اسبيرو جبُّور
الله والعالم
2014
الإهداء الى
والديَّ جرجي وعزيزة، وجدَيَّ سلّوم ومريم
عربون الشكر العميق لميراثهم الذي كوَّنني مؤمناً وفياً لربنا يسوع المسيح
– إقترحت الأخت العزيزة كارول عبود هذا الإهداء بعد عنايتها بهذا الكتاب.
المقدّمة
سمَّت الكنيسة غريغوريوس اللاهوتي بغريغوريوس اللاهوتي الجديد، وسمَّت سمعان اللاهوتي بسمعان اللاهوتي الجديدلأنهما تكلَّما في اللاهوت بصورةٍ جيدة.كانا شاعرانِ بارعانفجعلا النُطقَ باللاهوت شِعراً وتسبيحاً وتمجيداً للإله.
رومانوس المرنّم الحمصي كان أكبر شاعر مسيحي في اللغة اليونانية. شِعرهُ أناشيدَ لاهوتية عقائدية، تسبيحٌ وحمدٌ وشكرٌ لله. يوحنا الدمشقي وصديقه قوزما حوّلا العقائدَ إلى أناشيد دينيةوأفرام السرياني كان شاعر التوبة الكبير. حتى باسيليوس الكبير نفسه في كتابَيه “الأيام الستة” و”في الروح القدُس” سبّحَومجّدَ الله مُدهشاًبأعمالهِ.
عاش الآباء القديسون اللاهوت، ونظَموهُ شِعراًيُسبّح ويحمدُ الله ويمجّدهُ. هكذا يكون التكلُم باللاهوت. اللاهوت لا يُكتَب كما تُكتَب كتُب الفيزياء والكيمياء والطب والرياضيات وكل العلوم. اللاهوت ليس صِنعة العقل والفكر فقط. اللاهوت حياةٌ يعيشُها الإنسان بكل كيانهِ، أي بفكرهِ وقلبهِ وإرادتهِ ومشاعرهِ ومظاهرهِ وأفعالهِ وحركاتهِ وسكناتهِ. ثنايا كل كيانِه تندمج باللاهوتفيُصبح اللاهوت هو الإنسان والإنسان هو اللاهوت. المسيحي الحقيقي هو لاهوتيٌّ لأنهُ يعيش اللاهوت في فكرهِ وحياتهِ وصلاتهِ وحركاتهِ وأفعالهِ. صار اللاهوت يخرج منهُ ويرشحُ من كل كيانه.
سِرتُ في هذا الكتاب على هذا النَهج بنسبةٍ كبيرة فتخلَّلهُ التسبيحَ والحمدَ والشكرَ والإعجابَ بالله.
نحن اليوموبعد قرونٍ من الفراغ، نحتاجُ إلى التجديد في الكرسي الأنطاكي. ما كلُّ مَن تناولَ القلم صار لاهوتيّاً.مَن تناولَ القلم ليكتبَ في اللاهوت، عليه أن يتناولهُ بمخافةِ الله وبرهبة،وعليهالخضوع للنظام العام في الكنيسة أي الخضوع للتقليد. مَن تناولَ القلم،عليه أن يكونَ راسخاً في تقليد الكنيسة،فتقليدُ الكنيسة هو الذي يحفظ الإنسان من الزلَل. التضلُّع من آباء الكنيسة والمجامع المسكونية المقدّسة يتطلّب جهوداً جبّارة كبيرة ونُضجاً، والنضوج لا يتولَّد خلال سنوات إنما يتطلّب العمر. يفنى العمر ولا نحصل على نضوجٍ سليمٍ مئة في المئة، نبقى دائماً على شفير الهاوية.
التكلُّم باللاهوت يتطلّب الإمتلاء من الروح القدُس لا المعرفة النظرية الصِرفة. آرناك، بولتمان والعُلماء الألمان هم عُلماء مدقّقون ولكنهم كفَروا بالإيمان المسيحي فتكلّموا كلاماً لا معنى لهُ. السخافات في كتاباتهم عديدة وطرُقهم في الدراسة والتأليف سخيفة.
الكتاب المقدس إسمهُ الكتاب المقدس. بولس وبطرس قالا إن الكتاب موحى بهِ من الله. فإذاً هو كتابُ الوَحي الإلهيولا يجوزُ أَن نُعاملهُ معاملةَ الكتب الأخرى. ندرسُ الكتاب المقدس ونحنُ مؤمنون بأنهُ هو كتابُ وحيٍ، ونفسّرهُ على أساس أنهُ وحيٌ. نطالعُ كتابات الآباء القديسين بإيمانٍ لأنهم رجال الله الممتلئونَ من الروح القدُس. نحن نكتب اللاهوت بإيمانٍ كبير، نكتبُ اللاهوت ونحن ممتلئونَ من الإيمان التقليدي الآبائي الذي توارثناهُ منذ عهد الرسل حتى الآن بأمانةٍ تامة.
المجامع المسكونيةهي أعمدة الكنيسة السبع. غريغوريوس بالاماس هو الممثّل الأكبر للتراث الآبائي بعد يوحنا الدمشقي. وسمعان اللاهوتي الجديد المتوفي في العام ١٠٢٢ أعجوبة من أعاجيب الله على الأرض.إستنارَ ولمعَ وتجلّى كما تجلّى المسيح على جبل التجلّي. الروح القدُس موجودٌ في تراثِ الكنيسة والكنيسة تتمثّل بالقديسين.
نطلبُ في الكَتَبة الدينييّن شيئاً من القداسة والإيمان. ليس المهم أن نكتبَ بل أن نستلهمَ الروحَ القدُس في كتاباتنا. علينا أن نُرَسَّخ أوَّلاً في تراثِ الكنيسة، أن نعرف المجامع المسكونية، أن نعرف آباء الكنيسة القُدامى، أن نطَّلع على لاهوتِ بالاماس، أن نُدقّق في يوحنا الدمشقي وأن نلتهمهُ التهاماً، وأن نُطالع الكتب الطقسية. في المعزّي مثلاً والتريودي والبندكستاري مفاهيمَ لاهوتية رائعة، فالأناشيد ممتلئة من المفاهيم الدينية واللاهوتية. في الميناون أيضاً، في الأعياد السيّديّة لاهوتٌ كبير في تراتيل الميلاد والظهور الإلهي والقيامة ورفع الصليب ودخول السيّد إلى الهيكل وسوى ذلك. كلُّها روائع من روائع الدمشقي ورفيقه كوزما.
هذا الكتاب في النهاية مشبَعٌ من روح الآباء القديسين والمجامع المسكونية. لا أفتخر إلا بكَوني أصغر التلاميذ، الوفي الأمين لتراثهم، الوفي الأمين للتراث الأرثوذكسي التاريخي، الوفي الأمين لباسيليوس وغريغوريوس ويوحنا فم الذهب وسواهم، على مذهب آباء جبل آثوس. أنا إبن هذا التراث ولي الفخر الكبير بأن أكونَ قد ارتويت على أقدام هؤلاء الآباء القديسين واستلهمتُ من كتاباتهم.
أسأل الله أن يُنعِمَ أصحاب الأقلام في الكرسي الأنطاكي باللجوء إلى الآباء القديسين والمجامع المسكونية وكل التراث الأرثوذكسي في كل ما يكتبون، وأنصحُهم أن يتضلَّعوا بالتمام من هذا التراث.وبدون التضلُّع من هذا التراث، أخطاءٌ فاحشة تُرتكَب. لا يجوز أن يمسكَ كل ناشىءٍ القلم ليكتبَ اللاهوت وهو غير متضلِّعٍ.يبقى التضلُّع هو الأساس.
وفّقَنا الله منذ خمسةٍ وثلاثين سنة إلى البدء بنهضةٍ لاهوتية أدبية. هذه النهضة تحتاجُ إلى التعميق والتوسُع وتحتاجُ أيضاً إلى اهتمام الشعب برمّتهِ. شعبٌ غيرُ مثقّفٍ دينيّاً هو شعبٌ سطحيٌّ دينيّاً وفكريّاً وثقافيّاً. المسيحية فكريّاً، هي فكر الله. المسيحية هذَّبت أفلاطون وأرسطو وسقراط والفلسفة اليونانية وجرّدَتها تجريدًا كاملاً، بل سلَخت جلدَها سلخاً تامّاً.
الروحانية الأرثوذكسية روحانية إلهية سماوية وليست أرضية. ليست نظريّات وتحليلات عقلية على طريقة أفلاطون وأفلوطين. المتصوّفون الأرثوذكسيون لا يحلّلون كما يحلّل أتباع أفلاطون وأفلوطين. التصوّف الأرثوذكسي ذو نظرة سماوية إلهية خاصة تميّزهُ كليّاً من التحليلات العقلية. ليس بالتصوّف الأرثوذكسي عقلانية بل روحانية. هذا أمرٌ دقيقٌ جداً يحتاجُ إلى إمعان النظر الكبير للتفريق بين الروحانية الأرثوذكسية والصوفية الأرثوذكسية وسواها.
إمعانُ النظر يجعل المرءُ يفرِّق سريعاً بين هذا وذاك، ومتى ابتدأَ بالتحليل العقلي والمفاهيم العقلية كان أفلاطون وأفلوطين حاضرين، ومتى بدأت الصلوات والإبتهالات والتخشُعات والإرتفاعات الى الله كانت الصوفية الأرثوذكسيَّة. الصلاة في الروحانية الأرثوذكسية هي الألف والياء. يخرجُ الإنسان من هذا العالم في الصلاة ليرتمي في أحضان الله ويمتلىء من الروح القدُس، أي أنه يعيش في الروح القدُس. الروحانية الأرثوذكسية غير مرتبطة بالفلسفةوالفيلوكاليا الأرثوذكسيَّة بعيدةٌ كل البُعد عن التحليل العقلي، الفيلوكاليا كتابٌ كلُّه حياة في الله.
الحياة في الله هي العمقُ الأُرثوذكسي الكبير. ما كَتبتُ اللاهوت وما كتبتُ في الدينيّات لأتفلسف، كتبتُ ليمتلئَ الناس من الإيمان ولأهدي الهرطقات إلى الإيمان الأرثوذكسي الصحيح. في كتاباتي دفاعاتٌ عن الإيمان الأرثوذكسي وليسَ المقصودُ منها التهجّم أبداً. الهِدايةُ عندي هي الأهم لأني أريد كما قال بولس الرسول أن يَخلُصَ الناس. أريدُ أن يَخلُصَ الناس وأن يُقبِلوا إلى معرفةِ الحق.
تسبيح الله وتمجيدهُ في كتاباتي وفي حياتي هو الأمرُ الرئيسي. أنا لم أصِل ولن أصِل. سأبقى إنساناً قابعاً في قعر الجحيم حتى ينتشلَني منها الرب يسوع. لا أرجو خيراً من نفسي فإني أعرفُ ذاتي أني إبن الجحيم، ولكن دمُ يسوع المسيح قادرٌ على تطهيري من كل رجاسةٍ. فإليهِ وحدَهُ أتوجهُ لكي ينتشلَني من قعر الجحيم، من هوَّة الهلاك، لكي يغسِلَني بدمهِ الكريم الطاهر ويؤهِلني لملكوتِهِ السماوي الذي أرجوهُ بحرارةٍ فائقة. أسألهُ أن يجعلَ هذه الحرارة ناراً حاميةً لكي أصِلَ إليهِ تائباً خاشعاً نادماً ساجداً راكعاً مسبِّحاً وممجّداً، لأنالَ منهُ بعد مغادرة هذا العالم النورَ الإلهي الفائقَ الوصف.
فيا أيها الآب القدوس والإبن القدوس والروح القدُس القدوس، طهّرني من كل رجاسةٍ وأنعِمْ على المطالعين بأن يصيروا أبناءَ النعمة وأن يهتدوا جميعاً إلى معرفةِ الحق، ويعبُدوا الله بمخافةٍ كل أيام حياتهم مسبّحين لك وممجّدين لينالوا منكَ المجدَ الأبدي بشفاعة سيدتِنا والدة الإله وجميع القديسين، آمين.
الفصل الأول
الإنسان مركز الكون
أتذكر أنني عندما كنتُ في السابعة من العمر، خرجتُ الى السطح لأُبصِرَ نجمةَ الصُبح، فإذا بالسماء مغطّاة بعناقيدَ من النجوم. كم هو إذاً عددُ النجوم في العالم كله؟ إنهُ مليارات ومليارات ومليارات، فتعجّبتُ من هذا الخَلق العجيب. الله لهُ المجد صنعَ كلَّ شيءٍ بحكمةٍ فائقة وهو قادرٌ على كلِّ شيء. خلقَ كلَّ شيءٍ بموجبِ قدرتهِمما يدل على قدرتهِ العُظمى الفائقة. التمعُّن في هذا الكون يُعطينا فكرةً واسعةً عن عظمَة الخالق، لهُ المجد والإكرام والسُجود.
كان نظري حادٌّ جداً، فأحبَبتُمنذُ الطفولة الجلوسَعلى شاطىءِ البحر والوقوفَ في الروابي وأعالي الجبال لأتمتّع بمناظر السهول الخضراء والغابات وشجر الأرز والآفاق الشاسعة الواسعة. عند تمتُّعي بهذه المناظر كنتُ أسبّح الله وأشكرهُ على كل شيء. أحببتُ ذلك كثيراً وتعلّقتُ بهِ كثيراًولكن سرعانَ ما تنبّهتُ الى أهمية الكتاب، وأهمية المعرفة، وأهمية القراءة والكتابة، والى أهمية الإنسان الذي يخترع ويبتكر ويؤلّفُ الكتب.
بعد مدةٍ من الزمنإكتشفتُ أن في العالم ملايين الكتب،فوقفتُ على تطوّر الحضارات والمدنيّات والثقافات والشعوب والدول والأمم فأعجبَني الإنسان. توجّهتُ نحو الإنسان لأُدركَ ماهيَّة الإنسان، فإذا بهِ الكائنُ العجيب الأكبر في هذا الكَون كله. كل شيءٍ في هذه الدنيا جميلٌ وكلُّهُ مخلوقات الله ولكن ليس في كل الأشياء حياة. ما قيمة الكواكب والنجوم وكل الكون بدون الإنسان؟ الإنسانُ وحدهُ يُعطي قيمةً للأشياء، وحدُهُ يُثَمّن الأشياء،ووحدُهُ يصنعُ سلالم من القِيَم المتعدّدة منها القِيَم المادية والقِيَم الروحية والقِيَم الأدبية. الإنسان هو وحدُهُ أعجوبة الكون رقم واحد. وحدُهُ يتمتّع بالفِكر، يتمتّع بالروح، يبتكِر، يخترَع، يؤلّف، يصنعُ الحضارات والمدنيات والثقافات والأمَم والشعوب.
العظَمَةُ هي في الإنسان لأن الإنسان ذو روحٍ، والروحُ تبتَكر. الإنسان هو وحدُهُ على صورة الله ومثاله. الله خلّاقٌ وصورةُالله خلّاقة تبتكر باستمرار. كل واحدٍيبتكر بحسَبِ طاقاته ورُقيّه ومدَنيته، فكلُّ واحدٍ لهُ شخصيّتهُ المميزة.
كل الكائنات أفراد. الشجر نعُدُّه شجرةً شجرةً،والحيوانات نعدُّها حيواناً حيواناً. أما بالنسبة للإنسان فالتعدادُ مستحيلٌ لأن الإنسان فريد. هو القيمةُ الكُبرى في كل هذا الوجود لأنه شخصٌ في روحٍ وجسد، وميزتُهُ الكُبرى هي شخصُهُ. أقولُ روحي، أقولُ جسَدي، أقولُ عيني، أقولُ رأسي، أقولُ أذُني، أقولُ فمي، أقولُ فِكري، أقولُ ذِهني، أقولُ منطِقي، أقولُ مخيّلتي، أقولُ ذاكرتي، كل شيءٍ يُنسَبُ الى شخصي.شخصي هو المهم.
في رأينا الأرثوذكسي القَويم نقولُ إن المرأة حينما تحبَل يتدخّل الله فيخلقُ في رحمِها شخصاً فيهِ روحٌ خلَقَها الله، وجسدٌ مأخوذٌ من الوالِدَين. المهم إذاًهو الشخص الذي يَحوي الروح والجسد. الروحُ مهمة والجسدُ مهم وهما موجودان في الشخص. النبرةُ إذاً توضَع على الشخص لأنه هو الذي يُوَحّد بقوة الله، الروح والجسَد.
ضلَّ الفِكر الغربي المعاصِر، فأخذَ يفصل بين الروح والجسد ويفتّش عن نقطة الإرتباط بين الروح والجسد كما فعل ديكارت فأفسَدَ العِلمَ والفِكرَ والفلسفةَ في أوروبا. هذه الفلسفات الضالّة أوصَلَتنا الى القول بأن الفِكرَ هو نِتاجُ الدماغ ونِتاجُ الجسد، وهو ظاهرةٌ على ظهر الجسد والنشاط الجسدي.
الروحُ والجسَد متّحدان اتّحاداً كاملاً في الشخص ولا يلتقيان في نقطةٍ معيّنةٍ من الدماغ أوما حول الدماغ، هذا ضلالٌ مُبين. الجسدُ برمّتهِ أداةٌ للروح. الروح والجسد لا يلتحمان اصطناعياًولا يقبَلان الإنفكاك بصورةٍ صناعية، يبقيان متّحِدان حتى الموت ولا يفرّقُ بينهما إلا الموت وذلك مؤقتاً فقط.
إرتكب التطوّر الفكري المعاصِر أخطاءً فاحشة أدَّت الى نتائجَ وحشيّة. منذ القرن الثامن عشر إتّجهَ الفكرُ نحو الفردية ونحو الدولة وكانت من نتائج ذلك ضلالات عديدة. قَويَت الفردية فصارَ التركيزُ على الفرد ولكن على الفرد كأداةٍ في الدولة. جرى التركيز على الدولة فصارت الدولة مَعولاً كبيراً والبشرُ فيهِ أدوات. إنتهت الثورة الفرنسية بظهور نابوليون بونابارت الذي اكتسح أوروبا وعادَ خائباً، لكنهُ أيقَظَالعَداوات والقوميّات فنشأت القوميّة الجرمانيّة الألمانية المتطرّفَة مزوَّدةً بالعلم والروح العسكرية والنزعة القومية المتطرّفة والإدعاء بالتفوّق الألماني على غيرهِ من الشعوب. ظهرَ بسمارك فأخذَ يتهيّأ للحرب فاحتلَّ فرنسا. ثم ظهر غاليون فأوقعَ العالم في الحرب العالمية الأولى التي دمّرت في أوروبا ما دمّرت، وخرّبَت ما خرّبَت. إنتهى الأمر بظهور هتلر الذي اكتسحَ الدنيا الأوروبية مخرّباً مُدمّراً والذي كان يرنو الى اكتساح العالم واستعبادهِ للعِرق الألماني المتفوِّق علميّاً والمتفوّق عسكريّاً وإذا بهِ يقَع في النكبة. ظهرَ لينين وستالين فأخضعا روسيا للقوة العسكرية فانتهى الأمر بسقوط الإتحاد السوفياتي في الفقر المدقِع والمنافسة العسكرية الفاشلة فهدّدَها الرئيس الأميركي ريغن بحرب النجوم فتراجعَت وانهارت.
تطوّرَ العالم نحو القوة العسكرية فقامت في الدنيا دُوَل جبّارة تهدِّد مصيرَ العالم بالفناء. هذه هي مدَنيّة القرن العشرين. مدَنيّة الحرب، مدَنيّة السَحق. وأين وصل العالم؟ لا شك أن التطوّر العِلمي والثقافي والفِكري والحضاري بلغَ شأناً كبيراً جداً ولكن هذا التطوّر نحو الحرب ونحو التهديد بفناءِ الكرة الأرضية هو أيضاً من سِماة هذه الحضارة الفاسدة. هناك سلبيات الى جانب الإيجابيات منذ القرن الثامن عشر وحتى اليوم، فالعالم قد وقف مراراً على شفيرِ الهاوية.
إلى أين انتهينا في القرن العشرين؟ إلى سحقِ الإنسان. إنتشرت في العالم المسكرات والمخدِّرات والأدوية المهدّئة للأعصاب. الوضع العالمي لا يبشِّر بالخير كثيراً،فالإنسان في هذا العالم مسحوقوالقلَق يُساور الأغلبية الساحقة من البشر. الناس مسحوقون يكدّونَ في الليل والنهار ساعينَ وراءَ لقمةِ العيش ولا يصِلونَ إليها كما يجب. الإنسان المعاصر مسحوقٌ، مسحوق، مسحوق.
الإنسان المعاصر يركضُ ركضاً سريع الخطى، ولكن هذا الركض للسَعي نحو النمووالتكامل يُخفي وراءَهُ حقيقةً أزليةً إلهية ألا وهي أن الإنسان منذ طفولتهِ يشعُر بالنقص، بالفراغ، بالقلق، بالحاجة الى التكامل، الى النمو، الى السموِّوالى بلوغ الأعالي. هذا الشعور الواعي والغير الواعي يُخفي حقيقةً أبديةً أزليّةً مهمةجداً وهي أن الإنسان هو صورة الله، وهو كصورة الله يسعى دائماً لبلوغ الأصل ولبلوغ الله.
في الإنسان صورةُ الله، شَوقٌ الى الله أصلهِ. هكذا خلَقَنا الله، خلَقَنا الله لنشتاقَ إليه، لنَصِلَ إِليه، لنَصبو إليهِولنبلُغَ إليهِ، ولكن كيف؟ ليس بالأعمال المادية والحضارة المادية بل بالحضارة الروحية. الحضارة الروحية هي التي تليقُفي الإنسان. خطيئة الإنسان هي التي تجعلهُ ينحرف عن السبيل القَويموتجعلهُ يسعى لسدِّ فراغهِ الداخلي ولِسَدِّ نقصِهِ الداخلي بأشياءَ خارجية. هذا الشعور العميق في الإنسان هو في الحقيقة سعيٌ الى الله وتَوقٌ الى الله ولكن الخطيئة هي التي تجعلُنا ننحرف نحو الأشياء الدُنيوية، نحو العالم.
كلُّ شيءٍ خارجَ مملكةِ الروح هو انحرافٌ. الحضارةُ الحقيقية هي حضارة الروح لا حضارة الجسد. عبثاً حاولَ الناس إنكار وجود الله وإنكار وجود الروح. عبَثاً حاول الناس تحويل الإنسان الى كائنٍ مستقلٍّ عن الله قائمٍ بحدِّ ذاتِه بدون حاجةٍ الى الله لهُ المجد والإكرام.
قِيلَ إن الإنسان هو من أصلٍ حيواني، قيلَ إنهُ شمبانزي قد تطوّر. لماذا؟ ليُنكر وجودَ الروح. ولكن هذا كلامٌ عبَثٌ. الشمبانزي لا يستطيع أن يصيرَ إنساناً ولو بعد مليارات السنين. أنثى الشمبانزي تَلِدُ من الوراء وأنثى الإنسان تَلِدُ من الأمام،فكيف يمكن تحويل أنثى الشمبانزي الى أنثى الإنسان؟ هذا مستحيل. اللهُ وحدَهُ قادرٌ على ذلك والله لن يفعلَ ذلك لأن الشمبانزي وإن تحوّلَت الى أنثى إنسان تبقى بلا روح. من أين نأتِها بالروح؟ هذا كلامُ ضلال. في هذا العالم لا توالُد بين الحيوان والإنسان. تقدّمَ الطبُّ كثيراًاليوم وهناك أولاد الأنبوب فليجرِّب العُلماء والأطباء أن يجعلوا أنثى الشمبانزي تحبَل من الإنسان. هذا مستحيل!ولذلكفالإنسانُهو مستقل. الإنسانُ إنسانٌ بروحِه.
قالوا إن الفِكرَ هو ظاهرة ملحَقة بالجسد. الأبحاث الطبية والبيولوجية لم تُثبت ذلك إذ لم يُثبَت أننا نستطيع أن نقرأ الفِكرَ في الدماغ أو في أي مكانٍ من الجسم. هناك تفاعلات بيولوجية كيميائية فيزيائية في الجسم تُرافِق النشاط الذِهني ولكنها ليست النشاط الذِهني. لو كانت هي النشاط الذِهني لكنّا نستطيع أن نقرأ الفِكرَ في هذه التفاعلات والتحوّلات.
الإنسانُ إِنسانٌ بروحِهِ لا إِنسانٌ بجسدِهِ. اليومُ لدينا حوادثَ عديدة لأمراضٍ نفسية لا علاقةَ لها بالجسد تؤثّرُ في الجسد بدون أن يكونَ السببُ جسَدياً. ولكن الإنسان شخصٌ في روحٍ وجسدٍ فما يقَع في روحِهِ يؤَثّر على جسدهِ، وما يقَع في جسَدهِ يؤَثّر في روحهِ بسبب وحدَة الشخص. طبيبٌ ماهرٌ في بيروت أجرى فحوصاً تامة جسدياً على إنسانٍ مُصاب بنوباتٍ نفسية فكانت النتيجة سلبية، فأُحيلَ الى الطبيب النفسي فشُفيَ.إستغربَ طبيبٌ آخر كيف كان ذلك وجسمُ المريض كان برمّتهِ يتألّم ويشكو. حارَ هذا الطبيب في تفسير الأمر ولكنهكان مؤمناً بأن الإنسان ذو روح. هذان الطبيبان هما مؤمنان، فاكتشفا بنفسَيهما أن هناك نَفساً تؤثّر في الجسد. إنسانٌ ألمعيٌّ مولعٌ بالمطالعات إنزعجَ صحياً فأوصاهُ الطبيب بإجراء فحوصٍ عامة، أجروا الفحوص فإذا بالنتيجة سلبية. قُلتُ لهُ: أَوقف المطالعات، أَرحْ أعصابك، نَمْ، كُفَّ عن المطالعة،فحالةُ الإجهاد عندك هي التي تؤثّر على أعصابِك وأعصابكَ تؤثّر على باقي جسمك.ليسَ فيك عطب موضِعي، العطَب عندكَ وظائفي لأن وظائفكَ تتأثر بمجهوداتك الفكرية الذهنية العقلية.إسترح قليلاً وليسترح جسدك فتعود الى نشاطكَ المعتاد بلباقة وباعتدال. وأمثال ذلك كثيرة جداً.
النفسُ هي الأساسوالنفسُ هي التي تجعل من الإنسان إنساناً. الرب يسوع قال: “الجسد لا يُجدي نفعاً الروح هو الذي يُحيي”. الروح هو الذي يُحيي الجسد، لا الجسد الذي يُحيي الروح. الروح هي عند الإنسان مصدرُ الحياة في الجسدومتى خرجَت الروح، ماتَ الجسد.
الشخص هو الأساس. ولذلك كل الأفكار الهدّامة هي مُعدّة للفشل. هذه الأفكار الهدّامة هي التي خرّبَت مسيرة الإنسان فجعَلَتهُ كائناً جنسيّاً، حيواناً.هو ليس بحيوان،هو أدنى درجات الحيوان. الحيوانُ جنسيٌّ باعتدال، أما الإنسان الساقط جنسيّاًفيرتكب أفعالاً تهدِمُ حياتَهُ وشخصَهُ. والإنسان هو الإنسان، ولا يُمكن أن ننزل بهِ الى مستوى الحيوان.
يتكلم كثيرون في العالم عن حقوق الإنسان.وأين حقوق الإنسان والإنسان مجهودٌ مَنهوكٌ مسحوقٌ في العالم كلّه؟ حقوقُ الإنسان الحقيقية هي الحقوق الروحية التي تحمي روحَهُ. روحُ الإنسان هي الأهم، روحُ الإنسان هي التي تستحق كلَّاحترام وتقدير. ما دامَ الإنسان يعيشُ في الخوفِ والرُعب من حربٍ عالميةٍ ثالثة تُفني الكرة الأرضية، فأينَ هذه المفاهيم الإنسانية؟ يتكلم كثيرون عن حقوق الإنسان والإنسانُ بالنتيجة بلا حقوق. الحقوق الحقيقية للإنسان نجِدُها في المسيحية.
المسيحية تعلّمُنا أن ثمن الإنسان هو دمُ المسيح وأن يسوعَ المسيح هوابنُ الله الحيّالذي صارَ إنساناً من أجلنا وقدَّمَ نفسَهُ ذبيحةً على الصليب ليشترينا بدمهِ الكريم ويُعطينا جسدَهُ ودمَهُ طعاماً وشراباً. هنا القيمةُ الحقيقية للإنسان. يسوع إبن الله يبذُل نفسَهُ من أجل الإنسان ومن أجل كلِّ إنسانٍ. هنا نجِدُ القيمة الحقيقية لكل إنسانٍ. ما من إنسانٍ على الأرض في المسيحية إلا ويستحق الإكرام. المجنون والمعتوه والأهبل. كل إنسانٍ يستحقُ منا الإحترام والإكرام لأن يسوع اشتراهُ بدمهِ الكريم وماتَ من أجلهِ. هذا الإنسان الذي ماتَ المسيح من أجلهِ هو القيمةُ العُليا على الأرض، هو المهم.
السوق الأوروبية المشتركة ورؤساؤها المنحرفون يقولون إنهم مرتبطونَ بالحضارة اليونانية الرومانية الوثنية.هم يُنكروا بذلك إرتباطهم بالمسيحية التي صنعَت دُوَلهُم وشعوبهُم، ومَدّنتهُم ورقّتْهُم. هذا الإنحراف السياسي عند السياسييّن خطيرٌ جداً. على الكنيسة أن تواجهَهُ بنشاطٍ أقوى لكي تُعيد للإنسان كرامتَهُ واحترامهُ. الإنسانُ كشخصٍ هو الثروة الكبرى في العالم. لكل إنسانٍ في العالم كرامتُهُ ومكانتُه واحترامُهُ. لا يجوز أن نتخلّى عن كرامةِ الإنسان في العالم ولا يجوز أن نحتقرَ أي إنسانٍ في العالم، هكذا تُعلِّمُ المسيحية. أما الدُوَل المدجَّجة بالسلاح والتي تهدِّد مصيرَ العالم فهي عدوُّ الإنسان لأنها تحتقرُ الإنسان. يُنادى فيها بحقوق الإنسان وهي تصنعُ الأسلحة الفتّاكة والصواريخ والقنابل الذريّة،ولماذا؟ لتُفنيَ الإنسان. هذا حرام. هذه المناداة بحقوق الإنسان خِداعٌ وإن كان البعضُ مثالي ومُخلِص إلا أن رؤساء الدُوَل غيرُ مُخلصين. الرئيس ترومن ألقى القنابل الذريّة على هيروشيما، تشرشل نصحَ أميركا بإلقاء القنبلة الذريّة على روسيا قبل اختراع روسيا للقنبلة الذريّة. الرؤساء العالميّون يرتكبونَ الجرائم بحقّ شعوبهِم وبحقّ المسكونة. النظام العالمي السياسي اليوم لا يقومُ على الفضيلة ولا على البِرّ ولا على القداسة، فيه من المساوئ ما فيه. لا أُريد هنا أن أستفيض في الحديث عن مساوئهِ الكثيرة عمّا فيهِ من إساءات الإستعمال، عمّا فيه من الإستغلال، عمّا فيهِ من الإستثمار وعمّا فيهِ من الخنق للشعوب الأخرى.
مَن يُصلِح النظام العالمي؟ لا صلاحَ للنظام العالمي إلا بيسوع المسيح لهُ المجد. إن لم يضَع رؤساءُ العالم المسيح نُصبَ أعيُنهِم، فسيَسيرونَ بالعالم إلى التهلِكة. العالم اليوم بحاجةٍ إلى يسوع المسيح،ويسوعالمسيح لهُ المجد هو الحل للدول وللأفراد وللبشر أجمعين. البشرية جمعاء بحاجةٍ إلى التخلّص من الفردية ليتعلّمَ الناس حبَّ بعضهم بعض كأشخاصٍ وكدُوَل وكأمم. الفرديةخطرٌ كبيروالأنانية خطرٌ كبير. العالمينحرف كثيراً، العالم يتخلّى عن يسوع لمصلحة إبليس،والمطلوب هو العودة الى يسوع المسيح.
يسوع المسيح وحدَهُ يحترمُ حرية الإنسان. الإنسانُ كائنٌ حرٌّوما يميّزهُ عن الحيوان أشياءَ عديدة ليس الشخص والروح فقط، إنما الحرية التي هي من صميم وجود الإنسان. لماذا يستطيع الإنسان أن يتطوَّر ويبتكر ويخترع ويصنع الحضارات والمدنيات والثقافات؟ لأنهُ كائنٌ عاقلٌ حرٌّ. العقلُ بدون الحرية يسقُط في شيءٍ من المحدودية المحدَّدة، يتصرّف عقلياً بشيءٍ من الغريزيّة. أما الحرية،فهي التي تُعطي العقل إمكانيات التطور من حالٍ الى حال، وإمكانيات النمو والصعود في سلَّم الرقي المدني والحضارة والثقافة وحتى الروحانية والأمور الدينية.
الحرية مسألة حيويّة جداً. إنسانٌ بدون الحرية هو حيوان. العقلُ وحدَهُ لا يكفي. الحرية جزءٌ لا يتجزأ من وجودِنا الشخصي وكل اعتداءٍ على الحرية هو اعتداءٌ على الإنسان بحدِّ ذاتِه. الحرية تُناقض الفلسفات المادية بكل أنواعِها وبكل صُوَرِها. كل الفلسفات التي حاولت أن تجعلَ من الإنسان مادةً أو كائنا يُشبِه المادة ويتصرَّف تصرُّف العالم المادي، سقطت ولا قيمةَ لها لأن الإنسانَ حرٌّ.
بولس الرسول كان ألدُّ أعداءَ الكنيسة، أرادَ مراراً أن يُفنيَها ويُبيدها ويقوِّض أركانهاوفي لحظةٍ من اللحظات إنقلب الى أكبر مبشِّر بالمسيحية، إنقلبَ الى بطل المسيحية الأول. رهنَ حياتَهُ برمّتِها ليسوع المسيح لدرجةٍ أصبحَ معها بولس يعني: الخادم المستميت، الفدائي الكامل ليسوع المسيح. مريم المصرية سقطت في الدعارة وتدنَّست،وفي لحظةٍ من اللحظات انقلَبت الى قديسة فعاشت في الصحراء ٤٧ عاماً في الصوم والصلاة والإرتفاع والإرتقاء الى الله. سمعان العَمودي والعَموديون عاشوا على أعمدةٍ معرَّضين لتقلُبات الطقس. سمعان العَمودي عاشَ على العَمود في منطقةٍ معرَّضة في الشتاء للرياح والبرد وفي الصيف للحر، وكان يقضي الصوم كلهُ أي ثماني وأربعين يوماً بلا طعام ولا شراب. هذا الراعي الذي انقلبَ الى ناسكٍ كبيٍر يعيشُ وقتَهُ في الصلاة، يأكل العدس المنقوع، كيف عاش؟ كيف ارتقى؟ أين الجسد؟ أين الجسد لدى بشرٍ من هذا النوع؟ الشهداء المسيحيون بالملايين وعشرات الملايين ماتوا من أجل المسيح وضحّوا بأجسادهم من أجل المسيح ففضَّلوا الموت من أجل المسيح على أن ينكروا المسيح. هؤلاء عاشوا للجسد أم عاشوا للروح، أم عاشوا ليسوع المسيح؟ هؤلاء الذين يتهافتون على منابر الشهادة هم روحانيون لا جَسَدانيون.
الإنسانُ مصقولٌ في الأساس ليكونَ صورةً كاملةً عن الله في التقوى والعبادة والإيمان والرجاء والمحبة. يسوع وحدَهُ يُعطي معنىً لحياةِ الإنسان. يسوع وحدَهُ يرفعُ قدرَ الإنسان. يسوع وحدَهُ يصنعُ من الإنسان كائناً مثاليّاً كاملاً، إنسانًا يُحقّقُ الإنسانية الكاملة في شخصهِ. يعيشُ في المحبة، يحب أعداءَهُ، يحب الناس كلَّهم، يحب الجمادَ والنباتَ والحيوانَ والإنسان، يحب خليقةَ الله كلَّها ويرى مجدَ الله في الكونِكلِّه في كل مكانٍوفي كل زمان. الإنسانُ المؤمن بيسوعَ المسيح وحدَهُ يرتقي في سلَّم الحضارة والمدنية والثقافة الحقيقية لا في سلَّم الحضارة المادية الفانيَة.
كلُّ ما على هذه الأرض مُعَدٌ للفناء والزوال. كل الأمم قبلنا ماتت والكل سيُدفَنون ولذلك لا يُمكن أن يتصوَّر عاقلٌ أن الإنسان الذي بلغَ درجةً كبيرةً من الرُقي العلمي والفلسفي والفني والأدبي ينتهي كما تنتهي الكلاب. الإنسانُ الذي أنشأَالملايين من الكتب والذي أنشأَ الحضارات والمدنيات والثقافات والفكر والفلسفة والأدب والشعر والموسيقى، لا يمكنهُ أن يُفنى كما تُفنى الكلاب. الإنسان الذي يقرأ ويكتب ويتكلم وينطق، لا يمكن أن يكونَ من أصلٍ حيواني. لا يمكن أن نتصوَّر يوماً أن الشمبانزي سينطق ويؤلف ملايين وعشرات الملايين من الكتب. كل هذا الكلام هراءٌ منثورٌ، هراءٌ لا قيمةَ لهُ. كل هذه الفلسفات وهذه الأقوال تنحرُ الإنسان.كل المادييّن من أيّ لونٍ كان لونهُم المادي: فلسفي، إقتصادي أو إجتماعي هم أعداءُ الإنسان. كل مَن يقول إنالشمبانزي هو أصل الإنسان أو أن الإنسان كائن إقتصادي أو كائنٌ جنسيٌّ أو كائنٌ إجتماعيٌّ بدون إعطاء أهمية للروح فهو يقتلُ الإنسان. الفلسفات المادية والأفكار المادية هي التي تُسهِّل للشعوب الإقتتال والطمَع والكُفر ببعضِها بعضاً. أما المؤمنون فإنهم يؤمنون بأن الله هو كل شيء ويسلِّمونَ أمورَهم الى الله. كل الذين يُنزِلونَ قيمة الإنسان الى الدرجة الحيوانية أو المادية ينحرون الإنسان. مهما تكلمَ هؤلاء عن الإنسان وحقوق الإنسان فهُمْ أعداءُ الإنسان لأنهم لا يعتبرونَ الإنسان كائناً روحيّاً.
في كلالحروب التي حصَدت عشرات الملايين، هل كان قادة هذه الحروب يؤمنونَ بأن الإنسان كائن روحيٌّ يستحقُّ الإحترام؟ هل كانوا يؤمنون بأن هذا الإنسان الذي قتَلوه في الحروب هو صورةُ المسيح؟ هو مَفدِيُّ المسيح؟ هو الإنسان الذي اشتراهُ يسوع بدمهِ الطاهر الكريم؟
كلُّ فلسفةٍ غير فلسفة يسوع هي باطلة. الفلسفةُ الحقيقية هي الإيمان بأن الإنسانَ مَفدِيُّ يسوع المسيح، وبأن المسيح اشتراهُبدمهِ الكريم، لهُ المجدُ والإكرام والسجود.
الفصل الثاني
الإنسان هو القيمة العظمى
الله لهُ المجد هو خالقُ كل الأشياء. هذا العالم البديع الذي لم يستطِع العُلَماء بعد سبرَ أغوارهِ هو خيرُ دليلٍ على أن الله هو الخالق.العلمُ يتقدَّم ولكن إدراكُ نهاية هذا العالم مستحيلة، لأن الله القادر على كل شيء والعظيم،قد خلقَ شيئاً يليقُ بعظمتِه وبقدرتهِ.
كل هذا العالم ينطقُ بعظمةِ الله الذي خلَقهُ ووضعَ لهُ نظاماً دقيقاًبحكمة، هو القادرُ على كل شيء. كيف يتحرَّك هذا العالم؟ كيف هو موجود؟… كلُّ ذلك خُلِقَ بحكمةٍ فائقة.
هذا العالمُ هو عالمٌ ماديٌّ لا يملك في ذاته القدرة على الوجود. هو موجودٌ بقدرةِ القادر على كل شيء. المادَّة جامدة تتحرّك وفقًا لقوانين فيزيائية ولكنها في النتيجة هي عالم الجماد، عالم الجماد الذي لا يتنفّس ولا يُعطي حياة.
الحياة تتميّز عن المادة. توصَّلَ العلماء اليوم إلى دراسة الخليَّة الحيَّة ولكنهم ما استطاعوا بعد إحياء خليَّة قد ماتت منذ لحظات. لم ولن يستطيعوا في أي يوم من الأيام أن يخلقوا الحياة. ستبقى الحياةُ لغزاً الى الأبد ولن يحلُّهُ العلم. الخليَّة الحيَّة هي مؤلفة من موادٍ عديدة، كيف اجتمعت هذه المواد العديدة في خليَّةٍ صغيرة لا تُرى إلا بالمجاهر؟ كلُّ هذا سرٌّ عجيب.وبالرغم من التقدُم الصِناعي والعِلمي والطبي يبقى الإنسان عاجزاً عن خلقِ الحياة.
