جاذبية الأرثوذكسية
من يتتبع تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية يصاب بشيء من الذهول بسبب قدرتها على تجاوز أزمات التاريخ الحادة ففي القرون الثمانية الأولى تعرضت إلى هزات عنيفة جداً جداً وانتهت في العام 843م برفع الأيقونات على يدي الإمبراطورة ثيودورة . حرب الأيقونة كلفت الكنيسة متاعب لا تعد ولا تحصى من إضطهادات وسرقات واستيلاء على الأموال واستشهاد. وكم سقط من شهيد ! وتتابعت الأحداث شديدة فيما بعد، بسبب العلاقات الخارجية ومع ذلك صمدت الكنيسة الأرثوذكسية.
وفي القرن الثالث عشر تعرضت لمتاعب هائلة جداً أفقرتها مالياً وأضعفتها سياسياً ومع ذلك صمدت، وفي القرن الرابع عشر تعرضت لهجمات متنوعة، فظهر "القديس غريغوريوس بالاماس" يحمي الإيمان ما ذاع صيته في كل العالم الأرثوذكسي وتبنته الكنيسة الأرثوذكسية . وفي القرن الخامس عشر تعرضت لصعوبات قاسية جداً من كل جهة ومع ذلك صمدت، وكان التتر قد احتلوا روسيا 200سنة فأذلوها وأهانوها جداً مع ذلك قفزت فوق هذه الصعوبات، وتحملت من نكبات الدهر ما تحملت وقدمت من الشهداء ما قدمت حتى بلغ عدد شهدائها في القرن العشرين أكثر من خمسة وأربعين مليون من الشهداء، وفي كل ذلك كان الصمود هو طبيعة الكنيسة الأرثوذكسية، ما انهارت، ما انهزمت، بل صمدت في وجه الصعوبات والنكبات وقدمت الشهداء والقديسين والآباء العظام. وقفزت روسيا في القرن التاسع عشر إلى صدارة عالمية وسبقت الكنيسة الروسية سواها في ما قدمته من رهبان عظام. وكان دير "اوبتينا" محجاً لرجال اللاهوت والفكر كان محجاً "لخومياكوف العظيم" الذي تزعم في التاسع عشر التيارات الفلسفية واللاهوتية وحتى الاجتماعية والسياسية في روسيا كما هو معلوم وظهر "دوستويوفسكي وتولستوي وغوغول" وغيرهم من الرجال العظام ومن اللاهوتيين العظام "فيلاريتوس وثيوفانوس الحبيس" الذي كان رئيساً لأكاديمية بطرسبورغ ثم استقال وتنسك وترك لنا 164 كتاباً وهو رقم قياسي في تاريخ العالم كله. وفي رومانيا الكنيسة والشعب في تلاحم كبير حتى في أيام "نيقولاي تشاوشيسكو" فاللذين زاروا رومانيا في السبعينات حدثوني عن عظمة هذه الكنيسة كشعب وكرهبان وككنائس وأديرة واليوم يتحدث العالم كله عن عظمه هذه الكنيسة التي يلتحم فيها الحكام والشعب والاكليروس في كتلة واحدة ، والناس معجبون بعدد الكنائس التي تبنى والأديرة التي تنشا أيضا ، ففي روسيا اليوم حملة واسعة لبناء الكنائس والأديرة والتقدم اللاهوتي والرجوع إلى الينابيع الأصلية كما صرّح الأسقف الجليل "هيلاريون" مساعد بطريرك موسكو صاحب القداسة "كيريلوس" وهو من دعاة الرجوع إلى المصادر الآبائية اليونانية الأصلية، والرئيس بوتين زار جبل آثوس وصرح هناك "إننا مرتبطون بهذا الجبل" أي إن الروحانية الروسية مرتبطة بروحانية جبل آثوس ولا ننسى أن ظهور "الفيلوكاليا" على يد "نيقوديموس الاثوسي" كانت ثورة روحية في العالم الأرثوذكسي وفي غيره أيضا، وهي اليوم مترجمة إلى اللغات العديدة كالانكليزية والفرنسية والطليانية والألمانية وسواها وبعضها ترجم إلى العربية. وهذا التحسس الأرثوذكسي العام له أسبابه ولا أنسى يوغوسلافيا وبطريركها العظيم المرحوم "بولس" الذي فارقنا