تعيد الكنيسة الارثوذكسية المقدسة في الحادي والعشرين من تشرين الثاني من كل سنة لتذكار والتذكر دخول سيدتنا مريم العذراء إلى الهيكل . فقد كان والداها يواكيم وحنة بارين امام الله . لذلك لما اكملت الثالثة من عمرها قدمها ابواها إلى الهيكل وفاء لنذرهما لتخدم الرب في الهيكل وتتربى فيه . وكان رئيس الكهنة حسب الناموس يقبل المنذورين للرب ويباركهم في الهيكل . ان مريم قدمت إلى قدس الاقداس أي إلى الموضع الذي لم يكن لاحد الحق بالدخول إليه إلا رئيس الكهنة وذلك مرة واحدة في السنة بعد صوم طويل وصلاة يوم التطهير ومعه الدم المضحى عن نفسه وعن خطايا الشعب . وكان رئيس الكهنة (زكريا) يتعجب من ذلك ويقول في نفسه : لابد ان يكون لهذه الابنة شأن عظيم في المستقبل . وصف القديس ايرنيموس حياتها في الهيكل : ( ان العذراء المغبوطة عاشت منذ طفولتها مع غيرها من جنسها باحتشام فائق ومن الصباح حتى التاسعة نهارا كانت تنتصب للصلاة ومن الساعة الثالثة حتى التاسعة كانت تتمرن على الاشغال اليدوية وعلى القراءة . ومن الساعة التاسعة كانت تعود إلى الصلاة حتى يأتيها الملاك بالطعام المألوف ) . هكذا كانت حياتها في حمى الهيكل هادئة نقية كالسماء في حالة صفاء ولكن نحو السنة التاسعة من اقامتها ذاقت اول حزن على الأرض بفقدانها ابويها الهرمين ، فتوفي يواكيم عن ثمانين سنة ولم تبطئ حنة الطاعنة في السن اذ قضت نحبها أيضا . إلا ان مريم عرفت ان لاشي بعد يربطها بالارض فاستسلمت بكامل قلبها لله وحده وعللت نفسها برغبة واحدة وهي البقاء أمة للرب خاضعة أبدا لمشيئته حتى نهاية حياتها ، مواظبة على معيشتها في الهيكل حيث كان الروح القدس يهيء فيها مسكنا لله الكلمة بارتضاء الله الآب .
تاريخية العيد :
هذا العيد ليس له اسس كتابية اذ لم تذكر الاناجيل القانونية شيئا عن قبل ولادتها للمسيح ، وربما كان ذلك لانه كان يصعب ان يتضمن الإنجيل كل حادثة جرت سواء في حياة السيدة أو حياة السيد يسوع فالانجيلي يوحنا يقول: ” واشياء كثيرة صنعها يسوع ولو أنها كتبت واحدة فواحدة لما ظننت ان العالم يسع الصحف المكتوبة”(يوحنا21: 25) . ولكن هناك كتابات نسبت إلى بعض الرسل تتضمن اخبار عن حياة السيدة والسيد منها الإنجيل الذي ينسب إلى الرسول يعقوب الصغير اخي الرب بالجسد ،كتب في القرن الثاني ونشر في القرن السادس، يتميز هذا الكتاب عن باقي الاناجيل الابوكريفا (apocryphes) اللاشرعية ، باسلوبه الكتابي ورصانته وسهولة سرد الاخبار وروح التقوى التي تتخلله . قد استشهد به اقليمس الاسكندري مرارا واوريجانوس أيضا واقتبس غريغوريُس النزينزي اقواله بما يتعلق بدخول السيدة إلى الهيكل وولادة المسيح في المغارة . واستلهم منه واضعوا الاشعار والاناشيد لعيد دخول السيدة وكذلك كاتبوا الايقونات التي تمثل حوادث حياة السيدة والسيد التي جاء ذكرها في هذا الكتاب.
إلا ان هناك بعض اشارات أوشهادات حول هذا العيد من القرن الاول اذ يذكره الاسقف ليفوريوس الانطاكي وايضا في القرن الرابع يذكره ايرونيموس والقديس جرمانوس بطريرك القسطنطينية في القرن السابع، إلا اننا لا يمكن ان نعرف بالضبط لم حدد تاريخ هذا العيد في 21تشرين الثاني لعل في هذا اليوم من سنة 543 كرست الكنيسة الجديدة للسيدة على اسم دخول السيدة إلى الهيكل في القسطنطينية . ثم مع الزمن تحول عيد التدشين إلى عيد الدخول أو ربما ذكرى تجديد هذه الكنيسة . ان مواعظ بطريركي القسطنطينية جرمانوس وطراسيوس في القرن الثامن واندراوس الكريتي في اواخر القرن السابع(عظاته الثلاث الشهيرة عن العيد )لمأثورة وشهيرة وفي القرن التاسع نظم جاورجيوس النيقوميدي وباسيليوس المكدوني نشائد وتراتيل لا تزال الكنيسة ترتلها حتى الان ،يقول سمعان ميتافرست وهو من الكتاب الكنسيين (القرن1. ) ان هذا العيد رتب لاول مرة في القسطنطينية سنة 73. . ادخل هذا العيد إلى الغرب سنة 1572 على يد البابا عريغوريُس الحادي عشر ،واتى البابا سكستوس الخامس وجعله عيدا الزميا في كل الكنيسة البابوية سنة 1585 .