العلمُ عاجزٌ عن بثِّ الحياة في المادة حتى عن بثِّها في خليَّةٍ حيَّة ماتت منذ لحظة صغيرة. إن كان العلمُ لا يستطيع أن يُحيي خليَّةً تامة التركيب، فهل يستطيع أن يخلق خليَّة حيَّة من لا شيء؟ هو عاجز. فلذلك كل الكائنات الحيَّة على وجهِ الأرض هي مُعجزةٌ كبيرة، والمعجزة الكُبرى هي الإنسان.
الإنسان كائنٌ حرٌّ يفكر ويخترع ويُبدِع. هو على صورة الله الخلّاق الكلّي القدرة. صورة الإنسان المشابهة لأصلها محدودة بينما الأصل غير محدود.إن الإنسان حرٌّ كما أن الله هو حرٌّ، وخلّاقٌ كما أن الله خلّاق، ولكن يبقى كل واحدٍ منهما ضمنَ إطارهِ الخاص. الله، لهُ المجد، هو فائقُ القدرة. عجزَ الإِنسان عن خلقِ الحياة وهذا أمرٌ أكيدٌ.لا نستطيع إلا أن نقول أن لها خالقاً، وخالقُها هو الله.
قال لي مرة الدكتور الألمعي روجيه صايغ: كلُّ شيءٍ في جسم الإِنسان يمجِّد الله. ما هي العين؟ هي عضوٌ صغير نُجري فيه العمليات ونحن ما زلنا نجهل تركيب العين. سبحان الخالق! العين عضو دقيق يشتغل لسنواتٍ عديدة وبفنٍّ رائع وهو من أدقّ الأعضاء في جسم الإنسان.
العلمُ المعاصر المنتفخ لم يستطِع بعد أن يكتشفَ كلَّ ما في العين، وهو عاجزٌ عن أشياءَ عديدة. حقّقَت العلوم إنتصارات عديدة ولكن ما زال المجهول كبيراً جداً. إذاً، هذا العالم يمجّدُ الله. الإنسان ككلٍّ هو معجزة المعجزات. في الدرجة الأولى هو معجزةٌ بروحهِ،وفي الدرجة الثانية بجسدهِ. إن نجحَ العلمُ بعد العديد من السنين في تركيبِ خليَّةٍ واحدة، سيكون عاجزاً عن جعلِ هذه الخليَّة تنتج جسماً كاملاً. قد تنتج خلايا مماثلة لها بالتكاثر ولكنها لن تكون صالحة لخلقِ جسمٍ ذي أعضاء متعدِّدة.
الإنسانيتَّجهُ نحو الخارج لا نحو الداخل،ولو كان يلتفتُ الى الداخل واهتمَّ بتركيبة أعضاء جسمهِ وتفاعلاتها لمجّدَ الله كثيراً ولكنه يهتمُّ بالسخفات والتفاهاتوبالعمل اليومي الذي يشغلهُ عن العمل الجدّي الداخلي.
في العام 1804أَقام الشباب الفرنسيون تمثالاً للعقل وسمّوه إله العقل. هؤلاء الملحدون ألَّهوا العقل.ومَن خلقَ العقل؟ الشيطان يلعبُ بالناس. هل العقل موهوبٌ بقُدرةِ ذاتِه؟ النشاط الذهني هو من طبيعةٍ غير طبيعة النشاط الجسدي. الجسدُنراه،فهل نرى الفكر؟ هل نرى العقل؟ كلُّ ما هو روحي وذهني وعقلي لا نراه.دماغ الفيل أكبر من دماغ الإنسان،فهل يستطيع أن يخترعَ شيئاً أو هل يمكن أن يُطوِّرشيئاً ليصيرَ مخترعاً؟ الفكرُ يتميَّزُ عن الجسد.
وهل نستطيع أن نقرأ الفكر في الدماغ؟ هل يستطيع العلماء أن يعرفوا ما في الباطن من جرّاء النظر في الدماغ والجسم؟ يمكننا أن نقرأ أحيانًا على وجه الإنسان بعض العلامات ولكن لا نستطيع أن نقرأ قراءةً تامّةً، لا نستطيع أن نعرف ما في جوفِ الإنسان إن لم يعبِّر هو عن ذلك بالكلام أو بالحركات أو بالملامح. جَوف الإنسان أعمق بكثيرٍ من الجسم.
قالوا إن الإنسان يختلفُ بين قومٍ وقوم. نرى الألمان مع كل تفوّقهم العلمي والقَومي قد وصلوا الى النازيّة التي سمحت لنفسها باحتقار الشعوب وإهانتها وإبادتها. هذا هو العالم الحر، عالم الإستعباد، عالم الفتوحات، عالم قهرِ الشعوب. هذا العلمُ الكاذب أضرَّ بالبشرية كثيراً.
وقال آخرون إن الإنسان كائنٌ جنسيٌّ. هل هو حيوان؟ هل يجوز إنزال الإِنسان الى مستوى الحيوان؟ وقال غيرهم إنهُ كائنٌاقتصاديٌّلأنهُ آلة في معمل الدولة. فلنتذكر جيداً الديكتاتوريات الخطيرة التي سحقت الإنسان في روسيا وفي ألمانيا وفي سوى ذلك من البلاد التي حكمَها الطغاة. كل هذا هوضدَّ الإنسان.
نتكلم عن حقوقِ الإنسان، وأين حقوق الإنسان؟ في الحروب؟ في الأسلحة الذريّة؟ أهذه هي حقوق الإنسان؟ أين الحرية؟ وأين الكرامة الإنسانية؟ تجارة السلاح اليوم هي التجارة الكبرى عند الدول الكبرى.في عملٍ وحشيٍّ يذهب مئات الملايين من البشر في لحظةٍ واحدة. الإنسان مسحوقٌ في كل العالم.
وأين العدالة الإجتماعية؟ غير متوفرة. طبقاتٌ فوق السحاب وطبقاتٌ تحت الأرض. البطالة تعمُّ الدوَل فضلاً عن عدد اللصوص والسكارى ومدمنو المخدِّرات والبطّالون والتافهون والتنابل.هناك أقلية من العالم تحتكر ثروات العالم، وباقي الناس دُمى في يدها.
الأعصاب مرهقة في كل العالم، والأدوية المهدّئة للأعصاب صارت واسعة الإنتشار. يستعمل الناس المخدِّرات لكي يغيبوا عن الوَعي وعن الواقع المر، لكي يغيبوا عن أنفسهم وعن الوجود.في روسيا نفسها، سبب انهيار النظام وانهيار الإتحاد السوفياتي هو نظامُ سحقِ الإنسان. كل هذه السلبيات في التاريخ بعد الثورة الفرنسية هي خطرة على مصير البشرية. لا نعلم ماذا يجري في هذا الكون. هل أُلغيَ التعذيب في العالم؟ لا، مازال التعذيب قائماً. هل أُزيلت الحروب؟ لا. هل توقف الناس عن اختراع القنابل الذريّة والصواريخ؟ هل من فائدة منها سوى إبادة الشعوب بعضها لبعضٍ؟
نحن في مأزقٍ تاريخي كبير. الإيجابيات كثيرة وخاصة في العلوم ولكن لا ننسى الحروب والدمارات والظروف القاسية ووجود طبقات شعبيّة في وضعٍ مادي عادي أو دونَ العادي، أو دون مستوى الفقر، أو في مستوى التسوّل. العدالة تكون في توزيع الثروات توزيعاً عادلاً بين المواطنين بصورة يتأمَّن العيش بكرامة لكل مواطن ويتأمَّن التطبيب الرسمي.الرقي الحقيقي يقوم في الداخل لا في الخارج.الدولة تهتمُّ بالمصلحة العامة، ولكن ما هي المصلحة العامة؟ مصلحة الفئات الحاكمة ومَنْ أولاها الحكم، ومن دعمَها لاستلام الحكم.
بالرغم من كل هذه الظروف البائسة في تاريخ القرنَين التاسع عشر والعشرين بقيَ الشعب مؤمِناً بنسبة ٍكبيرة. فشِل الإلحاد ولم يستطع أن يسيطر إلا على فئاتٍ محدودة تافهة تعيشُ بعقلٍ بارد لا بعقلٍ حار.الإنسانُ كائنٌ حرٌّ في تركيبهِ الأساسي، في طبيعتِه.هذا الإنقلاب الجذري في تجربة مريم المصرية وانتقالها الى ناسكة كبيرة تعيش في البريّة، يعبِّر عن كَونِ الإنسان كائناً حرّاًباستطاعتِهِ أن ينتقل من أقصى اليمين الى أقصى اليسار، ومن أقصى اليسار الى أقصى اليمين.
بولس الرسول عدوُّ الكنيسة الأكبر اضطَهد المؤمنينَ وكان شاهدًا على تعذيباتهم وعلى قتلهم، وفي لحظةٍ من اللحظات انقلب الى صاروخٍ مسيحي يخترقُ الفلسفة اليونانية ويخترق الناموس اليهودي ويربح العالم بيسوع المسيح.
النساك الحبَساء عاشوا النسكَ الحقيقي، كيف يعطون الجسد الأهمية الكُبرى والإنسان يستطيع أن يعيش لروحِهِ لا لجسدِهِ. الروح هي الأساس، الروح هي التي تجعل من الإنسان إنساناً.
قال يسوع المسيح: “الجسد لا يُجدي نفعاً، الرُّوح هو الذي يُحيي”. روحُهُ الحيَّة هي التي تُحيي جسَدَهُ. جسدهُ أداةٌ في يدِ روحهِ. الروح لا تُرى بالعين ولكنها تُرى بالوعي الداخلي وتُدرَس بالوعي الداخلي.الإنسان يعي ذاتهُ، يَعي أنهُ إنسانٌ متفوّق على كل الطبيعة، أي أنهُ إنسان ذو عقلٍ وفِكرٍ خلّاق. خلقَ الدُوَل، خلقَ الأمم، خلقَ الحضارات، خلقَ المدنيّات، خلقَ الكتب والجامعات والعلوم والثقافات وبنى الأبراج العالية وصعد بالمركبات الى الفضاء… الإنسان عملاقٌكبير ولكن رغم كل هذه العظمة تبقى فيه مناح الضعف، ويا للأسف الشديد.
الإنسانُ يشعرُ بروحِه وبشخصِه وبقِواه العقلية والروحية بحسٍّ داخليٍّ خاص لا علاقةَ للمادة بهِ مئة في المئة. أُحسُّ بكل كياني روحاً وجسداً، أحسُّ بأني لست جسداً فقط. أُحسُّ بأن فكري عالمٌ آخر غير عالم جسدي. أنا واحدٌ، روحٌ وجسدٌ في شخصٍ واحدٍ. أنا واحدٌ بسبب شخصي البشري الإلهيّ السِمات الذي يضمُّ روحي وجسدي فيقيمان معاً مدى الحياة. الروح هي الأهم والروح موجودة.
الإنسان هو مَلِكُ الخليقة كلها، هو الذي يستمتعُ بها ويتصرَّفُ بها ويعملُ فيها ويخدمُ فيها.والخدمة الحقيقية للإنسان تكون بتآلفِ الشعوب بدون تمييّز، بمحبة ووئام.
الإنسان كائنٌ روحانيٌّ خلقَهُ الله شخصاً فيهِ روح وجسد منذ اليوم الأول للحبل. يولد الحيوان قادراً على خدمة نفسهِ، قادراً على الرضاعة دون مساعدة أمهِ بينما الطفل لا يستطيع ذلك إلا بمساعدة أمهِ. يلِدُ الإنسان طفلاً بلا إدراك، بلا وعي،فيتولّى أهلهُ شأنهُ مدةً من الزمن، ثم ينمو ويكبر وفي الثانية من العمر أو بالأحرى ما بين الأولى والثالثة من العمر يستطيع أن ينطق بعدة لغات.
والإنسان في الطفولة يطرح أسئلةً فلسفية كثيرة تعجز أمهُ أمامها. ترتكب الأمهات أخطاء إذ يعجزنَ عن الجواب فينتهرنَ الأطفال وبذلك يضرنَّهم لأنّهن يطفئنَ لديهم العقل الفلسفي. فتاةٌ في السادسة من العمر أعيَت أهلَها فعرضوها عليَّ قائلين: هذه الفتاة تعجزنا بأسئلتها. فاستدعيتها إليَّوإِذا بي أتفاجىء من أسئلتها العديدة وهي أسئلة فلسفية لاهوتية عميقة. أجَبتُ على عددٍ كبير منها وبلباقة، وبقيَت أسئلة معجزة.فلذلك أعلنتُ للفتاة أنَّ هناك ما نستطيع نحن أن نحلِّلهُ ونُدركهُ، وهناك أشياء فوق طاقتنا البشرية لا نستطيع تحليلها لأنها عسيرة على البشر تتطلّبُ الله لهُ المجد، وهكذا ارتاحت نفسها.
هناك إذاً مسائلَ نستطيع أن نجيبَ عليها، ومسائل لا نستطيع أن نجيب عليها. على الإنسان أن يُقنِع الآخر بهذا التحليل للأمور. يفتّش الطفل عن السبب ونحن يجب علينا أن لا نطمسهُ.علينا أن نساعدهُ على الجرأة على التعلم والنمو. ولذلك على الأمهات أن يساعدنَ الأطفال على التفكير الفلسفي في الطفولة.
الإنسان هو إنسان، وهو صورة الله الخالق العظيم، ولذلك ما في العالم من كلام عن حقوقِ الإنسان يبقى الى حدٍّ كبير كلاماً أجوفَ. قد يكون هنالك جمعياتٍ إنسانية طابعها إنساني حقيقي وتكون مفيدةً جداً، ولكن ليست كلُها بسويَّةٍ واحدة. سبَّب الوضع الحاضر العالمي تعدُّد النظريات لصالح الإنسان وفي النتيجة الإنسان عاجزٌ في العالم، لا يستطيع أن يعرف ما وراءه وما أمامهُ.فكلُّ شيءٍ لهُ وجوه متعدّدة.
هل من فوارق بين النَسل البشري؟ألا نرى الرئيس الأميركي باراك أوباما يعتلي سدّة أعظم دولة في تاريخ العالم؟ هو من أصلٍ أفريقي أسود وصار رئيساً للشعب الأبيض الاميركي.
الإنسان فريدٌ من نوعهِ في هذا الكون ولا فرقَ بين نوعٍ ونوع. يكفي أن نأخذَ الإنسان البدائي منذ مولدِهِ وأن نضعهُ في مجتمعٍ حضاري لينشأَ حضاريّاً. فإذاً، الفارقُ الكبير بين الإنسان والحيوان مهمٌّ جداً. خلقَ الله الإنسانليكدَّ ويجِدَّ ويسمو في مدارج العِلم والفكر والفلسفة والأخلاق وكل مناحي الحياة وإن أهملَ شيئاً دفعَ الثمن. يحقّقُ لنفسهِ مكانةً ما ولكنهُ عادةً لا يقف عند حدٍّ، هو طَموحٌيطلُب الأعالي ويودُّ أن يسبح في الفضاء مثل الحمام.
في هذا الكون الإِنسان هو فريدٌ من نوعهِ تماما. الحيوانُ هو الحيوان منذ بدايةِ الكون حتى اليوم لم يتغيَّر ولم يتجدَّدولا قيمةَ لعالم الحيوان لولا الإنسان. لا شك أن في الحيوان عجائبَ عديدة، فالبرغشة مثلاً وأمثالها من الحيوانات الصغيرة جداً لها عيون لا تُرى إلا بالمجاهر. من ركَّبَ هذه العيون الدقيقة الصغيرة التي تُبصِر في الظلام وفي النور؟ إن الله هو الذي خلَقَها. تشمُ البرغشة الرائحة عن بُعد وتفتّشُ عن أي ثقبٍ في الليالي المظلمة الحالكة لتدخلَ وتمتصُ دمَ الإنسان. ما هذه القدرة التي تخترقُ جسمَ الإنسان وتمتصُ الدمَ بينما يعجزُ كلُ أطباء العالم عن سحبِ الدم في الظلام بالرغم من كل الأجهزة الفنيّة الهائلة. فضلاً عن ذلك، جسمُ الحيوان مزوَّد بقدراتٍ خاصة. فالهرة الصغيرة تأكلُ السمك، الجملُ يأكل الصبَّر دون أَن يتأثر، النسور والغربان وما إليها تنهش الجيَف المنتنَة بينما نحنُ لا نستطيع أن نشمَّ رائحتَها عن بعدُ كيلومترات. أنا لا أُنكِر أن في عالم الحيوان أموراً هائلة.هناكَ عجائب في خَلقِ الحيوان ولكن يبقى الإنسان الكائنُ الوحيد المفكِّر.
الإنسان الذي يعيش في البراري مع الحيوان يغنّي مسروراً، أما الإنسان الذي يكدُّ ذهنهُ في الجامعات فهو يعيش مرهقاً.هذا الإنسان فقدَ بهجةَ السرور وبهجةَ الحياة وانهمكَ في العلم والثقافة والفكر. سمَّمَ نفسَهُ بنسبةٍ كبيرة وأرهقَ أعصابَهُ،ومع ذلك يفضِّل الحضارة والمدنيّة والثقافة على العيش في البراري.
الإنسان في أصلهِ سماويٌّ ويرنو الى السماء. لا يشبع من أي شيءٍ في الأرض. هو دائماً مفتِّشٌ عن شيءٍ أقوى. يريد أن يفهم الكون وأن يحتضنَ الكونَ برمّتهِ. الإنسان هو المعجزة الكبرى في هذا الكون وما من معجزةٍ غيره، ولذلك هو صورة الله.
في عمقِ أعماقِ الإنسان شوقٌ الى الكمال، شوقٌ الى الله الغير المتناهي. هذا الشوقُ يلتبس علينا في الحياة إن عشنا خارج التقوى والإيمان، فنطمع في المال، في المناصب، في المظاهر، وفي أي شيءٍ من أشياء هذه الدنيا الفانية. نرى كلَّ الناس يتسابقونَ ويتنافسونَ للبلوغ وللوصول الى المقامات، للتَعالي، للسموِّ، للإرتفاع. هذا شبهُ غريزةٍ في الإنسان ودافعٌ من دوافع الإنسان الرئيسية. لا يرضى الإنسان بأن يبقى على حالٍ ثابتة، فهو يتطوَّر باستمرار في كل لحظة وفي كل دقيقة. هو اليوم غيرُ ما كان عليهِ الأمس وسيكونُ غداً غيرَ ما هو عليهِ اليوم.
التطوّر الحقيقي- كما قال اوبارينOparineعالم الكيمياء الروسي المشهور في أواسط القرن العشرين وأشهر علماء زمانه في هذا الباب :”باب التطوّر موجودٌ في الإنسان لا في الطبيعة والحيوان”. الإنسان الذي يبدأ طفلاً صغيراً لا يَعي ولا يفهم، ينتهي عالماً كبيراً أو فيلسوفاًأو لاهوتياًأو شاعراً أو موسيقياً، كيف هذا؟ كيف يحقِّق كلَّ هذه المآثر في عمرٍ واحد؟ هذا هو التطوّر الحقيقي! باقي الأمور لا تعرفُ التطوّر. عالمُ التطوّر هو عالمُ الإنسان، فلذلك لا تَصُحُّ نظرية التطوّر إلا في الإنسان. الإنسانُ يرتقي.المسيحية أخرجت كمية كبيرة من الحبَساء والنسّاك. هؤلاء هم معجزات الكون الحقيقية وذُروة البشرية. هم الذين آزَروا أجسادَهم لتتمتَّع أرواحَهُم بالرؤية الإلهية.
الناس العاديّون ينخدعونَ بالعلم، بالمظاهر، بالصناعة، بالثقافة، بالمختراعات. كل هذه أحترمُها ولها وزنُها إن كانت خاليَة من العيوب الأخلاقية. ولكن السموَّ الحقيقي هو السموُّ في التقوى والقداسة، فالقداسةُ هي التي توصِلنا الى الله. العلمُ والثقافة هما من صنعِ الإنسان، والإنسانُ ليسَ عبداً لهما. الإنسانُ هو مَن صنعَها وهو سيّدُها، فإذاً علينا أن ننتبهَ دائماً الى الإنسان ونوليهِ الإحترام الكبير. الإنسان هو القيمةُ الكُبرى على الأرض وما تبقّى، كلُّهُ خاضعٌ له.
الأهميةُ للإنسان وأهمية الإنسان بروحِه. أنا لا أُهمِل الجسد، ولا أقول إن الجسدَ بلا قيمة. الجسدُ جسدي ولكني لستُ عبداً لجسدي. جسَدي عبدٌ لروحي التي تحرّكهُ وتُسيّرهُ وتقودُهُ. لا أضع المحراث قبل الفَدّان بل أضع الفَدّان قبل المحراث: الروح هي الأساس، الروحُ هي التي تقودُ الجسد وتصنَع كلَّ شيء.
المجدُ لله الذي جعَلَني إنساناً روحيّاً عاقِلاً، لهُ المجد والإكرام والسجود الى أبد الآبدين ودهر الداهرين، آمين.
الفصل الثالث
الله روحٌ
الله روحٌ، والذينَ يسجدونَ لهُ، بالروح والحق ينبغي أن يسجُدوا. هذا ما قالهُ الرب يسوع للمرأة السامرية. الله روحٌ، ليسَ هو جسداً وليسَ مادةً.
اللهُ روحٌ مُطلَق. الإنسانُ روحٌ نسبيٌّ محصورٌ في جسدٍ فلذلك هو محدود. إن كانت روحُ الإنسان لا تُرى بالعين، ولا تُسمَع بالأذن، ولا تُلمَس باليد، بل بوعيٍ داخليّ فكَم بالحري الله الروحُ المطلَق! الله بعيدٌ عن أن تُحيطَ بهِ حواسُ الجسد. هو فوق حواسَ الجسد. نحنُ نؤمن بهِ بناءً على رؤيتنا هذا الكون.
منذ بداية العالم توصّلَ الإنسان منذ القديم وبالتحليلِ العقلي البسيط الى الإعتقاد بوجودِ خالقٍ لهذا الكون.آمنَ الناس بخالقٍ خلَقَ هذا الكون واختلفوا في تصوّراتِهم. هناك مَن عبَدَهُ في النجوم، هناك مَن عبَدَهُ في القمر، هناك مَن عبَدهُ في الشمس، وهناكمَن عبَدهُ في ظواهر الطبيعة فأقاموا لهُ التماثيلَ والأصنامَ. تشتَّتت العبادات واختلفت كثيراً ولكن بقيَ الإعتقاد بوجودِ خالقٍ لهذا الكون العظيم.
أبو العلاء المعرّي كان أعمى وهو فيلسوفٌ وشاعرٌ وأديبٌ كبيرٌ، كيف تعلّمَ بدون أن يرى؟ طه حسَين عميدُ الأدب العربي كان أعمى وكان أديباً كبيراً في العربية، تعلّمَ الفرنسية وأخذَ الدكتوراه من باريس في الأدب العربي. فإذاً الحواس ليست كلَّ شيءٍ في الإنسان. هؤلاء وصلوا الى الإيمان بالله بدون حائطِ العقل. الروحُ هي التي تفكِر وتُحاكم وتقارن وتستنتج بعد محاكماتٍ وملاحظاتٍ عديدة. لو كانت الحواسُ هي المعرفة لكانت الحيوانات أقدرَ من الإنسان على المعرفة، فحواس الحيوان هي أقوى بكثير من حواسِ الإنسان. نظَرُ الحيوان وسمَعَهُ ولمسَهُ أقوى من الإنسان بكثير، وبما أن لا روحَ لهُ فهو لا يصل الى المعرفة. لا يستطيع أن يجري المحاكمات المنطقية، ولا يستطيع أن يكونَ يوماً ما قاضياً يقضي بالعدلِ والنزاهة والمساواة والحياد. هذه المهمّات أكبرَ منهُ بكثير. لا نستطيع أن نتصوّر الحيوان نائباً، أو حقوقيّاً يُشرّع القوانينَ والأنظمة. الإنسانُ وحدَهُ وبروحِهِ قادرٌ على كل ذلك.
الله لهُ المجد قادرٌ على كل شيء ولكنهُ لا يقع تحت الحواس لأنهُ إن وقعَ تحت الحواس كان مادّةً وكان محدوداً في الزمانِ والمكان. الله غير محدودٍ في الزمان والمكان. إن قُلنا إنهُ محدود في الزمان كانت لهُ بداية وكانت لهُ نهاية. إن كانت لهُ بداية فمَن الذي خلقَهُ حتى يبدأ؟ وإن كانت لهُ نهاية فهو محدودٌ في الزمان. فلذلك نحنُ نؤمن بأنهُ غيرُ محدود لا في الزمان ولا في المكان. في الزمانِ هو سرمديٌّ لا بدايةَ ولا نهايةَ لهُ، وفي المكان هو روحٌ وليس مادّةً لينحصرَ في البيوتِ وفي الأمكنة.
طبعاً، الناس يطرحون أسئلة عديدة معجزة، لا نستطيع أن نجيبَ على كل أسئلة الناس، والعلمُ لم يكتشفَ كلَّ شيءٍ. ما نعرفهُ ما هو إلا جزءٌ بسيطٌ جداً جداً مما لا نعرفُهُ. العلمُ يتقدّم ويتطوَّر كلَّ يوم. متى ينتهي العلمُ من اكتشافِ كلِّ شيء؟ ما قبلَ نهاية العالم.
نحنُ إذاً محدودون، لا نعرف كلَّ شيء، ولا نستطيع أن نعرفَ كلَّ شيء، ولا نستطيع أن نحسَّ بكل شيء. نحن محدودون في الزمانِ والمكان والقُدرة، نستطيعُ شيئاً ونعجزُ عن أشياءٍ لا تُحصى أبداً.
العالمُ الحقيقيُّ المتواضع يعترفُ مع سقراط بأنهُ لا يعرفُ شيئاً. كان سُقراط يقول: “إني أعرف شيئاً وهو أني لا أعرفُ شيئاً “. التواضعُ ضروري جداً للمعرفة الحقيقية لكي يعرفَ الإنسان حدودَهُ ويلزَم هذه الحدود وإلا خرجَ عن الحدود المعقولة وعن الأصول المنطقية في التفكير في كل هذه الموجودات.
مَن صوَّرَ خِلقة الإنسان العجيبة الغريبة التي أعيَت الأطباء منذ بداية التاريخ وحتى اليوم؟ لا أحد يعرف شيئاً. ماذا نعرف؟ نعرفُ شيئاً واحداً وهو أننا لا نعرفُ شيئاً. الإعتراف بالنقص، الإعتراف بالعَجز هي بدايةٌ ممتازة للغَوصِ في مجال الإعترافات العديدة. الكبرياء، العجرفة، الإدّعاء، كلُّها أمراضٌ روحية خطيرة تُعيقُ عملَنا المنظَّم المرتَّب واستنتاجاتِنا المنطقيّة الصحيحة. كلُ شيءٍ يُشيرُ الى وجودِ الخالق، والى ماذا يحتاجُ الأمر؟ الى التواضع.
الكبرياء، العجرفة، الإدِعاء هي التي تدفعُ الأغبياء الى الشك بوجودِ الله. أما المتواضعون فهم يعترفونَ بأن الله هو الذي خلَقَ الدنيا كلَّها، خلقَ الأكوانَ برمَّتِها. الله وحدَهُ قادرٌ على إيجادِ هذا الكَون. الكائناتُ الروحية هي وحدَها تطرحُ مسألة وجود الله، وحدَها تجتهدُ في اكتشافِ الله. على الأقل، بالعقلِ نستطيع أن نصلَ الى الإيمان بوجود الله.
يلعبُ الشيطان دوراً هاماً في تخريب عقول الناس وزجّهم في مياهب الإلحاد والكُفرِ والضلال. أما صاحبَ العقل السليم والفكرِ الصائب فهو يصِل بَداهةً الى الإيمان بوجود الله. الإله، لهُ المجد، غيرُ قابلٍ للوضع تحت المجاهر. الذينَ يطلبونَ أن يرَوا الله بعيونهم، وأن يسمعوهُ بآذانهم، وأن يلمسوهُ بأيديهم، يرتكبونَ خطأً منهجيّاً في البحث، يستعملونَ منهجاً عقليّاً يختلفُ عن هذا المنهج ويدّعونَ بالقول إن الله هو القادرُ على كل شيءٍ وإنهُ حاضرٌ في كل مكانٍ وغيرُ قابلٍ لأن نَحُدَّهُ في الزمان والمكان بأعيُننا وأصابعنا.
الله لهُ المجد، هو فوق المحسوس والملموس والمنظور والمسموع. نحن قلنا هو فوق، فهو إذاً فوق الفوق الفوق، الى النهاية الكاملة. هذا الكون الفسيح المرصَّع بمليارات المليارات من النجوم والكواكب، هل وصَلنا الى حدِّهِ الأقصى؟ هل وصلت التلسكوبات الى اكتشافِ نهاية هذا الكون؟ إذا كنا عاجزينَ بالأدوات العلمية الحديثة عن رؤيةِ نهاية هذا الكون، فكيف نستطيع أن نحيط بالله، وأن نرى الله بالعلوم، وأن نسمعهُ بالآذان، وأن نلمسهُ بالأيادي!
فلنكُن عُقَلاء، فلنكُن معتَدلين، فلنكُن نُبَهاء، فلنكُن واعين. فلنتواضع. في التواضع نصلُ الى شيءٍ ما. في التواضع نصلُ الى سرّ الله الغير المحدود، والغير المنظور، والغير المعلوم.
اللهُ لهُ المجد فوق كل الحدود. عندما نتكلَّم عنهُ، نتكلَّم عنهُ بالصورة الصليبيَّة فننزع عنهُ كلَّ الحدود التي يضعُها العقل البشري بنفسهِ لأنهُ يحتاجُ الى الحدود لكي يدخل بابَ المعرفة. الله كما قُلنا، هو الغيرُ المحدود، الغيُر المعلوم، الغيرُ المنظور، الغيرُ المسموع، الغيرُ الملموس، الغيرُ المقتَرَب إليه. لا نستطيع أن نقترب من سرّه ولا أن نعرفَ أحوالهِ. الرب يسوع علّمَنا أنهُ لا أحد يعرف الآب إلا الإبن، ولا أحد يعرف الإبن إلا الآب، ومَن أرادَ الإبنُ أن يكشِفَ لهُ ذلك.
فإذاً دونَ كشفٍ إلهيٍّ، معرفةُ الله مستحيلة. تبقى في حدود الإعتقاد بوجودِ الخالق،وأبعدُ من ذلك لا يستطيع العقلُ أن يصِل. العقلُ محدودٌ. يضَعُ أوصافاً سلبية لوجود الله فيقولُ عنهُ أنهُ غيرُ مفهوم غير ُمدرك غيرُ منظور… كلُهُ ملازم للَفظة غير.
ولكن، هل خلَقَنا الله وتركَنا لنصيرَ غُرباء على الأرض، نحيا ونموت كأننا غيرُ موجودين؟ تدخَّلَ اللهفي التاريخ فدَعاإبراهيم ليدخُلَ أرضَ الكلدانييّن ويأتي حرّان شمال سوريا (القسم المغتصب الذي اغتصبتهُ تركيا). بتدبيره الإلهي اختارَ نسلإبراهيم ليقومَ برسالةٍ تاريخية تنتهي بمجيءِ ربنا يسوعَ المسيح. التاريخ الذي يمتدُّ من إبراهيم والى مريم العذراء ذو مقالبٍ تاريخية وظروفٍ غريبة: الأنبياءُ فيهِ هُم الذُروة. موسى النبي ذروةٌ كبيرةٌ جداً، إيليّا النبي ذُروة كبيرةٌ جداً، يوحنا المعمدان ذُروةٌ كبيرةٌ جداً. ما وظيفةُ كتابُ الأنبياء التي يبدأ بسفر التكوين وينتهي بسفر مناخي منتسباً الى موسى وسواه من الكتّاب. هذا الكتابُ يسيرُ من الحرفِ الأول حتى الحرف الأخير نحو ظهور المسيح ابنِ داوود ابنِ إبراهيم. التركيزُ على شخص المسيح فيهِ هو الأساس. هذه النبؤات وهذا التاريخ يلعبان دوراً أساسياً في تاريخ الخلاص. العينُ المجرَّدة ترى في الكتاب المقدس أشياءَ متعدّدة جداً، ولكن نظري الثاقب يرى فيهِ تاريخاً ونبوؤات ومزامير تتّجهُ جميعاً نحو المسيح وكلها وعودٌ بظهور المسيح.
تبدأالجملةُ الأولى من سفر التكوين: “في البدءِ خلقَ الله”. وتبدأالكلمة الأولى في كتاب العهدِ الجديد بكلام الإنجيلي يوحنا “في البدء كان الكلمة”.
في الإصحاحات 52 و53 من أشعيا النبي وصفٌلآلام الصليب. في المزمور 21 نرى المسيح مصلوباً ومثقوبَ اليَدَين والرجلَين. في المزامير لئالىء نبويَّة ممتازة عن تفاصيل آلام الرب يسوع المسيح. في إنجيل يوحنا نراهُ كذلك فقط حينَ ظهرَ للرسُل يومَ القيامة. لم يذكر الإنجيليون أن يسوعَ مثقوبَ اليدَين، هل هذا فقط في إنجيل يوحنا وفي إنجيل لوقا يوم القيامة لما طلب منهم يسوع أن يروا الثقوب في يديه ورجلَيه. هناك نبؤات لا تُحصى في المزامير والأنبياء. كل أسرار العهد القديم تُهيّء للعهد الجديد، كلُّها روافد تصبُّ في نهرٍ كبير يصبُّ في البحر والبحر هو ربنا يسوعَ المسيح.
كل العهد القديم مقدِّمة للعهد الجديد. كلُهُ أنباء تُنبىء بربنا يسوعَ المسيح. ولما أتى الرب يسوعَ المسيح تمَّ كلَّ شي. إبراهيم والأنبياء تمنّوا أن يرَوا يسوع، يسوع متى 13: 16 قال لتلاميذهِ: أما أنتم، فطوبى لعيونكم لأنها تُبصِر ولآذانكم لأنها تسمع. فإني الحق أقول لكم: إن أنبياء وصدّيقين كثيرين اشتهوا أن يرَوا ما أنتم راؤون فلم يرَوا، وأن يسمعوا ما أنتم سامعون فلم يسمعوا “.
تحمَّلَ الأنبياء، من أجل إيمانهم بالمسيح الآتي، أنواعاً من العذاباتِ الهائلة. الرب يسوع قال بنفسهِ إنهُ لا يجوز أن يموتَ أحدٌ من الأنبياء خارج أورشليم، وهو نفسُهُ لا يجوز أن يموتَ خارجَ أورشليم. بكى على أورشليم وقال لأورشليم: “يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسَلينَ إليها “. في مثَل صاحب الكرم الذي سلَّم كرمَهُ الى الفَعَلة، عندما أرسلَ عبيدَهُ ليجنوا الثمر في متّى 21جلَدوا بعضهم وقتلوا بعضهم ورجمَوا بعضهم، ثم أرسل ابنهُ فأخرجوه خارج الكرم وقتلوه. في العبرانييِّن 11 وصفٌ عن أَعمالهِم الفاحشة من توتير الأعضاء والرجم والضرب والنار وحدّ السيف والجَلد والقيود والسجن.”رُجِموا ونُشِروا وامتُحنوا وماتوا بحدِّ السيف وساحوا في جلود غنم ومعزٍ وهم معوَزون مُضايقون مجهودون ولم يكن العالم مستحقٌّ لهم. كانوا تائهين في البراري والجبال والمغاور وكهوف الأرض. كلُهم مشهوداً لهم بالإيمان، لم ينالوا الموعد لأن الله سبقَ فنظرَ لنا شيئاً أفضل، أن لا يكمُلوا بدوننا “.
هؤلاء الذين تحمَّلوا كلَّ ذلك بسبب إيمانهم بالمسيح الآتي، شهادةكبيرة على صِدق الديانة المسيحية. بطرس الرسول في رسالتهِ قال فيهم إنهم تنبّؤا عن مجيءِ المسيح وكانوا يعرفونَ أن نبؤاتِهم ليست لهم بل لسواهم، أي لنا نحنُ المؤمنين. دراسةٌ عميقة مؤمنة للعهد القديم تكشِفُ لنا هذا السر الإلهي العظيم: سرُّ تهيأَة الله بتجسدِ ربنا يسوعَ المسيح.
يوحنا المعمدان أرسلَ اثنين ليسألوا يسوع إِن كان هو الآتي. فكان جوابُ يسوع: إذهبوا وأبلغوا يوحنا، العميان يُبصرون والعجَّز يمشون والصُمَّ يسمعون والخرسَ يتكلمون والموتى يقومون. أين ذُكِر ذلكَ؟ في الأنبياء، في أشعياء وسواه. أشعياء النبي تنبّأَ كثيراً عن مجيء الرب يسوع فلذلك يسمّيهِ المسيحيون الإنجيل الخامس بسبب ما كثُرَ فيهِ من بنودٍ عديدة تتعلق بربنا يسوعَ المسيح الإله المتجسد ابن العذراء. إسمهُ عمّانوئيل وهذا يعني الله معنا، يعني الله الذي يعيش معنا.
العهد القديم هو سنَدٌ كبيرٌ للإيمان بالعهد الجديد. نسلُ إبراهيم وإسحاق ويعقوب ويهوذا ابن يعقوب ويسّى وداوود فيعقوب أبو يوسف خطيب العذراء، سلسلة متواصلة مرتبطة كلُها بظهور ربنا يسوع المسيح. لا يتَّسِع مقام لإِبراز خصائص النبؤات، خاصة المزامير وما فيها من آياتٍ عن ربنا يسوعَ المسيح. كلُ الأنبياء هُم من نسلِ إِبراهيم وكلُهم كانوا موجَّهين نحو يسوع المسيح. نَسلُ إسحاق هو المهم، البعض كان لإسحاق وكل الذي خارجَ سلالة إسحاق هو عادي. فلا إسماعيل بنَبيّ ولا عيسو بنَبيّ. النبؤة محصورة بإسحاق وبإبراهيم ونسلِه، ويعقوب فما دون. موسى النبي شخصية تاريخية لامعة جداً وتصرفاتُه كانت تصبُّ في ربنا يسوع المسيح وتهيئات عن يسوع المسيح لهُ المجد.
على الإنسان أن يتواضع ليَصِلَ الى يسوع المسيح. يسوع المسيح تجسَّدَ من أجلنا وتجسّدُهُ معروفٌ في العهد القديم: هوَذا العذراء تحبلُ وتلِدُ ابناً ويسمّونَهُ عمّانوئيل. حاصرَ الرب يسوع جماعة المجمع اليهودي في يوم الثلاثاء العظيم، وطرحَ عليهم السؤال الذي أعياهم في متى : “ماذا تظنُّون في المسيح ؟ ابن مَن هو؟ قالوا لهُ: “ابنُ داوود” فقال لهم: ” كيف يدعوه داوود بالروح ربَّهُ، حيث يقول: قال الربُ لربي: إِجلس عن يميني حتى أجعلَ أعداءكَ موطئاً لقدمَيك”. إِحتاروا وأَعياهم الأمر فلم يستطيعوا أن يردُّوا جواباً، فتركوهُ ومَشوا لأنهم أدركوا أَنهم ضُعَفاء.
الأنبياء كما قُلنا ينتهونَ بيسوع المسيح. سمعان الشيخ إحتضن يسوع يومَ دخوله الهيكل وتنبّأ فكانت ايضاً في الهيكل النبيّة حنّة. يوحنا المعمدان السابق تنبأ عنهُ وشهدَ لهُ أنهُ هو المسيح المنتظَر، ورأى الروحَ نازلٌ عليهِ وسمعَ صوتَ الآب يشهَدُ لهُ بأنهُ هو ابن الله.
إذاً ،كلُّ الناس في العهد القديم يصبّوا في محيطِ العهدِ الجديد. الرب يسوعَ المسيح لهُ المجد اعتمدَ على العهدِ القديم واستشهدَ بهِ ليثبِّت رسالتَهُ. أشعياء قال: ” اليوم تمَّت النبؤات” تمَّت في يسوعَ المسيح لهُ المجد.
في الأناجيل، يدل يسوع المسيح مراراً وتكراراً على أن العهد القديم تنبّأ عنهُ، تنبأ عن ميلاده عن آلامِه، وعن حياتهِ كلها. العهد القديم هو فصلٌ من كتابٍ عن حياة ربنا يسوع المسيح، كتابٌ وافٍ بمجلدات عن حياة ربنا يسوعَ المسيح.
قوة المسيحية تكمن في ارتباطها بالنبؤات كدليلٍ مُطلق على صحّةِ الإيمان المسيحي. العهد الجديد استشهدَ كثيراً بالعهدِ القديم صراحةً أو ضمناً. فالأمورُ محصورةٌ إذاً في نسلِ إبراهيم ونسلِ داوود حتى مجيءِ المسيحوكلُّ شيءٍ باطل خارج هذه السلسلة.