منذ حين، واللاهوتي الكبير "بوبوفيتش" العظيم جداً ولا أنسى "ديمتري ستانيلواي" لرومانيا وهو أيضا قطب كبير ترجم الفيلوكاليا إلى الرومانية أثنى عشر جزءاً موسعة . أما في روسيا فقد حملها من جبل اتوس إلى روسيا "بايسي فبليتيشكوفسكي" فقامت نهضة روسيا هائلة على أساسها كما نرى في كتاب "سائح روسي على دروب الرب" لكل ذلك، ورغم كل الظروف والقساوات أتسأل لماذا الأرثوذكس متعلقون بكنيستهم تعلقا عاطفياً يحتل القلب والحواس والعواطف وكل الكيان؟ لماذا ستالين الطاغية الكبير كان يرتل في الكرملين حينما كان ينفرد على ما ذكر الكاتب الروسي "سولجبينوتسين"؟ لماذا في آخر حياته استدعى كاهنا ليتناول هذا الطاغية المشهور تاريخياً الذي كسر رأس هتلر ووصل إلى برلين كيف بقي يحنّ إلى الترتيل الأرثوذكسي والى المناولة؟ وهناك الأخبار العديدة عن الرؤساء الروس في العام 72 في عيد الفصح وجد البيض والزهور على قبر "خروشوف" وأكد لي العارفون بالأمر أن زوجة "بريجينياف" استدعت كاهناً جنزه في القصر، قبل أن يخرج به إلى الساحة الحمراء ، أما "يوري اندروبوف" فانتفض انتفاضة عظيمة أدت إلى صعود روسيا إلى السماء من جديد.
كل هذا التعلق الأرثوذكسي بالكنيسة والارتباط بالكنيسة له أسبابه العريقة ما هي هذه الأسباب التي تجعل القلب مشغوفا بالأرثوذكسية؟ انه نزول الأرثوذكسية إلى القلب عن طريق الصلوات والترانيم والأشعار والموسيقى ، كتب الصلوات الأرثوذكسية جسدت الإيمان الأرثوذكسي بكل نواحيه، ولذلك ففي الصلوات يعيش الأرثوذكسي إيمانه الأرثوذكسي وكنيسته الأرثوذكسية. الكنائس المبنية وفقاً للأصول البيزنطية كيف هي؟ أولا الفن المعماري يجعلها خالية من الصدى كما في دير القديس جاورجيوس الحميراء في وادي النصارى، الصدى فيه مفقود لان البناء بيزنطي أصيل فإذا يتمتع الإنسان بالصلوات المسموعة جيداً ، البناء يقوم على أساس جيد هناك القبة والأعمدة التي تقسم الكنيسة بشكل صليب. يدخل الإنسان إلى كنيسة أرثوذكسية أصلية لدينا منها صورة ما في كنيسة "القديس مارليان" في حمص التي رسمها المرحوم الأب سوفيان الروماني على عهد المغبوط "المطران الكسي عبد الكريم" على القبة مرسوم المسيح الضابط الكل وفيها الرسل الاثنى عشر والحيطان مزدانة بالفريسكات من كل النواحي ولكن الايقونسطاس ليس ايقونسطاساً تاماً كما في اليونان ورومانيا وبلغاريا ويوغوسلافيا وروسيا. الايقونسطاس هناك روعة الروعات يرى الإنسان أيقونات للرب يسوع، للعذراء مريم، للرسل لسواهم من القديسين، ويكون الايقونسطاس عالياً ممتلئاً وفي الهيكل الرسوم أيضا على الحيطان وصورة التجسد الإلهي أي العذراء وفي بطنها يسوع في صدر الهيكل، المائدة العظيمة والمذبح والهيكل نفسه المرسوم بالفريسكات يدخل الإنسان إلى الكنيسة فيرى السماء أمامه على الأرض الرب يسوع، العذراء مريم،الرسل، الشهداء ، القديسون الأبرار، الصديقون، الملائكة كيفما نظر يرى السماء أمامه يعرف أن المائدة تمثّل القبر المقدس وان المذبح يمثل مغارة بيت لحم والجلجلة والصليب يعلو الايقونسطاس والإيقونة روعة الروعات من لا يشتهي اليوم أن يقتني أيقونة صحيحة مرسومة باليد على يد فنان كبير من لا يحلم بأيقونة من أيقونات "روبلوف" وسواه من كبار الرسامين .