دخول مريم إلى الهيكل له ذكر في القران الكريم اذ ذكر كيف تركت مريم اسرتها وذهبت إلى الهيكل وارخت على وجهها برقعا سترها عن عيونهم . قال في سورة آل عمران :” واذكر في الكتاب مريم اذ انتبذت من اهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا “وهذا يدل لتأكيد لوجود شابات عذارى في الهيكل . وايضا جاء في سورة آل عمران 36: فتقبلها ربها (في الهيكل) بقبول حسن وانبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا . كلما دخل عليها زكريا محراب وجد عندها رزقا . قال يا مريم اني لك هذا ،قالت هو من عند الله يرزق من يشاء بغير حساب” .
ليتورجية العيد :
ان التعيد لدخول السيدة إلى الهيكل في كنيستي يتتالى ستة ايام من اليوم العشرين من تشرين الثاني إلى يوم الخامس والعشرين منه حيث الصلوات والاناشيد التي تصف باسهاب دخول السيدة إلى الهيكل وتبين اهمية العذراء ودورها في جزء من تدبير الله الخلاصي ، حيث مقاصد الله في سر التجسد تتضمن دعوة منذ الازل لمريم لتكون خادمة لهذا السر .
لذلك نقرأ في هذا العيد عدة قراءات تتمحور حول الحكمة والهيكل والمظلة السماوية حيث نجد في القراءة الأولى من سفر الخروج (4.) الحديث عن تكريس موسى لمسكن خيمة الاجتماع وملأ مجد الرب المسكن … لان السحابة حلت عليه ، والسحابة في فكر وتعليم الكنيسة تشير إلى مريم البتول التي هي مقر لحضرة الله . والقراءة الثانية(3ملوك: 8:1-11) تتمحور حول تكريس سليمان للهيكل حيث ان السحاب ملأ الهيكل بحضور الرب .القراءة الثالثة من حزقيال النبي(43:27-44:5) حيث يتكلم عن الهيكل المنغلق اذ يقول: ” فنظرت واذا بمجد الرب قد ملأ بيت الرب ” إذا مريم هي المسكن في فكر الكنيسة والانجيل (الروح القدس ياتي عليك وقوة العلي تظللك) كما ان الصلوات تمجدها لطهارتها الفائقة وتصفها “ملكة البرايا” و “الام الملكة” استنادا إلى الكتاب والتقليد والليتورجيا ، واول اشارة جاءت في سفر التكوين حيث قال الله :”واجعل عدواة بينك وبين المراة وبين نسلك ونسلها . فهو يسحق رأسك وانت ترصدين عقبه” (تكوين:3-15) . فهذه المراة المنتصرة على الشر والساحقة لرأس الشيطان تسمو على كل الخليقة وعلى الملائكة انفسهم ، منها يأخذ ابن الله المتجسد جسده وبهذه الامومة تصبح مريم ملكة العالم . يصور الاباء ومفسرو الكتاب المقدس مريم العذراء ملكة جالسة عن يمين يسوع الملك تسأله في حاجات ابنائها (مزمور44 -1.) قد فهمت الليتورجية البيزنطية هذه الحقيقة وطبقته على شخص مريم العذراء حيث تتذكر هذه الحقيقة في تهيئة الذبيحة الإلهية اذ تضع جزء من القربانة عن يمين الحمل تضعه تذكارا واكراما لوالدة الإله وعندما نضع هذا الجزء الممثل لشخص مريم العذراء يقول الكاهن: “قامت الملكة من عن يمينك مشوحة بثوب مذهب” .
بما ان يسوع المسيح هو ملك بالولادة وبالفداء والعذراء هي ملكة بسبب امومتها الإلهية وباشتراكها في جزء من سر الخلاص مع ابنها الملك اصبحت علة خلاصنا بعد الله وبما ان الكلمة الازلي سبق فحدد بمقاصده الابدية ان يتجسد يوما لخلاص ومحبة العالم سبق واختار أمه قبل كل الأجيال ومن بين سائر النساء اختارها لتكون على الأرض عرشا مقدسا ومسكنا للمسيح الخالق
لهذا العيد اهمية الكبرى في كنيستي اذ تهتم كثيرا به ، لما فيه من الفائدة والموعظة فانه يبين لنا المثل الاعلى للايمان والتقوى في شخص البارين يواكيم وحنة ويعطينا درسا ممتعا ومفيدا لنعرف كيف نهذب الاولاد ونربيهم على الفضيلة والتقوى وخوف الله . وان لنا في مثال العذراء مريم اكبر درسا وموعظة للطهارة والعفاف والاتكال على الله . تربية الاولاد يجب ان تقوم على الايمان والتقوى وان نبث فيهم خوف الله لان مخافة الله أساس كل عمل في الإنسان .
الفكرة الاساسية في هذا الموضوع هي ان مريم العذراء كرست إلى خدمة الرب منذ اول لحظة حياته لتكون الاناء المصطفى فيأتي المسيح منها، النور الذي على المرء ان يهتدي به والطريق الصحيح الذي من يسلكه يأمن الوصول إلى الميناء الامين . “وهكذا تهيئنا الكنيسة المقدس لظهور الله في الجسد منذ ظهور والدته الكلية القداسة في هيكل الله . ” (المطران جورج خضر)