آفتنا منذ آلاف السنين.
7- تشقّق الإكليروس السوري. وهذا مرض المنطقة. في العهد الوثني كانت الأحزاب تتناحر لصالح مصر والعراق. في العهد البيزنطي تنازع الأساقفة لصالح مصر والقسطنطينيّة. أعلمني المغبوط الأرشمندريت الياس معوّض (البطريرك لاحقاً) في 1944 أو 1945 أن 35 أسقفاً سورياً اعتلوا سدّة القسطنطينيّة[1].
يمرّ معنا في هذا الكتاب ذكر سبعة منهم. الإختصاصي الأميركي الكبير بأنطاكيا جلنفيل يقول إن أنطاكيا أنضجت الحضارة البيزنطية وقدّمتها للقسطنطينيّة.
ولذلك على الكرسي الأنطاكي أن يعيَ أهميّتة التاريخيّة العالمية ليستعيد شيئاً من دوره الفذّ القديم في العالم المسيحي كلّه. كان البطريرك العظيم ثيئوذوسيوس يعي هذه الحقيقة فقال معتزاً: “يا ابني، الكرسي الأنطاكي، الكرسي الأنطاكي”.
ولكن هذا يتطلّب جيشاً من الشخصيات اللاهوتية المتضلّعة من آباء الكنيسة التي تنطق بالروح القدس بروح يوحنا فم الذهب ومكسيموس والدمشقي وأندادهم. هذا هو الكرسي الأنطاكي الأصيل غير المزوّر وغير المزيّف. رسالته اليوم هي العمق اللاهوتي الروحي لا السطحيّات بشرط تجنّب المماحكات والمنازعات والمشاجرات الحامية الوطيس الكلاسيكيّة في مشرقنا منذ فجر التاريخ. فلو فضّل أجدادنا الحوار الهادئ لما خرّبوا تاريخ الكنيسة وكانوا كبرى نكباتها. فهل يمكن التخلّص أيضاً من التخلّف العثماني؟ ومتى؟ بعد قرون.
لا يجوز أن نساير الآخرين على حساب الحقيقة. وعلى كل إنسان أن يسجد للحقيقة. الولاء للحقيقة لا لسواها أبداً. التجديف على الروح القدس وقع لأنّ الفريسيّين قالوا للحق باطلاً… (أش 20:5)، فقالوا إنّ المسيح يخرج الشياطين برئيس الشياطين. إلا أن بعض المتعصّبين لكيرللس بقوا على القول الحرفي بالطبيعة الواحدة، بينما تفهّم كيرللس في “دستور الإتحاد” عقيدة الأنطاكيين: إذ يطلقون على اللاهوت إسم الطبيعة الإلهية وعلى الناسوت إسم الطبيعة البشريّة، بينما يستعمل هو لفظة طبيعة بمعنى أقنوم على ما في اللغة اليونانية قديماً. انتهى التمسّك الحرفي اللفظي إلى هرطقة أوطيخا (أفتيشيوس باليونانية).
19- الأوطيخيـّــة
كان أفتيشيوس رئيس دير في العاصمة وشديد التعصّب – بلا فهم – لكيرللس. وكان عراباً للوزير النافذ خريسافيوس. هذا توصّل إلى إبعاد القديسة بولخاريا أخت الأمبراطور الضعيف ثيئوذوسيوس عن السلطة واستبدّ به. رشّح عرّابه لخلافة بروكلوس ففشل، ونجح القديس فلافيانوس.
قال أوطيخا بذوبان الطبيعة البشرية في الطبيعة الإلهية، وإنّ ليسوع طبيعة واحدة إلهية. هبّ ثيئوذوريتوس للدفاع عن الحقيقة بكتابه “المتسوّل” في العام 447. تردّد فلافيانوس في محاكمة الهرطوقي. كان المحامي أفسافيوس قد صار أسقفاً نافذاً على دوريليوم. شدّد عزيمته، فعقد في العام 448 مجمعاً خلع الهرطوقي وجرّده من الكهنوت. اغتنم خريسافيوس المناسبة، فجعل الأمبراطور يدعو إلى مجمع أفسس 449. اغتنم ديوسقوروس الإسكندرية المناسبة لنصرة أوطيخا، وشنّ الحرب على ثيئوذوريتوس. وقف البابا لاون الكبير إلى جانب فلافيانوس. حرم ديوسقوروس مجمع فلافيانوس وثبّت أوطيخا. استصدر مرسوماً يحرم ثيئوذوريتوس من حضور مجمع 449 والخروج من دائرة أبرشيّته، ورفض أن يذعن لتحذيراته ضدّ الوشاة المخرّبين. ترأس مجمع أفسس مستبداً: تسبّب بموت فلافيانوس. ونجا أفسابيوس دوريليوم ومندوبا البابا بقدرة القدير وحده من العدوان. خان دومنوس أنطاكيا صديقه ثيئوذوريتوس، فاستنفد ديوسقوروس أغراضه منه، ثم خلعه في النهاية. ولم يُعدْه المجمع الرابع (451). أما جوفينال أورشليم، فانبطح ليحقق أغراضه ضدّ أنطاكيا. وخلع ديوسقوروس ثيئوذوريتوس. وحرم البابا لاون. ونصّب نفسه – بقرار مجمعي – بطريركاً مسكونياً. وعيّن وكيله أناتوليوس على القسطنطينية ومكسيموس على أنطاكيا(25). فقامت قيامة البابا لاون. كان فالنتينوس أمبراطور الغرب ابن عم ثيئوذوسيوس وصهره. ارتمى البابا عليه وعلى أمّه وزوجته في 22/2/450. كتبوا إلى ثيئوذوسيوس فلم يفهم. كتبت الأم إلى سلفها ثيئوذوسيوس وأخته بولخاريا دون جدوى. وأخيراً مات ثيئوذوسيوس. في 28/7/450، فخلفته أخته بولخاريا. استنجد بها البابا لاون كما استنجد بها، قبلاً، كيرللس. فكتب إليها في أواخر 450(23). بولخاريا وأختاها أركاديا وماريا متبتّلات. تزوّجت القائد ماركيانوس صوريا لتضمّه إليها في الحكم. أرثوذكس الدنيا كانوا قد استلموا من يوحنا أنطاكيا “دستور الإتحاد” وقبلوه. فما بقي لهم مجال للعودة إلى القول بالطبيعة الواحدة. كيرللس نفسه وأبوه الروحي القديس إيسيدوروس الفرمي تخلّيا عن تعبير “الطبيعة الواحدة” وطفقا يستعملان تعبير “الطبيعتَين” (كراستنا: أنطاكيا…).
من غرائب الزمان أن بابا روما شيلستينوس القديس كان حليف كيرللس وأفسافيوس ضد نسطوريوس. واستنجد كيرللس ببولخاريا وأختيها فأنجدتاه. أما في الأزمة الأوطيخية فقد قلب ديوسقوروس الموازين جميعاً، فشنّ حربه على أفسافيوس وبابا روما القديس لاون الكبير، فرأى بولخاريا تقف خصماً له. خسر حلفاء الإسكندرية التقليديّين. طعن في سلفه كيرللس، فاتّهمه بالتبذير(24). وكان القصر يساير دوماً مصر لأنها بمثابة الرقبة بين آسيا البيزنطيّة وأفريقيا البيزنطية. وكان كيرللس بمثابة نائب ملك في مصر. وكذلك ديوسقوروس. تبنّى قضية فاشلة، فخسرت مصر مكانتها التاريخيّة وانعزلت وانزوت، لتدور حول نفسها. خُلع الوزير وحوكم وشنق (أي خريسافيوس). دعت بولخاريا إلى انعقاد المجمع الرابع المسكوني، فانعقد في خلقيدونيا قرب العاصمة في 451 برئاسة أناتوليوس القسطنطينيّة بعد أن استوثق البابا من صحّة إيمانه.
حضره 630 مندوباً منهم 130 أسقفاً من الكرسي الأنطاكي، بينما لم يحضر منه مجيمع 449 سوى 15 أو 22 أسقفاً: البون شاسع. قاطعه الأنطاكيون إذاً ولو لم يحضره دومنوس رئيسهم لقلّت النسبة كثيراً. أليس ذلك دليلاً على تعلّق الأنطاكيين القومي بثيئوذوريتوس؟ أما حضور 130 منهم مجمع خلقيدونيا أي 130/630 أي أكثر من الخمس فمظاهرة أنطاكيا تصبّ في قناة تيئوذوريتوس وتدعم موقفه المعادي لأفسس 449 والمناصر لخلقيدونيا 451. دعي ديوسقوروس إلى المحاكمة ثلاث مرات فأبى الحضور. اكتشف ضلال أوطيخا فتبرّأ منه. صرّح رئيس المجمع في جلسة 8/10/451 أن الخلاف مع ديوسقوروس ليس عقائدياً. دانه المجمع .إلاّ أن آباء الكنيسة رأوا في تعليمه هرطقة فشجبوه. وأعاد المجمع ثيئوذوريتوس وسمّاه معلم الأرثوذكسيّة. وثيئوذوريتوس فيه تبرّأ من نسطوريوس. إنّما كان يعمل بعد مصالحة 433 على إعادة النسطوريين إلى حضن الكنيسة. فشل. فنسطوريوس صديقه ورفيقه في الدراسة. حميَّة كيرللس لم تترك مجالاً للرفق والتأنّي. المجمع أخذ بعض بنود “دستور الإتحاد”، وزادها وضوحاً وكمّلها. ولذلك يد ثيئوذوريتوس فيه طويلة. هو مكمّل غريغوريوس اللاهوتي. فمقارنة رسالته الرابعة إلى الرهبان برسالة غريغوريوس إلى كليدونيوس تثبت أنه تلميذ وفيّ للاهوت هذا وما رسالة الأنطاكيين إلى الأمبراطور ودستور المصالحة سوى مختصر لها (راجع “سرّ التدبير” و“أنطاكيا صنعت اللاهوت الأرثوذكسي…”).
