من بين أولى المميزات لحياة أول المسيحيين أنهم "كانوا كل يوم يواظبون في الهيكل بنفس واحدة، واذ هم يكسرون الخبز في البيوت كانوا يتناولون الطعام بابتهاج وبساطة قلب مسبحين الله ولهم نعمة لدى جميع الشعب"( أع 46:2-47.)
هذا الكلام ولو أنه يظهر ارتباط العبادة المسيحية في البداية مع العبادة اليهودية في الهيكل-وقد يكون في المجامع أيضا- انما يظهر في الوقت ذاته بداية انفصالها عنها أيضاً، اذ كان المسيحيون "يكسرون الخبز في البيوت". وكما هو معروف فهذا الانفصال سوف يزداد بالتدريج الى أن يصبح نهائيا. أما الاختلاف بين العبادتين فسيظهر من خلال أربع نقاط رئيسة ارتكزت اليها العبادة والحياة المسيحية منذ البداية، وهي المواظبة على: "تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات" ( أع 42:2) . هكذا انطلقت عبادة الكنيسة الرومية بالروح والحق (يو 23:4- 24 )، وسوف تنمو وتتبلور عبر العصور المختلفة بمساهمة قديسين من مختلف الأمم التي ضمتها الأمبراطورية الرومية (الرومانية)، مرتكزة على هذه النقاط الأربع بحسب التالي:
1ً- تعليم الرسل: ما هو مميز في تعليم الرسل الشفهي والمكتوب الإيمان بالآب والابن والروح القدس الإله الواحد، وتجسد ابن الله وظهوره الإلهي وتعليمه وعجائبه وآلامه وموته وقيامته وصعوده وارسال الروح القدس وتأسيسه الكنيسة الخ… هذه كلها سوف تشكل الموضوع الرئيس للعبادة الجديدة وكذلك الهيكلية الأساسية التي سوف تقوم عليها السنة الليتورجية من أعياد ومواسم روحية وما يناسبها من قراءات كتابية ونصوص ليتورجية. أما العهد القديم فستدخل نصوص ومعان كثيرة منه في القراءات والتراتيل انما دائما بحسب تفسير الرسل له أي على ضوء العهد الجديد. على هذا النحو سوف تصبح العبادة المسيحية مركزا حقيقيا لتعليم وعيش الإيمان القويم وكذلك الحياة المؤدية الى الخلاص.
2ً- الشـركة: من البديهي أن تفرز حياة الشركة في الكنيسة الأولى، عبادة جماعية، حيث يظهر المؤمنون، الذين "كان عندهم كل شيء مشتركاً"، مجتمعين معاً ( أع 44:2-47 )، مصلين( أع 24:4- 31 ) ومرنمين (أف 19:5 وكولو 16:3) وممجدين بقلب واحد وفم واحد ( رو 6:15.) هذه الجماعية سوف تستمر كإحدى الصفات الأساسية المميزة لعبادة الكنيسة الرومية. وما كلمة الليتورجيا اليونانية (leitourgia) ، والتي كانت تعني أساساً عمل الشعب، الا اشارة الى مجموع خدم الصلوات والأسرار التي يشترك فيها شعب الله كجماعة رافعاً اياها نحو الله، أو الى سر الشـكر (القداس الالهي أو كسر الخبز) تحديداً، والذي يظهر فيه بامتياز ليس فقط اشتراك جماعة الأحياء على الأرض، بل وجماعة السماء أيضاً. اذ هناك الدور الأساسي لابن الله المتجسد بوصفه الكاهن الوحيد( عب 5:5-6، 10، 20:6، 26:7-28، 1:8-2 ) والحمل المذبوح (يو 29:1، 1بط 19:1-20، رؤ 6:5-13 الخ.. ).أي المقرِّب والمقرَّب** ، كذلك للثالوث القدوس محاطا بطغمات الملائكة ومعهم أرواح أبرار مكملين ( أنظر عب 22:12-24.)