الايقونسطاسات الروسية رائعة جداً هو في الكنيسة إذا هو في السماء خدمة القداس الإلهي للقديس يوحنا فم الذهبي أو للقديس "باسيليوس الكبير" روعة الروعات. الإنجيل متجسد في خدمة القداس وفي الكنيسة الأرثوذكسية وهناك الصلوات والكتاب المعزي على الألحان الثمانية يجسد العقائد الأرثوذكسية في الثالوث القدوس في التجسد الإلهي في ذكر العذراء مريم والشهداء والقديسين والملائكة ويوحنا المعمدان وفيه كمية كبيرة من العقائد الأرثوذكسية والطروباريات طروباريات القيامة الرائعة التي تحوي خلاصات عن العقائد المسيحية الأرثوذكسية نعيشها في هذا اليوم وهناك كتاب التريودي الخاص بالصوم الأربعين المترع بصلوات التوبة والخشوع ففيه قانون "اندراوس الدمشقي" أسقف كريت في التوبة. وهو من أروع ما في المسيحية وهناك خدمة أسبوع الآلام الرائعة ففي يوم الخميس العظيم ويوم الجمعة العظيمة تتجلى الأرثوذكسية بروعات إلهية لنحيا اليومين الأخيرين من حياة ربنا يسوع المسيح ودفنه وخدمة الجنازة روعة الروعات هذا فضلاً عن خدمة مساء الخميس حيث نقرأ 12 فصلاً من الأناجيل عن الآم الرب أما روعة التراتيل فتنقل المؤمنين إلى أعماق سر الجلجلة المقدس. من لا يهتز حينها يسمع "اليوم علق على خشبة" أو "أواه" أو إن موسى العظيم " وسوى ذلك من التراتيل الخشوعية التي تجعلنا نعيش المسيح في ساعاته الأخيرة لنصلب معه ونموت معه وندفن معه على رجاء القيامة معه. وهناك كتاب "البندكستاري" الذي نعيش معه قيامه الرب وصعوده إلى السماء والعنصرة المجيدة . من لا تهتز مشاعره حين يسمع تراتيل الميلاد وعيد الصليب، حين يسمع صلوات تقديس الماء عيد الظهور الإلهي وهنالك الاصوام الكثيرة التي تجعلنا نعيش مع يسوع ويوحنا المعمدان في برية الأردن منقطعين إلى الله . فلا مسيحية بدون النسك والاستشهاد. الأرثوذكسية هي كنيسة النساك والشهداء على الانترنت بالانكليزية نص يقول إن شهداء الأرثوذكسية في القرن الـ 20 تجاوز الـ 45 مليوناً. هؤلاء اللذين رووا أوروبا واسيا وإفريقيا بدمائهم وأعراقهم هم اللذين يغذون حتى اليوم إيماننا الأرثوذكسي في العالم كله.
لا نعرف أسماء كل اللذين سقطوا شهداء في دنيا الله الواسعة. وما زالت أديرة جبل آتوسي قبلة أنظار طالبي الخشوع والتقوى وكانت أديرة روسيا تعج بالرهبان وفي القرن السادس الميلادي كان مشرقنا قرن الرهبان في العالم كله " Pena l’estgliste syriens" وهل أخرجت الدنيا ناسكاً أعظم من سمعان العامودي؟ فلا عجب إن كان الأرثوذكسي مدهوشين بكنيستهم الرائعة.
أما كرسينا الإنطاكي فهو كرسي الصمود الذي صاغ في القرون خمسة ، ستة ، سبعة، وثماني العقائد الأرثوذكسية والنشائد الدينية . فهل نستعيد هذا المجد؟ لا شيء مستحيلاً على أهل الحزم والعزم اللذين ينفقون دمهم قبل أموالهم ليطيروا إلى السماء. الموت حصد كل الناس وسيحصد كل الناس ولا يبقى سوى الالتصاق بالرب يسوع. يضل الطريق اللذين صرفوا ويصرفون انتباههم إلى الأرض دون السماء الله خلق الإنسان واقفاً ينظر إلى السماء والآفاق البعيدة ليرى الله في الكون لا ليطمس رأسه في تراب الأرض جعلنا الله أوفياء لربنا يسوع المسيح .
اسبيرو جبور
10/10/2010