الديانة المسيحية هي ديانةٌ مدعومةٌ بعشرات الكتّاب الذينَ كتبوا العهدَ القديم وإن كنا لا نعرفهم تماماً فتنبّؤا عن مجيء المسيح. هُم شهداء، ماتوا شُهداء من أجل نبؤاتهم. رُجموا، ماتوا بحَدِ السيف، ماتوا من أجل إيمانهم بالآتي، والآتي لم يأتِ في أيامهم. سلسلة الأنبياء مستمرة. سمعان النبي الذي تلقى يسوع في الهيكل هو نبيٌّ. حنّة النبيَّة التي كانت ساكنة آنذاك في الهيكل تتعبَّد ليلاً ونهاراً هي نبيَّة ايضاً وما سوى ذلك كثيرٌ جداً في العهد القديم. أما في العهد الجديد فيسوع وحدَهُ هو اللؤلؤة البارزة. لم يكن بحاجةٍ الى برهان، كان مُدافعاً عن نفسِه. كل شيءٍ في يسوعَ المسيح غريبٌ عن أطوارِ البشر وسماويُّ النظر. نقتنعُ بالنبؤات بأن يسوعَ قد جاءَ فِعلاً، نُطالعُ العهدَ الجديد فنُبصِرُ الحياة، ونكتشفُ ضعفَ الطبيعة البشرية في العهد القديم وعظَمَتِها في العهدِ الجديد، في يسوعَ المسيح الإله الإنسان.
الفصل الرابع
التجسُّد الإلهي
جاء في غلاطية 4 : “فلمَّا حانَمِلءُ الزمان، أرسلَ الله ابنَهُ مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس، ليفتديَ الذينَ تحت الناموس، لننالَ التبنّي. وبما أنكم أبناؤهُ، أرسلَ الله روحَ ابنهِ الى قلوبِكُم صارخاً : أبّا أيها الآب. فلستَ بعدُ عبداً بل أنتَ ابنٌ، وإذا كنتَ ابناً، فانتَ وارِثٌ للَّه بالمسيح “.
كيف تمَّ التجسُّد الإلهي؟
حَلَّ الروحُ القدس علىالعذراء مريم فطهَّرها وقدَّسَها كما قال غريغوريوس اللاهوتي وبذلك صارت قابِلة لأن تمنحَ الرب يسوع جسداً لا يميلُ الى الخطيئة.أدخلَ الروح القدُس على تكوينِها تغييراً جِذرياً فصارَت قادِرة على أن تَلِدَ الرب يسوع بدون أن يحمِلَ خطيئتَنا. أخذَيسوع طبيعةً فاسدة أي Corruptible كما يُقال بالفرنسية نقلاً عن اليونانية، والمقصودُ بذلك أنها طبيعة قابِلة للأعراضِ البشرية من آلامٍ وجوعٍ وعطشٍ وبكاءٍ وحزنٍ وانفصال الروح عن الجسد. لَو أخذَالرب يسوع طبيعةَ آدمَ في الفردَوس لما كان قد أخذَ طبيعتَنا الساقطة ليُداويها. أخذَ يسوع طبيعتَنا برُمَّتها ليشفيَها برُمَّتها. أخذَ روحاً بشرية ليشفيَ الروحُ البشرية، أخذَإرادةً بشرية ليشفيَ الإرادة البشرية، أخذَ فِعلاً بشرياً ليشفيَ الفِعلَ البشري.
كما قال بولس في العبرانيين 4 : 15 ” فليسَ لنا رئيسُ كهَنةٍ غيرُ قادرٍ أن يرثيَ لأوهانِنا، بل مُجرَّبٌ في كلِّ شيءٍ مِثلَنا ما خلا الخطيئة “. وفي الفصل الثالث نصٌّ طويلٌ عن صَيرورتهِ مُشابهاً لنا.في الفصل الثاني من رسالتِه الى أهلفيليبي نرى أيضاً كيف تنازلَالرب وأخلى ذاتَهُ وصارَ مثلَنا. يسوع صارَ مثلَنا في كل شيءٍ ما عدا الخطيئة. هو لا يميلُ الى الخطيئة. طبيعتُهُ البشرية هي إذاً طبيعتنا الساقطة لا طبيعةَ آدمَ الفِردوسية. أخذَ هذه الطبيعة ليُخلِّصَ طبيعتَنا الساقطة برمَّتها نفساً وجسداً.
كيرللّس الأورشليمي وغريغوريوس اللاهوتي قالا: ما لم يأخذهُ لم يَنَل الشِفاء والخلاص. أخذَيسوع طبيعتَنا الساقطة فشَفاها وخلَّصَها.
حلَّ الروحُ القدس على مريم العذراء أولاً ليُطهّرها، ويُقدّسَها وثانياً ليتَّخِذَ منها جسداً ليسوع. وضعَ في هذا الجسد روحاً بشرية لكي تكون الطبيعة البشرية في يسوع تامةً من روحٍ وجسد. هذه الطبيعة البشرية أَتحَدَها الرب يسوع بأقنومهِ الإلهي وصارت جزءاً من أقنومِهالإلهي.” أقنوم ” اي ما نُسمّيهِ باليونانية SincetoneوComposé بالفرنسية أو مؤلَّف أو مُركَّب بالعربية. قبلَ التجسُّد كان أقنوم يسوع يضُمُّ الطبيعة الإلهية،وبعد التجسُّد صارَ يضمُّ الطبيعة البشرية ايضاً.والتجسُّد قد ثمَّ بلحظةٍ عابِرة أسرع من البَرق.
لم تكُن الطبيعة البشريَّة موجودة قبل التجسُّد، وُجِدَت في التجسُّد أي لما تجسَّدَ الرب يسوع المسيح وأخذَ الطبيعة البشريَّة. في تلك اللحظة الخاطفة وُجِدَت الطبيعة البشرية مضمومة الى أُقنومِه الإلهي. التجسُّد هو فِعلٌ خاطفٌ في لحظةٍ خاطفةٍ.إتَّخذَ يسوع المسيح طبيعةً بشرية أَتحَدَها بطبيعتِه الإلهيَّة فاتَّحدَت فيهِ الطبيعتان: البشرية والإلهية.
الطبيعة الإلهية فيهِ تامَّة والطبيعة البشرية فيهِ تامَّة. فإذاً، الطبيعتان تامَّتان وهنا سِرُّ الأسرار العظيم. كيفَ إتَّحدَت الطبيعتان في أُقنوم يسوع بدون أن يتجسَّدَ الآب والروح القدُس؟ الآبُ سُرَّ مرتضياً، والروح القُدس أجرى الفِعل الإلهي. كيف أقنوم يسوع يضمُّ الطبيعة الإلهية الكاملة بدون أن يتجسَّد الآب والروح القُدس!! قال يوحنا الدِمشقي: الأُلوهة تجسَّدَت في أقنوم الإبن. تجسَّدَت فقط في أقنوم الإبن. لقد تمَّ هذا الإتّحاد العظيم،وهذا الإتّحاد هو ثابتٌ الى أبد الآبدين ودهر الداهرين.
لما ماتَ يسوع المسيح على الصليب،إنفصَلت روحُهُ البشرية وذهبت الى الجحيم تُبَشِّر الذينَ في الجحيم،ولكنهذه الروح البشرية بقيَت مُتَّحِدَة باللاهوت. على الصليب وفي القبر لم يتمَّ انفصال اللاهوت عن الناسوت. بقيَ اللاهوت مُتَّحداً بجسد يسوع في القبر وبروحهِ في الجحيم، وبقيَمع الآب والروح القدس إلهاً يملىءُ الكونَ برمَّته.
العذراءُ مريم استفادَت طبعاً من وجود يسوع في بطنها كإنسانٍ متَّحِدٍ بالإله وامتلأت من الروح القدس وتقدَّسَت قداسةً تامَّة. ليس في الكتاب المقدس ولا في تقليد الكنيسة ما يُشير الى أن العذراء مريم بعد ولادةِ المسيح عادَت الى ما كانت عليه سابقاً. ليس لدينا إلا النص الوحيد في إنجيل لوقا وهو أن الروح القدس حلَّ عليها وقوة العليّ ظلَّلتها فحَبِلَت بيسوع المسيح وسمّاه الملاك “إبن الله إبنَ العليّ”. بولس في رومية: ” أرسلَ الله ابنَهُ مولوداً من امرأة”. مولودُ العذراء هو إبنُ الله. في متّى 1 : 21 ” وستلِدُ ابناً فتُسَمّيهِ يسوع، فإنَّهُ هوَ يُخلِّصُ شعبَهُ من خطاياهُم “.وفي الآية 23 : ” ها إنَّ العذراءَ تحبَلُ وتَلِدُ ابناً ويُدعى عِمّانوئيل، الذي تفسيرُهُ ” الله معَنا”. في أشعيا وسواه : فادي الشعب ومخلِّصُهُ هو يَهوَه.
فإذاً، العذراء هي أمُّ عِمّانوئيل، أمُّ الله، أمُّ فادي إسرائيل،أمُّ يهوَه، أمُّإبن الله. وإبن الله عند الأرثوذكس والكاثوليك والمحافظين البروتستانت وسِواهم، هو إلهٌ مساوٍ للآب في الجوهر وللروح القدس في الجوهر ولهُ الجَوهر نفسُه الذي هو للآب وللروح القدس.وفي العهد الجديد، العذراءُ مريم هي أمُّ الله.
لماذا هي أمُّ الله؟ لأنَّ يسوع هو أقنومٌ واحدٌ، وبما أنَّهُ أقنومٌ واحدٌ فلا يُمكن أن نُجزِّء الأقنوم فنقول: مريم هي أمُّ الإنسان. التجزئة لأقنوم يسوع المسيح تعني الفصل بين الطبيعتَين، وهذا خطأ نسطوريوس لما فصَلَ بين الطبيعتَين فقال إن العذراء هي أمُّ يسوع وليست أمُّ الله.
كما جاء في العهد الجديد وكما جاءَ في المجامع المسكونية وتعاليم الكنيسة، العذراءُ هي أمُّ الله دونَ أن نعني بذلك أنَّ الأقنوم الإلهي مولود نفسُهُ من إمرأة. وبما أنَّ الأقنوم الإلهي هو واحد، والطبيعتَين متَّحِدَتان في هذا الأقنوم الإلهي، فنحنُ لا نستطيع أن نُجزِّء الأقنوم.ولهذا نحنُ نقول في العذراء مريم إنَّها أمَّ الله.ولكن حينما نُفَصّل الأمور، نقول إنَّ أقنومَ الإبن الإله هو مولودٌ من الآب قبل كل الدهور، بينما طبيعة يسوع البشريةفهي مولودة من العذراء في الزمان.
هذا الإتّحاد الإلهي بين الأقنومَين هو سببُ الخلاص، والذي ماتَ على الصليب هو الإلهُ المتجسِّد. لا نقولُإن الطبيعة البشرية ماتت، ولكن نقول بأن الطبيعة البشرية التي ماتت هي طبيعة الأقنوم الإلهي. بسبب الإتّحاد الأقنومي نقولُ ماتَ الإله، تألّمَ الإله.
الفَصلُ بين الطبيعتَين خطيرٌ جداً ولكن في التجسُّدِ الإلهي نقولُ أيضاً إن يسوع المسيح أخذَ طبيعةً بشرية ولم يأخذ أقنوماً بشرياً. لو أخذَ أقنوماً بشرياً لكان هذا الأقنوم وحدَهُ قد خَلُصَ.كلمة أقنوم مرُادف لكلمة شخص. في اليونانية Hypostasisفي الفرنسيةHypostase.
يسوع له المجد أخذَ طبيعةً بشرية ضَمَّها الى أقنومهِ الإلهي فاتَّحدَت بأقنومهِ الإلهي،وصارت وإيّاه متَّحدَين إتّحاداً كبيراً. هذا الإتّحاد الأقنومي أفادَ الطبيعة البشرية فصارت ذاتَ أقنوم. أقنوم الكلمة الإله صارَأقنوماً للطبيعة البشرية.
يستعمِل اللاهوتيُّون كلمة “مُقَنَّمَة” أي أن الطبيعة البشرية باتّحادِها بالطبيعة الإلهية في أقنوم يسوع المسيح صارت مقنَّمَة في أقنوم الإبن. أي أنَّ أقنوم الإبن قنَّمَنها، وجعَلَها ذاتَ أقنوم.
لا نستطيع أن نقول كانت قبلاً بدون أقنوم لأنها كانت غير موجودة قبلالتجسُّد. هي وُجِدَت في لحظة التجسُّد الخاطفة. فإذاً، يسوع في الكنيستَين الأرثوذكسيَّة والكاثوليكية إتخذَ طبيعةً بشريةً لا أقنوماً بشرياً، ولكن أقنومَه الإلهي قنَّمَ الطبيعة البشرية فصارت ذاتَأقنوم في أقنوم يسوع المسيح.يسوع المسيح صار أقنوماً لها.فإذاً هي ذات أقنوم، وأقنومُها هو أقنومُ الكلمَة. يسوع صارَأُقنوماً للطبيعتَين الى أبدِ الآبدين ودهر الداهرين بدون تناوب بين الطبيعتَين. هو الى أبد الآبدين في كل لحظةٍ من لحظات الزمان،وفي آنٍ واحدٍ، أقنومٌ للطبيعة الإلهية وأقنومٌ للطبيعة البشرية. لا تمرُّ لحظةً واحدةً لا يكونُ فيها أقنوماً للطبيعة البشرية.
إتّحاد الطبيعة البشرية بالطبيعة الإلهية في أقنوم يسوع المسيح هو الذي أمَّنَ الخلاص. الذي مات على الصليب إنسانٌ متَّحِدٌ باللهفلذلك عندهُ القوة ليكونَ وسيطَ الخلاص،وليكونَ دمَهُ دمُ ابن الله الذي يُطهِّرُنا من كل خطيئة كما قال يوحنا في رسالتهِ. لو كان الإله منفصلٌ عن الإنسان على الصليب، لما تمَّ الخلاص. الخلاص تمَّ بفضل هذا الإتّحاد الأقنومي بين الطبيعتَين.
مريم العذراء الكليّة الطهارة أعطَت يسوعَ المسيح جسَداً ولكنها لم تتَّحِد بأقنومه الإلهي. هذا الجسد الذي أعطَتهُ ليسوع المسيح وحدَهُهو مُتَّحدٌ بأقنوم يسوعَ المسيح. القولُ بأنَّ العذراء إتّحدت أقنومياً بأقنوم يسوع، أو أن الكنيسة إتّحدَت أقنومياً بيسوع، أو أن المؤمنين هم أعضاء جسد يسوع واتّحَدوا أقنومياً بيسوع، كلُّ هذا القول يَخلُق بلبلة في اللاهوت.
أقنوم يسوع قَبِلَ طبيعةً بشرية واحدة. لا يُمكن أن يَدخُلَ على أقنومهِ الإلهي شيءٌ آخر. لا العذراء ولا الكنيسة ولا المؤمنون إتّحدوا أقنومياً بيسوع المسيح.إتّحاد الطبيعتَين بأقنوم ربنا يسوع المسيح أفاضَ على الطبيعة البشرية كلَّ المجد الإلهي. طبعاً قُدرة العذراء على الإستيعاب هي أقوى من قُدرتنا بكثير وخاصةً بسبب إتّحادِها الأقنومي بيسوع المسيح.
أفاضَت الطبيعة الإلهية على الطبيعة البشرية كلَّ النِعَم الممكنة، وكلَّ المجد الممكن، وكلَّ الأنوار الممكنةولذلك هي ممتلئة من أنوار اللاهوت المجيدة ومن المجد الإلهي.الإتّحاد الأقنومي هو خاصٌّ بالطبيعة البشرية التامَّة التي أخذَها ربنا يسوع المسيح.هذه الطبيعة البشرية فقط بالإيمان تقبَل إتّحادَها باللاهوت، واللاهوت غيرُ منظور، غيرُ معلوم، غيرُ مُدرَك، غيرُ مُقترَب إليه.
كيف قَبِلَ الربُّ أن يَضُمَّ إليهِ جسداً بشرياً وطبيعةً بشرية؟ هذا تدبيرُهُالفائق كلَّ عقل، وكلَّ إِدراك، والذي لا تستطيع الملائكة أن تُعاينَهُ ولا أجناسُ البشر أن تنظرَ اليه. السِرُّ الذي تمَّ في مريم العذراء هو فوق مستوى عقل الملائكة والبشر أجمعين.العذراءُ مريم هي ذاتُ كرامةٍ فائقة لأننا نسمّيها والدةُ الإله، أمَّ الإله. هذا اللّقب هو أعظمُما تستطيع الملائكة أن تُسمّيَ العذراءَ بهِ. قد نُنشِد في مديح العذراء مليارات القصائد، قد نكتب في مجدِ العذراء ملايين الكتُب، ولكن كل هذه القصائد وكل هذه الكتُب ليست بشيءٍ يُذكَر أمام كلمة “يا والدة الإله”. إمرأةٌ من نسلِ آدم صارت أمّاً لله. بماذا نُعظِّمُها، كيف نُكرِّمها، أيّةُ عبارةٍ من عبارات المديح تَليقُ بها بعد كلمة “يا والدة الإله” ؟ ولكن ألسِنة البشر لا تستطيع أن تَصمُت عن تقديم المديح الفائق لوالدة الإله، فتُنشِد القصائد وتؤَلّفُ الكُتب والمقالات. وتبقى كلمة “يا والدة الإله” أقوى من كلمديحٍ.
فتاةٌ بسيطةٌ في الناصرة، القرية المزمومة في فلسطين، رفَعَها الله فصارت اُمَّهُ. ما هذا المجد الذي أصابَ البشر حتى سُمّيت إمرأةٌ” أمَّ الله، والدة الإله “. كيف نمدَحُكِ يا عذراء ! اللسانُ عاجز. ولكن إقبَلي منّا كلمة “يا والدة الإله”. هذه العبارة قدَّسَت العالم بأسره.
يوحنا الدِمشقي يقول إنَّ كلمة “والدة الإله” تجمعُ سرَّ التدبير برُمَّتِه وهذا صحيح. إن قُلنا في العذراء والدة الإله، عَنَينا بذلك أنَّ يسوع هو إلهٌ وإنسان. إن قُلنا إنَّها أمُّ يسوع فقط،فنحن لا نذكُر بذلك إلا ناسوت يسوع. أمَّا إذا قُلنا إنَّها والدة الإله وهي إنسانٌ، نكونُ قد أعلنَّا إيمانَنا بأنَّ مولودُها هو إلهٌ وإنسانٌ. ولذلك فكلمة “يا والدة الإله” ذات معنى لاهوتي يفوقُ كلَّ وصفٍ. لفظة “والدة الإله” فقط تعني كل سرّ التدبير أي أنَّ يسوع هو الإله الإنسان، لهُ المجد والإكرام والسجود الى أبد الآبدين ودهر الداهرين آمين.
أؤكِّدُ من جديد: عيدُ التجسُّد الإلهي هو يومُ البشارة لا يومُ الميلاد كما يكتب البعضُ خطأً. يخلُق الله الإنسانَ شخصاً في لحظة الحبَل بتدخُّلٍ إلهيٍّ،وهذا يعني أنَّ كلَّ امرأةٍ تحبَل، يتدخَّل الله في حبَلِها ليَخلُقَ الشخص والروح.
وبذلك على النساء أن يَخفنَ الله أثناءَ الحبَللأنَّ مُعجزةً كبيرة قد تمَّت في بطونِهنَّ.حقوق الطفل التي يُنادى بها اليوم عالمياً هي حقوقٌ مزوَّرَة. حقوقُ الطفل الحقيقية هي في إيمانِنا المسيحي بأن الله تدخَّلَ في رَحِم المرأة في لحظة الحبَل فخلقَ شخصاً على صورتهِ ومِثالِه. إيمانُنا المسيحي هذا هو الذي يُعطي الطفلَ حقوقَهُ الحقيقية، أي إنَّهُ شخصٌ على صورة الله، وصورةُ الله تستحقُّ منَّا كلَّ الإكرام الحقيقي لا المزوَّر. في المسيحيَّة الرِياء والنِفاق خطيئتان كبيرتان، وفي الحياة العامَّة التمثيل هو أقوى من الحقيقة.
في المسيحية فقط نجِد الإحترام الحقيقي للإنسان لأننا نؤمن بأنهُ خليقة الله. آباء البريَّة كانوا يسجُدون للضيف على أساس أنَّ المسيح يزورُهُم، وهذا ما شاهدتُهُ في عينيَّ في دير المعزّي الصالح في بلاد اليونان.الرئيس نفسُه كان يسجُد لي فأرتمي على يدَيهِ. هذا الإيمان المسيحي بالإنسان هو الصحيح والباقي خِداع ومَكر.
يسوع المسيح وحدُهُ هو الكرامة البشرية وهو الذي علَّمَنا أَنهُ تجسَّدَ وماتَ من أجل خلاصِنا ليَضُمَّنا الى ذاتِه. هذا الإله الذي حَضنَنا في صدرِه، هذا الإله الذي وضَعَنا على كتِفَيهِ كخروف، هو الذي علَّمَنا أن نحترمَ بعضُنا بعضاً كما نحترم المسيح، لهُ المجد والإِكرام والسجود الى أبد الآبدين ودهر الداهرين. آمين.
الفصل الخامس
ربي وإلهي يسوع المسيح
يسوع المسيح أتى من السماء وصار إنساناً. هو الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس. جوهرُهُ هو جوهر الآب. هو مساوٍ للآب في كل شيء ما عدا الخاصة الأقنومية أي أن الآبَ غيرُ مولود والإبنَ مولود. نسمّي ذلك الخاصة الأقنومية.كلُّ شيءٍ واحد: الجوهر، الطبيعة، القدرة، السلطة، الفِعل الإلهي، الإرادة الإلهية، المجد الإلهي.
يعلّمنا الكتاب الإلهي في العهد القديم أن المسيح سيأتي وأن المسيح هو ابن داوود وإله داوود. هذا المسيح الذي أتى إلى الأرض هو إلهٌ وإنسان. قبل التجسُد الإلهي من العذراء،المسيح هو أقنومٌ إلهيٌّ مساوٍ للآب والروح القدس في كل شيء ما عدا عدم الولادة، والولادة والإنبثاق. هذهالخواص الأقنومية الثلاث هي التي تميّز كلّاً من الأقانيم من الآخرَين، فيكون الإله ثلاثة أقانيم لا أقنوماً واحداً.
العهد الجديد والبشارة المسيحية والكنيسة وآباء الكنيسة والمجامع المسكونية علّمونا أن يسوع هو إلهٌ وإنسان. هو إلهي، إذاً هو ربي. في تمام الزمن، حلَّ الروح القدُس على مريم العذراء فطهّرَها وقدّسَها وجعلَ أحشاءَها قابلةً لأن تعطي يسوعَ المسيح إلهنا جسداً مقدَّساً بريئاً من كلّ العيوب وغير قابلٍ لأن يرتكب أخطاء أو خطايا. هذا الجسد المأخوذ من مريم العذراء،وبفِعل الروح القدُس، ضمَّ إليهِ الروح القُدُس روحاً بشرية مساويةً لروحِنا ما عدا الميل الى الخطيئة، فصارت هناك طبيعةٌ بشريةٌ مؤلَّفة من روحٍ وجسد.
يسوع المسيح الأقنوم الثاني من الثالوث، إتَّحدَبهذه الطبيعة فصارَ أقنومهُ الإلهي يملك الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية. كلُّ هذا تمَّ بأقل من لحظة، تمّا معاً. لم تكن الطبيعة البشرية موجودة فضمَّها، بل خلقَها الروح القدُس في لحظةِ الإتّحاد بالأقنوم الإلهي. لم تكن هناك طبيعتان موجودتان سلَفاً. الطبيعة الإلهية أزليَّة موجودة سلفاً، أما الطبيعة البشرية فوُجدَت في لحظة خَلقِها وضمّها الى الأقنوم الإلهي. ليس الإتّحادُ شيئاً، وخلقُ الطبيعة الإلهية شيئاً آخر. الإتحاد هو خلق الطبيعة البشرية، أمران تمّا معاً في لحظة، في أقل من اللحظة، وذلك بتدبيرٍ إلهيٍّ. الله يسوع، الإله قبلاً، الإله والإنسان الآن.
هاتان الطبيعتان إتّحدتا بصورةٍ إلهية لا نفهمُها مئة في المئة. لم تمتزجا،لم تختلطا،لم تتَّحدا إتّحادَ الزيت والماء،لم تمتزجا امتزاجَ الحليبِ والماء. إتَّحدتا اتِّحادَ النارِ والحديد. الحديد يصير أحمراً وحارّاً بفِعلِ النار. الطبيعة البشرية باتّحادها بالطبيعة الإلهية، أخذت كلَّ ما تستطيع أن تأخذهُ من أنوارٍ وأمجادِ الطبيعة الإلهية. الطبيعة الإلهية لا تتغيَّر، لا يمكن أن تتغيَّر، لا يطرأ عليها شيء.
الطبيعة البشرية المتّحدة بالطبيعة الإلهيةاستفادت من اللاهوت مجداً وكرامةً واستنارةً فصارت ممتلئة بالنور الإلهي والمجد الإلهي، ومع ذلك بقيَت بشريةً ولكن موجودة في أقنوم يسوع الكلمة. أقنوم يسوع لم ينقسم بين الطبيعتَين بل بقيَ واحداً في الطبيعتَين معاً. لم يكن تارةً أقنوماً للطبيعة الإلهية، وتارةً أقنوماً للطبيعة البشرية، بل كان في آنٍ واحدٍ أقنوماً للطبيعتَين. إتَّحدت هاتان الطبيعتان إتحاداً أبديّاً ولم تنفصل الطبيعة الإلهية عن الطبيعة البشرية على الصليب ولا في الموت. بقيَ جسد يسوع المسيح الموجود في القبر متَّحداً بلاهوتِه، أما روحهُ البشرية فبقيَت متّحدة باللاهوت ونزلت إلى الجحيم تبشِّر الذين في الجحيم.
هذا الإتحاد أبديٌّ لا نهاية له. لو انفصلت الطبيعة البشرية عن الطبيعة الإلهية على الصليب لما تمَّ الخلاص. الخلاص تمَّ لأن الطبيعة البشرية إتّحدت بالطبيعة الإلهية.هاتان الطبيعتان الموجودتان في الأقنوم الإلهي لكلٍّ منهما فعلها وإرادتها. فإذاً، يسوع أقنومٌ واحدٌ في طبيعتَين: إلهيَّة وبشريَّة، وفِعلَين: فعلٌ إلهيٌّ وفعلٌ بشريٌّ، ومشيئتَين: مشيئةٌ إلهيَّة ومشيئةٌ بشريَّة.
الفِعلُ الإلهي بموجبعلم اللاَّهوتيكون مع الآب والروح القدُس ويُقيم الأموات. الفِعل البشري: أكلَ وشربَ ونامَ وأتى أفعالاً بشريَّة مثل كلِّ البشر ما عدا الخطيئة. والمشيئة الإلهية: هي مشيئة الآب والروح القُدُس ولكن هناك مشيئة بشريَّة.قال يسوع نفسُه للآب: فلتَكُن مشيئتُكَ لا مشيئتي أنا. بهذه العقيدة يكون يسوع ذا فِعلَين وذا مشيئتَين متَّحدّات بدون انفصال.
شخصُ يسوع الإلهي، أي أقنومه الإلهي هو الذي يُريد ويفعل. يفعل بطبيعتَيه ويفعل بمشيئتَيه. لكلٍّ من الطبيعتَين فِعلُها ومشيئتُها، والمشيئة هي الإرادة. من هنا نستنتجُ إذاً أن الإرادة الإلهية والإرادة البشرية في يسوع متعاونتان. شخصُ يسوع واحدٌ بدون انفصال ولا خلاف بين مشيئتهِ الإلهية ومشيئتهِ البشرية. مشيئتُهُ البشرية متّحدة بمشيئته الإلهية ومُطيعة لها. لا تنافُر في شخص يسوع. شخص يسوع منسجم كلَّ الإنسجام. طبيعة يسوع البشرية متّحدة بطبيعتهِ الإلهية ولكنها ليست طبيعة الآب وطبيعة الروح القُدس. الألوهة تجسَّدت في أقنوم الإبن فقط، كيف هذا؟ هذا سرٌّ إلهيٌّ لا يستطيع عقلُ البشر أن يفهمهُ. نحن آمنّا بالإنجيل ببشارة الرسُل، آمنّا بيسوع فقَبِلنا العقائد التي أتَت بها الكنيسة. ليس بالأمر تحليلٌ منطقيٌّ عقليٌّ. المسألة مسألةُ وحيٍ إلهيّ، مسألةُ عقيدة أعطانا إياها الله لا مسألة ابتكار ابتكرهُ البشر. لو كانت المسيحية إبتكاراً بشرياً لكانت مثل كل الفلسفات الدينية ولو كان العقل البشري قادراً على اختراع المسيحية لكان سقراط وأرسطو وأفلاطون خير اللاهوتيين في التاريخ، ولكنهم وثنيّون.
فإذاً نحن أمام وحيٍ إلهي. قَبِلنا بشارة الرسُل وقَبِلنا ما جاءَ فيها من عقائد وتعليم. يسوع ذو مشيئتَين وفِعلَين. المجمع السادس المسكوني قرَّر هذه العقيدة الإيمانية الثابتة بالكتاب المقدس والبشارة وتعليم آباء الكنيسة واستندَ واستشهدَ بآباء الكنيسة، ولذلك هي مسلَّمة أرثوذكسية. بموجب هذه العقيدة العظيمة، كلُّ شيءٍ صار جديداً. أي أن الإنسان ليس دميةً بيدِ الله. هو كائنٌ حرٌّ مستقلٌّ يتَّخذُ القرارات بذاته، يُعطي الحلول بذاته، يسير بذاته،ويقوم بتسييّر ذاته. خلقَهُ الله على صورتهِ ومثالهِ فهو إذاً حرٌّ. القضاء والقدر غير موجودَين. مؤرّخ الفلسفة الفرنسي جاك شوفالييه، في كتابه “تاريخ الفكر” يقول:” بالحرية ضربت الكنيسة الفلسفة اليونانية “. الحرية في الكنيسة المسيحية مفهومٌ رئيسيٌّ.
حرية الإرادة مسألة إيمانية مهمة جداً. الإنسان مسؤولٌ عن أفعالهِوسيُحاسَب في اليوم الأخير على ما فَعَلهُ في الجسد من خيرٍ أو شر. لماذا المحاسبة إن كان هناك قضاءٌ وقدَر؟ المحاسبة تقومُ على أساس وجود إِنسانٍ عاقل حرٍّ مستقلٍّ تصدر أفعالهُ عن عقلهِ وإرادتهِ،فلذلك هو مسؤولٌ عنها ويُحاكَم عليها في المحاكم البشرية إِن ارتكبَ جريمة، وفي المحكمة الإلهية إن ارتكبَ خطيئة. المسؤولية تقومُ إذاً على أساس العقل والحرية. المجنون غير مسؤول أمام المحاكم لأنهُ غيرُ حرٍّ وغيرُ عاقل. والله الذي منَحَنا الحرية والعقل سيُحاسبنا على أفعالنا الصالحة والطالحة لأننا سنكون مسؤولين أمامهُ. لا يُقبَل أبداً أن يقول المسيحي إنه متّكلٌ على الله بدون أن يعمل ويفكر. عليهِ أن يفكر وأن يعمل بإرادةٍ حرّة.
اللهُ لهُ المجد، لا يحرِّك الإنسان كأنه حجرٌ، كأنهُ دميَةٌ، كأنه جمادٌ، كأنه حيوان. الله له المجد يساعدنا. إرادتُهُ الإلهية تساعد إرادتنا البشرية.أكونُ أنا مُتّكلاً على الله اتكالاً صحيحاً حينما أعمل مستلهماً المشيئة الإلهية بالصلاة وحِفظِ الإنجيل ووصايا الإنجيل. يحتاجُ المسيحي إلى ضميرٍ حيٍّ ممتلىءٍ من الروح القُدس والنعمة الإلهية والإنجيل.يصيرُذا ضميرٍ يَقِظٍ حيٍّ ساهرٍ فاعلٍ يُراقب ذاتهُ مراقبةً دقيقة جداً في الليل والنهار.يتصرَّف بوعيٍ تام، وفَهمٍ تام، وضميرٍ طاهرٍ. كلُّ تصرفاتِه تكون مبنيّة على إيمانِه بالله،وعلى استلهامِه الله.يكون إنساناً مستنيراً.
الإنسانُ الغير المستنير، عليهِ أن يستنيرَأولاً وبإمكانِه من ثمَّ أن يقول: أنا لا أفعل بل الله الساكن فيَّ هو الذي يفعل. بدون سُكنى الله في الإنسان، كلُّ الكلمات الإتّكالية العشوائية الفوضوية تكون صادرة عن الغباوة. الغباوة مرضٌ خطير عند الإنسان المسيحي. لا طوباويّة في المسيحية، لا إتكاليّة، لا إستسلاميّة، لا رحمانيّة، لا فوضويّة، لا تنبلة، بل إرادة حرّة. على الإنسان أن يكونَ فعّالاً بنشاطٍ تام. عليهِأن يتجنَّبَ الكسَل والتواني والتنبلة والنوم والإستسلام والفوضى والإضطراب والإهتمام الزائد.
عليهِ أن يكونَ صاحياً واعياً مصلّياً مستنيراً بالروح القدُس وبالإنجيل، يتصرّف وفقَ الإنجيل، وفقَ الروح القدُس الساكن فيه. يتحرّك بالروح القدس الساكن فيهِ، لا يتحرّك بالهوجائية. مسيحيٌّ أهوَج هو مسيحيٌّ ساذج، مسيحيٌّ غبيٌّ، مسيحيٌّ بلا وعي، بلا فَهم، بلا نشاط. هذا المسيحيُّهو مسيحيٌّمغفَّل. المسيحية لا تعلّم الغفلةَ أبداً، تُعَلّم اليقظة والنباهة والتنبُه والحذَر. اليقظةُ ضرورية جداً. يسوع علَّمنا: إسهروا وصلّوا لئلّا تدخلوا في تجربة. والشيطان يأتينا غفلةً مثل لص، لا يأتينا وجهاً لوجهٍ كلَّ حينٍ.في أغلب الأحيان يأخذنا غفلةً، يأخذنا بالخبثِ والدهاء والمكر والخداع كما أوقعَ حوّاء وآدم. المغفَّلون الذين يقولون إنهم متَّكلون على الله ويتصرّفون عشوائياً هوجائياً بدون رويَّة وصحوٍ، هؤلاء غيرُ ممتلئينَ من الروح القدُس ولا يفعلونَ مشيئةَ الله. مشيئةُ الله تظهرُ في الإنسان الممتلئ من الإنجيل والصلاة والإستلهامفي كل أعماله. يعملُ بتأييد النِعمة الإلهية. النعمة الإلهية تؤيّدُ أفكارهُ وأعمالهُ ورغباتهِ. النعمة الإلهية لا تقوم مقام الإرادة البشرية، لا تمحينيبل تعزّزني. تعزّزُ إرادَتي، تعزّزُ شخصي، تملأني. أمتلئُ أنا من المشيئة الإلهية والفِعل الإلهي. الإنسان الممتلئ بهذه الصورة يُصبحُ أداةً لله، ولكن أداةً واعيَة فاهمة مستيقظة حرَّة. الإرادة الإلهية والإرادة البشرية تعملان معاً. لا تعمل الإرادة الإلهية في الإنسان بدون إرادتهِ. إرادتهُ وفِعلهُ يكونان في المعركة، يكونان في نشاطٍ تام قدرَ المستطاع. أي عليهِ أن يبذلَ كلَّ طاقاتهِ الروحية والجسدية في آنٍ معاً مُستلهماً الإنجيل والروح القدس وضميره الحي المستنير بالروح القدُس. آنذاك يكونُ أداةً حقيقيةً للنعمة الإلهية.
بدون النشاط الشخصي، النعمةُ الإلهية لا تتحرك في الإنسان. النعمةُ الإلهية تعضدُ نشاطهِ الشخصي، تكون مساعداً لهُ، لا بديلاً عنهُ. ولذلك أصحاب المشيئة الواحدة إرتكبوا خطأً فاحشاً. يسوع ذو مشيئتَين: إلهية وبشرية. والذينَ أفقدوا يسوع الإرادة البشرية، جعلوا الإنسانَ دميةً بيدِ الله غير واعيَة فيصيرُ الإنسان إتكاليّاً تنبَلاً لا يفعل ولا يتحرّك. يقولُ:” أتركها على الله ” والله غير موجود في حياتِه. فليمتلىء أولاً من الله وليقل آنذاك: الله معي فمِمَن أخاف. الربُّ عاضِدُ حياتي فمِمَن أجزع. آنذاك يكونُ مع الله ويكونُ الله معهُ.
كما اتَّحدت الطبيعتان والمشيئتان والفِعلان في يسوع، تتَّحدُ إرادتي بالإرادة الإلهية. أقولُ في الصلاة الربانيّة:لتَكن مشيئتكَ كما في السماءِ كذلك على الأرض. لا تكونُ مشيئتُهُ على الأرض كما في السماء إلا بإرادتي الحرَّة. أنا أستدعي إرادتَهُ، تصير إرادتهُ إرادتي. كيف تصيرُ إرادتُهُ إرادتي بدون أن أكونَإنساناً فاضلاً ممتلأً من الروح القدُس، من الحق، من الإنجيل؟ وبدون أن يكونَ ضميري ممتلأً من الروح القدُس وحادّاً أكثر من أي سيف ذي حدَّين؟
الضمير الحي مكواة تَكوي الإنسان إن ارتكبَ ذنباً أو خطأً. كيف يكون هذا الضمير الحي بدون الإمتلاء من الإنجيل والنعمة الإلهية والروح القدُس؟ ولذلك على المسيحيين أن يتجنّبوا الأقوالَ الهوجائية الفَوضويّة الإستسلامية التنبليّة التي تجعل الإِنسان كسلانَ تنبلاً، فاقد النشاط، فاقد الحيويَّة، فاقد الفعاليّة، فاقد الديناميكيّة. الإنسان المسيحي الحقيقي هو قوة ذريّة فائقة. القديسون صنعوا العجائب بفِعل الروح القدُس. أقاموا الأموات، شفوا الموتى، حرّكوا التاريخ، قلَبوا الممالك، أزالوا الفساد وذلك بقوة الروح القدُس الساكن فيهم.
بولس الرسول عدوُّ الكنيسة رقم واحد انقلبَ الى طاقةٍ ذريّة في التبشيرِ والتعليم، فنشرَ المسيحية في حوض المتوسط الشرقي والشمالي والغربي برجولةٍ ومتانةٍ وقوة. كلامُ النعمة البارز من فمهِ غيَّرَ التاريخ. بولس الرسول والرسُل وآباء الكنيسة نماذج حيَّة عن الإمتلاء من الروح القدُس. باسيليوس الكبير رجلَ أقوال ورجلَ أفعال. والرب يسوع وبَّخَ الفريسيين لأنهم قوّالون لا فعّالون.
المسيحي في رأيهِ، في قولهِ، في فِعلهِ،في كل تصرفاتِهِ، وكلِّ حياتهِ يُصبحُ أداةً للمشيئة الإلهية حينما يمتلىء هو نفسه من الإنجيل ومن الروح القدُس ومن الصلاة الحارّة التقيّة. هذا هو الإيمان المسيحي الحقيقي.
علينا إذاً أن نُكافح ضدَّ الكسالى والإستسلامييّن والفوضوييّن والهوجائييّن، وضدَّ كل كلمة تدل على الكسل والتنبلة وفقدان الحيويّة والنشاط، وعلى التخاذل. هذا الإتكال على الله التخاذلي الباطل مرفوض. على الانسان أن يمتلىء من الروح القدُس ومن الإنجيل ليصير ضميرهُ حادّاً أكثرَ من أي سيفٍ ذي حدَّين يقطع تقطيعاً واسعاً كلَّ مَيلٍ الى الخطيئة، كلَّ فِكرٍ خاطىءٍوكلَّ كلامٍ خاطىءٍ. يكوي لسانَهُ بالروح القدس فلا يتكلَّم إلا الكلام النافع المفيد. يكوي ذهنَهُ بالروح القدس ولا يفكِّر إِلا في الصالحات والإلهيّات. يكوي يدَيهِ ورجلَيه بالروح القدُس فلا تمتدُّ يداه إلا الى العمل الصالح، ولا تخطو رجلاه خطوة إلا في مسالكِ الله، لهُ المجد.
الإنسان المسيحي هو طاقة ذريّة إلهية لا بشرية ولا حيوانية ولا مادية. طاقة ذريّة إلهية يملؤها الروح القدُس فيتحرَّك بالروح القدُس الساكن فيه. بدون الروح القدُس الساكن فيه، كل الكلام الإستسلامي باطل، كل الكلام الفَوضَوي باطل. يجب محاربة التنبلة بقوة، لا مكانَ لها في الإنسان الصالح. الإنسان الصالح هو الإنسان الفعّال. هو الإنسان الذي يبني نفسهُ في الروح القدُس،والذي يجعل قلبهُ مسكناً للرب يسوعَ المسيح.