3ً- كسر الخبز: منذ تأسيس الكنيسة كان سر الشكر محور أسرارها وحياتها وعبادتها، لأنه بالنتيجة هو الذي يحيي المؤمنين (يو 48:6-51، 53-58 ) ويوحدهم مع المسيح وفيما بينهم ( 1 كور 16:10-17 ) ، أي هو الذي يجعل الكنيسة كنيسة. ولا يزال الى اليوم يواظب عليه بانتظام اذ يتوج صلوات الأسبوع على الأقل كل نهار أحد وفي كل عيد. في البداية كان هذا السر يتم بعد تراتيل وتسابيح وقراءات كتابية وتعليم وصلوات من أجل تحويل القرابين. وطبيعي أن تنتقل بالتسليم الصلوات التي كان يقدمها الرسل مترئسو الخدمة أو بعض الأساقفة خلفائهم فتصبح مكتوبة، وأن تتبلور مع الزمن هذه الخدمة فتأخذ شكلا موحدا في كل كنيسة، وأن يحصل تقارب بين القداديس القديمة للكنائس وأن يكون الاختلاف بينها في الشكل لا في المضمون. بالنسبة للكنيسة الرومية فهي تقيم – بحسب مناسبات مختلفة في السنة – ثلاثة أنواع من القداديس الالهية، ينتسب كل منها الى قديس كان له تأثير مميز فيه، وهم باسيليوس الكبير، يوحنا الذهبي الفم، غريغوريوس الكبير.
4ً-الصلوات: وكما كان للصلوات دور أساسي في حياة الرب يسوع على الأرض( مت 23:14، مر 46:6، لو 12:6، 7:9) وحياة الرسل( لو 1:11-4، أع 24:4-31، 9:10، 25:16 ) والكنيسة الأولى عامة (اع 5:12، 2 كور 11:1، اف 18:6، 1تس 17:5 )، استمر هذا الدور ونما ولا سيما بعد أن تعاظم تأثير الحياة الرهبانية على الكنيسة فترتبت مع الزمن صلوات وتراتيل تتفق مع مختلف أوقات النهار والليل مثل السحر والساعات والغروب ونصف الليل… وكذلك مع مختلف أيام الأسبوع، وأيضاً مع أيام الشهور بما يتناسب مع الأعياد الثابتة للسيد والقديسين، وكذلك مع الأعياد المتغيرة المواعيد كالقيامة والصعود والعنصرة، والمواسم التي تسبقها مثل الصوم الكبير وأسبوع الآلام. هذا الترتيب بما يضم من تنوع لا مثيل له يجعل كل يوم من أيام السنة الليتورجية يحمل شيئاً جديداً موحياً يختلف عن اليوم الآخر وخاصة في المواسم الخلاصية الالهية حيث يشترك الشعب الحسن العبادة ليس فقط من خلال الصلوات بل ومن خلال الصيام وانكار الذات والجهاد الروحي وعيش الفضائل. ومما يساعد على ذلك أن الاشتراك في الصلوات لا يتم فقط من خلال الكلمات والفهم العقلي بل من خلال كيان الانسان ككل من قلب ومشاعر وحواس وجسد. فهو مثلا يضمه بناء ويرى أيقونات وملابس وأدوات كنسية تذكر بالبهاء الإلهي، ويسمع تراتيل ذات أوزان شعرية منوعة وأنغام موسيقية ترفع الى علو سماوي، ويشم بخوراً فتستقيم صلاته كالبخور أمام الله، ويشترك جسدياً من خلال صيام وسجدات وسهرانيات وزياحات ذات معان خلاصية. والهدف بالنتيجة هو الوصول عبر الإيمان والنعمة الإلهية الى التنقية والخلاص والتجديد والتقديس.
وبكل تأكيد، فهناك غنى لا يقدر بثمن في التراث الليتورجي الرومي من حيث الشعر والموسيقى وروعة المعاني والتناسق والانسجام في القراءات بما يتلاءم مع كل مناسبة. ولكن الأهم من هذا بكثير هو الغنى الروحي الذي حمله هذا التراث من خبرة القديسين في الروح القدس الذين كتبوا ولحنوا ورتبوا. لهذا الغنى الذي لا ينضب دور كبير في حفظ ايمان الشعب الذي حافظ على اشتراكه في الليتورجيا، وحتى أيام الأزمات والاضطهادات والقحط الروحي.
من بين الشعراء الكنسيين الكثر الذين ساهموا في اغناء التراث الليتورجي الرومي: مليتون سرديقية (حوالي ال 175)، كليمندس الاسكندري (150-215)، ميثوديوس الأولمبي (حوالي ال 300)، غريغوريوس النزينزي (328-390)، رومانوس المرتل (النصف الأول للقرن السادس)، اندراوس الكريتي (660-740)، قزما المرتل (685-750)، يوحنا الدمشقي (680-755)، يوسف الستوديتي (762-832)، يوسف المرتل (816-886)، كاسياني (النصف الأول من القرن التاسع) .