انشقّت الكنيسة في سوريا. تبلبل الرهبان في شمالها وشرقها لأنهم يرون في صيغة الطبيعة الواحدة إمكان الإتحاد بالله، بينما لا يرونها في صيغة الطبيعتين (ليف جيلله في الروحانية الأرثوذكسية). ولكن تقلّب الناس كثيراً. دارت رحى معركة قاسية. أفضل كتاب عنها هو “داس كونتسيل” في ثلاث مجلّدات ضخمة. في جميع التواريخ نبذة. أحدثها كتاب “تاريخ الكنيسة الجديد” (ألماني، فرنسي، إنكليزي في خمس مجلّدات). ثمّ تلاه، كأحدث منه، كتاب مايندورف.
هناك من يقول إن مكسيموس أنطاكيا خُلع في 455 مخلفه لفترة قصيرة إثنان تلاهما مرتيريوس الضعيف الواهي. سنرى في الأعوام 521 – 526 مسخرتين أخريين. مصر وقفت وراء فرعونها كالعادة وانشقّت.
عيّن الأمبراطور قائداً لجيش الشرق اسمه زينون من إيسافريا. أتى معه راهب فارّ من ديره في خلقيدونيا اسمه بطرس القصّار. حالف الأبوليناريين في أنطاكيا فنجح بمساندتهم ومساندة زينون في إسقاط مرتيريوس والحلول مكانه. سقط وعاد أربع مرات. روى رستم قصّته. كان قوياً، بينما مرتيريوس ضعيف. أنجح فيلوكسينوس لكرسي منبج (485)، فدعم نفسه بشخصيّة هائلة. ثم تعاون هذا مع سويروس الأنطاكي، فتمّ في العام 512 خلع البطريرك الأرثوذكسي وتنصيب سويروس في سلوقية (السويدية) بدعم الأمبراطور أنستاسيوس. لماذا في سلوقيا لا في أنطاكيا؟ أليس لأنّ الأنطاكيين ضدّه؟
ولكن بقي الأرثوذكس أقوى منهما. في مجمع صيدا 512 كان الأرثوذكس 70/80 أسقفاً. في مجمع صور 514 نجح سويروس في قلب الأوضاع نسبياً وسط مقاومة أرثوذكسية (رستم 356:1 – 359). في مجمع صور[2] 512 كان 7/10 من أساقفة منبج ضدّ فيلوكسينوس. الفضل يعود لسويروس في قطع العلاقة تماماً بالأوطيخيّة. عَرَض إيمان غير الخلقيدونيين عرضاً معتدلاً. أعماه التمسّك بحرفيّة أقوال كيرللس دون أن يجد في الصف الأرثوذكسي محاوراً يقنعه، ودون رؤية في تحديد خلقيدونيا الجواب على مطاليبه. كتبت عنه في “سرّ التدبير الإلهي”: “سويروس قبل بوجود جوهرين في يسوع وصفتين وخاصيتين. ويقبل بوجود فرق بين الجسد وكلمة الله. وهو ينفي المزج بين عنصرَيّ يسوع… و… واعترف بأن بعض الآباء قالوا بثنائية الطبيعتين والمشيئتين والفعلين. إلاّ أنه ضدّها اليوم بسبب النسطوريّة”. (راجع الصفحة كلها). إلا أن مكسيموس المعترف المطلع عليه تماماً يعتبر عباراته نوعاً جديداً من النسطورية، ويعتبره مصدر القول بالمشيئة الواحدة والفعل الواحد. وليس من السهل اليوم أن نعرف تماماً فكر بطرس القصار. فتعاونه مع الأبوليناريين ضدّ الأرثوذكس تعاطف مشبوه جداً. فضالّته المنشودة موجودة في خلقيدونيا التي كرّرت ثماني مرات التركيز على وحدة أقنوم يسوع. ولكن قدر الكنيسة الأنطاكية العظمى أن تبقى مصلوبة على تشقّقاتها وتصلّب آنذاك العالم المسيحي معها. روح الشقاق السورية ممزوجة بالتطرّف والعمى وضيق الصدر. وذكرت في ص 224 استيعابه لمفهوم “الجوهر” لدى باسيليوس الكبير[3]. وهذا ما لم يفتقر إليه لوسكي فقد اكتفى بالاستشهاد بنصّ من أرسطو عن الجوهر. إنما أدركه الأرشمندريت فاسيليوس كرايينيس لدى مكسيموس المعترف دون أن يشير إلى أن ذلك منقول عن باسيليوس. ولكنّ السياسة الأمبراطوريّة تخبّطت في حل المعضلة. ولا بدّ هنا من فتح ملفّ الأباطرة الرومان. أعياهم الأساقفة بتقلّباتهم وتخرّصاتهم وتحاسدهم. ونقمة ثيئوفيلوس الإسكندرية وصديقه أكاكيوس حلب رئيس الحزب المصري في سوريا وحليفه سفيريانوس جبلة وسواهم على الذهبي الفم عمل شيطاني.