دونَ سُكنى الرب يسوع والروح القدُس في القلب، كلُّ كلامٍ إستسلاميٍّ للقضاءِ والقدَر هو خطأ كبير، خطأٌ عقائدي. لذلك علينا أن ننتبه الى عقيدة الطبيعتَين والفِعلَين والمشيئتَين في ربنا يسوعَ المسيح لنكونَ وفقَ الأصول الدينية الارثوذكسية، أي متَّكلينَ على الله ونحن في العمل. يدُ الله فوق أيدينا. يدُ الله لا تحرِّك يدَيَّ، يدُ الله تعضدُ يدَيَّ. إذاً عليَّأن أتحرَّك وأن أكونَ صاروخاً حيويّاً فعّالاً نشيطاً ساهراً. أعيشُ مع الله لحظةً فلحظة، أستلهِمُهُ في كل تصرفاتي، في كل أفكاري وأفعالي وأقوالي. لا أنطقُ بكلامٍ مخالفٍ للإنجيل. لا أحلفُأَيماناً لا باطلة ولا صحيحة. أحفظُ لساني بدونِ قَسَمٍ. القسَمُ ممنوع في الإنجيل منعاً باتاً. عليَّ أن أمتنعَ عن أي كلامٍ بذيءٍ أو عن القسَم. لساني ينطقُ بالصالحات، ينطقُ بكلامِ النعمة الإلهية ليفيدَ الآخرين. لا ينطقَ بالشر، لا يفتري، بل يبني الآخرين. كلامي يكون للبنيان لا للهدم.
يجب أن ننتبهَانتباهاً كبيراً الى هذا الأمر العقائدي الهام. الإنسان فعّالٌ، تعضدهُ النعمةُ الإلهية في أفعالِه فتكونُ أفعالُه بفِعل الروح القدُس. أي أن الروح القدُس الساكن فيه يحرّكهُ، يعضُدهُ، يُقَوّم أفعالَهُ. إن ارتكبَ أخطاء، يتولّى الروح القدُس بواسطة ضميرهِ الحي تقويمَ هذه الأفعال وتقويم الأخطاء. ماذا يعني الضمير الحي؟ وما هو الضمير الحي الممتلىء من الروح القدُس؟ الضميرُ الحي الممتلىء من الروح القدُس هو صوتُ الله، صوتُ الإنجيل في الإنسان. الإنسان يتحوَّل تحوُّلاً كاملاً بالإنجيلِ والروح القدس فيُصبح إنساناً جديداً. آنذاك فليَقُل الإنسان: أنا بيدِ الروح القدُس والروح القدُس يفعلُ فيَّ. بدون ذلك، الكلام عبَثٌ وباطلٌ وسخيفٌ وعشوائيٌّ بدون معرفة وبدون إدراك.
فيا ربَّنا يسوع المسيح الذي أحبَّنا، أُعضُد إرادتنا. كما اتَّحدَت فيكَ الطبيعتان والمشيئتان والفِعلان، إتَّحد بنا، إتَّحد بإرادتنا، إتَّحد بعقلنا، بذِهننا، بفِكرنا، بحواسِنا، بأفعالِنا، بتصرُّفاتِنا، بكلامِنا، إلجُم لسانَنا.
يا يسوع المسيح، أَظهِر ذاتَكَ في كل حياتنا. كُن أنتَ الحاضر والفاعل فينا. علِّمنا الإنجيل، درِّسنا الإنجيل، أُنقُش الإنجيل في قلوبناوفي حياتنا. إجعلنا إنجيلاً حيّاً، إجعل كلَّ شيءٍ فينا منطبقاً على الإنجيل بنعمتِكَ الإلهية.
ربَّنا يسوع، قوِّم خطواتنا للعملِ بمشيئتِكَ الإلهية. إجعلنا متّحدينَ بكَ، ضُمَّنا إليك. صرتَ إنساناً لتضمَّني أنا الإنسان إليك.
يا يسوع، أَزِل الفوارق بيننا لنكونَ وإيّاكَ روحاً واحدة. إملأ حياتَنا، إملأ وجودَنا، إملأ كيانَنا، إملأ شخصَنا، إجعلنا صدىً لكَ، إجعلنا صورةً كاملةً لكَ، إطبَع ذاتَكَ فينا، كُن حيّاً فينا، كُنكلَّ شيءٍ في حياتِنا، لا تدَعنا نخرج عن إرادتِكَ، لا تَدَعنا نسقط في الهاوية. وإن سقَطنا فانتَشلنا، أَخرجنا.
يسوع، أنتَ حياتَنا. يسوع، أنتَ مجدَنا. يسوع أنتَ فخرنا. يسوع أَنتَ إلهنا ونحنُ عبيدك.
الفصل السادس
المشيئتان والفِعلان في شخصِ ربنا يسوعَ المسيح
الآباء قالوا إنَّ لكُل طبيعةٍ فِعلاً وليسوعَ طبيعتان تامَّتان: الطبيعة الإلهيَّة والطبيعة البشريَّة. هما متَّحِدَتان في شخصِه الإلهي الى أبد الآبدين ودهر الداهرين بدون انقسامٍ وبدون انفساخ. ولذلك لما ظهرَت الهرطقة في القرن الثالث قائلةً إنَّ الّلاهوتَ انفصلَ عن الناسوت على الصليب، رفضَتها الكنيسة لأنه لو تمَّ الإنفصال لما تمَّ الخلاص.
الخلاصُ تمَّ على أَساس أنَّ الجسدَ المصلوب هو جسدُ ابن الله وإلا لوقعَ الصَلبُ على شخصٍ عاديٍّ لا على طبيعةٍ بشريَّةٍ متَّحدَة باللاهوت. لما ظهرت بِدعَة أبوليناريوس الّلاذقي قاومَها آباء الكنيسة. هذا كان ذا عقلٍ جبّار، حاولَ أن يشرحَ سرَّ التدبير الإلهي فسقطَ في الهرطقة وقال إن ليسوع أقنومٌ واحدٌ وطبيعةٌ واحدةٌ وفِعلٌ واحدٌ ومشيئةٌ واحدة، وهو موحِّدٌ من الألف الى الياء.
قامَ فوراً آباءُ الكنيسة لتفسيرِ قولِه فدانَهُ مجمع الإسكندرية في العام 362 برئاسة القديس أثناثيوس الرسولي ودانَه غريغوريوس اللاهوتي وغريغوريوس النيصصي، وكتبَ غريغوريوس اللاهوتي رسالَتَهُ المشهورة الى الكاهن كلودونيوس واستفاضَ فيها بالبَيان أن يسوعَ المسيح ذو فِعلَين. تناولَ الموضوع بعدَهُ ثيودوريتُس أسقف قورَش في رسالتهِ الرابعة الى الرهبان ووسَّعَ موضوع هذه الرسالة بصورةٍ جيدة حتى صارَ عندنا نصّان مهمّان جداً يُعالجان الموضوع مطوَّلاً.
آباءُ الكنيسة المستقيمو الرأي طرَقوا الموضوع. جمعَ القديس مكسيموس المعترف الكميّة الواسعة من النصوص فحملَ هذه النصوص وفدٌ رومانيٌ الى المجمع السادس المسكوني.كلُ هذه النصوص منشورة في المجلَّد الحادي عشر من مجموعة المجامع للأب Mansi وفي غيرها من الموسوعات.
إنتزعَ منصب البطريركية في القسطنطينية شخصٌ اسمهُ سرجيوس من قرية سِرمين الواقعة بالقرب من إدلب. صار أرثوذكسياً وانتزعَ المنصب لأن القسطنطينية كانت تلجأ الى الكرسي الأنطاكي لاختيار بطاركتِها.
في المجمع الثاني المسكوني من العام 381 خلفَ نكتاريوس الأنطاكي القديس غريغوريوس اللاهوتي وتلاه يوحنا فم الذهب الأنطاكي، ومن ثم جاءَ ارساكيوس أخو نكتاريوس. فإذاً هناك ثلاثة بطاركة أنطاكيّوين متتالونَ على القسطنطينية. ونذكر ايضاً نستوريوس الأنطاكي الذي احتلّ بطريركية القسطنطينيَّة في العام 428.
في العام 434 إعتلى كرسي القسطنطينية أيضاً القديس Proclus تلميذ يوحنا فم الذهب. تقول المراجع أنهُ على الأغلب هو من القسطنطينية، ولكن هناك مراجع تقول هو من مرعش شمال سوريا من بلد كان اسمها جرمانيكا. تلا Proclus أنطاكيٌّ آخرُ إسمه فلافيانوس Flavien)) إحتلَّ كرسي القسطنطينية في العام 444.
فإذاً، في الفترة الممتدّة من العام 381 الى العام 444 تلا كرسي القسطنطينية ستةَ بطاركةٍ أنطاكيّون. تبنّى الأمبراطور هيرقل (Heraclus) صيغةَ الفِعل الواحد وصيغةَ المشيئةَ الواحدة لمصالحة الأرثوذكس والمونوفيسيتيّين (Monophysites) وشنَّ هجوماً على الفُرس واحتلَّ عاصمتَهم الشرقية وأعادَهم الى حدودِهم الطبيعية بعد أن كانوا قد حاصروا القسطنطينية ثلاث مراتٍ في الأعوام 608، 616 و 626. إستعادَ منهم عودَ الصليب وأتى بلادَنا ليعرُضَ صيغة الفِعل الواحد والمشيئة الواحدة. إستقرّ في حمص فرفضَهُ الحمصيّون وأصرّوا على الأرثوذكسية، وأصرّ الكرسي الأنطاكي الأرثوذكسي على الأرثوذكسية باستثناء فئاتٍ محدودةٍ من الأرثوذكس. إندلعت المعركة بين هيرقل والأرثوذكس، فواجَهَهُ الأنطاكيون بالمقاومة. ومن أبرز المواجهين لهُ كان صوفرونيوس الدمشقي (Sophrone) الذي صار في العام 634 بطريريكاً على أورشليم فثبَّتَ الأرثوذكسية نهائياً في فلسطين.
ونذكر ايضاً من المواجهينَ، منصوراً جدَّ يوحنا الدمشقي ومكسيموس المعترف الجولاني الذي كان في العام 632 راهباً في قرطاجة في تونس. قفزَ مكسيموس من شمال افريقيا الى رومية مدعوماً بالبابا مارتينوس، فأنشأ كتاباتٍ عديدة يسرِدُ فيها أن ليسوع طبيعتيَن وفِعلَين ومشيئتَين وهذا ما قرَّرهُ المجمع السادس المسكوني في العام 681.
فإذاً، الكرسي الأنطاكي هو كرسي اللاهوت الأرثوذكسي وهو الذي صاغَ الصياغة النهائية للّاهوت الأرثوذكسي مع صوفرونيوس ومكسيموس ويوحنا الدِمشقي وسواهم. بموجب هذا التعليم العظيم نقول إن أقنومَ يسوع واحدٌ.
أقنوم وشخص مترادفان. نستطيع أن نستعمل إحدى اللفظتَين. في أقنوم يسوع، الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية متّحدتان وكلٌّ من الطبيعتَين تام. الطبيعة الإلهية تامة والطبيعة البشريةتامة. يسوع حسب النص في العبرانيّين 4 : 15 “صارَ شبيهاً لنا في كل شيءٍ ما عدا الخطيئة “.
أخذَ يسوع طبيعةً بشريةً تامة ولكنها خاليةً من الخطيئة. القديسان غريغوريوس اللاهوتي وكيريللّوس الإسكندري قالا ” إن ما لم يأخُذهُ الربُّ يسوع لم يخلُص لم يَشفى” أي أن يسوع أخذَ طبيعةً بشرية كاملة، وإرادةًبشرية تامة، وفِعلاً بَشريا تاماً، وإلا لما تمَّ الخلاص. أخذَ طبيعتَنا الساقطة ما عدا الخطيئة.
كانت قد نشأت في مصر بِدعة تقول إن طبيعة يسوع البشرية هي قابلة للفساد، فانشقّت الكنيسة القُبطيَّة. صاحبُ هذا القول يُدعى جوليانوس. إندسَّ أسقفٌ فلسطينيٌّ على الأمبراطور جوستينيانوس الكبير فكاد أن يقع هذا الأخير في الهرطقة. عندئذٍ إتجهَت أنظارُ العالم المسيحي الأرثوذكسي في الشرق وفي فرنسا الى بطريركنا القديس انَستاثيوس (Anasthase) .دعا انَستاثيوس المجمع الأنطاكي الى الإنعقاد فكان العدد 153 أي كان لدينا في ذلك الحين عدد كبير من المطارنة والأساقفة. قرَّر المجمع مواجهة الملك لوسينيانوس الكبير بالإستقالة الجماعية إحتجاجاً عليه. لكن الله أخذَهُ قبل وقوعهِ في هذه الهرطقة فانتصرَ الرأي الأرثوذكسي بالمجمع الأنطاكي.
المؤرّخ الكنَسي Ernest Stein يعتمد على هذا المجمع وعلى لائحة أساقفة الكرسي الأنطاكي التي
نظّمها هذا البطريرك العظيم في العام 570 ليُقرّر أن الأرثوذكس كانوا آنذاك الأكثريَّة في الكرسي
الأنطاكي، وهكذا انتصرت الأرثوذكسية.
يسوع المسيح أخذ طبيعةً تامةً هي طبيعتُنا الساقطة لا طبيعة آدم في الفردَوس ولكن بدون
الخطيئة، وبدون الميل الى الخطيئة. أخذَ إرادتَنا فشفى إرادتَنا، أخذَ نفسَنا فشفى نفسَنا، أخذَ جسدَنا
فشفى جسدَنا. هذا هو اللاهوتُ الأرثوذكسي المنتصر في العام 565كما شرَحتُه في الصفحة 154 من
كتابي “سر التدبير الإلهي”. في يسوع طبيعتان تامّتان: الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية.
والطبيعة البشريَة لا تكونُ تامّةً إن كانت بدون فعلٍ وبدون إرادة. فماذا يُميّز الإنسان عن الحيوان؟ العقلُ
والإرادة والحرية. إن أخذَ يسوع طبيعةً بلا فِعل وبلا مشيئة أي بلا إرادةً، فهو يكونُ قد أخذَ شيئاً نظَرياً
وتكونُ الطبيعة البشرية في أقنوم يسوع طبيعةً نظرية بدونِ فعلٍ، بدون إرادة، بدون حركة وبدون نشاط.
كيف يمكن أن نتصوَّر طبيعةً مماثلة؟ طبيعةٌ بِلا هذه الخواص تكونُ طبيعةً ظاهرية.
طبعاً تحتاجُ الأمور الى تفكيرٍ عميقٍ للخلاصِ من الظاهريّة. إن كانت طبيعةُ المسيح البشرية بدون الخواص المذكورة،فماذا يكونُ نوعُ هذه الطبيعة؟ إن كان ليسوع إرادةٌ إلهية فقط وفِعلٌ إلهيٌّ فقط، لكانت الطبيعة البشرية فيهِ خيالاً لا واقعاً. وهذا يُمهِّدُ السبيل الى عقيدةِ القضاءِ والقدَر.إنتصَرت الكنيسة في المجمع السادس المسكوني إنتصاراً باهراً، ولكن ماذا كانت النتائج؟
كانت المسيحية في ذلك الحين قد تغَلغلت جيداً في مشرِقنا،وكان مشرِقُنا راسخٌ في الخلقيدونيّة وفي الإيمان الأرثوذكسيفلذلك لم تنجح هذه الهرطقة فيه. المجمع الرابع المسكوني هو مجمعٌ أنطاكيٌّ وكان داعمُهُ من وراء الستار ثيودوريتوس أسقف قورش كما اعترف بذلك بابا روميَة القديس لاون الكبير وكان خلقيدونياً.قائد جيش الشرق، القائد زانون (Zenon) أسقطَبطريركَنا ونصَّبَ مكانَهُ بطرس القصّار.أسقطَالأرثوذكس هذا البطريرك ثلاث مرات ولكن الدعم كان يُعيدُه الى السُدّة. نصّبَ القصّار فيلوكسينوسأسقفاً على منبِج فأتاهما دعمٌ كبير بشخص سَويروس الأنطاكي. في العام 512 أسقطَ الأمبراطور Anasthase بطريركنا ونصّب مكانه سَويروس الأنطاكي (Sévère) من العام 512 والى العام 518 . إستطاعَ سَويروس وفلوكسينوس أن يُسيطرا على الكرسي الأنطاكي ويُرهقا كاهلَنا.
لما حلَّ يوستينوس (Justin) في السُدّة الأمبراطورية في العام 518 وجِدَت أنطاكيا فارغة ليس فيها كاهنٌ أرثوذكسيٌّ ليصيرَ بطريركاً. أرهَقَنا الزمان حتى أنعمَ الله علينا ببطريركٍ متينٍ هو أفرام الآمِدي، ثم بالقديس انستاثيوس المذكور سابقاً، فعادَ الكرسي الأنطاكي الأرثوذكسي الى متانَتهِ وجَبروتهِ سريعاً. فإذاً، الكرسي الأنطاكي والكرسي الأورشليمي بفضلِ صوفرون الدِمشقي البطريرك، كانا ركيزةً كبرى للإيمان الأرثوذكسي القائل بالطبيعتَين والفِعلَين والمشيئتَين.
ما كانت النتائج الروحية لهذه العقيدة؟ يوحنا السُلَّمي وسِواه قالوا إن الروحانية قائمة علىالعقائد.
روحانيَّتُنا قائمةٌ على عقائدِنا وكتابي”روحانية الكنيسة الأرثوذكسية ” يوضِح ذلك. روحانيّتُنا تقومُ على
الإيمان بالطبيعتَين والمشيئتَين في ربنا يسوعَ المسيح. فما آثارُ هذا الإيمانعلى حياتِنا الشخصية؟
الطبيعة الإلهية غمرَت الطبيعة البشرية في يسوع بكل أنوار اللاهوت على قدَر ما تستطيع هذه الطبيعة
البريئة التامة الكاملة احتمالَهُ كطبيعةٍ بشرية طبعاً. لا تستطيع هذه الطبيعة أن تصيرَ لاهوتاً لأنها طبيعة
بشرية ولكنها امتلأت من أنوارِ اللاهوت بِقدَر ما تستطيع كطبيعةٍ بشرية دون أن تصير طبيعةً إلهيةوهذا
سرٌّ إلهيٌّ عظيمٌ نؤمِنُ بهُ.
لماذا تجسَّدَ يسوع؟ لكي نتّحدَ بالله. ونحنُ بحسَب كلام بولس الرسول أعضاءٌ في جسدِ يسوعَ المسيح. بالمعموديةِ صِرنا أعضاءَ جسدهِ وسَكنَ فينا الروح القدُس. ويقول بلاماس إننا صِرنا مؤلّفينَ من ثلاثة عناصر: النِعمة الإلهية، والروحُ البشرية، والجسد البشري.
فإذاً، نحنُ صورةٌ عن التجسدِ الإلهي. الأنوارُ الإلهية الساكنة في طبيعة يسوع البشرية سكنَت فينا. في 2 كورنثوس 4 يقول بولس: ” اللهُ الذي أمرَ أن يخرُجَ من الظلمةِ نورٌ هو الَذي أشرقَ في قلوبِنا لمعرفة مجدِ الله في وجهِ يسوعَ المسيح”. الطبيعةُ البشرية للمسيح ممتلئةٌ من الأنوار الإِلهية. النور في المعمودية أشرقَ في قلوبنا فصار التعايُش بيننا وبين النِعمة الإلهية قائماً. سكنَ الروح القدُس في قلوبِنا. فإذاً النورُ الإلهي هو في قلوبِنا.
المطلوب منا هو الجهاد الروحي، وأن ينتصرَ المسيح فيَّ على آدم الذي أخذتُهُ من أبي وأمي. الحربُ قائمةٌ في كياني بين يسوع وبين آدم وعليَّ أن أحوّلَ آدمَ الى يسوع. عمليةُ التحويل هي العملية الأساسية روحيّاً،وهي تتمُّ بالنعمةِ الإلهية وبالنور الإلهي الساكن في قلبي بالمعمودية.
المطلوب منّي هو النشاط المزدَوِج: نشاطي كإنسانٍ، ونشاطُ النعمة الإلهية الساكنة فيَّ. شخصُ يسوع هو
واحد، يفعلُ بواسطةِ الطبيعتَين بدون تناقضوبدون أن تُخالف الطبيعة البشرية الطبيعة الإلهية. وأنا ايضاً
أتعاونُ مع الله كما قال بولس الرسول “نحنُمعاونونَ لله”. هذا التعاون يؤدّي في النتيجة الى انتصار
النعمة الإلهية على آدم في داخلي.
فإذاً هناك تعاون بين النعمة الإلهية وإرادتي. إرادتي موجودة وفِعلي موجود. وعليّ أن أُجاهِد روحياً، أن
أفعلوأن أتّخذ قرارات. أنا كائنٌ حرٌّ. أنا لا أُسيّر من قِبَل الله كأعمى، انا بملءِ اختياري أسيرُ في ضوء
النِعمة الإلهية. النعمةُ الإلهية تُقوّيني، تدعَمُني ولكنها لا تحلُّ مكاني. النعمةُ الإلهية تؤيّدُني في كل
عملٍصالحٍ ولكن عليَّ أن أعمل، عليَّ أن أفعل، عليَّ أن أريد، عليَّ أن أختار، عليَّ أن أستيقظ، عليَّ
أن أكونَ من نارِ الروح القدُس لتظهَر النِعمة الإلهية فيَّ.
المجمعُ السادس الذي كنا أبطالَه بمكسيموس المعترف وصوفرون وغيرهم، علّمَنا أن تكونَ إرادةُ الإنسان
فعّالة وأن يكونَ الإنسانُ ديناميكياً لا بطّالاً كسلانَ جباناً مُتراخياً تنبلاً. المجمع السادس المسكوني مهمٌ
جداً من الناحية الروحيةوليس العقائدية فقط. هو أكبُر دليل على أن روحانيّتنا الأرثوذكسيَّة هي قائمة
على عقيدتِنا الأرثوذكسيَّة. الإيمانُ بالمشيئتَين والفعلَين هو أساسُ إيمانِنا بالتعاون بين النعمةِ الإلهية
والمشيئة البشرية والفعلِ البشري. مكسيموس المعترف هو صاحبُ أبحاثٍ دقيقةٍ جداً في الإرادة فلا يمكن
أن نكونَ مكسيموسيّينَحقيقييّن بدون أن نؤمن بأنهُ على المسيحي أن يكونَ بطلاً روحياً، أن يكونَ
شهيداً حياً، أن يكونَ رجلَحربٍ ولكن حربٍ روحية.نتّكلُ على الله ونحن مجاهدون ولكن ليس ونحن
نائمون.
ما معنى مُطالبة الرهبان باليقظة والسهر والإستعداد؟ هذا يعني العمل النشيط الدؤوب الحذِر الحَريص، الفِطنة الحِكمة الحذِق وبعبارة عاميّة “الحربقة الروحية”. الإنسان الأرثوذكسي الحقيقي “حربوق” روحياً أي بدون خُبث بدون ملعنة بدون لؤم. فتىً حاذِق فهيم حكيم لَبِق إِداري يُجيد حُسن التصرف بدهاءٍ روحي. بكل هذه الكلمات أنتزعُ الخُبثَ والمكرَ والخداعَ والدهاءَ والمكيدة. الصِفاتُ تكونُ طاهرةً، نقيَّةً، بريئةً شريفةً صادقةً مستقيمة. علينا أن نكون أنطاكييّن حقيقييّن على مذهب مكسيموس المعترف في الفِعلَين والمشيئتَين، في الحرية في اليقظة وفي الفِطنة. مكسيموس هو رجُلُ فِكرٍ عالميٍّ نادر الوجود في التاريخ.
أقول للبعض باستمرار: أنا خلقيدوني مكسيموسي صادق، أومنُ بالإنسان وبأن الإنسان يعمل تحت نور النعمة الإلهية.هو ليس مسيّراً بل هو مخيّراً. أنا بملء إرادتي أقبلُ يسوعالمسيحوبملءِ إرادتي أضَعُ نفسي في تصرُفِ النعمة الإلهية.كمعرفتُ في حياتي من الناس الذين يطلبونَ أن يرَوا العذراء أو سواها في الحلم، أن يسمَعوا صوتها أو أصوات القديسين أو يُريدون من الله علامةً واضحة … كلُ هذا يدخل في قاموس القضاء والقدَر والتسييّر. نحنُ لسنا مسيّرين، نحن مخيّرون. بملء إرادتِنا نصنعُ الخيرَ وبملء إرادتِنا نصنعُ الشر. أنا أضعُ نفسي تحت تصرّفِ النعمة الإلهية. كيف؟ بالصلاة والأصوام وابتلاع الإنجيل. بابتلاع الإنجيل أستنيرُ بالعهد الجديد. العهدُ الجديد حبّات لؤلؤ في ضميري. إن ابتلعتُ العهد الجديد ابتلاعاً أرثوذكسياً، صارَ ضميري عقداً من اللؤلؤ بل من الألماس بآياتِ العهد الجديد، وأصبحت آيات العهد الجديد المحرِّك الذي يُحركني.
أصلّي مُستلهماً الروحَ القدُس ولكن أسيرُ في ضوء العهد الجديد. أمتلىء من العهد الجديد وأمتلىءُ من الصلاة ومن الروح القدُس وأفعل. لا أنتظر أن أكونَ آلةً صمّاءَ لا نَفَسَ لها، يُحركني الله وانا دُميَة. أنا لستُ دميةً بين يدَي الله، أنا أقنومٌ بشريٌّ مخلوقويسوع أُقنومٌ إلهيٌّ غيرُ مخلوق. أنا صِرتُ أقنوماً مخلوقاً نتعاونُ أنا والله كشخصَين. هو شخصٌ إلهيٌّ، وأنا شخصٌ بشريٌّ. نتعاونُ، هو يُساعدُني ويَدعوني ويُقوّيني ولكنهُ لا يحلُّ محلّي، لا يقومُ مقامي أبداً. إن قامَ مقامي فما هو وزني، ما هي قيمتي؟ لا يُخلّصني إلا بإرادتي. إرادتي هي التي تخلّصُني، إرادتي هي التي تفعل.
أخذَ يسوع نفسي وإرادتي ليُقدّسَ نفسي الساقطة وإرادتي الساقطة. هناك تعاون بين الإرادة الإلهية والإرادة البشرية. هذه هي الأرثوذكسية. الأرثوذكسية هي ضد التنبلة، ضد الميوعة، ضد الكَسَل، ضد الإتكالية الخرساء السوداء، ضد التراخي والتهاون، ضد الإنهزامية. الأرثوذكسية هي ديناميكية حربية، ولكنهاحربٌ روحية وليست جسدية. نحاربُ مع الله، نحاربُ الشيطان بمعونةٍ إلهية. قال يعقوب الرسول “قاوموا إبليسَ فيهربَ منكم”. ما معنى “قاوموا” ؟ إبليس يشُنُّ الحربَ علينا فنشنُّ الحربَ عليهِ ونغلِبهُ باسمِ ربنا يسوع المسيح. بولس في أفسس 6 طالَبنا أن نرتدي كلّ الأسلحة الإلهية، أي كلَّ الفضائل الإلهية لنقوى على إبليس ونرُدّ سهامِهِ الملتهبَة.
يعقوب قالَ: “إقتربوا من الله يقتربْ إليكم “. كيف أقتربُ من الله بدونِ جُهودٍ مُضنيَة؟ هل أستطيعُ وانا ابنُ جهنَّم أن أقتربَ من يسوعَ المسيح؟ أليسَ عليَّ أن أخلُصَ من الجحيم لألاقيَ يسوع المسيح؟
كلُّ شيءٍ في الأرثوذكسية وفي العهد الجديد جِهادٌ ونِضالٌ وحربٌ لا نهايةَ لها، وما دُمنا على الأرض فنحنُ رجالُ حربٍ روحانيون طبعاً. لا أستطيع أن أقول إن المسيحية هي الميوعة والتنبلة. المسيحية هي الحربُ والجهادُ المضني. نُكرّم الشهداء في الأرثوذكسية لأنهم عرَّضوا حياتَهم للموت من أجل يسوع المسيح.
أُجاهدُ في الأصوام، في الصلوات، في الأعمال الصالحة، هذا جيِّد. ولكنالموت شهيداً من أجل المسيح،
هذا أعلى درجات الجهاد، أعلى درجاتِ الحرب. نحن لا نَقتل ولكن نُقتَل من أجل المسيح، فنكونُ قد
ضحّينا بأنفُسِنا من أجل المسيح وهذا جَهدٌ سماويٌّ لا أرضيٌّ.
الروحُ القُدس يتحمَّل آلام الإستشهاد. حياةُ الشُهداء تُروِّع، ولكن كيف احتملوا؟ بفضل النعمةِ الإلهية
الساكنة فيهم. فعَّلوا النعمة الإلهية فماتوا من أجل المسيح وهُم في طرَبٍ وتهليل .
ولماذا النُسك؟ لماذا أنطونيوس الكبير وساروفسكي وسمعان العَمودي؟ أليسَ هؤلاء مجاهدينَ كباراً، أليسوا
هؤلاء مناطحين كباراً نطحوا الشيطانوألقوهُ أرضاً؟ جندَلوه. الشيطان روحٌ لا يأكُل ولا يشرب ولا ينام،
هو في يقظةٍ دائمة ليبتلعَنا.
هؤلاء النُساك الكبار الذينَ طعَنوه في الصميم وجندلوهُ وداسوا على رقبتِهِ، أليسوا مُحاربينَ كباراً؟ أليسوا
رجالَ حربٍ من أعلى طراز؟ مَن يستطيع أن يغلبَ الشيطان؟ هل يستطيع المصارعون الكبار أن
يغلِبوا الشيطان؟ النُساك غلبوا الشيطان وهذّبوهُ وطعَنوهُ في الصميم. وبماذا طعَنوه؟ طعَنوهُ بجهادِهم
الروحي. هؤلاء هم محاربون كبار حاربوا شهواتِهم ورغباتِهم وأهواءَهُم وانتصروا على الجسد وعلى الشيطان
وعلى كل المساوىء. ومَن يستطيع أن يفعل ذلك؟ المصارعون في الميادين؟ لا يستطيعُ أحدٌ أن يفعلَ
ذلك إلا النُساك الممتلئينَ من الروح القدُس. لذلك على الكرسي الأنطاكي أن يستعيدَ مكانتَهُ التاريخية
في اللاهوت. أعرفُ أن الناس يميلونَ الى قراءة حياة القديسين، هذا جيد. ولكن الكرسي الأنطاكي هو
صانعُ اللاهوت الأرثوذكسي ونحنُ قدَّمناهُ للعالم الأرثوذكسي وسِواه.يجب أن نستعيد هذه المكانة مهما
كانت التضحيات. نخنُ خرجنا في البدايةِ كلاهوتييّن وكان اللاهوتُ صِنعَةَ جيلنا. تحت جناحَيهِ أنا وأبينا
الغالي الياس مرقس حفَرنا عميقاً لاهوتياً وظَهَرنا على الشاشة كلاهوتييّن متمسِّكين بالمجامع السبعة
المسكونية وبآباء الكنسية.
إني ألفُتُ أنظارَ الأحباء الى عمق اللاهوت الأرثوذكسي فبدون العُمق اللاهوتي يبقى كلُّ شيء
سطحياً.الأستاذ الكبير سيرج فيرخوفِسكي الروسي المهاجر ذكر مرةً أننا ذَوو قُدرة على فَهمِ اللاهوت
الأرثوذكسي. علينا أن نستثمرَ هذه القدرة وأن نهرُبَ من السطحية اللاهوتية. بالعمق اللاهوتي نبقى في الخط الأصيل ولا نتشرزم، وبدونه يكون الضلال ممكناً. يعقوب الرسول قال “لا يَكُن فيكُم معلّمونَ كثيرون”. باللغة العاميّة نقول:متى كَثُرَ الطباخونَ خربَت الطبخة. كلُّ شيءٍ يجب أن يسيرَ وَفقَ الخطاللاهوتي الأرثودكسي التقليدي المبتدىء ببشارة الرسل والعهد الجديد والآباء القديسين والمجامع المسكونية حتى يومِنا هذا.
لا نستطيع أن نفصِلَ بين الروحانيات الأرثوذكسية واللاهوت الأرثوذكسي وإلا وقَعنا في الضلال. تاريخُ الكنيسة واضح. الإنحرافات عن اللاهوت الأرثوذكسي أدَّت الى الضلال. في كتابي المفقود عن القديس كاسيانوس، رهبانٌ في مصر وقعوا في ضلالِ أوريجنّس وافلاطون، فقاومَهم ثيوفيلوس رئيسُ أساقفة الإسكندرية وطردَهم. ايفاغريوس (Evagre)كان متيناً جداً في الكتابات الروحية ولكنهُ وقعَ في ضلال أوريجنّس فتمَّ فرزُه كما فرُزَ غيره. برصنوفيوس الناسك الكبير في غزّة اعترف في رسالتَيه 600 و601 بأن بعض كتُب ايفاغريوس جيد ولكنهُ كان يكره تأثرهُ بأوريجنّس وأفلاطون.
لا نستطيع أن نحمي أنفُسَنا من الضلال إلا باللاهوت الأرثوذكسي الآبائي، ولا نقبَل إلا اللاهوت الأرثوذكسي الآبائي، ولا نقبَل إلا ما ترَكهُ لنا الآباء القديسون. نفهم الكتاب المقدس على ضوء العقائد. عقائدُنا الأرثوذكسية هي التي تُعطينا الفَهم الصحيح للعهد الجديد،وأما التفسيرات المعاصِرة المتفزلكة فهي مرفوضة أرثوذكسياً. كلُّ ما يُنافي تعليم آباء الكنيسة اللاهوتي والروحي هو مرفوضٌ، وإن كان هارناك وبولمتان من أقطاب الباحثين. المسألةُ ليست مسألةَ بحثٍ، المسألةُ هي أن آباءَ الكنيسة هم ممتلئوونَ من الروح القدُس. بولتمان ممتلىءٌ من السخافات، وبحقٍ قالَ الأرثودكسي اللاهوتي ميرا لوتبورودين إن هارناك لم يفهم شيئاً من آباء الكنيسة.
طبعاً قد يرى البعضُ في اسبيرو تشدُداً زائداً. أنا لستُ بمتشدّدٍ، إنما لا أساوِمُ ابداً على المجامع المسكونية وآباء الكنيسة. إن صمَتُ حيناً فمن باب التدبير لا من باب التنازلأبداً. صَبَرتُ وأصبُر وسأصبُر حتى يَمُنَّ الله على الكرسي الأنطاكي بلاهوتييّن عميقين من آباء الكنيسة لا بالأدعيَة.
كلُ الدراسات بدون آباء الكنيسة هي مضيَعة للوقت. نحنُ لا نطلب باحثينَ يبحثونَ في الكتاب المقدس كما يبحثونَ في كتُب الفلسفة. نحنُ نطلبُ روحانييّن يعيشونَ الكتابَ المقدس كما عاشَهُ باسيليوس وغريغوريوس ويوحنا فم الذهب وأنطونيوس وساروفسكي وغريغوريوس بلاماس وسواهم من القديسينَ العظام بنعمةِ الروح القدُس، المستنيرينَ بأنوار الثالوث القدوس،والمتجلّين كما تجلّى المسيح
على جبلِ ثابور. نحن نطلبُ يوحنا السُلَّمي وأندادَهُ من المتجلّين.
ما الفائدة لو كنتُ أقدرُ أن أكتُبَ 700 مجلة في التفاسير وأنا لا أعيشُ روحياً ولا أومنُ بالثالوث
القدوس ولا أرتعدُ عند ذِكر اسم الثالوث القدوس!
المهمُّ هو العُمق اللاهوتي الروحي لنمتلىء من الروح القدُس. إن لم نمتلىء من الروح القدُس، فالعِلمُ برُمته باطلٌ ولو كان لنا عِلمُ الملائكة أجمعين. الكل مرتبطٌ بالإمتلاء من الروح القدُس. نحن الذين نصنعُ ذلك. نجاهدُ ونحارِبُ ونناضلُ لكي يحُلَّ فينا مِلء الروح القدُس.
نحن لسنا مُسيَّرين، نحن عسكرٌ لدى ربنا يسوع المسيح، والعسكري يُحاربُ في الجبهةِ ولا ينامُ تنبلاً كَسلانَ. أرجو أن يفهمَني القُرّاء الكِرام الأعِزّاء وأن يشتغلوا لكي يكونوا عسكراً لربنا يسوع المسيح مدَرَّعينَ مدجَّجينَ بكل أسلحةِ الروح القدُس.
الفصل السابع
من العهد القديم الى العهد الجديد
اللهُ إلهٌ حيٌّ قادرٌ على كل شيءٍ. موسى صعدَ الجبل فضجَّ الشعبَ فصنعَ لهم هارون عِجلاً ذهبياً ليعبدوه. وفي أيام سليمان، النساء الوثنيات من نسائه جرَّتهُ الى إقامةِ مشارفَ للأوثان على جبل الزيتون فطعنَ سفرَ الملوك فيه واتّهمَهُ بالوثنية. إيليا النبي عارضَ الملكة ايزابيل الوثنية وزوجها الذي انجرف وراءَها وجرفَ الشعبَ لعبادة البعل. جلبت من بلدها صيدا ٤٥٠ كاهناً يخدمونَ عبادة البعل، فقاومهُم إيليا وشكى الأمر الى الله فجاءَهُ الصوت:” أبقيتَ لي سبعة آلاف ركبة لم تركع للبعل”.
في القرن السابع كانت بقايا وثنية في فلسطين،فقامت حركة إصلاح هامة في عهد الملك يوشيّا طهَّرت الأرضَ من الأوثان والبقايا الوثنية ونادت بحصرِ العبادة بالإله الأوحد يهوه. الله أعلنَ لموسى أنهُ إلهٌ حيٌّ رحيمٌ رؤوفٌ، وأعلنَ لهُ أنهُ الإله يهوَه فسألهُ موسى ما اسمكَ؟ أجابَهُ أكونُ مَن أكون. والمقصد أني أنا الكائن دائماً. بذلك وُسِّعت العبارة فيما بعد فصارت الذي كانَ، والذي يكون، والذي سيكون.
إستعملَ يوحنا في سفر الرؤيا عبارة: الذي كان، والذي يكون، والذي سيأتي. الله كاهنٌ أزليٌّ موجودٌ دائماً لا بدايةَ لهُ ولا نهاية. هذا الإعلان عظيمٌ جداً. سأل موسى الله أن يُريَه وجههُ، فأجابهُ: لا أحد يرى وجهي ويحيا. فإذاً نحنُ أمام أمرٍ عظيمٍ جداً جداً وهو أن الله لا يُرى، ولذلك كل العمليات الوثنية مرفوضة.
في الوصايا العشر جاء: لا تصنع لك تمثالاً لأي شيءٍ لا مما هو موجودٌ في السماء، ولا مما هو موجودٌ على الأرض، ولا مما هو موجودٌ تحت الأَرض، ولا تعبدهُ. الله منعَ بذلك، كلَّ الأشكال الوثنية من عبادة القمر والنجوم والشمس، الى عبادة المخلوقات التي تسير فوق الأَرض والى عبادة الأشياء الموجودة تحت الأرض. أما سفر المزامير والأنبياء فمُترَع العبادة للإله الحي الغير المنظور الواحد الأحد. تطعَنُ في عبادةِ الأوثان وشيوعها في الأمم المجاورة، تطعنُ في كل الأشكال الوثنية التي لا حياة لها، وتهزأ منها إذ هي جماد بلا حياة وإلهنا هو إلهٌ حيٌّ.
الله لا يسكنُ في بيوتٍ مصنوعةٍ من الأيدي. الله هو الذي خلقَ السمواتَ والأرض وكلَّ ما فيها. هو رب السماوات والأرض. الأرض وملؤها للرب. كلُّ شيءٍ للرب. في المزامير أوصافاً للإله رائعة: هو الرحيم، الحنون، الشَفوق، الكثير الرحمة، الطويل الأناة، الجزيل التحنُن.
قالَ الله لموسى: أرحم مَن أرحَمْ، وأترأف على مَن أترأف. وجاء في سفر التثنيَة: إشمعْ يا إسرائيل إلهُنا إلهٌ واحدٌ. هذا الإله الأحَد صانعُ السموات والأرض هو إِلهنا الحقيقي. وجاء في مطلع التكوين: في البدءِ خلقَ الله السموات والأرض وخلقَها من العَدَم. ما من شيءٍ موجودٌ قبلاً.
وبذلك يكون العهد القديم من الكتاب المقدس قد أتانا بوحيٍ عظيمٍ وهو أن الله هو إلهٌ حيٌّ لا جمادٌ كأوثانِ الأمم، وهو واحدٌ أحدٌ.
عمَّت الوثنية العالم خاصةً في أثينا بلد الفلسفة، بلد الإغريق، بلد أرسطو وسقراط وأفلاطون والفلاسفة اليونانييّن المشهورين. لما طافَها بولسَ الرسول وجَدَها مترعةً من الأنصاب الوثنية. ما تركَ اليونانيونَ شيئاً إلا أقاموا لهُ تمثالاً بما فيهِ الرذائل والقضاء والقدَر. هذا الشعبُ الفيلسوف، هذا الشعب أبو العقلانية وأبو الفلسفة، كان بلدهُ مشحوناً بالتماثيل.
نرى بولس الرسول يطعنُ في الفلسفة اليونانية التي كانت في أيامِهِ فلسفةً منحدرةً نوعاً ما. كان في تلك الأيام الأبيكوريّون épicuriensأصحابَ ثورة وأولادتافهون. وإذا دخلنا في التاريخ وجدنا عصر النهضة والإنبعاث في أوروبا يعودُ الى الفكر اليوناني الوثني والروماني الوثني. وعصرُ الأنوار siècle de lumièresما هو إلا عودة الى الوثنية اليونانية الرومانية. الثورة الفرنسية أقامت صنماً للعقل، وأين؟ في كنيسة نوتردام لتتحدّى بذلك الكنيسة. الذينَ أقاموا التماثيلَ الضخمة للينين وستالين وهتلر وموسوليني وسواهم من الناس، هؤلاء قد عادوا الى الوثنية. ورؤساء أوروبا في السوق الأوروبية المشتركة الذينَ ذهبوا الى أن اوروبا هي مرتبطة بالحضارة الرومانية الوثنية، قد عادوا الى شيءٍ من الوثنية وإن كان بعضهم أو أكثرهم مؤمناً. هذا الجنوح الى الوثنية موجود.
الذينَ يعبُدونَ المال والذينَ يعبُدونَ بطونهم، يعبُدونَ الأوثان. أشعيا النبي قال: “إلههُم بطنُهُم. لنأكل ونشرب لأننا غداً سنموت”. الذينَ ساروا وراءَ الأفكار الإلحادية، والمذاهب الإلحادية، والمذاهب المادية، والذينَ اخترعوا لأنفسهم أصناماً متنوّعة من الأفكار وسوى ذلك، هؤلاء يعودونَ الى الوثنية. الإنسان مرتبطٌ بالمحسوس ويا للأسفِ الشديد بالمنظور وبالمحسوس.
في العهد القديم، شاءَ الله لهُ المجد أن يرفعَ العقولَ الى الأمور الروحية السماوية. شاءَ أن يرفعَ الإنسان من عبادة البطن وعبادة المادة الى عبادة الله الواحد. إصطدمَت العملية تاريخياً بعقباتٍ كثيرة لأن الإنسانَ جسدٌ. العهدُ القديم وبَّخَ الناس على الإلتحاق بالفساد. الربيسوع قال: لا تستطيعون أن تعبُدوا ربَّين: الله والمال. لا يستطيعُ المرءُ أن يعبُدَ ربَّين، فإما أن يتعلَّق بالواحد ويترك الآخر وإما أن يُحبَّ الواحد ويكرهُ الآخر. البشرُ قسمان: قسمٌ يعبدُ الله وقسمٌ يعبُدُ غيرَ الله.
كل تعلّقٍ بشيءٍ أكانَ فكرياً أم مادياً هو نوعٌ من العبادةِ للأوثان. قد تكونُ الأوثانُ أفكاراً ومذاهبَ فكرية وقد تكونُ مادّة. في جميع هذه الأحوال، الإنسانُ ينحرف ويهربُ من عبادة الإله الواحد، يكفُر بالإله ليعبُدَ شيئاً آخر سواء كان مذهباً فكرياً أو فكرة أو أمراً مادياً. الإنسان يبقى ضعيفاً مهما ترفّعَ ومهما ارتفعَ ومهما تباهى ومهما تعالى ومهما تعجرفَ ومهما انتفخَ.
أرادَ الكتابُ المقدس أن يرفعهُ الى العلى فإذا بهِ يهبط دائماً الى أسفل. بولس الرسول في رسالته الى تيطس (الفصل الأول العدد 16) ذكرَ الكفرَ العمَلي. ليس الكفرُ فقط كفراً نظرياً، بل هو أيضاً كفرٌ عمليٌّ في الأعمالِ الفاسدة. الإنسانُ ضعيفٌ وضعيفٌ جداً.
الذينَ أُعجِبوا في القرون الوسطى بالفِكر اليوناني الوثني، ووضعوا صورة أبولون فوق صورة المسيح ووضعوا كتب أفلاطون فوق الإنجيل، هُمْ قَومٌ منحرفونَ. قومٌ عبدوا الأوثان وعادوا الى عبادة الأوثان. ويا للأسفِ الشديد، هذا هو الإنسان.
في العهد الجديد نرى إعلاناً أقوى بكثير من العهد القديم. نرى في العهد القديم رموزاً وظلالاً للعهد الجديد والرسالة الى العبرانييّن في الفصول 8-9-10 تؤكّدُ ذلك. الذينَ يفهمون العهدَ القديم فهماً ماديّاً حرفيّاً يضلّونَ الطريق. عليهم أن يهتدوا بالرسالة إلى العبرانييّن لكي يفهموا أن العهدَ القديم برمّتهِ منذ الحرفِ الأول حتى الحرفِ الأخير هو موجَّهٌ نحو العهد الجديد بصُوَرٍ مختلفة. كل شيءٍ في العهد القديم موجَّهٌ نحو المستقبل.
أورشليم في الرسالة الى غلاطيَة هي رمزٌ فقط لأورشليم السماوية. أورشليم الحاليّة هي مادية وأرضية تُشبِهُ هاجر، بينما أورشليم السماوية النازلة من السماء تمثِّلُها سارة الزوجة الشرعية، والفرقُ بين هاجر الجاريَة وسارة الزوجة الشرعية كبيرٌ جداً في مفهوم الناس جميعاً. المرأة الشرعية شيءٌ والجارية شيءٌ آخر. ولذلك علينا أن نفهم العهد القديم فَهماً مسيحياً على ضوءِ العهد الجديد لا أن نفسِّرهُ تفسيراً حرفياً. الذينَ يُفسِّرونَ العهدَ القديم تفسيراً حرفياً يُشبهونَ اليهود ويُقرّونَ بما يقرُّ بهِ اليهود، ويعترفونَ بأن فلسطين هي أرضٌ لليهود كما يفعل شهود يهوَه وسواهم من المفسِّرينَ الحرفيّين المظلمين. أما نحنُ المسيحيين فنفسّر العهدَ القديم تفسيراً رمزياً، لا نأخذ شيئاً منهُ مئة في المئة بالحرف الواحد، نرى في كل شيءٍ إشارات ورموزاً الى العهد الجديد.
العهد القديم علّمَنا أن الله لهُ المجد هو واحدٌ غير منظور إطلاقاً وغيرُ معلوم، ولكنهُ ذو صفاتٍ أخلاقية رائعة. يصِفُهُ الكتاب المقدس وخاصةً المزامير والأنبياء بأوصافٍ جيدة جداً. الصلواتُ في المزاميرِ رائعة، وفي الأنبياء صلوات وأوصاف لله رائعة.
العهد الجديدأتانا بوَحيٍ جديدٍ كليّاً. أبقى على إيمانِنا بالإله الواحد الغيرِ المنظور، ولكنهُ علَّمَنا أن الإله الواحد هو ثلاثة أقانيم أي ثلاثة أشخاص: الآب والإبن والروح القدُس. وفي العهد القديم إشارات عديدة الى ذلك. في كتابي “يهوه أَم يسوع” دراسةٌ تُثبِتُ أن الرب يسوع هو يهوه في العهد القديم.
في العهد القديم عبارة “روحُ الله” كثيرةٌ جداً. مثلاً في المزمورالخمسون (أَو الواحد والخمسين في الطبعات الغربيَّة ): وروحُكَ القدوس لا تنزعهُ منّي. وفي مزمورٍ آخر: روحُكَ الصالح يهديني في أرضٍ مستقيمة. منذ بداية التكوين: وكان روحُ الربِّ يرفرفُ على وجهِ المياه. لفظة الروح القدُس واردة كثيراً ومثلُ هذا كثير في العهد القديم.
أثبَتَ العهد الجديد في أماكنَ عديدة بآياتٍ مستخرجَة من العهد القديم ألوهة ربنا يسوع المسيح. مثلاً في رسالة بولس الى العبرانيين: عرشُكَ يا الله مهيّأ منذ الدهور. ولذلك العهد الجديد لا يختلفُ جذرياً عن العهد القديم بل يتمّمهُ ويكمّلهُ ويعظّمهُ ويكشِف الحقيقةَ الكاملة. في العهد القديم ملامحَ تقريبيّة أما في العهد الجديد فالعلامةُ كاملة. ألم يسمع أشعياء الملائكة تقول: قدوسٌ! قدوسٌ! قدوسٌ ربُّ الصباؤوت، السماءُ والأرض مملوءتان من مجدِكَ؟
ألمْ يظهَر الله لإبراهيم بصورة ثلاثة ملائكة فخاطَبهم إبراهيم بالمفرد: ربي. في العهد القديم إشارات عديدة الى الثالوث القدوس نفسه والى ألوهة ربنا يسوعَ المسيح.
الإله الثالوثيّ الأقانيم هو إلهنا الحقيقي الذي ظهرَ لنا في الإنجيل. كشَفَهُ لنا ربنا يسوعَ المسيح صراحةً فقال لتلاميذه أن يُعمّدوا باسم الآبوالإبن والروح القدُس.ذكر أباه مراتٍ كثيرة : الآب السماوي، أبوكم السماوي. عبارات لا نهاية لها. مساواتُهُ للآب واضحة فيبعض الأقوال: أنا والآبُ واحد، وسوى ذلك. في العهد الجديد الأدلّة على ذلك كثيرة جداً. الروح القدُس نفسُهُ في رسالة كورنثوس هو الرب أيضاً. الله أحدٌ في ثلاثةِ أشخاص. هذا سرٌّ إلهيٌّ. نحن نؤمنُ بهِ لأن الكشف المسيحي جاء هكذا. المسيحُ قال ذلك، ورُسُلَهُ قالوا ذلك واتّكلوا على العهد القديم في تَبيانِ ذلك.
العهد الجديد مترَع بالإستشهادات الصريحة والضمنيّة المأخوذة من العهد القديم. الطعنُ في العهد القديم من هذه الناحية مرفوضٌ كليّاً. هو كتابٌ مقدسٌ أتى شهادةً تاريخيةً قبل مئات السنين المتتاليَة يبشّر بربنا يسوع المسيح وبمجيئه. نحنُ نعتمِد على العهد القديم لنُثبتَ أن يسوعَ المسيح هو المسيحُ المنتظَر الذي جاء في الأوان. هذه النبؤات دعامةٌ كبيرة لصحة المسيحية. بها نُثبِت أن العهدَ الجديد عهدٌ موثوقٌ جداً لأنهُ يعتمد على شهاداتٍ عديدة قامت خلال تاريخٍ طويل من قِبَلِ أنبياءٍ موثوقينَ مشهودٍ لهم بالتقوى والفضيلة.
الإرتباط بين العهدَين القديم والجديد هو ارتباطٌ وثيقٌ جداً جداً ومهمٌّ جداً جداً.لا نستطيع أن نُهمِل العهد القديموأن نستغني عنهُ أبداً لأنهُ شهادةَ التاريخ الطويل لربنا يسوع المسيح الآتي. طبعاً العقل البشري لا يتحمَّل بسهولة الإيمان بواحدٍ يُساوي الإيمانَ بثلاثة، والثلاثة تساوي واحد، أي أن الله واحدٌ في ثلاثة أشخاص. هذا عسيرٌ على العقل البشري ولكن هناك الوَحي الإلهي الموثوق.
نحن آمنّا بالإنجيل، برسالةِ يسوعَ المسيح. آمنّا أنهُ هو المسيح المنتظَر، المسيح المنتظَر الذي يُعَلِّم الناس الحقيقةَ كلها. المرأة السامرية قالت ليسوع: نحن ننتظر المسيح الذي سيأتي ويكشِفُ لنا كل الأشياء. هذا المسيح المنتظَر جاءَ وكشَفَ لنا الأشياء. نحنُ نؤمنُ بذلك. آمنّا أنهُ المسيح الذي تنبّأ عنهُ الأنبياء وانتظروهُ طويلاً وجاءَ مُطابقاً لأوصافِهم. آمنّا أنهُ المسيح المعلِّمُ الحقيقي وأنهُ رسولُ السماء إلينا. آمنّا بالإنجيل، آمنّا بالعهد الجديد وبرسالة العهد الجديد، آمنّا بالرُسُل الناطقينَ الحقيقييّن باسمربنا يسوع المسيح، وآمنّا أن الروحَ القدُس ألهمَهُم وإن كان في أقوالهِم وأقوال الرب يسوع أمورٌ لا يُدركُها العقل. نحنُ نعلم أيضاً أن العقلَ لا يستطيع أن يُدرِكَ الله. نعلم أن أفلاطون وأرسطو وسقراط وصلوا الى الإيمان بوجود خالق وذلك بالعقل، ونعلم أن كل الناس خارج دائرة المادة كانوا يعبدون الأوثان، وأن أثينا نفسها كانت مترعة من الأنصاب الوثنية، ونعرفُ أن الميثولوجيا اليونانية سخيفة جداً هي وآلهتها الفارغة.
أين أفلاطون وأين أرسطو وأين سقراط اليوم؟ أثينا تنصَّرت واليونان تنصَّرت. اليونان مهدٌ أرثوذكسيٌّ متعصّبٌ للأرثوذكسية بقوة كبيرة. سقطت الفلسفة اليونانية. سقطت روما وصارت مسيحية. المسيحية أزالت معالم الوثنية من أثينا وروما وتنصَّرَ البلدان. إنتصرت المسيحية على الوثنية وغلبَتها، وانتصرت على اليهودية وعلى ناموس موسى فحلَّ الإنجيلُ مكانَ وصايا موسى. نحنُ أمامَ ديانةٍ جديدةٍ سماوية. ديانةٌ كاملة. هي الوَحي الكامل وهي الإعلان الإلهي الكامل الذي أتى بهِ ربنا يسوع المسيح لهُ المجد والإكرام والسجود.
الفصل الثامن
الكنيسة
في دستور الإيمان، إعلانٌ للإيمان بإلهٍ واحدٍ ثالوثيّ الأقانيم: الآبُ والإبن والروح القدُس وإعلانٌ أيضاً بالإيمان بالكنيسةِ الواحدةِ القدّوسة الجامعة الرسولية. إذاً الكنيسةُ هي بندُ إيمان. في رسالة الرسول بولس الى أهل أفسس إعلانٌ إيمانيٌّ كبيٌر: الآبُ إلهٌ واحدٌ، يسوعُ ربٌّ واحدٌ، الإيمانُ واحدٌ، الكنيسةُ واحدةٌ والمعمودية واحدة.
في الإنجيل وردت لفظة الكنيسة في متَّى 16. قال الرب لبطرس: ” أنتَبطرس وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي، وأبوابُ الجحيم لن تقوى عليها”. قال هذا بصيغة المستقبل لأن الكنيسة تأسّست يوم العنصرة. وقال في الفصل 18:”إن أخطأ اليك أخوكَ فاذهب وعاتِبهُ بينكَ وبينهُ وحدكما، … وإن أبى أن يسمعَ لهم فقُل للبيعة، وإن لم يسمع من البيعة ايضاً، فليكُنْ عندكَ كوثَنيّ وعشّار”.
الكنيسةُ صاحَبةُ سلطة، وهي مبنيةٌ على صخرةٍ، والصخرةُ هي المسيح. الآباء القديسون مثل يوحنا فم الذهب وسواه قالوا إن الصخرة هي المسيح لهُ المجد.
في رسائل بولس الى روميَة وكورنثوس الأولى وأَفسس وكولوسي وتيموثاوس، الكنيسةُ ذاتُ شأنٍ كبير.هي جسدُ المسيح والمؤمنون هم أعضاءٌ في هذا الجسد، وكلٌّ منهم هو عضوٌ للآخرين. هذه الأعضاء متَّحِدة بعضُها ببعضٍ إتحاداً كبيراً. الروح القدُس الساكن في الكنيسة يجمعُ الأعضاءَ بعضها الى بعض. وفي رومية،الروح القدُس الساكنُ فينا هو الذي يُصلّي ويقول: أبّا أيها الآب. الروح يعضُد ضعفنا لأنا لا نعلم كيف نُصلّي كما ينبغي، ولكنَ الروح نفسَهُ يشفعُ فينا بأنّاتٍ لا يُنطَقُ بها”
في 1 كورنثوس 12 :”لا يستطيع أحدٌ أن يقول “يسوعُ ربٌّ” إلا بالروح القدس”. هو لا يعترفُ بيسوع ربّاًمن تلقاء نفسِه. الروح القدُس الساكنُ فيه هو الذي يعترفُ بأن يسوعَ هو الربُّ.
الكنيسةُ هي جسد المسيح. آباءُ الكنيسة الناطقونَ باليونانية استعملوا لفظة بولس الرسول. الغرب زادَ عليها كلمة ” السرّي” باليونانيMisticos وبالفرنسي Mystiqueوبالإنكليزي Mystical بالإنكليزي. هذه اللفظة غير معهودة عند آباءِ الكنيسة الناطقين باليونانية. إسنعمل اللاهوتيّون لوسكي وستانيلاواي وليف جيلله هذه اللفظة،وهذا خطأ وصلَ إلينا من الغرب وهو ليس أرثوذكسياً. آباءُ الكنيسة مع بولس الرسول يقولونَ حرفياً: “الكنيسةُ هي جسد المسيح”.
تأسّست الكنيسة يوم العنصرة بحلول الروح القدُسعلى التلاميذ، فصنَعَهُم يسوع أعضاء في جسدهِ. في المعمودية يصيرُ كلُّ إنسانٍ عضواً في جسد المسيح. “المسيحي هو مَن اعتمَدَ ” على ما في الفقرة الأولى من كتاب “السلَّم الى الله”. في غلاطية 3: 26 ” أنتم كلُّكم أبناءُ الله بالإيمان بالمسيح يسوع”. المعمودية هي التي تجعلُنا أبناءَ الله. بالإيمانِ وبالمعمودية نصيرُ أبناءَ الله.
كيف صار التلاميذ أعضاء في جسد المسيح يوم العنصرة؟ هذا سرٌّ إلهيٌّ. ما دُمنا نقول: أؤمن بكنيسةٍ واحدة، يكون هذا بندُ إيمان وليسَ مسألةً عقليةًخاضع للتحليل العقلي. نجتهدُ في الفَهم ولكن السرَّ يبقى سراً.هذا سرٌّ إيمانيٌّ، وما دام سراً إيمانياً، فنحن نقبلُ هذا السرّ كما جاءَ في الكتاب الإلهي وفي تعليمِ الكنيسة.
في المعمودية نصيرُ أعضاء في هذا الجسد، كيف؟ الله يعلم. هذا بندٌ إيمانٌّي. يصيرُ كلُّ واحدٍ منّا عُضواً للآخرين.
بولس الرسول استعملَ صورةً أخرى وهي البنيان. نحن مبنيّون على أساسِ الرُسُل وأنبياء العهد الجديد، والمسيح هو حجر الزاوية الذي جمعَ المؤمنين من اليهود والوثنيّين. نيكولاوس كاباسيلاس في كتابهِ “الحياة في المسيح” أعطانا تحليلاً جيداً: بالمعمودية نأخذُ الطبيعة، بالميرون نأخذُ الروحَ القُدُس كقوةٍ تُنمينا في المسيح حتى نبلغَ الى ملءِ قامةِ المسيح. والكائنُ العضوي يحتاجُ الى الطعامِ والشراب. المناولة المقدّسة هي طعامُ وشراب هذا الجسد، والفضائل هي الثوبُ المتلألىء بالأنوار الذي يلبسهُ المؤمن المجاهِد الذي يكبح أهواءَهُ ويزرع مكانَها الفضائلَ حتى تُصبح الفضائل فيه طبيعةً ثانية.
الكنيسةُ هي جسد المسيح، ويسوع يهتمُّ بجسدِه، فإذاً هو يهتمُ فينا. في الفصل 15 من إنجيل يوحنا يسوع هو الكرمة وأبوه هو الحارث. أبوه يتولّى تقليمَ الأغصانِ فيقطع الأجزاء الفاسدة لتنموَ الأغصان وتُعطي ثماراً جيدة أكثر فأكثر. أبوه السماوي يتولّى العناية بنا لنحمِلَ أثماراً أكثر فأكثر، والأثمار هي الفضائل، والفضائل في غلاطية هي ثِمار الروح القدُس الساكنُ فينا. فكما النسغيُغذّي أغصان الشجرة وثمرها، الروح القدُس الساكنُ في الكنيسة هو يغذّي فينا الفضائل، والفضائل هي ثِمارُ الروح القدُس. الأمرُ يحتاجُ الى التوبة الى الله لأن يوحنا المعمدان قال: أثمروا ثماراً تليقُ بالتوبة.دعا يوحنا الى التوبة ويسوع ايضاً دعا الى التوبة. بالتوبة نتحسَّن أكثر فأكثر حتى نبلغَ مِلءَ قامةِ المسيح كما جاءَ في رسالةِ أَفسس.
الكنيسةُ إذاً مؤسسةٌ إلهيةٌ عظيمةٌ جداً. كلمة مؤسسة لا تؤدّي المعنى ولكن بما أنها موجودةٌ على الأرض نقول مؤسسة ولكنها هي جسدُ المسيح. يسوعَ المسيح وضعَ في الكنيسةِ خدمات، ووضعَ فيها الرُسُل والأنبياء أي أنبياء العهد الجديد،ومعلّمينَ ومبشّرين ورُعاة ورجالَ خدمات، ومواهب متعدّدة، ومواهب شفاء، وكلُّ هذا من أجل المؤمنين لبنيانهِم في المسيح ولنموّهِم في المسيح. الكهنة والشمامسة والأساتذة هُم خَدَمٌ للمؤمنين. أقامَهم الرب يسوع ليخدمونا، فإن كانوا أُمَناء نالوا مكافأةً عظيمة، وإن أساءوا الأمانة لَقوا عذاباً أليماً وكان حظُّهم مع المرائين.
الكنيسةُ على الأرض بحاجةٍ الى خَدَم. أقامَ لها الروحَ القدُس الخدَم وأنواع عديدة من المواهبوالله يعلم عدَدُها.يترك الميرون مفعولاً إلهيّاً على الذينَ نالوا نعمةَ الروح القدُس. بولس تكلم عن أنواعٍ عديدة من المواهب ولكن هناك فارق أساسي بين المواهب وبين النعمة المؤلِّهة. النعمة المؤَلّهة تُصيِّرُنا قديسين متألّهين، بينما تكون المواهب ممنوحة للبعض لأجلِ خدمةِ الكنيسة ولا علاقةَ لنا بها شخصياً. الروحُ القدُس هو الذي يفعل. قد يسقُط صاحبَ المواهب كما سقطَ يهوَذا الإسخريوطي. يقول الذهبي الفم إن يهوذا كان مثل باقي الرُسُل الذينَ أرسَلَهُم الرب يسوع للتبشير. صنع كل العجائب التي صنعَها الرُسُل الآخرين ومع ذلك سقطَ. الرب يسوع نفسُهُ قال: “في ذلك اليوم سيقولونَ لهُ أليسَ باسمكَ تنبّأنا وباسمكَ أخرجنا الشياطين وباسمكَ صنَعنا العجائب؟ فيُجيبُهم الرب يسوع: إني لا أعرفكم. لماذا؟ لأنهم لم يعملوا بمشيئةِ أبيه السماوي.
فإذاً هناكَ فارقٌ كبيرٌ بين المواهب التي يفعل بموجبِها الروح القدُس وبين العمل بوصايا الله. العمل بوصايا الله يحتاجُ الى نعمةٍ مؤلِّهةٍ تصنعُ من الإنسان كائناً روحياً ممتازاً كاملاً مطهَّراً بنارِ الروح القدُس. إنساناً قد بلغَ ملءَ قامة المسيح وصار من أبناء الملكوت والمجاهدين، ليكونوا مع المسيح في السماء ويصيروا كما قال الربُ نفسُه يسوع شموساً مشعَّة في ملكوت الآب. في كتابي “المواهب الإلهية” تحليلٌ آبائيٌّ وكتابيٌّ للموضوع فليراجع هناك. إذاً المهم في الكنيسة هو النعمةُ المؤلِّهة التي تؤَلِّه الإنسان. والنعمة المتعدِدة الأشكال هي التي تصنعُ فينا القداسة والبِرَّ والسماح.
في غلاطية هناكذكرٌ للحربِ القائمة فينا بين الروح والجسد. الروحُ يشتهي ضدَّ الجسد والجسد يشتهي ضدَّ الروح. الجسدُ يظهر في الأعمال الشريرة، أما الروح فتتلألأ بالفضائل بفعلِ الروح القدُس. في الفصل السابع من روميَة هناك تحليلٌللوضع بدقَةٍ أكبر فيذكر الحرب الداخلية القائمة في الإنسان بين أهوائهِ الأرضية وميلِهِ الى الله، وصورةُ الله،فيشتاق الى أصلهِ. في داخل الإنسان حربٌ بين ضميرهِ الحيّ الذي يرفض ارتكاب الشرور، وبين أهوائهِ وشهواتهِ الأرضية التي تجعله ينزلق الى الشرور.
يسوع إذاً وضعَ في الكنيسة مواهبَ عديدة وخدماتٍ عديدة، والمواهبُ نفسُها هي خدماتٌ في الكنيسة لبِنيانِ المؤمنين. يلحُّ القديس يوحنا فم الذهب على الرُعاة لكي يهتمّوا بالرعيّة اهتماماً كبيراً جداً. وهناك في بولس الرسول مواضع عديدة تُلزِم الرُعاة بأن يهتمّوا بالرعيّة اهتماماً واسعاً، ويذكِّر بأنهم مطالَبونَ بالحساب عن الرعيّة وإن أهملوها كان لهم عقابٌ جسيم.
الكنيسةُ اذاً هي جسدُ المسيح. في أفسس وكولوسي والرسالة الى العبرانييّن، الكنيسةُ لا تشمل البشر فقط بل تشمُل أرواحَ الأبرارِ المكمَّلينَ في السماء، وتشمُل الملائكة أيضاً. ولذلك نحنُ والملائكة صِرنا رعيَّةً واحدةً في الكنيسة، والرأس هو يسوعَ المسيح لهُ المجد. يسوع هو رأسُنا وهو الذي جمَعَ كلَّ شيءٍ في ذاتِه فصارَ رأساً لكل شيء. الكنيسةُ هي شعبُ الله الجديد. في رسالة بطرس: نحن رعيّة الله الجديدة، نحن شعبُهُ الجديد، ونحنُ كهنوتٌ ملوكيٌّ جديدٌ بدَلاً من اليهود. اليهود لم يعودوا شعبَ الله، صِرنا نحنُ المسيحييّن شعبَ الله الحقيقي. نحن شعب الله الجديد.
في رؤيا يوحنا 1 و 5، نحنُ كهنة للآب ويسوع غسلنا بدمِهِ وجَعَلَنا لأبيه السماوي كهنةً وملوكاً وربما في بعض النصوص مملكةً.”كهنوتٌ ملوكيٌّ” هذا إشارة الى ما جاءَ في الرسالة الى العبرانيينَ أيضاً وهو أن يسوعَ المسيح لهُ المجد ليس من نسل لاوي وهارون بل هو كاهنٌ على رتبةِ ملكيصاداق، هو رئيسُ كهنة على رتبةِ ملكيصاداق لا على رتبة هارون، وهو من نسلِ يهوذا الذي لم يخرج منه خدماً للهيكل. نسلُ يهوَذا نسلٌ ملوكيٌّ خرج منه داوود ثم المسيح، ولذلك المسيح هو رئيس الكهنة الحقيقي في الرسالة الى العبرانيين. هو رئيسُ كهنةٍ في السماء يشفعُ فينا لدى الآب، ونحنُ كلُّنا ممسوحونَ كهنةً. ما هو كهنوتُنا؟ هو ما جاء في روميَة :كهنوتنا هو أن نقدِّم أنفُسَنا ذبيحةً حيّةً مرضيّةً لله، ذبيحةً روحية لله”. فإذاً كلُّ المؤمنين هم كهنةُ لله العليّ لتقديم ذواتِهم وبعضهم بعضاً قرابينَ لله. لذلك نقول في خدمة القداس وفي صلواتنا وأدعيتِنا: “لنودِع ذواتَنا وبعضُنا بعضاً وكلَّ حياتنا للمسيح الإله”.
فإذاً لا يقل أحد إن المسؤولية كلَّها تقع على عاتق الكهنة والأساتذة. كلُّنا مسؤولون، كلُّنا كهنةً بنسبةٍ ما، نقدِّمُ أنفُسَنا قرابينَ لله. كلُّنا في الكنيسة مسؤولونَ لأننا جميعاً أعضاء في جسدِ المسيح وكلُّ عضوٍ في الجسد لهُ وظيفتُهُ. رسالة أفسس واضحة، الله وزَّعَ الوظائف والخِدَم على الأعضاء وأعطى لكل عضوٍ خدمةً. فيبقى على كل عضوٍ أن يؤدّي الخدمة، أن يستعملَ المواهب التي أخذَها من يسوع وأن يستعملَ النِعَم التي أخذَها من يسوع ليضَعَها في خِدمة الكنيسة. كلُّنا مسؤولونَ في الكنيسة ولا يجوزُ أن يتهرّب لا علمانيٌّ ولا إكليريكيٌّ من الخدمة في الكنيسة، ولا يجوز أن يضَع أحدٌ منا المسؤولية على الآخرين دون سواه. كلُّنا مسؤولون، وكلُّنا سنؤَدّي الحساب، وكلُّنا أخذنا وزنات، وكلُّنا مسؤولون عن الوزنات. مَن لا يستعمل الوزنة سيُحاسَب حِساباً شديداً ويُقطع ويُلقى في النار.
الكنيسةُ جسدُ المسيح تجمعُنا جميعاً. لا فرقَ بين رجلٍ وامرأةٍ، وبين طفل وكبير. الكلُّ أعضاءٌ في الكنيسة، والكلُّ يقومُ بعملهِ. الذهبي الفم ذكرَ أن المعمودَ حديثاً يلمَع أكثرَ من الشمس طوالَ يوم أو يومَين. فإذاً الطفل الذي اعتمدَاستنارَ. الإستنارة موجودة حتى في الطفل. الطفل ينمو في المسيح ويبقى على أهلهِ أن يقوِّموه تقويماً حسَناً. لدينا أطفال شُهداء،لا فرقَ إذاً. الروح القدُس يعمل في المعمودينَ جميعاً سواءً كانوا صغاراً أو كباراً. بولس الرسول واضح: لا من رجلٍ ولا من امرأة، لا من عبدٍ ولا من حرٍّ، لا من وثَنيٍّ ولا من يهوديّ، الكلُّ واحدٌ في المسيح.
لا يستطيع أحد أن يتهرّب إذاً من المسؤولية. يسوع وحَّدَ الرجال والنساء والعبيد والسادة. رسائل بولس الرسول واضحة. العبدُ المؤمن هو أخٌ لسيّدهِ المؤمِن وكِلاهُما عبدٌ ليسوعَ المسيح ويشتركان في العبودية ليسوعَ المسيح، فلذلك لا يجوز أن يتكبَّر أحدٌ على عمّالِهِ وخدَمِه المسيحيين. فلتتعلّم النساءُ عندنا الإحترامَ للخَدم والخادمات المسيحيّين، وليعاملنَهُنَّ كإخوة وأخوات بكل احترامٍ وتهذيب وأن يهتمِمنَّ بأرواحهنَّ وأن يصطحبهنَّ الى الكنيسة في الأعياد وايام الآحاد. إحتقار الخدَم والخادمات خطرٌ كبيرٌ، فملائكتُهُم في كل حينٍ تنظر وجهَ الله وتُدافع عنهم أَمامَ الله. أيُّ ظلمٍ يلحقُ بهم يكون أمراً مخيفاً لنا لأن ملائكتهُم واقفةٌ أمام الله في الدفاع عنهم ضدَّ ظالميهم. الظلمُ عارٌ كبيرٌ والإنسانُ فاسدٌ يرتكبُ الجرائمَ ويا للأسف الشديد.
الوظائفُ في الكنيسة ليست أمجادَ وليست فخراً وليست مجالاً للكبرياء والإنتفاخ والعجرفة، هي خدمات. يسوع نفسُهُ له المجد قالَ إنهُ جاءَ ليخدِمنا لا لنخدمهُ. وفي العشاء السرّي خدَمَ الرُسل وقال لهم: أنا بينكم كمَن يخدُمُ. إذا كان يسوع ربُ المجد خادمُ المؤمنين، فإذاً على البطاركة والمطارنة والأساقفة والكهنة والشمامسة أن يتواضعوا ليغسِلوا أرجُلَ المؤمنين كما غَسَلَ يسوع أرجُلَ تلاميذه وقال لهم: أنا أعطيتكم قُدوةً. نعم. أعطاهُم قُدوةً للعملِ بهاوما هو خلافُ ذلك إنما من الشرير كما قال يسوع، وما زادَ على ذلك فهو من الشرير. لا أدينُ الآخرين ولكن أتكلم لاهوتيّاً. ما ذكرتُ أحداً بالإسم، أتكلمُ لاهوتياًبصورةٍ مجرَّدة صادقة مئة في المئة. لا أكذب عمداً، أتكلم في اللاهوت بصِدقٍ إلهيّ. أسألُ الله دائماً أن يحفظني من الزَلل ومن الشطط ومن الإنحياز ومن الغضب. جعَلَني الله سالماً من الأغراض الدنيئة وجعلَني خادماً أميناً لهُ في كل شيءٍ له المجد.
الكنيسة، جسدُ المسيح تستحقُ من المؤمنين كلَّ أنواع التضحيات. الشهداء ماتوا من أجل الكنيسة، ماتوا من أجل إيمانهم ومن أجل كنيستهم. القديسون جاهدوا وناضلوا من أجل الكنيسة، النسّاك في البراري وفي المناسك يصلّون من أجل الكنيسة. هُم أدوات الروح القدُس، هم مغناطيس يجذب الروح القدُس، يجذب المسيح، يجذب النور الإلهي الى الأرض فنتقدَّس بهم. صلواتُهم تحمينا، صلواتهم تحمي الأمم، صلواتُهم تحمي الكرة الأرضية.
الإنجيل هو كتابُ الكنيسة، وليست الكنيسة هي الكتاب المقدَّس. الكنيسةُ أولاً لا كتابها، هنا يقع ضلال البروتستانت جميعاً. يُهملونَ الكنيسة ويضعون الكتاب المقدَّس في المقام الأولوالكنيسةُفي المقام الثاني. المقام الأول هو للكنيسة.
الكتاب المقدس هو كتابُ الكنيسة وهو رسالةُ الكنيسة، والكنيسةُ هي جسدُ المسيح. الذهبي الفم وأغسطينوس فسّرا كلامَ الرب يسوع لبولس لما اهتدى. قال الربُ يسوع لبولس:”شاوول شاوول لماذا تضطهدُني؟” شاوول ما كان يضطَهد المسيح بل كان يضطَهد الكنيسة. فإذاً برأيهما الكنيسةُ هي المسيح، ومَن شقَّ الكنيسة فقد شقَّ جسدَ يسوعَ المسيح كما يقول الذهبي الفم. الكنيسةُ فوق كلّ شيءٍ في العالم. هي قُدسُ أقداس الله على الأرض، وكما ذكرنا هي واحدةٌ في السماء وعلى الأرض، ونحن والملائكة والمكمَّلون رعيّةً واحدة.
الكنيسة الأرثوذكسية لم تقل إن هناكَ كنيسةً مجاهِدَة على الأرض وكنيسةً ظافرةً في السماء، هذا تعبيرٌ لم يَرُد لدى الآباء ولا في الكتاب المقدس. لماذا هذه التجزئة التي لا معنى لها؟ نحنُ والملائكة والأبرار كنيسةً واحدة،ورعيّةً واحدة رأسُها يسوعَ المسيح والروح القدُس هو الساكنُ فيها. يصلّون من أجلنا ونجن نُصلّي من أجلهم، تقومُ بيننا شركَة.نحنُ لا نعتبرُ أمواتَنا أمواتاً، بل نعتبرهُم أحياء لدى الله في النور الإلهي مع يسوع عن يمين الآب. هذا الفصلُبين الأحياء والأموات مضرٌّ في الفَهم الحقيقي للّاهوتِ المسيحي.
نحنُ كنيسةٌ واحدةٌورعيةٌ واحدةٌونحنُ كلُنا أعضاءٌ في جسدِ يسوعَ المسيح،فلماذا هذا التفصيل لجسدِ يسوعَ المسيح؟ لماذا هذا التقطيع؟ نحنُ لا نقبلُ بهِ. نحنُ وأمواتُنا رعيَّةً واحدةً. لا نؤمنُ بالموتِ بل نؤمنُ بالإنتقال من الموتِ الى الحياة. نحن ننتقلُإنتقالاً على رجاء القيامةِ والحياةِ الأبدية، فلذلك لا فصلَ بيننا وبين الراقدينَ المؤمنين. كلُّنا واحدٌ في المسيح. الروحُ القدُس يجمعُنا. بالروح القدُس نُصلّي من أجلِهم، وبالروح القدُس يُصلّونَ من أجلنا.
في روميَة،إعتبرَ بولس الرسول الصلاة حرباً، وطلبَ من أهالي روميَة أن يحاربوا معهُ في الصلاة من أجلهِ. هذا كلامٌ قويٌّ جداً. بولس يلتمسُ صلاةَ الآخرين وليس بصورةٍ عادية بل حرباً في الصلاة. ويرِدُ مثلُ هذا في كولوسي. الصلاةُ حربٌ ضدَّ الشياطين، ضدَّ الأهواء، ضدَّ الضعف، ضدَّ التخاذل، ضدَّ كل المخازي. الصلاةُ هي أداةٌ للإتحاد بالله لهُ المجد. أنا ذو روحٍ، فكيفَ تتّصل روحي بالله إلا عن طريق الصلاة؟ أسكُبُ نفسي في الله فيسكُب روحَهُ فيَّ. والكنيسةُ هي المكانُ الممتاز للصلاة فيُصلي المؤمنون بعضهم للبعض الآخر سواءً كنا في السماء أم على الأرض.
الكنيسةُ هي جسدُ المسيح، هذا تعريفٌ كافٍ. في هذا الجسد، الكلُّ متساوٍ، الكلُّ محترمٌ، والضعيفُ فينا هو الذي يستقطبُاهتمامَنا. العضو الضعيف هو الذي يستقطبُ الإهتمام فلذلك ما من عضوٍ محتقرٍ أبداً. الضعيفُ المريض هو الذي يستحقُ كلَّالإهتمام.
أوصانا الذهبي الفم وسواه أن نُصلي من أجل الضُعفاء، من أجل الهالكين ومن أجل الساقطين. أوصونا أن نتألّم معهم. نحنُ نشتركُ مع بعضنا البعض في الأفراح والأتراح. الفصل 12 من روميَة رائعٌ: فرحاً مع الفَرحين وحُزناً مع الحزانى.يجب أن نُشارك. “إن جاعَ عدُوُّكَ فأطعِمهُ وإن عطشَ فاسقِهِ “. هذا تعليمٌ كبيرٌ وعلينا أن نُبارك ولا نَلعن أبداًلأنمحبة الآخرين مهمةٌ جداً.
وفي الكنيسة، المحبةُ مهمةٌ جدًّا. في العهد الجديد، يسوع لهُ المجد، بذَلَ نفسَهُ في سبيل الكنيسة وبولس الرسول أوصى الرجلَ أن يبذلَ نفسَهُ من أجل زوجتهِ لأنها جسدهُ كما أن الكنيسة هي جسدُ المسيح. قارنَ بولس بين الرجل وامرأتهِ، وبين المسيح والكنيسة. فإذاً، الزَوجان هما صورةٌ عن المسيح والكنيسة. المسيحُ أحبَّ الكنيسة وبذَلَ نفسَهُ من أجلها، والزوجُ عليه أيضاً أن يبذُلَ نفسَهُ في سبيل زوجته، ولا يقفُ الأمرُعند هذا الحدِّ فقط، فكلُّ واحدٍ منا مطالَبٌ في رسالة يوحنا الأولى أن يبذُلَ نفسَهُ من أجل الآخرين.
إذا كنا جميعاً أعضاء في جسد المسيح الواحد الممتلىء من الروح القدُس،فما هي علاقاتُنا بعضُنا ببعضٍ؟ المحبةُ القلبية الطاهرة المطهَّرة بالروح القدُس هي التي تجمعُنا في يسوعَ المسيح. بولس صريحٌ، طالبَنا أن لا نكونَ مَدينينَ لأحدٍ إلا بالمحبة، أن لا يكونَ علينا حقٌّ لأحدٍ إلا للمحبة. المحبةُ هي حقٌّ لكل إنسانٍ علينا.المحبةُ هي بلا حدود. حدُّها المقبول هو أن ابنَ الله صارَ إنساناً وبذلَ نفسَهُ على الصليب ذبيحةً من أجلنا، فدفعَ ذاتَهُ طعاماً وشراباً الى المؤمنين. هذا هو النموذج الأكمل الإلهي للمحبة. محبةُ المسيح للإنسان هي عظيمةٌ بقَدَر عظمَةِ الله نفسهُ لأنها محبةُ الله، وهي غيرُ محدودة لأن الله هو غيرُ محدود، وهي النموذج الذي علينا أن نتمثّلَ بهِ. علينا أن نُحبَّ بعضُنا بعضاً كما أحبَّ المسيحَ الكنيسة. الحبُّ الزَوجي في رسالةِ أفسس الفصل الخامس واضح، صورةٌ عن حب المسيح للكنيسة، والكنيسة للمسيح.
ولذلك نحنُ علينا أن نأخذَ من طبيعة العلاقات الزوجية صورةً أرضيةً نسبيةً عن المحبة. قد تعترضُ علاقات الزوجَين غيومٌ لأن البشرَ ضُعَفاء، ولكن من حيثُ المبدأ هما صارا جسَداً واحداً وليسا بعد اثنَين، وما جمَعَهُ الله لا يفرّقهُ إنسانٌ أبداً. هذا الإلتحام بين الزَوجَين في رسالة بولس هو صورةٌ عن الحب الإلهي للكنيسة. والأطفال يَحظونَ بجزءٍ كبيرٍ من هذه المحبة. علينا أن نأخذَ من حب الأم لطفلِها قُدوَةً ليُحِبَّ كلُ واحدٍ منا الآخرين من كل قلبهِ،من كل قوّتِه،ومن كلِ طاقاتِه. المحبةُ لا تعرفُ حدوداً. المحِبُّ يبذلُ نفسهُ من أجل الآخرين، وأهمُ شيءٍ إذاً هو البَذل. طبيعةُ المحبة هي البَذلُ، السَخاء، العطاء، سفكِ الدماء. المسيحُ أحبَّنا فسُفِكَ دمَهُ من أجلِنا، ونحنُ علينا أن نكون دائماً في هذا الإستعداد عينِه لكَي نبذُلَ ذواتنا من أجل الآخرين، من أجل الكنيسة،ومن أجل إخوتِنا.ومَنْ هو أخونا؟ كلُّ الناس إخوتنا. مَثَلُ السامري الشَفيق واضحٌ، أخوكَ هو الذي يُحسِنُ إليكَ.
في المسيحية تختفي كلُّ الإعتبارات البشرية. لا تمييّز بين الأقوام والأجناس والبشر، الكلُّإخوة في المسيح. لا فرقَ بين الأبيض والأسود والأصفر،ولا فرقَ بين صغيرٍ وكبيرٍ، بين رجلٍ وامرأة، بين عبدٍ وسيِّد، بين ملكٍ ومملوك، بين راعٍ ورعيّة، بين قائدٍ وأفراد. في المسيحِ، الكلُّ واحدٌ والكلُّ في خِدمة الآخرين. محبةُ الآخرين لهيبَ نارٍ. في نشيدِ الأناشيد، المحبة لهيبَ نارٍ بل أقوى من النار. في بولس الرسول، المحبةُ مطالبَةٌ بأن تكونَ حارّة. في كورنثوس الأولى وصفٌ للمحبة رائع: المحبة لا تحسد ولا تغضب.
الأخلاق المسيحية هي مبنيَّة على عضويّتِنا في جسدِ ربنا يسوع. كما أن الروحَ القدُس يجمعُ الأعضاء في جسدِ المسيح، كذلك المحبةُ تجمعُنا في جسدِ يسوعَ المسيح. إن أحبَبتُ الآخرين، أكونُ قد أحبَبتُ يسوعَ المسيح نفسُه. في متّى، أيُّ إحسانٍ نصنعُهُ للغير إن كان روحياً أم جسدياً هو إحسانٌ الى يسوعَ المسيح نفسه. بولس علّمَنا أن لا نحتقرَ الآخرين ولا نعزلَ الآخرين لأنالمسيح ماتَ من أجلالأخ الضعيف. هذا الذي ماتَ المسيحُ من أجلهِ، كيف يجوزُ لنا أن نحتقرهُ، أن نهينهُ، أن نَذُلَّهُ،وأن نُسيءَ معاملتَهُ.
إذاً، إحترامُ الآخرين هو احترامٌ للمسيح، والإحسانُ الى الآخرين هو إحسانٌ الى المسيح. هل يجوزُ لنا أن نحتقرَ مجنوناً أو أبلهاًأو أحمقاً أو ساقطاً؟ لا، فكلُّ خاطىءٍ هو قبرٌ للمسيح نركعُ أمامَهُ حتى يقومَالمسيحُ فيه.وما دُمنا على الأرض، نحنُ لا نستطيع أن نَدينَ الآخرين دينونةً نهائيةً. نهتمُّ بالآخرين كما نهتمُّ بأنفسِنا.
مكسيموس المعترف عرَّفَ المحبة فقال إنها محبةُ الأعداء. بولس علّمنا أن نحبَّ أعداءَنا وأن نُحسِنَ إليهم. هذا غايةُ المرام في المحبة. المحبةُ لا تحقُد أبداً، المحبة تصنعُ الخيَر ولا تصنعُ الشر. وإن كنّا ضُعَفاء فذلك بسبب الخطيئة الساكنة في جسدِنا المائت، والحقيقة تبقى هي الحقيقة. يسوعُ المصلوب على الصليب هو النموذَج الأكمل وكلُّ واحدٍ منّا مُطالَبٌ بأن يكونَ مصلوباً لمصلحةِ الكنيسة ولمصلحةِ الإخوة. الأنانيّةُ عدوٌ كبيرٌ لكل إنسانٍ ولكن علينا أن نتجاوز هذا الضعف لنطبعَ أنفسَنا بالمحبة.
في روميَة: “محبةُ الله انسكبَت في قلوبنا بالروح القدُس”. إذا كانت محبةُ الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدُس، فإذاً لماذا يبرِّر كلُّ واحدٍ منّا نفسَهُ ليسمحَ لنفسِهِ بنوعٍ ما من العَداء للآخرين وإلقاء اللّوم على الآخرين؟المحبةُ صفاءٌ وشفافيةكاملة. تكون السماءُ صافية فيها وهي نعمةٌ من نِعَمِ الروح القدُس. الروحُ القُدُس لهُ المجد هو الذي يُطَهّرُنا من كل خطيئة. في إنجيل يوحنا كلامٌ رائع عن محبةُ الله لنا. هناك تفصيلٌلعملية سُكنَى يسوعُ فينا، وسُكنانا في يسوع، واتِحادنا بيسوع واتِحادُهُ فينا.
الفصل التاسع
الكنيسة الأرثوذكسية
الكنيسة الأرثوذكسيَّة كنيسةٌ تعودُ الى العنصرة المجيدة. في يوم العنصرة المجيدة حلَّ الروحُ القدُس على التلاميذ فعمَّدَهُم وأسّسَ الكنيسة فكانوا الرعية الأولى في الكنيسة. عمَّدَهُم فصاروا أعضاء في الكنيسة التي هي جسد المسيح كما مرَّ معنا.إعتمدَ في ذلك اليوم ثلاثة آلاف، وهكذا أخذت المسيحية تنتشر في أصقاع الأرض لأن الحاضرين في أورشليم يوم العنصرة كانوا ينتسبون جغرافياً الى أماكنَ عديدة في المتوسط وإيران.فحملَ بعضهم حتماً الإيمان الأرثوذكسي إلى مناطقهم.
وقع اضطهادٌ على الكنيسة بعد رجم القديس استيفانوس رئيس الشمامسة، فغادرَ المؤمنون أورشليم الى السواحل.إنتشروا في السواحل وقبرص حتى وصلوا الى أنطاكيا. سافرَ بولس الرسول الى دمشق فاهتدى قبَيل دمشق. بشَّر في دمشق ثم هرب الى ديار العرب. اللفظة اليونانية تعني دولة الأنباط التي كانت دمشق آنذاك تابعةً لها. فإذاً، خرجَبولس في اتجاه حوران وربما وصل عمان وربما وصلَ البتراء، لا ندري. أين تجوّلَ؟ لا ندري، ولكنه مرَّ في حوران. هل اجتاز نهر اليرموك الى الأردن الحالي؟ هذا لا نعلمه. عادَ الى دمشق، فالقدس، فكيليكيا الى بلده طرسوس وكيليكيا سوريا.
أخذت الكنيسةتنتشرُ بامتياز في السواحل حتى وصلت الى أنطاكيا وقبرص. بولس حلَّ في كيليكيا والكنيسة أرسلت برنابا الى أنطاكيا فذهب الى طرسوس في كيليكيا وأتى الى أنطاكيا.صارت أنطاكيا مركز إنطلاقات بولس الرسول التبشيرية. إنطلقَ منها الى قبرص والى تركيا الحالية ثم عبرَ الى بلاد اليونان.أتى فلسطين تارةً بحراً وتارةً براً، والطريق البري يمرُّ شرقي سلسلة الجبال إبتداءً من منطقة جسر الشُغور الى شتورا فنابلس فأورشليم لأنهُ مرَّ على السامرة. مَنْ بشّرَ في طريقه البري؟ لا نعرف. نعرف من أعمال الرسل أنهُ مرَّ على صور، على أفسس صيدا، على قيصرية فلسطين، على عكّا، ولكن ربما مرَّ على مناطقَ أخرى لا ندري، ليست لدينا كل التفاصيل. ولكن نعرف أن المسيحية انتشرت في بلادنا وفي تركيا الحالية وفي اليونان. بطرس مرَّ على أنطاكيا أيضاً. نلاحظ في أعمال الرسل أن بولس لاقى صعوبات في أمكنةِ التبشير ما عدا أنطاكيا. في أنطاكيا إنفتحَ المبشّرون على الوثنييّن وبشّروهم بالإيمان. وصل بطرس وبولس الى روما. وفي العهد الجديد ذِكرٌ لسفر بولس الى أسبانيا أيضاً. طبعاً مرَّ على يوغوسلافياالحالية في تبشيره. وهكذا عمَّت البشارة المناطق التي نسمّيها اليوم فلسطين ولبنان واليونان وسوريا وتركيا ويوغوسلافيا وإيطاليا وأسبانيا.
الذين حضِروا من إيران يوم العنصرة بشَّروا حتماً. نعلم أن توما وصلَ إلى الهند وبشّرَ الهند. ونعرف من التواريخ أن الرسُل انتشروا هنا وهناك. لم يبقوا في اورشليم بل طافوا. أعمال الرسل اختصر الأمور تقريباً على بطرس أولاً ثمّ على بولس ثانياً، فكانت الكمية الكبرى لبولس لأنه كان رفيق لوقا.
إنتشرت المسيحية في حوض المتوسط فانتقلت الى مصر وليبيا وشمال أفريقيا. في القرن الأول كانت المسيحية منتشرة بنسبةٍ جيدة. في القرن الثاني تطوَّرَ الأمر أفضل فأفضل. في القرن الثالث في شمال أفريقيا ظهر كلكاديانوس وفريانوس وسواهما كتّاباً باللغة اللاتينية بينما الباقون كتبوا في اللغة اليونانية. الإسكندرية كانت مركزاً ثقافياً يونانياً مهماً جداً، والقديس Pandenos أسَّس مدرسة الإسكندرية حوالي العام ١٥٠ للميلاد ثم نافستها أنطاكيا. في القرن الثالث كانت الكنيسة ذات ركائز واسعة في الأمبراطورية الرومانية في كل الحوض المتوسِّط، وكان انتشارها قوياً، فدخلت القصر في روما. القديس جيروم أي إيرونيموس باليونانية والعربية، يقول إن الأمبراطور فيليب العربي كان أول أمبراطور مسيحي قبل قسطنطين. والمعروف تاريخياً أنهُ حاولَ أن يدخل الكنيسة في أنطاكيا فمنعهُ القديس بابيلاس من الدخول إن لم يتُبْ لأنهُاستولى على الحكم بانقلابٍ دموي.
في القصر الروماني، حلَّ أباطرة سوريون غير فيليب الحوراني الذي نسميّه فيليب العربي لأنه كان من منطقة “العربية” ولكنها حوران.بعض الأمبراطورات والأميرات والأباطرة السوريون تأثرَ بالمسيحية. جوليا اجتمعت بأوريجنس وأدخلت صورة المسيح الى القصر. تغلغلت المسيحية ايضاً في روما جيداً. كان العسكر السوري في روما مسيحياً بنسبةٍ جيدة، وأبناء سوريا الطبيعية انتشروا في العالم الروماني يبشِرون بالمسيحية.في النهاية، نحن الذين حملنا البشارة الى العالم.
في القرن الرابع كانت الكنيسة ذات أوضاع مستقرّة ومتمركزة حول عواصم كبرى. المجمع الأول المسكوني المنعقد في العام ۳٢٥ إعترفبروما والإسكندرية وأنطاكيا كمراكز وعواصم كُبرى للمسيحية. أخذت المدن شيئاً فشيئاً تتجمّع حول هذه المراكز التي كانت قوة كبيرة للمسيحية. الإسكندرية في أفريقيا، أنطاكيا في الشرق، وروما في الغرب.
المجمع الثاني المسكوني المنعقد في العام ۳٨١ رفع أهمية القسطنطينية لأنها أضحت عاصمة الأمبراطورية. المجمع الرابع المسكوني فصَلَ فلسطين عن أنطاكيا وأعطاها الإستقلال فصارت المركز الخامس. أصدر الأمبراطور الكبير يوستينيانوس الكبير مرسومه الشهير. فاعترف بروما أولاً، القسطنطينية ثانياً التي رفعَها المجمع الرابع المسكوني في العام ٤٥١ الى هذه الرتبة، والإسكندرية ثالثاً، وأنطاكيا رابعاً، وأورشليم خامساً.
تمركزَ العالم المسيحي حول هذه المراكز الكبرى. وهنا تجدر الملاحظة أن أورشليم مدينة الملك العظيم الرب يسوع المسيح والذي مات فيها على الصليب وقامَ من بين الأموات، صارت مركز الآداب المسيحية رقم واحد وكانت تابعة للكرسي الانطاكي.كان أسقف أورشليم تابعاً لأُسقف القيصرية العاصمة على البحر.
المجمع الرابع المسكوني في العام ٤٥١ أقرَّلأسقف أورشليم الرئاسة فصارت بطريركية مثل كل البطريركيات ولكنها البطريركية الخامسة والأخيرة. فإذاً، المراكز البطريركية هي مراكز للعواصم الكبرى: روما، القسطنطينية، الإسكندرية، أنطاكيا، وأورشليم. ولكنكما ذكرتُ كانت أسقفية تابعة لرئيس أساقفة قيصرية عاصمة فلسطين على البحر بين حَيفا ويافا. من هنا أخذت المسيحية تتطوّر في العالم وتغزو العالم حتى بلغت ما نراه عليه اليوم. الرب يسوع المسيح أنبأنا أنه ستظهر عثرات وشكوك، وبولس الرسول قال لا بدَّ من ذلك ليظهر بِرَّ الأبرار ويتذكّى الأبرار.
في عهد الرسل ظهرَ الهراطقة وظهرَ العرفانيّونgnostiques المخرِّبون الذين حاولوا أن يمزجوا الأديان كلَّها في مزيجٍ خاص غريب جداً. وقفت الكنيسة في وجه الهراطقة جميعاً وحاربت العرفانييّن حتى النهاية. وكلّما ظهرت هرطقة قاومَتها حتى بقيَت مثل الذهب المصفّى. تاريخ الهرطقات تاريخٌ واسعٌ جداً. القديس يوحنا الدمشقي أجرى جردة للهرطقات فبرز العدد مئةً.
ظهور الهرطقات كان يساعد على اللمعان. كان يقف المؤمنون صفّاً واحداً الى جانب الإيمان الأرثوذكسي.أسقَطَ المجمع الأول المسكونيهرطقة آريوس الذي أنكرَ الثالوث القدوس فانتهت الهرطقة إلى زوال. إنتقلت الى الجرمان حيناً ثم زالت وصار الجرمان كاثوليك. ظهرت هرطقات أخرى كانت الكنيسة تردُّ عليها بالمجامع المسكونية، والمجامع لا تصير مسكونية إلاإذا إعترفت بها الكنيسة. وهناك مجامع للهراطقة عديدة لا تعترف بها الكنيسة، رفضتها ورفضت الهرطقة. يوم أحد الأرثوذكسية أي الأحد الأول من الصوم الكبير يقرأ المرء في التريودي جردةً واسعةً للهراطقة والهرطقات التي رفضتها الكنيسة جميعا،فبقيَ الإيمان الارثوذكسي هو الذهب المصفّى.
المجامع المسكونية سبعة. مَن شاء الإطلاع فليطالع كتاب “الشرع الكنَسي”. هذا الكتابمترجَم عن الإنكليزية في مجموعة إنكليزية إسمها “Post Nicene fathers”.ترجمهُ الأنغليكان عن اليونانية. فلذلك يجب العودة الى الأصول اليونانية، والعودة الى الأصول اليونانية تحتاج الى إختصاصييّن في القانون الكنَسي، في الشرع الكنَسي وفي اللغة اليونانية. وهناك عدة طبعات للمجامع المسكونية، وهناك دراسة في عدّة مجلدات بالألمانية تُرجمت موسّعةً الى الفرنسية. هذا شأن الإختصاصييّن. كلُّ ذلك يثبت أن الكنيسة الأرثوذكسية أمينةٌ مئة في المئة للمجامع المسكونية وللآباء القديسين. المجمع الأخير إنعقد في العام ٧٨٧، فأقرَّ إكرام الأيقونات. نحترم الأيقونات ولا نعبدها.ليس في التقليد الارثوذكسي تماثيل أبداً، التقليد الارثوذكسي يقوم على الأيقونات. لا يحقُّ لأيّ كان أن يرسم الأيقونات ويعرضها ويبيعها.الأيقونات تحتاج الى رسَّامين يقضون أياماً في الصَوم والصلاة والقراءة والعبادة. ليست المسألة مسألة ريشة وليست المسألة مسألة لوحات، المسألة مسألة إستلهام إلهي لتأتي الصورة بريشةِ لاهوتيٍّ. الكتاب المقدس هو كلام الله المكتوب، والأيقونات يجب أن تكون كلام الله المرسوم.فلذلك يجب التفتيش عن أيقوناتٍ بقلم رسّامين خضَعوا لفن الرسم الأيقوناتي، أي الصوم والصلاة والعبادة ومطالعة الكتاب المقدس وأن يكونوا ذوي سيرة جيدة. كانت الأيقونات غالباً وفي مراحل عديدة حكراً على الرهبان الذين أجادوا رسم الأيقونات. يجب إحترام هذا التقليد بنسبةٍ كبيرة ويجب إعتماد الرسّامين الأتقياء الأفاضل حتى تأتي الرسوم ممسوحةً بتقواهم.
المجامع المسكونية السبعة رسَّخت الإيمان الأرثوذكسي على قواعدَ خالدة، فصارَ الخروج عن المجامع المسكونية هو الخروج عن الإيمان الأرثوذكسي. المجامع السبعة محترمة لدى الكنيسة اللاتينية ولكنها زادت عليها مجامع عديدة حتى زادَ العدد على العشرين. الكنيسة الارثوذكسية إمتنعت عن ذلك لأن الكنيسة اللاتينية خالفتنا في القرن الحادي عشر وزادت على دستور الإيمان عبارة: “المنبثق من الآب والإبن الذي هو مع الآب والإبن مسجودٌ لهُ وممجَّد”، عبارة الإبن غير موجودة في المجامع، غير موجودة في الإنجيل، غير موجودة في تعاليم الآباء. ويوحنا الدمشقي وثيئوذوريتوس يقولان إن الروحَ القدُس لا ينبثقُ من الإبن.ويوحنا الدمشقي هو أولُ أبٍ من آباء الكنيسة، جمعَ تعاليمَ الآباء القديسين في ملخَصٍ رائع هو “العُمدة في التعليم الأرثوذكسي”. والترجمة العربية بقلمكاهنٍ من طائفة الروم الكاثوليك، تركت النصَ كما هو فجاء في الصفحة ٧٢: “الروح القُدُس لا ينبثقُ من الإبن”. أمام هذا التعليم الصريح، وقفت الكنيسة الارثوذكسية من الكنيسة اللاتينية موقف الناصح الذي نصحَها وما زال ينصَحها بالعودةِ الى نص المجمع المسكوني الثاني المعترَف عليه أرثوذكسياً وكاثوليكياً. الكنيسة اللاتينية تعرف أن النصَّ وردَ هكذا وأن هذه الزيادة حصلت في القرن الحادي عشر بضغطٍ من الأمبراطور الألماني هنري الثاني، وتاريخ القضية معروف.
إستمرَّت الكنيسة الأرثوذكسية كما هي عقائدياً عبر القرون. في القرن الحادي عشر ظهرَ قديسٌ عظيم هو القديس سمعان اللاهوتي الجديد فثبَّت وكرَّس التعليم الأرثوذكسي. في القرن الرابع عشر ظهرَ معلمٌ كبير جداً هو القديس غريغوريوس بالاماس فكان موسوعة آباء الكنيسة. الرجل حافظ على أداء الكنيسة وتعاليمها بدقة، ومؤلِفاته في اليونانية عديدة. هذا المعلِّم الكبير رافقَ التعليم الأرثوذكسي الذي قامَ على الإستشهاد بالآباء القديسين وبالمجامع المسكونية. تبنّى تعليمه جبل آثوس وكل العالم الأرثوذكسي، ولا يزال حتى يومناالمرجع في التعليم الارثوذكسي.
لما أستُدعيَ بالاماس الى مجمع ١۳٥١ في القسطنطينية، سُئِلَ عن مصدر تعليمهِ وعلى ما يستند فقال: أنا أستندُ على المجمع السادس المسكوني.فأُحضِرَ كتاب أعمال المجمع السادس المسكوني وتُليَت أعماله فوُجِد تعليم غريغوريوس بالاماس موافقاً لتعليم هذا المجمع الذيانعُقدَ بسعيِ البابا أغاثون. روما وقفت في وجه بدعة المشيئة الواحدة، وباباواتها كانوا شديدي التمسُك بتعليم الكنيسة التقليدي، أي أن يسوعَ المسيح ذو طبيعة الهية وطبيعة بشرية وذو مشيئة إلهية ومشيئة بشرية وذو فعلٍإلهيٍّ وفعلٍ بشريٍّ. البابا ثيئوذوروس الأول كان من أنصار هذا التعليم، والبابا مارتينوس صديق مكسيموس المعترف عقد مجمع لاترانس في العام ٦٤٩ وثبّتَ تعليم الكنيسة. وبعده جاء أغلب الباباوات يؤيّدون تعليم مكسيموس المعترف. إنعقدت مجامع غربية عديدة تؤيِّد تعليم مكسيموس المعترف صديق روما الكبير والمجمع السادس المسكوني أيَّدَ تعليم مكسيموس المعترف. الدراسات التي أتى بها ممثِلو البابا أغاثون الى مجمع ٦٨١، هي مختارات من آباء الكنيسة، يظنُ العلماء أنها من تأليف مكسيموس المعترف. روما هي أمُ المجمع السادس المسكوني الذي أخذت بهِ الكنائس الشرقية جميعاً. كانت القسطنطينية تخضع للأباطرة بنسبةٍ كبيرة، بينما بقيَ بطاركة أنطاكيا وأورشليم والإسكندرية متأثِرين بمكسيموس المعترف إلا مَن خضعَ منهم للضغط أي لضغط هيرقل. بقيَت كنيسة أورشليم أمينة لتعليم صفرونيوس ومكسيموس المعترف. وهكذا أيَّدت هذه الكنائس الثلاث مجمع ٦٨١، فأرسلت كنيسة أورشليم القديس أندراوس الدمشقي الذي صار أسقفًا على كريت الى القسطنطينية، ليعترف بالمجمع السادس المسكوني.
الحرب على المشيئتَين والفِعلَين في أنطاكيا وأورشليم ومصر لم تنجح بسبب إنحسار النفوذ البيزنطي عن هذه البلاد، فانحصرت الحرب في تركيا الحالية. وفي روما لم تنجح لأن الباباوات إجمالاً كانوا مع تعليم مكسيموس المعترف، فانتصر المجمع السادس المسكوني وكان لهذا الإنتصار شأنٌ عظيم لأنه ثبَّت التعليم التقليدي للكنيسة، أي يسوع أقنومٌ (شخصٌ واحد) في طبيعتَين ومشيئتَين وفِعلَين.
غريغوريوس بالاماس هو إمتداد للمجمع السادس المسكوني وتعليمه مرافق لمجمع التعليم السادس المسكوني. إصطدمت بتعليمه كل المحاولات لزحزحة الكنيسة الأرثوذكسية عن إيمانها القويم. تعليم المجمع السادس المسكوني تعليمٌ متينٌ جداً وراسخٌ مستمرٌ في الكنيسة الأرثوذكسية.المجامع المسكونية السبعة وقفت سدّاً منيعاً ضد الهرطقات جميعاً. وبعد المجامع السبعة أضحت كل التحركات الهرطوقية فاشلة تصطدم بهذه الأهرامات الكبيرة. المجامع المسكونية سبعةُ أهرامات تحمي الكنيسة الارثوذكسية من الإنزلاق وراء الهرطقات.
الكنيسة الأرثوذكسية إذاً هي كنيسة المجامع السبعة والآباء القديسين، بدون انحرافٍ تمتد الى العنصرة بإستمرار. وفي الحوار مع الكنائس كلها، تصرُّ الكنيسة الأرثوذكسية على المجامع السبعة، فلا بد من فهمٍعميقٍ للمجامع السبعة. وكلُ إتحادٍ لا يقوم على المجامع السبعة، هو إتحادٌ هشٌوسيسقطُ حتماً. لا نقبل بشيءٍ يخالف المجامع السبعة ويوحنا الدمشقي وغريغوريوس بالاماس. الدمشقي وغريغوريوس بالاماس يمثّلان تعليم الكنيسة التقليدي منذ عهد الرسل وحتى اليوم، وهما مرجعان كبيران للتعليم الارثوذكسي، إليهما نعود لفَهم دقائق الإيمان الارثوذكسي.
طبعًا أنا لا أقلّل من أهمية الآباء الباقين العظام، لا، ولكن هذان الأبوان الكبيران لخَّصا لنا تعليم المجامع والآباء السابقين وأوضحاها أفضل التوضيح. إذاً، الكنيسة الارثوذكسية متشبّثة بالمجامع والآباء القديسينوالحوار معها يقومُ على هؤلاء الآباء. مَن يقبل المجامع السبعة والآباء يستطيع أن يجد فينا أرضاً طيّبة للحوار. لا نستطيع أن نخرج على ذلك، وإن خرجنا أصبحنا هراطقة لا محال لأن كل مخالفة لهذا التقليد هرطوقي.
تعددت الكنائس بسبب إنفصالها عن المجامع. الأشوريون النساطرة كما ثبتَ نهائياً رفضوا المجمع الثالث المسكوني ولا يعترفون إلا بالمجمع الأول والمجمع الثاني المسكوني. هرطقتهم خطيرة جداً،تقومُ على عدم فهمٍ لاهوتي. السريان والأقباط والأرمن والأحباش رفضوا المجمع الرابع المسكوني. الخلاف معهم يحتاج الى دقّة لاهوتية. هذه الدقّة اللاهوتية كانت مفقودة في الحوارات السابقة لأن الارثوذكس اعتمدوا على كتاب الفرنسي “جوزيف لو بون” وهذا أجاد السريانية ولكنهُ لم يفهم المضمون الحقيقي لتعليمهم. لاحظتُ أن مكسيموس المعترف هو أفضل من فَهِمَ سويروس الأنطاكي. كتبتُ الى صديقي اللاهوتي الأكبر “جان كلود لارشيه” أكبر اختصاصي اليوم بمكسيموس المعترف، أن يجمع النصوص ويدرسها ويحللها لنعرف موقف مكسيموس من سَويروس الأنطاكي، فأنشأ مئة صفحة وأرسلها إليَّ فإذا به يجيد فَهم مكسيموس، وإذا بمكسيموس نفسه يجيد فَهم سَويروس الأنطاكي.
هناك دقائق يجب أن يعالجها الارثوذكسيون مع أخوانهم بتدقيق. إنعقد إجتماع في تسالونيك فحضره جان كلود لارشيه وقدّم فيه دراسة جيدة. الأمور تحتاج إذاً الى تدقيق لاهوتي واسع. وإخواننا بحاجة الى تدقيقٍ لاهوتي واسع لكي يفهموا أصولهم الدينية ويفهموا أصلونا الدينية. في كتابي “سر التدبير الإلهي” إنتقدتُ الشماس وهيب عطا الله القبطي لأنهُ يقول إن يسوع كان قبل التجسد أقنومَين وطبيعتَين ومشيئتين وفِعلين، وصار بعد التجسد أقنوماً واحداً وطبيعة واحدة ومشيئة واحدة وفِعلاً واحداً. تكرر هذا الكلام في المجلة البطريركية السريانية حديثاً. بدا لي أن القديس مكسيموس ما وقفَ على هذه النقطة، فلم يُعالجها جان كلود لارشيه فبعثتُ اليه بالنص العربي. الخلاف الحقيقي هو أن الأرثوذكس والكاثوليك يقولون إن يسوع اتخذ طبيعة بشرية لا أقنوماً بشرياً، والطبيعة البشرية وُجدَت في لحظة التجسد لا قبلهُ.
أصحاب المشيئة الواحدة لم يعودوا موجودين الآن.أما روما فتجمعنا القرون العشرة الأولى، وفيها المجامع السبعة وفيها الآباء العظام. يبقى أن تُراجع روما الآباء القديسين والمجامع المسكونية السبعة وكل تراثنا المشترك في كل هذه القرون العشرة، وتكتشف نفسها. لا أريد أن أدخل في التفاصيل ولا أريد أن أجرح أحداً، ولكن تستطيع روما أن تكتشف نفسها في هؤلاء الآباء.
فرنسا هي التي تنشر التراث المسيحي اليوناني. نشرتهُفي القرون الماضية مجموعة “Migne” المشهورة، والآن ينتشر في مجموعة “source chrétienne” بالفرنسية والألمانية وفيه فوائد نادرة جداً. ودير Belle Fontaine بالتعاون مع صديقي الأب بوريس بوبرينسكوي عميد معهد سان سرج سابقًا، نشر مجموعات جيدة جداً منها الفيلوكاليا وسوى ذلك من الكتب الرائعة.
الحوار مع روما يحتاج الى حسن النيّات. العودة الى الآباء القديسين والى المجامع المسكونية تكفي لمعرفة الحقيقة. العودة الى المصادر القديمة هي وحدها كفيلة بصنع الوحدة إن صدقت النيّات وإن صفَت. هذا التراث المشترك ثمينٌ جداً وغنيٌّ جداً، أغنى تراث في العالم روحياًولاهوتياً من جميع النواحي. فيه النساك وفيه المتصوّفون وفيه اللاهوتيّون وفيه القديسون
تُرجمت الى الفرنسية في مجموعة الـ source chrétienne مؤلفات القديس سمعان اللاهوتي الجديد الرائع، وتُرجم فيها كثيرٌ من المؤلفات الروحية واللاهوتية التبشيرية. المجموعة جيدة جداً بالفرنسية واليونانية. هناك بعض كتب للقديس أفرام من السريانية الى الفرنسيةمع النص السرياني أيضاً.وأفرام رجل معجزة من أروع آباء الكنيسة وأخلدها. الحوار إذاً على أساس آباء الكنيسة جيد.
في العام ١٥١٨ إنفصل اللوثريون عن روما، ولكن ويا للأسف الشديد إنقسموا الى مذاهب يعثر الآن إحصاؤها وخاصة في الولايات المتحدة الاميركية. منذ سنوات كنت في دمشق، فدُعيت الى إجتماع بستّين بروتستانتي من دولٍ مختلفة ومذاهب مختلفة، أتوا إلى الشرق ليتعرّفوا على الجذور المسيحية. ومن الأمور التي تستدعي الأسف هو المجاملات الشرقية. إستُقبلوا في كل مكان بالمجاملات وحسن الإستقبال والترحيبوهذا لا يحل المشاكل. الذي يحل المشاكل هو الحوار العميق في الصميم بشرط أن يكون الجميع ذَوي صدورٍ رحبة لا ينفعلون ولا يغضبون ولا يثورون. ما سرَّني الإجتماع. طُرِحت مسألة الحوار المسيحي، فوقفتُ متكلّماً وقلتُ لهم بصراحةٍ معهودةٍ وصدقٍ معهود: كيف نستطيع أن نحاوركم وأنتم مذاهب عديدة جداً؟ عودوا الى اللوثرية جميعاً ليكون أمامنا مُحاور أوحد نستطيع أن نتكلم وإياه.
كان لهذا الطرح صدىً بعيداً. بعض الأرثوذكس إنزعج لأنه انحرجَ. تعدُّد الفرق البروتستانتية أمرٌ لا يدعو الى الإرتياح. أين المسيحية حينما يتشقَّق البيت الواحد الى ملايين البيوت؟ والمسيح قال كلّ بيتٍ إنقسم على نفسه خرب، وكل مملكة إنقسمت على نفسها خربت. هذا الإنقسام مخيفٌ. بولس الرسول علّمنا في أفسس أن الكنيسة واحدة والإيمان واحد. ولذلك أنصحهم بالعودة جميعاً الى اللوثرية ليتمّ الحوار مع فريقٍ واحدٍ فقط، وحينئذٍ يسهل الحوار. اللوثرية بقيَت محافظة على أشياء عديدة من الماضي، وعلى أمورٍ كثيرة من تقليد الكنيسة وعقائدها.
اليوم، الفرق مثل شهود يهوه والسبتييّن وسوى ذلك من الفرق التي يعثر إحصاؤها، فالحوار معها مستحيل وقبولها مستحيل. ولذلك أنصح الارثوذكس بالوقوف في وجهها تماماً وعدم الإنجراف ورائها لأنها بدون أصل في الكنيسة الأولى. الكنيسة الأرثوذكسية تنتسبُ الى العنصرة، وتاريخها معروف. وكل من أراد أن يعرف الأرثوذكسية، عليه أن يدرس التاريخ بتدقيقٍ ليرى كيف تطوّرت العقائد المسيحية وسطَ هرطقاتٍ عديدة طرحناها جانباً فاندثرَ الكثيرُ منها وبقيَت الأرثوذكسية رافعة الرأس بإيمانٍ حقيقي.
الكنيسة الأرثوذكسية هي إمتدادٌ لكنيسة القرون العشرة الأولى. مَن طالع المجامع المسكونية والآباء القديسين وجدَ نفسهُ في قلب الأرثوذكسية. القديس اليوغوسلافي بوبوفيتش، في القرن العشرين، صاحب كتاب مترجَم الى الفرنسية في خمسة مجلدات كلّها إستشهادات مأخوذة من الآباء القديسين، وهو بحق أكبر مرجع أرثوذكسي معاصر. ديمتريوس ستانيلاوي الروماني لديه ثلاثة أجزاء في العقائد، كلها إستشهادات بالآباء القديسين. الآباء القديسون هم مراجعنا. القديس الروسي تيوفانس الحبيس المشهور، كتب في العقائد وهذا رجل اعتمد دائماً على الآباء القديسين.
الكنيسة الأرثوذكسية مرتبطة بالآباء القديسين. هي كنيسة باسيليوس الكبير، وغريغوريوس اللاهوتي، ويوحنا فم الذهب، وأثناسيوس الكبير، وكيرللس الإسكندري، ومكسيموس المعترف، ويوحنا الدمشقي، وغريغوريوس بالاماس، وسوى ذلك من الآباء. هي مرتبطة بالجذور، وإن إفتخرَت بشيء فهي تفتخر بأمانتها لهذه الجذور.
قد يقول البعض إن الزمان يتطلّب التطور، وماذا يعنونَ بالتطور؟ هل يعنونَالتخلّي عن إيماننا الحار؟ هل يعنونَ أن نصير علمانييّن؟ أن نصير عصريين نسيرُ وراء الصَرعات الحديثة؟ هل يريدون أن نتخلّى عن الروحانية العميقة الصوفية لنساير العالم وأهل العالم؟ الكتاب المقدس قال: “إن محبة العالم هي عداوة لله”. لا نستطيع أن نساير العالم. نحن كما قال الرب يسوع موجودون في العالم، ولكننا لسنا من العالم. كل المحاولات لكسر التشدّد الارثوذكسي باءت بالفشل. ما استطاعَ التطور المزعوم أن يغيّر في روسيا شيئًا من الإيمان ومن الصلوات. كانت روسيا عام ١٩١٧ متمسّكة جداً بالصلوات الارثوذكسية وبقيَت بعد العام ١٩١٧ وحتى اليوم شديدة التمسُّك. لم تتبدَلولم يتغيّر فيها شيءٌ. ما زالت الصلوات مساء السبت تستغرق أربع ساعات، وفي الصباح تستغرقُ ثلاث ساعات ونصف وهذا في قلب موسكو المشهورة. من المستحيل أن يستطيع إنسان أن يفرض على كنيسة موسكو إختصار الصلوات.فهي ترفض ذلك رفضاً باتاً، ومَن يطلب ذلك يبدو في عيون المؤمنين هرطوقياً.
قد تبدو الارثوذكسية عالماً غريباً على المسيحيين الآخرين. هذا صحيح لأننا لا نريد أن نصير كنيسة علمانية،كنيسة عالمية، كنيسة دنيوية. الارثوذكسية تهتمُّبكل إنسان في العالم،وهذا لا يعني أنها تنحدر الى مستوى العالم لتساير رغبات الناس وأهواء الناس وغرائب الناس وتتساهل مع الناس. هذا مرفوضٌ في الارثوذكسية. لا نستطيع أن نقول للقاتل: أنت غيرُ قاتل. ولا نستطيع أن نقول للزاني: أنت بار. ولا نستطيع أن نقول للكذاب: أنت إنسانٌ صادق. الممنوع ممنوع،والخطيئة هي الخطيئة، والضعف هو الضعف.الإنسانُ ضعيفٌ ويجب تبديله جذرياً بإنسانٍ آخر. ما الفائدة من مليار ارثوذكسي لا يتَّقون الله؟ الكنيسة الارثوذكسية تهتمُّ بقداسةِ الإنسان وتتطلّبُ في كل إنسانٍ القداسة، والذين يرفضون القداسة مدعوون الى التوبة.
أن نتساهل مع السكارى والقتلة والزناة واللصوص والكذابون والمحتالون والدجّالون والمنافقون، هذا أمرٌ مخالفٌ للارثوذكسية. هؤلاء مطالبونَ بالخضوع لنظام التوبة. يوحنا فم الذهب صريح في شرح متّى. يجب رفض إعطاء القربان المقدس لإنسانٍ يعرف الكاهن أنه خاطىء مشهور. يُبعده الكاهن عن كأس القربان ويدعوه الى التوبة.
أن نتساهل مع هؤلاء بحجة أنهم قد يتوبون، هذا عمل شيطاني.لا نستطيع التساهل مع الإثم. لا نستطيع أن نقولَ للإثم إنه بر. أشعيا النبي قال في 5 : 20 – 25: “ويلٌ للقائلين للشر خيراً وللخير شراً، الجاعلينَ الظلام نوراً والنور ظلاماً، الجاعلينَ المرَّ حلواً والحلوَ مرّاً. ويلٌ للحكماء في أعيُنِ أنفسهم والفُهماء عند ذواتهم. ويلٌ للأبطال على شرب الخمر ولذوي القدرة على مزجِ المسكر. الذين يُبررون الشرير من أجل الرشوة وأما حقُّ الصدّيقين فينزعونهُ منهم. لذلك كما يأكلُ لهيب النار القشَّ ويهبط الحشيش الملتهب يكون أصلهم كالعفونةِ ويصعد زهرُهم كالغبار لأنهم رذلوا شريعة ربِّ الجنود واستهانوا بكلام قدوس إسرائيل. من أجل ذلك حميَ غضبُ الرب على شعبه ومدَّ يدَهُ عليهِ وضربهُ حتى ارتعدت الجبال وصارت جثثُهم كالزبل في الأزقة. مع كل ذلك لم يرتدَّ غضبهُ بل يدهُ ممدودةٌ بعدُ “.
الارثوذكسية تبدو متشدّدة لأن يسوع المسيح كان متشدّداً، لأن بولس كان متشدداً، لأن بطرس كان متشدداً. نحن كنيسةٍ رسوليةويجب الإلحاح باستمرار على كَوننا كنيسة رسولية خاضعة لتعليم الرسل، متمسّكة بالرسل،وثابتة في إيمان الرسل.
قد يقول البعض إن هذا يُعثر كثيرين. إذا فضيلتي أعثرت الآخرين، فهل أتنازل عن فضيلتي لأرتكب الإثمَ لكي أُرضي الآخرين؟ لا أُرضي الآخرين على حساب أخلاقيَّتي، لا أتنازل عن تمسُّكي الأخلاقي لكي يرضى الآخرون، بل أسعى دائماً لخير الآخرين.حين أتنازل عن حرفٍ واحدٍ من إيماني الارثوذكسي، عن حرفٍ واحدٍ من مبادئي الارثوذكسية، عن حرفٍ واحدٍ من مناقبيَّتي الأرثوذكسية،فإنيأخون المسيح وأخون الآخر. أخونُ المسيح لأني خالفتُهُ، وأخونُ الآخر لأني أعطيتهُ صورة كاذبة عن أرثوذكسيَّتي وعن مناقبيَّتي الارثوذكسية. السلوك الارثوذكسي سلوكٌ صادقٌ مئة في المئة. لا أكذب لكي يرضى الآخرون. أقول الصِدق بلباقة وحِكمة.
يسوع المسيح هو نفسه شديد. أين التساهل في تعليم يسوع؟ ليس من تساهلٍ في تعليمِ يسوع. يسوع المسيح قال إن الشيطان هو أبو الكذب والكذابين. لا أستطيع أن أقول في الكذب والكذابين إنهم صادقون وجيدون وممتازون مثلاً. بولس الرسول متشدّد، نعرف ذلك من أعمال الرسل. يوحنا الإنجيلي في رسائله متشدّد ضد الهراطقة ويسمّيهم المسَحاء الكذبة.
العهد الجديد يُنادي بأخلاقٍ سامية تقوم على عقائدٍ سامية، والأرثوذكسية على هذا الدين. قد يتراخى بعض الأرثوذكس، هذا خطيئة. المبدأ شيء والتزام الناس بالمبدأ شيءٌ آخر. المبدأ سليم ولكن الإنسان خاطئ وساقطٌ يُخالف المبدأ. فكل ما هو رديء هو من عمل الإنسان.
المهم دائماً هو الرجوع الى الأساس والأساس هو الإيمان الارثوذكسي القَويم والمناقبيَّة الارثوذكسية العالية، الرفيعة، الصوفية، المرتبطة بدم المسيح، القائمة على بذل الذات من أجل المسيح ومن أجل الإخوة. هذه هي الارثوذكسية الحقيقية.
ما كلُّ الارثوذكس ملائكة، ما كلُّ الارثوذكس متصوّفون، ما كلُّ الارثوذكس نسّاك، ما كلُّ الارثوذكس صوّامون كبار، ما كلُّ الارثوذكس مصلّون مثل سمعان العَمودي وسمعان اللاهوتي الجديد وسواهما. النقص هو نقصي أنا الإنسان الشرير. يسوع إنتشلَني من قعر الجحيم، علّمني ولقَّنني الإيمان ورفعَني.
ولذلك أتوسَّل الى يسوع المسيح أن يغمرَ ضعفي بمراحمهِ الإلهية، وأن يغفر خطاياي، وأن يرحمَ ضعفي أنا المسكين الفقير البائس الشرير.
فيا يسوع المسيح إبن الله الوحيد رب السماء والأرض، إحفظني في الإيمان القَويم واحفظ رِجليَّ من كل زلل وخطأ،
إملأني من روحكَ القدوس، إملأني من كل مراحمك الإلهية، وطهّرني من كل دنسِ بشرة وروح، وأنِرني بأنوارك الإلهية وإجعلني ممتلئًا منها.
ربي يسوع المسيح إبن الله رب السماء والأرض، أرسل روح أبيك الى الخليقة كلها لينير كل إنسان، ويهدي كل إنسان، ويقدّس كل إنسان، ويكمّل كل إنسان،ويرفع كل إنسان من التراب.
ربي يسوع المسيح، أنا دودةٌ، أنا عشبٌ يابس وحطبٌ لجهنم، إلا أن مراحمك الإلهية تستطيع أن تتداركني.
فيا ابن الله تدارك كل إنسان على وجه الأرض، وقوّم سلوك كل انسان على وجه الأرض، وعلّم جميع الناس أن يعبدوك بمخافةٍ كل أيام حياتهم.
ربي يسوع المسيح ابن الله الوحيد، أرسل روحك القدوس ليزيل من الأرض كل كفرٍ، وضلال، وإلحاد، ونفاق، وشر، وبؤس، وظلم، وعدوان، وكوارث، وضيقات، وشدائد.
ربي يسوع المسيح ابن الله الوحيد، أرسل روحك القدوس الى الكرة الأرضية جمعاء ليفتقدَ كل إنسان، ويحميها من كل بؤس وضعفٍ وشرٍ وضلال.
أيها الثالوث القدوس، الآب والإبن والروح القدس، الإله الواحد الثالوثي الأقانيم، رب السماء والأرض، إرحم عالمك الذي صنعتهُ،وارحم الناس أجمعين.
أرسِل مراحمك الإلهية الى عبيدك أجمعين، قدّس وأنِر كل إنسانٍ على وجه الأرض، ليعبدوكَ عبادةً صحيحة وبريئة.
ربنا وإلهنا الآب والإبن والروح القدس، أنشر معرفتكَ في الأرض كلها وعلّمنا جميعاً أن نسجدَ لك بإيمانٍ طاهرٍ نقيٍ لا عيبَ فيه.
أيها الثالوث القدوس إرحمنا وخلصنا آمين.
أيتها العذراء الطاهرة أم المسيح الإله، تشفَّعي بالمؤمنين أجمعين واحفظيهم من كل شرٍ ووباء.تشفّعي بالكرة الأرضية وبكل ما فيها وما عليها، واحرسيها واحفظيها واجعليها واحةَسلامٍ وأمان لجميع الناس، واشفِ كل مريض وكل بائس وكل إنسان مصاب بأي نوعٍ كان من البلايا والضيقات.
أيها القديسون أجمعون صلّوا الى الثالوث القدوس لكي يرحمَ الناس أجمعين. أيها الثالوث القدوس إرحمنا وخلصنا آمين آمين آمين.
الفصل العاشر
حتميَّة آلام الرب ودفنِهِ
في الثالث عشر من أيلول ٢٠٠٩ احتفلت الكنيسة الأرثوذكسية بالأحد السابق لعيدِ الصليب على اللّحن الخامس. كان الإنجيل من يوحنا 3 : 14 – 17
طابَ لي أن أعودَ إلى الموضوع. جاءَ في الإنجيل: “وكما رفعَ موسى الحيّةَ في البريّة هكذا ينبغي أن يُرفَع ابنُ الإنسان لِكي لا يهلِكَ كلُّ مَن يؤمِن بهِ، بل تكونُ لهُ الحياة الأبدية. هكذا أحبَّ الله العالم حتى بذَلَ ابنَهُ الوحيد لكي لا يهلِكَ كلُّ مَن يؤمنُ بهِ بل تكونَ لهُ الحياةُ الأبدية. فإنّ الله لم يُرسلِ ابنَهُ الوحيد الى العالم ليَدينَ العالم، بل ليُخلِّصَ بهِ العالم”.
رفعَ موسى الحيَّةَ في البريَّة ليُشفى الناظرونَ إليها من لسعاتِ الحيّات. ويسوعَ المسيح ينبغي لهُ أن يُرفع على الصليب ليشفينا صليبهُ من لسعاتِ الأفعى القديمة أي إبليس. استعملَ يسوع كلمة “ينبغي”. جاء يسوع ليخلّصَنا لئلّا نهلك نحن الذينَ آمنّا بهِ وبأبيه. الإيمان وحدهُ لا يكفي، الحاجة ماسّةٌ الى الصليب لأن دمَ المسيح وحدُهُ يغسِل الضمائر من نجاسةِ الأعمال الباطلة والميتة.
العباراتُ كثيرة. آباءُ الكنيسة في الترانيم قالوا إن المسيح جاءَ الى الأرض بسببِ سقوطِ آدم لكي يخلِّصنا. مكسيموس المعترف قال إن التجسدَ كان سيقع ولو لم يسقط آدم، إلا أن يوحنا الدمشقي لم يأخذ بهذا الرأي، كذلك ترانيمه وترانيم أصحابه وكلُّ الكتب الطقسية والتريودي والميناون والبندكستاري. جميعُها تركّز على أن الخلاص هو سبب مجيء يسوعَ المسيح. وبولس نفسُهُ قال: جاءَ ليُخلّصَ الخطأة الذينَ أنا أوّلهُم. وكررَ يوحنا فم الذهب ذلك في أحد أفاشين المطالبسي.
حتميّة آلام الرب واضحة وبخاصة في إنجيل يوحنا. في الفصل الأول سمّاه يوحنا المعمدان حمَلَ الله الحامل خطايا العالم. في الفصل الثاني الرب نفسُهُ قال لليهود: أُنقضوا هذا الهيكل وأنا أُقيمهُ في ثلاثة أيام. فسَّرَ يوحنا الإنجيلي ذلك وقال إن يسوعَ تكلم عن هيكلِ جسدِهِ. فإذاً هيكلُ جسدِهِ سيُنقَض وسيقومُ في اليوم الثالث، وهذه نبؤَة عن آلامِهِ وقيامتِهِ. في الفصل الثاني من يوحنا، قال الرب يسوع لأمهِ: ما لي ولكِ يا امرأة؟ لم تأتِ ساعتي بعد. ما هي ساعتُهُ؟ هي ساعةُ وصول الإستحقاقات العديدة، هي ساعةُ الآلام. وفي الفصل ١٧ يوم الخميس العظيم قال: “يا أبَتي قد أتَتِ الساعة: مجِّد ابنَكَ، ليُمَجّدَكَ ابنُكَ أيضاً “. وفي الثلاثاء العظيم قال: يا أبتِ مجِّد اسمَك. حينئذٍ جاءَ صوتٌ من السماء: “قد مجَّدتُهُ وسأمجِّدُهُ من جديد”.
في الفصل 12 قال يسوع: وأنا إذا رُفِعتُ عن الأرض جذَبتُ إليَّ (الناس) أجمعين. فسَّرَ يوحنا ذلك أنه قالَ هذا عن الميتة التي كان مُزمعاً أن يموتَها، أي أن يُرفَعَ على الصليب. في إنجيل يوحنا تركيزٌ واسعٌ على الصليب.
في الفصل 7 قال: “مَن آمن بي فكما قالَ الكتاب: ستَجري من بطنِهِ أنهارُ ماءٍ حيٍّ”. فسَّرَ يوحنا ذلك فقالَ إنهُ قال هذا عن الروح القدس الذي كان المؤمنونَ بهِ مُزمعينَ أن يقبلوه، إذ لم يكُن الروحُ القدس بعدُ قد أُعطيَ لأن يسوع لم يكن بعد قد مُجّدَ. والمقصودُ بالمجدِ هنا، آلامُهُ أولاً وربما قيامَتُه ثانياً. القيامةُ هي مجدٌ أيضاً. التركيز على الآلام وعلى الصليب واسعٌ جداً في إنجيل يوحنا.
في إنجيل متّى مثلاً، نراهُ يتنبّأ ثلاثَ مراتٍ عن آلامهِ الطاهرة وقيامتهِ. فبعد اعتراف بطرس بهِ بأنهُ ابن الله الحيّ، تكلَّمَ عن آلامهِ وعن قيامتهِ. وبعد نزولهِ من جبل التجلّي كرَّر ذلك، وقُبَيلَ الآلام كرَّر ذلك. في إنجيل لوقا نرى ثلاثَ مرات لوقا يقول إن وجهَهُ كان متّجهاً الى أورشليم. في جبل التجلّي، نرى موسى وإيليا يتحدثان معهُ عن موتِه في الجلجلة. جبل الجلجلة وجبل التجلّي متّحِدان.
لا يتجلّى أحدٌ إن لم يحمِل صليبَهُ كل يوم ويتبع يسوعَ المسيح. هذا اللقاء بين التجلّي والجلجلة يجعل الصَلبَ فخراً ومجداً متجلّياً. في هذا الكلام الذي يُوَحِّد فيه جبل الجلجلة وجبل التجلّي نرى المجدَ أيضاً، فالتجلّي هو ظهورُ مجد الله للتلاميذ فتقول طروبارية التجلّي: “لما تجلّيتَ أيها المسيحُ الإله في الجبل، أظهرتَ مجدَكَ للتلاميذ حسبَ ما استطاعوا. فأظهِر لنا نحنً الخطأة نوركَ الأزلي بشفاعاتِ والدة الإله يا محبَّ البشر المجدُ لك”. جبل التجلّي مجدٌ، وجبل الجلجلة مجدٌ، هما متّحِدان. لا يمكننا أن نبلغَ التجلّي إذا ما حَملنا صليبَ المسيح وتَبِعنا المسيح في كل مسالكهِ المديدة. نرى من الآلام حتميّةٌ. هكذا أرادَ يسوع أن تكونَ آلامَهُ حتميّة. ومَن حتَّمَ ذلك؟ الآبُ أو الإبنُ نفسُه؟ الآبُ والإبنُ لهما فِعلٌ واحدٌ ومشيئةٌ واحدةٌ، ولذلك فالآبُ والإبنُ متّفقان في حتميّةِ موتِ المسيح من أجلنا.
ليسَ لأحدٍ حبٌّ مثلُ هذا، أن يبذِلَ نفسُهُ للآخرين. هذا كلامُ يسوع لتلاميذهِ: وصيّة جديدة أعطيكم: ” أحبّوا بعضكم بعضاً كما أحبَبتُكم. أوصيكُم أن يُحِبَّ بعضُكُم بعضاً “. فسَّرها يوحنا في رسالتهِ أي أن نبذلَ أنفسَنا من أجل الآخرين كما بذَلَ هو نفسَهُ من أجلنا. هذا البذلُ العظيم معصرةٌ إلهية تفوقُ كلَّ حدٍّ ووصفٍ. هي عظيمةٌ بقدَرِ عظمَةِ الله. هي فائقةُ الوصف بقدَرِ ما الله فائقُ الوصف. هي غيرُ محدودة كما أن الله غيرُ محدود. الله الآب سُرَّ وارتضى أن يُضحّي بابنهِ، والإبنُ سُرَّ أن يضحّي بنفسهِ من أجل العالم لكي يخلّصَ العالم ولكي لا يَهلِكَ العالم.
في إنجيل يوحنا نرى أن الإيمان بالآب والإبن لا يكفي للخلاص، ولا بدَّ من صلب ربنا يسوع المسيح لأن دمَهُ الطاهر يُطهِّر ضمائرَنا من الأعمال النجسَة. لا تطهير بدونِ دم، وما من دمٍ يُطهِّر إلا دمَ ربنا يسوع المسيح. ربُنا يسوعَ المسيح لهُ المجد والإكرام والسجود، ماتَ على الصليب من أجلنا فقهرَ القِوى الشريرة وقهرَ كل أعدائنا. الموتُ، الجحيم، الفساد، الخلاعة، الخطيئة، الدمار…
الصليبُهو في قلب المسيحية لا في الإيمان فقط، الصليبُ هو في الحياة. حياةُ المسيحي هي إنصلابٌ مع المسيح فلذلك أعظم المآثر عند المسيحيّين هي ميتَةُ الشهادة. يلتحم الشهداءُ بربنا يسوعَ المسيح إلتحاماً كاملاً. يمتزجُ دمَهُم بدمِهِ، فيتطهّرونَ بشهادتهِم من كل إثم. وكما جاء في الفصل ٧ من رؤيا يوحنا: ” هؤلاء قد غَسَلوا حُلَلَهُم وبيَّضوها بدَم الحمَل “. والحمَل هو يسوع. يسوع قال إن الأصحّاء ليسوا بحاجةٍ الى طبيب، المرضى هُم الذينَ بحاجةٍ الى طبيب. كلُنا مرضى وكلُنا مهترئون وكلُنا للجحيم. ولكن يسوع المسيح بدمِهِ الطاهر أخرجَنا من الجحيم وأدخَلنا الفردَوس. موتُ الرب على الصليب هو حياتُنا، موتُ الرب أحيانا. غسَلَنا بدمهِ، طهَّرَنا بدمهِ، وخلَقَنا خِلقةً جديدةً بدمه الطاهر.
وجهةُ يسوع كانت أورشليم. لماذا؟ لأنهُ لا يجوز أن يموتَ نبيٌّ إلا في أورشليم قاتلةُ الأنبياء وراجمةُ المرسَلينَ إليها كما قال هوَ نفسُه: يا أورشَليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسَلينَ إليها “. في مثَل صاحب الكَرم والفَعَلة، نرى الفَعَلة يقتدونَ الذبيحة خارج المحلَّة، أي خارجَ مدينة أورشليم. التعبيرُ في العهد القديم يعني خارج الخيمة، وخارج الخيمة كان رمزٌ لموتِ الصليب كما جاءَ في الرسالة الى العبرانييّن. يسوع ماتَ في الجلجلة خارج أورشليم، عمَّن مات؟ قتلوهُ من أجل حياة العالم. هذه أيضاً نبوءَةٌ عن الآلام وتركيزٌ على الآلام. ولذلك بحقٍّ قال بولسإنهُ لا يفتخر إلا بصليبِ ربنا يسوعالمسيح، ولا يريدُ أن يعرفَ شيئاً إلا يسوع وإيّاه مصلوباً.
يسوعٌ غير مصلوبٍ لا يُفيدُنا شيئاً ولا يعني لنا شيئاً. نحن بحاجةٍ إلى دمِ يسوعَ المصلوب وذلك للخلاص. وقال ايضًا إنهُ ” مصلوبٌ مع المسيح عن العالم، والعالمُ مصلوبٌ عنهُ “. كَفَر بولس في العالم وآمَنَ بيسوع. وقال أيضاً: “ما لي من الحياةِ اليوم إنما أحياهُ في الإيمان بابن الله الذي أحبَّني وبذَلَ نفسَهُ من أجلي “.
بولس إنسانٌ مدهوشٌ بيسوعَ المسيح الى درجةِ الغياب في يسوع. هو غيرُ موجودٍ في العالم وموجودٌ في يسوع الذي أدهشَهُ كُلَّ الدهَش. يسوع مُدهِشٌ، يخرقُ الألباب. هو ربُّ المجد، ربُّ العالم، ملِكُ العالم لهُ المجد والإكرام والسُجود. يسوعُ هو ربُنا، هو إلهنا.ولذلك كلُّ اعتراضٍ على صلبِ ربنا يسوعَ المسيح مرفوضٌ لأن يسوعَ لهُ المجد هو نفسُه تنبّأ عن موتِهِ مراراً. كان الموتُ والصليب قُبلةَ أنظاره. كنيسُتنا الأرثوذكسية تجمعُ في عيد الميلاد ترانيمَ الصليبِ والآلام. يسوع وُضِعَ في مزوَدِ البهائم المشابهِ للقبر ملفوفاً بالأقمطة كما كان في القبر ملفوفاً بالأكفان. العلاقةُ متينةٌ جداًما بين مِزود بيتَ لحم والقبر في أورشليم.يسوع مصلوبٌ منذ الأزل في مقاصدِ الآب. منذُ تجسَّدَ ومنذُ وُلِدَ وصليبُه الأكبر هو تجسُّدُهُ. كيف يصيرُ الإله إنسانًا؟ هذه معجزة المعجزات، هذا أقصى المستحيل.
تجاوزَ يسوع كلَّ ما هو ممكنٌ، وكلَّ ما هو مستحيل، لكي يقتربَ منّي ويصيرَ لي طعاماً وشراباً، لكي يمتزجَ بيولكي أصيرُ إيّاه كما صارَ هو إيّايَ. يسوعُ لكَ المجد، لكَ العرفان. كيفَ يستطيع إنساناً أن يُنكِر الصليب؟ يسوع نفسُهُ عبَّرَ عن ذلك بمناسباتٍ عديدة وبأقوالٍ عديدة. نعم، آلامُ الربِّ ودفنِه وقيامتِه هي ملءُ الوجود المسيحي. لا مسيحي بدون ذلك، ولا إيمانٌ مسيحيٌّ بدون ذلك، ولا معنى للمسيحية بدون ذلك. كلُ تعاليم الرب يسوع المسيح بدون الصليب بلا فائدة وبلا طَعم. كلُّها مرتبطةٌ بالصليب. يسوع يطوِّبُنا إذا اضطُهِدنا من أجلهِ.
إن مُتنا شهداء من أجلِ المسيح بدونِ الصليب، هل دمُنا يُطهّرنا من خطايانا؟ لا يطهّرُنا من خطايانا. بدون دمِ المسيح لا نتطهَّر ولو أُحرِقنا، ولو سُفِكَ دمُنا، ولو عُذّبنا عذاباً هائلاً وأشدُّ العذاب. كلُّ هذا لا يُجدي نفعاً بدون دم المسيح. دمُنا المهراق في الإستشهاد يتَّحِدُ بدَمِ المسيح فننال الغفران والحياة الأبدية. الحياةُ الأبدية هي مغلقَةٌ بدونِ الرب يسوع. أين كان إبراهيم وإسحق ويعقوب وداوود ويوحنا المعمدان قبلموتِ المسيح على الصليب؟ ألم يكونوا في الجحيم؟ موتُ المسيح قَهرَ الجحيم وأخرجَ منهُ الذينَ آمنوا بيسوع الى الفردوس. آلامُ الرب يسوع المسيح هي التي تُعطي معنًى لوجودنا. لا معنى للوجود البشري بدون آلام الرب،نعيشُ ونموتُ كالحيواناتِ بدون أملٍ.
صليب يسوع إذاً هو الذي يعطي معنًى لحياةِ المسيحي. لا معنى لجِهادِه الروحي ولا لنِسكهِ ولا لاستشهادِه ولا لفضائلهِ. فضائلي لا تطهّرُني، جهادي لا يطهّرُني، إستشهادي لا يُطهّرُني، عناية القديسين بي لا تطهّرُني. لا تطهيرَ لي إلا بدَمِ ربنا يسوعَ المسيح وإن عِشتُ ألفَ سنةٍ في الصوم والصلاة والركوع والسجود والنسكِ الشديد على طريقة سمعان العَمودي. كلُّ هذا لا يُجدي نفعاً بدون دم المسيح، سيكونُ نوعٌ من الإرهاق للذات بلا طعم ولا معنى. دمُ المسيح فقط هو الذي يجعلُ حياتي ذات معنًى حقيقي. دمُ المسيح وحدُهُ يطهّرُني من كلِّ خطيئة. ما من أحدٍ بريءٌ من الخطيئة ولو كان عمره يوماً واحداً كما قال باسيليوس الكبير. لا أحد يحيا بدون أن يخطأ كما تقول خدمة الجناز. الكلُّ واقعونَ تحتَ وكرِ الخطيئة. الكلُّ مَدينون، الكلُّ تحت الدينونة.
دمُ المسيح وحدُهُ يمحو صكَّ الخطايا، دمُ المسيح وحدُهُ يُطهّرُنا من كل خطيئة ويفتحُ لنا أبواب الملكوت. كما تقول هذه الترتيلة الرائعة: لنسبِّح نحنُ المؤمنون ونسجُد للكلمة المساوي للآب والروح في الأزلية وعدَم الإبتداء، المولود من العذراء لأجل خلاصِنا لأنهُ سُرَّ أن يَعلوَبالجسد على الصليب ويحتملَ الموتَ، ويُنهِضُ الموتى بقيامتِهِ المجيدة.
في هذه الترتيلة ذِكرٌ للمساواةِ بين الآبوالإِبن، وذِكرٌ لميلاد الرب يسوعَ المسيح من مريمالعذراء الطاهرة النقيَّة، وذِكرٌ لارتفاعهِ على الصليب.
الفصل الحادي عشر
قامَ المسيح
ماتَ المسيحُ ودُفِنَ وقُبِرَ في قبرٍ حفَرهُ يوسف الرامي بنفسهِ. موتُ المسيح أماتَ الشيطانَ وأماتَ الموت. يسوعَ المسيح بصليبهِ غلبَ الشياطين، وغلبَ الخطيئة، وغلبَ الفساد، وغلبَ الضعف البشري. بدفنِهِ دفنَ الإثمَودَفَنَ الفساد. بقيامتهِ من بين الأموات فتحَ لنا أبوابَ الحياة الجديدة، أقامَنا نحنُ الساقطين، أحيا قلوبَنا، أحيا آمالَنا.
يسوعي، قبلكَ حارَ الناسُ في فَهم سرّ هذا الكون. أفلاطون الشهير أخطأَ السبيلولم يعرف أن الإنسانَ مخلوقٌ خاصٌّ، وأن الحبَلَ بهِ يتمُّ بفعلٍ إلهي.
أفلاطون الفيلسوف الكبير لم يستطع أن يصِل الى معرفة هذا السر فقال أقوالاً خرافيّة. زعَمَ أن الأرواحموجودةٌ قبل الولادة، آمنَ بوجود الروح وآمنَ بخلود الروح ولكن عقلهُ بقيَ محدوداً. لم يستطع أن يفهم كيفية خلود الروح فزعمَ أن الأرواح تسقطُ في الأجسام وتُسجَنُ فيها حتى يموت المرء فتنتقل روحُهُ إلى شخصٍ آخر، وهكذا تكونُ الديمومة بانتقال الروحمن شخصٍ الى شخص. الروحُ الناضجة المتعلِّمة الفهيمة، كيف تنتقل الى رحم امرأةٍ لتعودَ الى جسدٍ آخر؟ أين فَهمُها؟ أين معرفتُها؟ أين ثقافتُها؟ هذا كلامُ هراء.
يسوع علّمَنا أن أجسادَنا المائتة تقومُ، وأن أرواحَنا تعودُ الى أجسادِنا المائتة، وأن كلَّ شخصٍ هو عالمبحدّ ذاتِه، شخصٌ من روحٍ وجسد. يذهبُ الجسد إلى القبر أما الروح فتذهب الى خالقِها، وهذا ما نطقت بهِ الكتب المقدسة. كتابُ الجامعة في العهد القديم قال: الجسد يعودُ الى ما كان عليهِ، أي الى التراب أما الروح فتذهب الى خالقها.
يسوع علَّمَنا بوضوحٍ بقيامتِه المجيدة أن الأجسادَ ستقوم، وأن الأرواحَ ستعودُ الى الأجسام، وأن الشخص البشري يستعيدُ جسدَهُ في القيامة العامة بفعلٍ إلهيٍّ، بخَلقٍ إلهيٍّ جديد.
قام المسيح، وجميع الناس سيقومون. الصالحونَ لميراث الحياة الأبدية في المجد الأبدي، والطالحون لعذابٍ أبديٍّ في جهنم النار. هذا التعليمُ الجديد مسحَ فلسفة أفلاطون. صِرنا نعلمُ أن الشخصَ كلٌّ لا ينفصِم ولا ينفصل ولا يذوب ولا ينهارُ ولا ينحلُّ ولا ينتقلُ، بل يحتفظُ بجسدهِ في القبر الى يوم القيامة فيستعيدهُ يومَ القيامة.
الشخصُ كلٌّ لا يتجزأ، وإن انفصلَ الجسدُ عن الروح مؤقتاً فسيستعيدها في يوم القيامة العظيم كما استعادَ يسوع جسدَهُ في يوم الفصح العظيم يومَ القيامة المجيد. قيامةُ المسيح أدخلت الأمل الى البشرية فصارَ الناسُ يؤمنونَ أن أرواحَهم لا تذهب الى الهلاك بل تستمرُّ بعد الوفاة في المجدِ مؤقتاً حتى يوم القيامة العظيم.في يوم القيامة العظيم تقومُ الأجساد، وتتّحدُ بالأرواح من جديد فيستعيدُ الشخص جسدَهُ لينعمَ بنعيمٍ أبديّ، بملكوتٍ أبديّ، وليعيشَ في نور الرب يسوع المسيح الى أبد الآبدين ودهر الداهرينحاصلاً على السعادة الأبدية التي لا توصف والتي لا يمكن فَهمها هنا على الأرض قبل الوصول إليها في اليوم الأخير.
يسوع قلَبَ الفَهم التاريخي للإنسان وأعطانا فَهماً جديداً. فتحَ أمامنا بابَ رجاءٍ أبدي فصار الموتُ لا يخيفُ المسيحي الحقيقي بل يفرحُ بهِ، لأنهُ بهِ ينتقلُ من الموتِ الى الحياة، ينتقلُ الى يسوعَ المسيح. صِرنا نعرفُ أن هذه الدنيا هي الموت، أما الآخرة فهي الحياةُ الحقيقية. إن الموتَ هو حياةٌ. يسوعُ قال:” مَن آمنَ بي وإن ماتَ فسيحيا” وإن ماتَ فسينتقلُ من الموتِ الى الحياة.
الحياةُ الحقيقية هي لديكَ يايسوع. أما هنا فبؤسٌ وشقاءٌ وذِلٌّ وعارٌ وسقوطٌ في الخطيئة وابتعادٌ عنكَ والتهاءٌ بشهواتِ هذا الكَون الفاسد. عندك يا يسوع، نورٌ أبديٌّ يضيءُ الإنسان برمّتِه فيُصبح نوراً من نورك الذي لا يغرب أبداً.
قيامة المسيح جدَّدت الجسد. صِرنا نعرف أن هذا الجسد الراقد في القبر مُعدٌّ لأن يحيا ثانيةً. صار لدينا الأمل أن الموتَ هو بداية مرحلةٍ جديدة في مراحلٍ لا نهاية لها. هو انتقالٌ، لا فناءٌ، لا زوال. وإن انحلَّ الجسدُ الى ترابٍ في القبر، فالله سيُحيي هذا التراب في يوم من الأيام ويضمُّهُ الى شخصِ صاحبهِ.
نظرية أفلاطون تافهةٌ إذاً. التقمُّص مفهومٌ تافهٌ لأنهُ لا يحتفظ بكرامة الإنسان. كيف يُمكن مسخ الإنسان الواعي القدّيس لينتقلَ الى رحمِ امرأةٍ أخرى ويعودُ إنساناً فاقدَ الفَهم، فاقدَ العقل، فاقدَ الرؤية، فاقدَ القداسة ليحيا من جديد؟ لماذا هذه الحياةُ الجديدة وما الفائدة منها؟ وأيُّ تطهيرٍ يصيرُ للإنسان إن انتقلت روحُهُ من جسدٍ الى جسدٍ؟هذا الجسد لا يزدادُ إلا فساداً بعد فسادٍ بعد فساد.
المسيحي الذي يموت في يسوعَ المسيح ممتلئاً من الروح القدُس، ينتقلُ الى المجد الأبدي وهو ليس بحاجةٍ الى التقمُص ليعودَ الى الحياةِ من جديد ويزداد دورهُ في الإثم والشر والخطيئة. لا تَجدُّد ولا تطهُّر في انتقال الأرواح بين الأجساد.الطهارة الحقيقية يمنحُنا إياها يسوع بعد الوفاة. بعد الوفاة نتخلّصُ من الجسد ومن حكَّةِ الخطيئة فنُصبِح مع يسوع، عائشينَ في يسوع، متمتّعينَ بالسعادةِ الأبدية في نور ربنا ومخلّصنا يسوع المسيح.
قيامةُ المسيح أحيَت الآمال ونوَّرت العقول. بقيامةِ المسيح صِرنا بشراً. عيدُ القيامةِ هو عندنا عيدُ الأعياد وموسِمُ المواسم الذي نباركُ فيهِ المسيحَ الإله. قيامةُ المسيح ثبّتت إيماناً حارّاً بيسوعَ المسيح. قيامةُ المسيح ميثاقٌ كبيرٌ بيننا وبين يسوع المسيح يقضي بأن نموتَ على رجاء القيامة والحياة الأبدية في يسوع المسيح ربنا.
يسوع قامَ فأقامَنا معَهُ، وكيف أقامَنا معهُ؟ يسوع علّمَنا أن المعمودية هي ميلادٌ ثانٍ سماويّ. بولس الرسول علَّمَنا أن المعمودية هي ميلادٌ ثانٍ في المسيح، وهي صَلبٌ مع المسيح، وموتٌ مع المسيح، ودفنٌ مع المسيح، وقيامةٌ مع المسيح، وجلوسٌ عن يمين الآب في السماء في يسوع المسيح. هذا الجلوس هو الآن مستورٌ، أما بعد الموت فسيصيرُ واضحاً، وفي القيامة سيكونُ ذا بهاءٍ خالدٍ الى الأبد. يوحنا فم الذهب أوضحَ الأمرَ بقوة فقال: في المعمودية ننال المسيح كلَّهُ. على ضوء بولس والقديس غريغوريوس اللاهوتي العظيم نفهمُ من كلام الذهبي أننا في المعمودية نأخذ المسيحَ برمَّتِه منذ الحبَل بهِ في بطن العذراء مريم وحتى جلوسهِ عن يمين الآب.
المسيحُ صار فينا فصرنا نحنُ المسيح. قال يوحنا فم الذهب على لسان يسوع: صِرتُ إيّاكُم لتصيروا إيّايَ. نعم صِرنا المسيح. قال كيرللس الأورشليمي وسواه: هو المسيحُ ونحنُ المسَحاء. نعم، نحنُ نمَونا فيهِ وننموَ فيهِ حتى نبلُغَ ملءَ قامتهِ بالروح القدُس.
أفسُس واضحة. نبلغُ ملءَ قامةِ المسيح. نحيا في المسيح والمسيحُ يحيا فينا. بولس قال: ” ما لي من الحياة الآن إنما أحياهُ في ابن الله الذي أحبّني وبذلَ نفسَهُ من أجلي”. حياةُ بولس هي في المسيح. وقال أيضاً: ” مع المسيحِ صُلِبتُ فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ “. وقال أيضًا: ” صُلِبتُ للعالم والعالمُ صُلِبَ لي “. وقال أيضًا للكورنثييّن في غلاطية: ” لا أُريدُ أن أعرف بينكم شيئاً إلا يسوعَ المسيح وإيّاه مصلوباً “.
يسوع المصلوب هو إلهي الحقيقي. بدون صليب يسوعَ المسيح لا أستفيدُ من الوجود شيئاً. لا يتمُّ لي خلاص، لا أدخلُ الى صميم حياةِ المسيح، لا أغتسلُ بدم المسيح، لا أتناولُ جسدَ ودمَ المسيح. صليبُ يسوع أعطى معنىً لحياتي التي كانت بلا معنى. يسوع المسيح إبن الله الوحيد تجسَّدَ من أجلنا ومن أجل خلاصنا، فصارَ إنساناً مثلَنا في كل شيءٍ ما عدا الخطيئة. صُلبَ من أجلنا ليمحوَ خطايانا ويغسِلنا بدمِه ويطهّرنا من كل خطيئة. دُفِنَ لنُدفَنَ معهُ ونقومَ معهُ بهيئةٍ جديدة على رجاء القيامة والحياة الأبدية. يسوع صار بذلك من أجلنا كلَّ شيءٍ لنصيرَ نحنُ لهُ. ولِدَ، تألّم، ماتَ، دُفِنَ، قام من أجلنا لكي نصير إنساناً جديداً فيهِ، وبهِ، ومعهُ، ولهُ، فلا نعود لذاتنا بل نعودُ للذي اشترانا بدمهِ الطاهر الثمين.
ثمني هو دمُ المسيح إبن الله. ما قيمتي أنا قبل صليب يسوع؟ ما الفرقُ بيني وبين الحيوانات؟ الفرقُ بيني وبين الحيوانات هي أن الحيوانات تفنى بالموت، أما أنا فبصليب يسوعَ المسيح لهُ المجد فقد خرجتُ من الجحيم.روحُ يسوع البشرية نزلت الى الجحيم وبشَّرت الناس فيهِ وأخرجَت الذين آمنوا بهِ الى الفردوس. يسوع أخرجَني من الجحيم الى الحياة. ما صنعَهُ إليَّ يسوع هو أبعد من كل فكرٍ ومن كل تقدير. لا يستطيع العقل البشري أن يتصوَّر بالتمام هذا المجد الذي نِلتُهُ بصليب يسوع ودفنهِ وقيامتهِ.لم أعُد أنا دودةٌ، لم أعُد أنا جيفة، لم أعُدإبناً للجحيم، صِرتُ ابناً لله.
علّمَنا بولسأننا أبناءَ الله بالتبنّي. يسوع هو إبنُ الآب بالطبيعة، أما نحنُ فأبناءُ الله بالتبنّي بفضل النعمةِ الإلهية التي أخذناها. علّمَنا ايضاً أن روحَ الله الساكن فينا هو الذي ينادي الآب:يا أبَّ الآب، والروح هو الذي يُصلّي فينا بأنّاةٍ كثيرة.
فإذاً في المسيح يسوع صِرنا خليقةً جديدة، صِرنا خَلقاً جديداً، عالماً جديداً. كنّا مظلومينَ بالخطيئة، كنّا تائهينَ مائتينَ نائمين. في يسوعَ المسيح لهُ المجدكلُّ شيءٍ صارَ جديداً. تألّهنا بيسوعَ المسيح بالحبَلِ بهِ، بميلادهِ، بآلامِهِ، بدفنِهِ، وبقيامتِهِ من بين الأموات. وُلِدنا ولادةً جديدة. قامَ من القبرِ حيّاً فدخلت الحياة الى وجودنا. وُرثنا حياةً جديدةً في كيانِنا وهي حياةٌ إلهيةٌ بموجبها صرنا مساهمينَ في المجد الإلهي، صرنا مساهمينَ في النعمة الإلهية البارزة من جوهر الثالوث القدوس. هذه النعمة تجعلُنا آلهةً بالنعمة. الله إلهٌ بالجوهر بالطبيعة، أما نحنُ فآلهةٌ بالنعمة. تألّهنا فصرنا آلهةً بالنعمة. ما صِرنا آلهةً مثل الآب والإبن، ولكن آلهةً بنعمةِ الثالوث القدوس ممتلئينَ من النعمةِ الإلهية الصادرة من جوهر الثالوث القدوس. النعمة الإلهية تجعلُنا ونحنُ بشرٌ ساقطون متألِّهين فتُعطينا شكلاً إلهيّاً، نتجدَّدُ بموجبهِ كل يوم، وكل لحظة فنتطوَّر من بشَرٍ مائتين الى بشرٍ خالدين. وُلِدنا في الزمان ولكننا أخذنا نعمةً إلهيةً سرمدية لا بدايةَ لها ولا نهاية تنقلُنا من عالمٍ محدودٍ في الزمان والمكان الى العالم الغير المحدود لا في الزمان ولا في المكان. بهذه النعمة ندخلُ في السرمدية الإلهية.
قيامتُكَ يا يسوع أقامَتني من الموت، أحيَت آمالي، أحيَت رجائي، أحيَت رميمَ عظامي. قيامتُكَ يا يسوع جعلَتني أثِقُ بأنني لا أموتُ بل أبقى عندكَ الى حياةٍ أبدية.
فيا يسوع يا ابنَ الله، يا حملَ الله، يا رافعَ خطايا البشر إرفع عنّي خطاياي وطهّرني من كلّ نجاسةٍ.
ربي يسوعَ المسيح أنتَ الذي حَملتَ الكونَ بين كفَّيكَ على الصليب، إحمِل آلامَ البشر وشقاءَهُم وبؤسَهُم وجدِّد حياتَهُم.
ربي يسوعَ المسيح أنتَ الذي أحبَبتنا فمُتَّ عنا، لا تُهمِلنا في أيام الضيقِ ولا في الظروف القاسية ولا تدَع الشيطان يشمُتُ بنا.
أنت أيها الربُ يسوعَ المسيح بصليبكَ الكريم،إسحَق الشيطان تحت أقدام المؤمنين واجعل المؤمنينَ جميعاً لهيباً من نار روحِكَ القدوس. حوِّل المؤمنينَ جميعاً الى أعمدةٍ من نارٍ ونور في بيتِ أبيكَ القدوس. بشفاعةِ سيدتنا والدة الإله وجميع القديسين، آمين آمين آمين. يا أرحمَ الراحمين، يا قدوسُ القديسين.
الفصل الثاني عشر
الجمال كلهُ ظهورٌ إلهيٌّ وقيامة وعنصرة
قال يوحنا فم الذهب بعد الظهور الإلهي وقيامةِ الرب والعنصرة: صارَ الزمانُ كلُّهُ ظهوراً إلهياً وقيامةً وعنصرةً. وقيلَ لهُ: لماذا لا نحتفل بيوم الجمعة العظيم في رأس السنة؟ فأجاب: كلّما أقَمنا خِدمة القداس الإلهي إحتفلنا بيوم الجمعة العظيم. ما هذا القول الرائع، كيف يكونُ الزمانُ كلُّهُ عيداً وعنصرةً!
الكنيسةُ هي جسدُ المسيح كما قال بولس الرسول وهي تنشر الإنجيل والإنجيل هو كلامُ الله. وإذا استقرَّالإنجيلُ في القلب بإيمانٍ كما تقول الرسالة الى العبرانييّن، كانت له مفاعيلٌ عظيمةٌ جداً . في يوحنا 15: كلامُ يسوع يُطهِّرُ القلوب. وفي رسالة بولس الى تيموثاوس: كلامُ الله يجعلُنا حُكَماء. يمتزج كلام الله فينا وينقضُّ على الخطايا بالنيران كما قال القديس الروسي ديمتريوس.
الروحُ القدس هو الذي ينقش الإنجيل في قلوبنا على ما قال مكاريوس الكبير المنحول السوري، وهذا ما يؤيّدهُ يوحنا السُلّمي. الإنجيلُ نورٌ كما قال سمعان اللاهوتي الجديد وهذا النور يُضيءُ في خطايا القلب. ومَن هو النور الحقيقي على ما جاء في الفصل الأول من إنجيل يوحنا؟ يسوع هوالنورُ الحقيقي. في يوحنا 8 قال يسوع: أنا نورُ العالم، مَن يتبعني لا يمشي في الظُلمة بل يكونُ له نورُ القيادة. قال بولس في أفسُس: يجب أن نسلُكَ في النور لأننا أبناءَ النور.
الكلامُ في هذا كثير. الإنجيلُ نورٌ والنورُ يُضيءُ في الظُلمة، والإنجيل هو سيرةُ المسيح، ومسيرةُ المسيح تنطبعُ في قلوبِ المؤمنين الحقيقيّين كلهيبِ نارٍ.
الكنيسةُ تُعمِّدُ الناس والمعمودية هي ميلادٌ ثانٍ كما في تيطس. هي ارتداءٌ للمسيح كما في غلاطية 3/27: أنتم الذينَ بالمسيح إعتمَدتُم المسيحَ قد لبِستُم. وفي رومية 13 قال بولس: إلبَسوا المسيح. ونحن نلبَسُ المسيح ونولدُفي المسيح كما قالت الرسالة الى أهل رومية ونحن أعضاءٌ في جسد يسوع المسيح، والروح القدس هوساكنٌ فينا كما في رومية الفصل 5 الآية 5: ” والرجاء لا يُخيّبُ صاحِبَهُ لأن محبةَ الله قد أُفيضَت في قلوبِنا بالروح القدُس الذي أُعطِيَ لنا “. والذي هو “روحُ التبنّي” كما في غلاطية وفي رومية، وبهِ نصرُخ الى الآب “يا أبَّ الآب”، وهو الذي يُصلّي فينا كما في رومية 8 : 26 ” وكذلكَ الروحُ ايضاً يعضُدُ ضُعفَنا، لأن لا نعلَم كيفَ نُصلّي كما ينبغي، ولكن الروح نفسَهُ يشفعُ فينا بأنّاتٍ لا يُنطَقُ بها “.
في أعمالِ الرُسل نرى الروح القدس الذي يعملُ كلَّ شيءٍ في الكنيسة. يوحنا فم الذهب نفسُهُ قال: الإنجيل تاريخُ المسيح، وأما أعمال الرسل فهو تاريخُ الروح القدُس. هو الذي يقودُ الكنيسة ويقودُ بولس. يسوع نفسُهُ قال في 7 من يوحنا 37 – 38 :”إن عَطِشَ أحدٌ فليأتِ اليَّ ويشرب. مَن آمنَ بي فكما قال الكتابُ: ستجري من بطنهِ أنهارُ ماءٍ حي “. فسَّرَ يوحنا هذا القول عن الروح القدُس.
تتمُّ المعمودية باسم الآب والإبن والروح القدُس، فنُنقَلُ من خانةِ آدم الى خانةِ المسيح ونُصبح أولاداً للّه بالنعمة الإلهية. بالميرون المقدس يسكنُ الروحُ القدُس فينا. بالمناولة نتناول جسد الرب ودمَهُ: لا نتناول دم وجسد الرب المائت بل نتناول دم وجسد الرب الحيّ من بين الأموات.
ولذلك،فعيدُ الفِصح بالنسبة للمسيحيين لم يكن يوم الجمعة العظيمة يومَ نُحِرَ يسوع المسيح على الصليب كذبيحةٍ حيَّة، بل كان فِصحُنا يوم الأحد يوم القيامة لأننا لا نأكل خروفاً ميّتاً مثل اليهود ونشويه بالنار العادية، بل نأكل فِصحاً حيّاً مشوياً بنارِ الروح القدُس لا بالنار المادية. خدمة القداس واضحة: إذ نتناول جسد ودمُ الرب، نأخذ الروحَ السَماوي.
الكنيسةُ هي التي تُقيمُ خدمة القداس الإلهي. وخدمة القداس الإلهي هي ذبيحةُ الصليب بعَينها إذ يتحوَّل الخبز والخمر الى جسدِ الرب ودمَهُ. هي ذبيحةٌ غيرُ دمَوية ولكنها هي ذبيحةُ الصليب نفسِها. ولذلك قال يوحنا فم الذهب: كلَّما أقَمنا خدمة القداس الإلهي إحتفلنا بيوم الجمعة العظيم فتحضر ذبيحة الصليب أمامنا فنتناول يسوعالذبيحةُ الإلهية المقدّمَة بروحٍ إلهيٍّ.
هيكلُنا ليس هيكلُ سُليمان الأرضي بل هوهيكلٌ من السماء غيرُ منسوجٍ بأيدٍ بشرية وغيرُ مبني بأيدٍ بشرية. هذا الهيكل الذي صنعَهُ الله لا الإنسان كما جاء في الرسالة الى العبرانييّن. وكلّما عمَّدنا إنساناً وختَمنا إنساناً بالميرون وأقَمنا خِدمة القداس، أحضَرنا الروحَ القدُس ليحُلَّ علينا.
ولذلك في الميرون يقول الكاهن: خِتِم موهبَة الروح القدُس. إذا كان الجسد هو مادةُ الأسرار المقدسة إنما مفعولُ ذلك ينتقل الى الروح. يُعمَّدُالجسد بالماء ولكن يُعمَّدُ المرءُ ايضاً بالروح القدُس والنار. النارُ الإلهية تحرُقُ خطايا المعتَمِد والروح القدُس يلِدُهُ في المسيح.
على القرابين المقدَّسَة نستدعي الروحَ القدُس ليحَوّل الخبزَ والخمرَ الى جسد الرب ودمهِ. أليسَت هذه عنصَرة؟ في الرِسامات الكهَنوتية نستدعي الروح القدُس أيضاً لرَسم الإنسانَ كاهناً أو أسقُفاً أو شماساً، وكلُّ هذا يتمُّ بنعمة الروح القدُس وهو العنصرة.
الطعامُ نفسُه كما قال بولس لتيموثاوس في رسالتهِ الثانية يتقدَّس بالكلمة والصلاة. يوحنا فم الذهب علَّمَنا أن نشكر الله الذي أعطانا الطعام قبل الطعام. الكنيسة هي التي تبارك كلَّ شيءٍ. تُبارك الأمكِنة، تُبارك بِناء الكنائس، تُبارك الآنية المقدسة، تُبارك ثياب الكهَنة، تُبارك البيوت، تُبارك الحقول، تُبارك المواسم، تُبارك الآبار، تُبارك كلَّ شيءٍ.
والمؤمِن يُصلي ويُبارك. رسالة بولس الى رومية والى غلاطية واضحتان: بالروح القدُس الساكنُ فينا ننُادي الآب “يا أبّا الآب ” وهو الذي يُصلّي فينا. في 1 كورنثوس : 3 ” فلذلكَ أُعلِمُكم أن ليسَ أحدٌ ينطِقُ بروح الله ويقول:” يسوع أناثيما ” ولا يستطيع أحدٌ أن يقول:” يسوع ربٌّ إلا بالروح القدُس”.
حينما نقولُ ربي يسوع،فالروح القدُس هو الذي ينطقُ فينا. الروح القدُس ساكنٌ فينا وهو الذي يعملُ فينا الأعمال.في رسالة بولس الى أهلفيليبي 2 : 13 يسوع يعملُ فينا الإرادةَ والأعمال :” فإن الله هو العاملُ فيكم أن تُريدوا وأن تعمَلوا على حسَب مَرضاتِهِ “.
وفي الصلاة الربّانية نقول: لتكُن مشيئتُك كما في السماء كذلك على الأرض.إننا نقتبسُ المشيئة الإلهية، نقتبس النِعمة الإلهية، نقتبسُ الروح القدُس، نمتلئ من الروح القدُس، وغايةُ الحياة هي الإمتلاء من الروح القدُس.
في أفسس 4 : 13 ” الى أن ننتهي جميعُنا الى وَحدَةِ الإيمان ومعرفةِ ابنِ الله الى إنسانٍ كاملٍ الى مقدارِ قامةِ المسيح “. نحن ننمو في المسيح، ولذلك نُسمّي الآباء القديسين حاملي المسيح، حاملي الله، حاملي اللاهوت.
اللهُ يتجلّى في الكنيسة وفي حياةِ المؤمِنين. المؤمِن يُناجي الله. صلواتُنا هي مرتفعة الى الله بالروح القدُس الساكنُ فينا ولنا شَرِكةٌ مع الله.رسائل بولس واضحة ورسائل يوحنا كذلك واضحة: نحن شَرِكةٌ مع الآب، مع الإبن، ومع الروح القدُس. وماذا فعلت الشركة؟ هناك بيننا وبين الله نوعٌ من الإختلاط،أي أن نِعمتُهُ تتغلغلُفينا.
رسالة بولس الثانية الى أهل كورنثوس واضحة: نحن أبناءُ الله الحي، هو إلهُنا ونحن أبناؤهُ وبناتُه، نحن هياكلُ الروح القدُس، وأعضاؤنا هي أعضاءُ المسيح. في إنجيل يوحنا آيات كثيرة عن استقرارنا في يسوع واستقرار يسوع فينا.
بولس قال في أفسس 3 : 17 ” لِيَحِلَّ المسيحُ بالإيمان في قلوبِكم “. المسيح يسكنُ فينا في الإيمان. وفي كولوسي 3 : 16 ” ولِتحُلُّ كلمة المسيح فيكم بكل غِناها “.
نحنُ مساكِنٌ لله.نحن أعضاءٌ في جسدِ يسوع. صلواتُنا ترتفع الى الله بالروح القدُس الساكِنُ فينا.
حياةُ المؤمن المسيحي الحقيقي هي سلسِلةٌ لا نهايةَ لها من التجليّات الإلهية. والظهور الإلهي في حياةِ المؤمن مستمرٌّ في كل أعمالِنا وصلواتِنا المعمولة في الله كما قال يسوع في الفصل الثالث من إنجيل يوحنا: يتجلّى الله فينا.
نحنُ في سلوكِنا المسيحي وفي سيرتِنا المسيحية اللامعة، نسلكُ بالروح القدُس. يوحنا فم الذهب وغيرُه قالوا إن النور يسكنُ في قلب المسيحي المعتمِد إعتماداً حقيقياً.
إن النورَ الساكنُ فينا إن كان لا يُشعشع فبسبب خطايانا، وما علينا إلا أن نُزيحَ الحِجاب حتى يُشعشع فينا كما تُشعشع الشمس في الغرفة متى أزَحنا الحجاب (البرداية). هذا الروحُ مُقيمٌ فينا وهو الذي يفعلُ فينا، وهو الذي يجعَلُنا كاملينَ في يسوع المسيح. حياة الإنسان المسيحي في الله هي سلسلةٌ لا نهايةَ لها من التجليّات، من الظهور الإلهي.
عندما يخرجُ الكاهن حاملاً الكأس المقدسة، نُرتل:” الله الربُّ ظهرَ لنا مباركٌ الآتي باسم الرب “. مَن هو هذا الآتي باسم الرب ومَن هو الذي ظهرَ لنا؟ هو يسوعُ المسيح.
في خِدمةِ القداس قبلَ تحويل القرابين نقول: قدوسٌ قدوسٌ قدوسٌ ربُّ الصباؤوت، السماءُ والأرض مملوءتان من مجدِكَ هوشعنا في الأعالي مباركٌ الآتي باسمِ الرب. ومَن هو الآتي باسم الرب؟ هو يسوعُ المسيح له المجد. هوالذي بعد لحظاتٍ سيأتينا بالكأس المقدَّسَة لنتناولَهُ بشُكرٍ ساجِدينَ مُعَظّمينَ الآبَ والإبنَ والروحَ القدُس وساجدينَللثالوث القدوس.
خدمة القداس الإلهي روعةٌ من روعات العيش مع الله. فَمَنْ يَحضُر القداس حقيقةً يكونُ في السماءِوفي الأرض. في صلواتنا وفي خدمة القداس نقولُإن الملائكة شُركَاءٌ لنا في الخدمة وهذا شيءٌ طبيعيٌّ،لأنه حيث يكونُ الربُّ يسوع تكونُ الملائكة تحتفلُ بهِ فنُصبحُ نحنُ والملائكة شَرِكةً واحدة وهذا واضح.
في أفسُس وكولوسي، يسوع هو الرأسُ ونحنُ والملائكة جسدُيسوعَ المسيح. الملائكة شُركاؤنا في جسدِ يسوعَ المسيح. كلَّما تقدَّمَ المسيحيُّ في الإيمان والمحبةِ والرجاء والعمل الصالح، حَظِيَ بِنَفَحاتٍ إلهية كما قال أغناطيوس الأنطاكي:”المسيحُ يسكنُ في قلبي”. ولا يسكنُ في قلبي وحدَهُ بل يسكنُ في قلبِ كل واحدٍ منا. وإن كان شعورُنا غليظٌ والسببُ هو خطايانا. فلنتطهّر من كل خطيئةٍ لنظهَر لامعينَ مثل المسيح على جبل التجلّي.
الزمانُ كلهُ قيامة، كلهُ فرحٌ إلهيّ. هل كان الشُهداء أثناء الإستشهاد في غمٍّ، في بؤسٍ، في حزنٍ؟ ألم يكونوا في السماء؟ هل كان القديس جاورجيوس أثناءَ آلامهِ المبرِّحَة، على الأرض أم في السماء؟ أما عاشَ السماء قبل الوفاة؟ وكم عددُالشهداء؟ هم عشراتُ الملايين، إستقبلوا الموتَ بفرحٍ عظيم لأن موتُ الشهادة سيجعَلُهم يخترقونَ السماء قبل الدينونة.بعضُ القديسين استَشهدوا قبل المعمودية مثل القديس بونيفاتيوس وعيدُهُ عندنا في 19 كانون الأول.نقول بهؤلاء الشهداء أنهم تعمَّدوا معمودية الدم ودخلوا الملكوت. أعيادُ الشُهداء عندنا أعيادٌ مُحترمةونقيم الشُهداء في مرتبةٍ عاليةٍ بعد الرسُل والقديسين. القديس أفرام وكثيرون سواهُم من الكنيسة قالوا في النساك إنهم شهداءَ ايضاً.النُسكُإذاً ليس انتحاراً بل هو حياةٌ، هو استشهادٌ. والشهيدُ يَلي الرُسل في الأهمية. النساكُ جليلونَ محترَمون ايضاً.
حياةُ الإنسان المسيحي الحقيقي هي إستشهادٌ واشتراكٌ في حياةِ الشُهداء. الإنسانُ المسيحيُّ هو بطلٌ وشهيدٌ حيٌّ. ليس المسيحيُّ جباناً، ليس المسيحيُّ مُنهزماً وليس المسيحيُّ منبَطحاً من الخوف والهرب، بل هو بطلٌ يُجابِه الموت ببطولة ولا يخشى الموت لأن الله معهُ.
في يوم العنصرة، الروحُ القدُس يتدفَّق في الكنيسة. وحياةُ الكنيسة هي حياةٌ في الروح القدُس، والروح القدُس هو كلُّ شيءٍ في حياةِ المؤمن. فلذلك بعد قيامةِ المسيح، كلُّ حياةِ المسيحيهي قيامة. كيف؟ كلما أعلَنتُ التوبةَ عن خطاياي قامَ المسيحُ في كِياني.
حياة المؤمن هي حياة ودفن وقيامة. يَدفُنُ خطاياه فيفرحُ دائماً مع المسيح.في رسالة بولس الى فيليبي تكرار لكلمة الفرح ” إفرحوا إفرحوا” ونحن دائماً بفرحٍ مع الله. الشدائد والضيقات والأمراض والأحزان لا تُبعِدُنا عن يسوع بل تُقرّبنا منه. نتحمّل كل الضيقات بفرحٍ عظيم وشُكرٍ عظيم وإيمانٍ عظيم عالمينَأن يسوع المسيح لهُ المجد يكونُ حاضراً في حياتِنا.
كما قال بولس الرسول ” قُوَّتي في الضُعفِ تَكمُل”. حينما نكونُ ضُعفاء حينئذٍ نكونُ أقوياء بيسوع المسيح. فلذلك فَرحُ القيامة ملازِمٌ لنا.
حياةُ الإنسان المسيحي ليست غمّاً عادياً يخنُقُ الإنسان، هي غمٌّ للتوبة، غمٌّ ينشرُ التوبة كما قال بولس في رومية. والتوبة هي قبرُ المسيح، هي قيامة المسيح. المسيحيُّ الحقيقيُّ هوالتائب.وما هو أوانُ التوبة؟ الزمانُ كلُّهُ توبة. الزمانُ كلُّه بالنسبة للمسيحي قيامةٌ في يسوع المسيح. نورُ القيامة مُضيءٌ لنا في كل أيام حياتنا. ولذلك فحياتُنا في المسيح هي ظهورٌ دائمٌ للمسيح في حياتِنا، وقيامةٌ للمسيح في حياتِنا، وحلولٌ للروح القدُس في حياتِنا.
لما كان يسوع المسيح على الأرض، لمسَهُ الناس ولمسُوا ثيابَهُ، ولكنهُ ما كان في داخل البشر. اليوم بعد العنصرة، صار في داخل البشر. وما هي العنصرة؟ العنصرة هي استمرارٌ للتجسُّد الإلهي. حينما يُعمِّدُ الكاهن إنساناً ما، يَلدُهُ في المسيح ويُصبح لابساً المسيح وابناً لله،وهذا استمرارٌ للتجسد الإلهي. المسيح وُلِدَ مرةً واحدة من مريم العذراء ولكنه يولدُ منذ العنصرة في المؤمنين وينمو في المؤمنين، والمؤمنون يَنمون في المسيح حتى يبلغوا ملءَ قامةِ المسيح.
حياةُ المسيحي الحقيقي هي دائماً ولادةٌ مع المسيح، تَمتُّعٌ بظهور المسيح، تمتُّعٌ بآلام المسيح وبدفنِه وبقيامتِه وبصعودِه الى السماء وجلوسِه عن الميامن. هي عنصرةٌ جديدة. العنصرةُ لاتتمُّ مرةً واحدةً فقط بل هي مستمرة في الكنيسة، وحياةُ الكنيسة هي عنصرةٌ مستمرة. نحن ننمو في النعمة الإلهية،والعنصرة مستمرة في حياةِ كل إنسانٍ مسيحيٍّ لأنهُ يحيا في الروح القدُس لا يحيا لذاتِهِ.
بولس قال في غلاطية 2 : 20 ” مع المسيح صُلِبتُ، فأحيا لا أنا بل المسيحُ يَحيا فيَّ.وإذا كنتُ أحيا الآن في الجسد فحياتي في الإيمان بابنِ الله الذي أحبَّني وبذَلَ نفسَهُعنّي”.
بولس قال في رومية وأفسُس وكولوسي وسواها أننا نُصلَب مع المسيح، ونُدفَنُ مع المسيح،ونموتُ مع المسيح، ونقومُ مع المسيح، ونصعَدُ الى السماء مع المسيح، ونجلِسُ عن يمينِ الآب في المسيح. ولذلك يسوعُ هو حياتُنا، هو مَن قال إنهُ طريقُ الحقِّ والحياة.
أما غريغوريوس اللاهوتي فقد غاصَ في هذه المعاني وقال: في الأمسِ كنتُ أتمشى على شاطىءبحرية الجليل مع المسيح، بالأمس دخلتُأورشليم معَهُ، بالأمس صُلِبتُ معهُ، بالأمس دُفِنتُ معهُ، بالأمس قُمتُ معهُ واليوم أقومُ معهُ. جعلَ تفاصيلَ حياةِ المسيح تفاصيلَ حياتِه.فإذاً، نحنُ والمسيحُ واحدٌ.
يوحنا فم الذهب قال: صِرْتُ إيّاكُم لِتَصيروا إيّايَ. أي صارَالمسيح إنساناً مثلَنا لنصيرَ المسيحَ مثلُهُ. بعد العنصرة، كلُّ حياتِنا هي في يسوع المسيح. كلامُ بولس قويٌّ: وما لي من الحياة الآن إنما أحيَاهُفي ابنِ الله الذي أحبَّني وبذلَ نفسَهُ من أجلي.
نحنُ نحيا في يسوع ويسوعُ هو حياتُنا.وما يفصُلنا عن يسوع؟ الخطايا.وفي آخر الفصل الثامن من رومية نصٌّ رائعٌّ:” فَمَنيَفصِلُنا عن محبة المسيح؟ أشِدَّة أم ضيقٌ أم اضطِهادٌ أم جوعٌ أم عُريٌ أم خطرٌ أم سيفٌ؟ “. لا شيء يفصِلُنا عن محبة الله في يسوع المسيح سوى خطايانا.الشهداء أخذوا هذا المثالَ راضينَ، وكان إتحادُهم بيسوعَ المسيح تامّاً.إستقبلوا الموت بفرحٍ عظيمٍ واسْتقبلوا الإستشهاد بفرحٍ عظيمٍموافقينَ بأن الإستشهاد هو طريقُهُم الأمثَل الى المجدِ السماوي.
قبل العنصرة كان الروح القدُس يوحي للأنبياء وللآباء خارجياً. في العنصرة، سكن الروحُ القدُس فينا. العنصرة صار قنيتنا، نحنُ اقتَنَيناه، ونحن قُنيَةُ الرب يسوع. بولس قال لكهنة أفسس أن يدعوا الكنيسة التي اقتَناها الله بدمهِ. ومَن هو الله الذي اقتنى الكنيسة؟ هو يسوعُ المسيحالإله المتجسّد، هو الإله الذي تجسَّدَ من أجل خلاصنا فصار مثلنا في كل شيءٍ ما عدا الخطيئة.
القديس أثناسيوس الكبير وسواه من الآباء القديسين قالوا: صار الإلهُإنساناً ليصيرَ الإنسانُ إلهاً. تجسّدَ يسوع له المجد لكي نصيرَ آلهةً. لماذا جاء يسوعُ الى الأرض؟ لماذا لَبِسَني؟ لَبِسَني ليَسكُنَ فيَّ، ليصيرَ هو وأنا واحد. بولس الرسول واضح: نحنُ عن يمينِ الآب في يسوعَ المسيح ونحنُ أعضاءٌ في جسدِه. نحن موجودون منذ الآن في يسوع عن يمينِ الآب. ولذلك قال آباءٌ كثيرون إن الإنسان بالتجسُد الإلهي صار أعلى من الملائكة. (في الصفحتَين 64-66 في كتابي “التدبير الإلهي”)آباءٌ كثيرون يقولون بأن الملائكة أرواحٌبخِدمةِ الذين يعيشونَ الخلاص.
إتّحدَت طبيعة بشريّتنا به، لماذا؟ لكي نتّحدَ نحنُ بهِ. وما فائدة من التجسد الإلهي إن لم تكن لنا القدرة على الإتحادِ به؟ هذا شيءٌ هامٌ في التجسُد الإلهي. الصليب ليس بكل شيءٍ في المسيحية. علينا ن ننتبه الى أهمية التجسُد الإلهي الذي جعلَالطبيعة البشرية قائمةً في الأقنوم الثاني من الثالوث القدوس (أي الإبن) الى أبد الآبدين ودهر الداهرين.نحنُإذاً موجودونَ في يسوع.ولذلك نقول في دستور الإيمان: ” نزلَ من السماء وتجسَّدَ من الروح القدُس ومن مريم العذراء وتأنَّسَ “.وكلُ ذلك من أجلنا ومن أجل خلاصِنا. خلَّصَنا بموتهِ على الصليب من أجل خطايانا، وافتدانا بدمهِ الكريم وغسلَنا بهِ. وأبعدُ من كلهذا، صِرنا آلهةً بالنعمة.يسوع إلهٌبالجوهر ونحنُ آلهةٌ بالنعمة. التجسُد الإلهي هو إتحادُ طبيعتِنا البشرية بالطبيعة الإلهية في شخص ربنا يسوع المسيح. هذا الإتحاد هو سببُ اتحادِّنا أيضاً بالله.
عِبارات إتحادُنا بيسوعَ المسيح كثيرةٌ في كتُب المسيحية، وهذا ليس كلاماً لفظياً وليسكلاماً معنوياً وليسكلاماً مَجازياً. هذا كلامٌ قويٌّ، والدليلُ على ذلك أننا نأكل جسدَ المسيح ودمَهُفيتغلغلافي كل كيانِنافنستقرُّ فيهِ ويستقرُّ فينا.
التجسُد الإلهي أمرٌ مهمٌ جداً جداً لأنه هو الذي فتحَ لنا باب الطريق لنتحدَ بالله.والعنصرة هي امتدادٌ لهذا التجسُّد.كلُّ حياة يسوعَ المسيح منذُ تجسُّدِهِ من مريم العذراء،كان من أجلِنا لكي يصيرَقِنيَتُنا ونصيرُ نحنُ شُركاء في تجسُّدِه، في ظهورِه، في صلبهِ، في دفنهِ، في قيامتهِ، في صعودهِ وفي جلوسهِ عن يمين الآب. هو صار الطريقُ والحقُّ والحياة. إن كان هو طريقُنا فنحنُ نسلُكُ هذه الطريق.
في بولس كلماتٌ كثيرة عن سلوكنا في الرب وفي يسوع المسيح.نحنُ نسلكُ فيهِ، ونعيشُ فيهِ، ونتحرَّكُ فيهِ. في أعمال الرُسُل 17 : 28 ” فإنّا بِهِ نحيا ونتَحرَّكُ ونُوجَد”. هو حيّزُنا المكاني. نحنُ موجودونَ في يسوعَ المسيح. بهِ نحيا ونتحرّك، هو حياتُنا وطريُقنا وهو الحقُّ الذي نؤمنُ بهِ. هو الحقيقةُ التي نلتصقُ بها فنعيشُفي الحقِّ لا في الباطل. يسوع هو الحقُّ وفي حديثه مع السامرية قال: الساجدونَ الحقيقيون يسجُدونَ للآب في الروح والحق. وفسَّرَ ذلك غريغوريوس اللاهوتي الكبير وكيريللس الإسكندري وآخرون إن الحقَّ هو يسوع، والروحُ هو الروح القدُس.
لم يَعُد هيكل أورشليم هيكلَنا ولا جبال عِبال مَقدِسَنا. الروحُ القُدس ويسوع المسيح هما هيكلُنا للعبادة. يسوع هو هيكلُنا والروحُ القدُس هو المصلّي فينا.
لا شكَّأن هذا الجزء من العقائد هو هامٌ جداً، وذو سويَّة عالية، ويطرح علينا أمراً هاماً جداً، ألا وهو القُربُ والبُعدُ من الله.
الفصل الثالث عشر
البطولة الروحية
الإنسان المسيحي مدعوٌّ إلى أن يزرع مكان الأهواء والرذائل الفضائل الإنجيلية. في غلاطية وروميَة نرى تحليلاً هاماًلبولس الرسول ألا وهو وجود حرب في الإنسان بين قوتَين تتصارعان: قوة شريرة وقوة فاضلة، بين إشتهاء الروح للعلويّات واشتهاء الجسد للسفليّات، بين انقياد الإنسان بالروح القدُس ليُميتَ الأعمال الميتَة والرذائل وبين الإستسلام لهذه. الإنسان الروحاني، بالروح القدس يُميت أعمال الجسد والرذائل ويقتني الفضائل ويثمر الفضائل التي هي ثمر الروح القدُس.
في الرسالة الى أفسس، استعمل بولس ألفاظاً عسكرية مثل “إلبسوا كلَّ أسلحة الله”.ويسمّي بولس الأسلحة التي يرتديها العسكري الروماني، من خوذة ودِرع وسيف وترس.كلها أسلحة روحية للإنتصار على الشر وعلى الشياطين.ويذكر بولس أن حربَنا ليست حرباً ضدَّ لحمٍ ودمٍ بل حرباً ضدَّ القِوى الشريرة المنتشرة، ضدَّ الشياطين.في كورنثوس يذكر أنهُ يحارب بأسلحة اليمين أي أسلحة الهجوم، وبأسلحة اليسار أي أسلحة الدفاع. المسيحيُّإذاً جنديٌّ.
في رسالتِهِ الى تيموثاوس، التعبير العسكري واضح. نحن جنودٌ للمسيح، والجندي يعمل لمعلِّمهِ الذي جنَّدَهُ ولا يهتم، لأن نفقتهُ هي على حساب معلّمهِ. هو يشتغل لمعلّمهِ ويحارب بكل إخلاصٍ كجندي صالحٍ ومجاهدٍ كبير. يُجاهد بكل طاقاتهِ ويحارب بكل طاقاته.
في الرسالة الى روميَة، يقول للرومانيين: جاهدوا. أي حاربوا معي في الصلاة، والصلاةُهي حربٌ ضدَّ الشياطين. الشيطان هو عدوُّنا الأصليومحاربتهُ تكون في الصلاة.
يوحنا السُلَّمي قال :”إجلد الشيطان بصلاةِ يسوع، باسمِ يسوع، واحرقهُ باسمِ يسوع”. كيف يهرب الشيطان منا؟ إسم يسوع والصليب يطردان الشيطان بعيداً. الإنسان المسيحي هو جنديٌّ في خدمة الربِّ يسوع، والجنديُّ مصارعٌ ومحاربٌيستنفذُ كلَّ قِواه لينتصرَ على عدوّه. إستنفاذ الطاقات كلِّها لمحاربة الشيطان أمرٌ هامٌ في الحرب الروحية. هذا يعني أن الإنسان يجمع كلَّ قِواه وكلَّ طاقاتِه وكلَّ عزمه في المعركة الحازمة لينتصرَ على الشيطان. ولكنهُ يجب أن يكونَ فطِناً وماهراً وذكياً ومحنَّكاً لكي لا يرتكب أخطاءَ في الحرب.هو يدخلُ المعركة بوَعي، بحِنكةوبدَهاءٍ خالصٍ فلا يرتكبَ أخطاء، وإن ارتكبَ أخطاء يستدعي الرب يسوع ليغفرَ خطاياه ويجدِّد قِواه الفائقة.
مَن هم أبطال الكنيسة؟ الرسُل والشهداء والنُساك.والمكرَّمون في الكنيسة هم الرُسل والشهداء والنُساك الكبار الذين انتصروا على الضعف البشري.
بذلَ الشهداء أنفسهم في سبيل إيمانهمورفضوا أن ينكروا المسيح ولو باللسان. فضَّلوا الموت على أن ينكروه. ما أعظم هؤلاء الشهداء الذين لا يسمحونَ لأنفسهم كذبةً صغيرةً ويفضِّلون الموت على أن يُديروا ظهرهم للمسيحوأن يتكلموا كلمةً واحدة ضدَّهُ. هؤلاء هم الأبطال. النساك الذين قضوا العمر في الصوم والنُسك والصلاة والعبادة والإبتهال والقراءة في الإنجيل، هؤلاء هم الشهداء والمكرَّمون في كنيستنا الأرثوذكسية. التخاذل، الميوعة، الكسل، التنبلة، البطالة، كلُّها عيوبٌ مهلِكة.
المسيحيُّ بطلٌ. ليس هو بجبان وليس بإنهزامي. لا ينهزم في المعركة ولا يتراخى. لا يتباطأ، لا يهمل سلاحه، لا يخلع سلاحه، هو في استمرار في الليل والنهار مسلَّح بكل أسلحة الفضائل. مسلَّحٌ بالبر، مسلَّحٌ بالإنجيل، مسلَّحٌ بالصلاة، مسلَّحٌ بالقوة المعنوية، مسلَّح بدم المسيح، مسلَّحٌ بقوة الصليب.
المسيحي يرتدي المسيح. هو مؤمنٌ مسلَّحٌ بالإيمان، بالمحبَّة، بالرجاء، بكل الأعمال الخيّرة، مسلَّحٌ بعشق يسوع المسيح. لذا يفضِّل أن يحترق على أن ينكر المسيح. هذا كلُّه يتطلّب بطولة فائقة تفوق قدرة الإنسان، والروح القدُس هو الذي يعضُدنا فنتحمَّل كلَّ شيءٍ من أجل المسيح.
في تاريخ الكنيسة هناك ملايين الشهداء الذين استشهدوا بطرُقٍ مختلفة ولم ينكروا المسيح فكانوا لنا قدوةً لكي نسيرَ في خطاهم. التراخي في الكنيسة ضعفٌ كبير، والمتراخون يخسرونَ ملكوتَ الله. الجبناء يخسرون ملكوت الله. لا بدَّ من الفروسيّة في العمل المسيحي. لا يجوز أن يكون العمل المسيحي فاتراً رديئاً سخيفاً، عليهِ أن يكون كاملاً مئة في المئة.
المسيحي هو المستعدُّ دوماً للموت من أجل ربنا يسوع المسيح. والموتُ من أجل ربنا يسوع المسيح لا يكون بأن نؤذي الآخرين. يكون بأن نخدمَ الآخرين، وبأن نعترفَ بالرب يسوع أمام الولاة والطغاة والسفاحين.لا نخشى في الحقِّ، بل نقول الحقَّ جهاراً وعلَناًوبكل جرأة. الجرأة الأدبية مطلوبة. على الأرثوذكسي أن يكون جريئاً قائلاً الحقَّ علَناًوبلا خوف، غير خاشٍ.
المسيحي هو دائماً أرثوذكسيٌّ في الباطن والظاهر. لا ينافق، لا يكذب، لا يدجِّل، لا يتراءى. البطولة ضرورةٌ قصوى في الأعمال الصالحة ضد الكذب، ضد السرقة، ضد شهادات الزور، ضد الرشوة، ضد إساءات الإستعمال جميعاً، ضد السِحر، ضد الحسَد والغيرة، ضد كل الأعمال الساقطة.
في العهد الجديد هناك سلاسلٌ من الفضائل وسلاسلٌ من الرذائل. لنتجنَّب الرذائل ونتبع طريق الفضائل. كلُ هذا مرسومٌ في العهد الجديد لتعليمِنا، فلنعرفَإذاً ما هو الحق وما هو الصَلاح، فنسيرَ في طرق الحق والصلاح.
طريق الخلاص ضيّق وعسير ويحتاج إلى جهادٍ روحي مرير. إن كانت الصلاة حرباً، فكيف يكون أيُّ شيءٍ آخر سوى الحرب؟ هل نستطيع أن نعمل شيئاًمن دون الحرب؟ لا. الحرب هي دائماً مَهمَّة المؤمن الحقيقي. في الليل والنهار يُحارب ويصلي.القديس الناسك أشعيا أوصى بالصلاة قبل النوم حتى نستيقظ في اليوم التالي وذِكرُ إسم يسوع على الشفاه.
الفصل الرابع عشر
الحسّ اللاهوتي
أَنا لا أؤمن بالغريزة ولكن أؤمن بالملَكَة(Aptitude) اللاهوتية.
اللهُ لهُ المجد خلقَ الحيوانات تتصرّف منذ اليوم الأول كأن لها عقل، وخلقَ الإنسان العاقل وهو جاهلٌ يتدرّب على الأمور. هكذا رتّبَ الله الأمورَ. يتدرّب الإنسان على شؤون الحياة بينما تتصرّف الحيوانات تلقائياً كأنها مدرَّبة. الغريزة ليست مفهوماً عِلمياً، بل هي مفهومٌ فلسفيٌّ سدَّ بهِ الناس عجزَهم عن تفسير الأمور.
هناك شيءٌ نسمّيه” الملَكَة اللاهوتية”. لا أستعملُ كلمة غريزة، بل كلمة مَلَكة. حتى بالاماس، الأوسع من الجميعِ بين القُدامى في التأليف في نقطةٍ ما، أخذ عن يوحنا الدِمشقي ولم يُعبِّر كما عبَّر يوحنا الدمشقي.إنتقدتُفي أحد كتُبي عبارة بالاماسلأن عبارة الدِمشقي هي أكثرُ دقةً.
يمتازُ الآباء القدامى بملَكَة لاهوتية دقيقة جداً. هل هي إلهامٌ إلهيٌّ؟ هل هي حسٌّ لاهوتيٌّ دقيق؟ لم تُسمّيهم الكنيسة عبَثاً مُعَلّمي المسكونة. باسيليوس وغريغوريوس ويوحنا فم الذهب كانوا فلتات الزمان. ويوحنا الدمشقي كان المفصل الرئيسي في تاريخ اللاهوت المسيحي لأنهُ كان ذو حسٍّ لاهوتيٍّ غريبٍ عجيب.
لا يكفي أن يجمعَ المرءُ نصوصاً آبائية غزيرة ليصيرَ لاهوتياً في مستوى معلّمي المسكونة العِظام. لا شكأنتيوفانس الحبيس الروحي الروسي هو روحانيٌّ ومُصلّي ومُرشِدٌ روحيٌّ كبيرٌ، ولكن المسألة ليست مسألةَ عِلمٍ فقط، إنها مَلَكةٌ لاهوتية. من أين تأتي هذه الملَكَة؟ كيف أغدَقَها الله في باسيليوس وغريغوريوس ويوحنا فم الذهب ويوحنا الدمشقي؟ لماذاأغدَقَها في هذا المستوى فيهم وفي أندادِهم؟ الله أعلم.
إن قُلتُ مَلَكَة، وإن قُلتُ غريزة،فما هو الموضوعُ إِذاً؟ الموضوعُ هو حِسٌّ لاهوتيٌّ دقيقٌ يميّزُ بالبديهة بين الحقّ والباطل وبينالصواب والضلال. نقرأ في لوقا أن الملائكة أتَت وأخذت روحَلِعازر الى حضنِإبراهيم. ليس من مرحلةٍ بين رقاد لِعازر ووضعهِ في حضنِإبراهيم. المسألةُ هي فوقيَّة وبدون وسائط. من ناحيةٍ ثانية، الحسُّ اللاهوتي يرفضُ الجانبيّات فيبقى في الخط الأصيل.
الأب الفرنسي D’alèsفي كتابهِ عن مجمع أفسس يقول إن الآباء الناطقينَ باليونانية هم أقرب الى الكتاب المقدس من آباءِ الكنيسة الناطقينَ باللاتينية. الخروج عن هذا الخط السليم سيؤدّي الى الشَطَط. يوحنا فم الذهب اختصرَ مهمَّتَهُ اللاهوتية بنسبةٍ كبيرة على تفسيرِ آياتٍ من الكتاب المقدس فكان كتابياًBibliste بامتياز.
الملَكَة اللاهوتية خطٌ عميقٌ يتولَّدُ في الإنسان بتدبيرٍ إلهيٍّ عظيمٍ يعودُ معهُ اللاهوتي مثل المنخل، ينخلُ كلَّ شيءٍ ويفرزَ الحِنطة من الزؤان.اللاهوتي الكبير ثيوفانس الحبيس الروسي كان قادراً بشيءٍ من إمعان النظر،على رفضِ الكتاب المنسوب الى مكاريوس المصري رفضاً قاطعاً وذلك بمعونة حِسِّهِ اللاهوتي الكبير.
المسألةُ إذاً تتعلَّق بالحس اللاهوتي العميق. أنا مع آباء الكنيسة الُقدامى بكليَّتي ولكن الإجترار مضرٌّ.Philarète مطران موسكو في القرن التاسع عشر، أي ما يُسمّى اليوم بطريرك روسيا، هو الذي نادى بالعودةِ الى الآباء القُدامى الناطقين باليونانية وهو الذي دبَّ صوتَهُ في صفوفِ اللاهوتييّن وأساتذة اللاهوت في العالم الأرثوذكسي بقوة كبيرة.
تحوَّل بعض اللاهوتيّون الى مجترّين. فديمتري ستانيلاواي الروماني متينٌ جداً ولكنهُ لا يخلو من بعض الأخطاء. أما بنايوتيس ترامبيلّاس اليوناني فكتابُهُ لا يمثِّل آباء الكنيسة. قلَّبتُ كتاب يوحنا رومانيجيس،هو يستشهدُ كثيراً بآباءِ الكنيسة ولكنهُ لا يتمثلهُم تمثُّلاً قوياً. إنتقدتهُ مِراراً.
يجب التركيز على الحسّ اللاهوتي العميق الذي يرفض الكتب المنحولة وكتُبApocryphe. الدكتور عدنان طرابلسي يعرف موقفي الصارم من المنحولات ومن كُتب الأبوكريفا، فأنا محامٍ عتيقٌ وتزوير الأسناد هي جريمة، وإن كان التزوير في مستندٍ رسميٍّ، كان التزوير جناية.إكتسبتُ في المحاماة هذا الحسّ ضدَّ المزوَّرات وما زلتُ أرفضُها.
فإذاً، لا يكفي أن نحفظَ غيباً آباء الكنيسة القُدام، بل أن نتمثَّلهم ونستوعِبهم. فالتمثُّل والإستيعاب هو الأساس. صديقي الأب Placido Deseille ترجمَمن اليونانية الى الفرنسية مواعظَ القديس مكاريوس الكبير وهو يُصِرُّ على نِسبتها الى مكاريوس الكبير بالرغم من أن المدقّقين والفاحصين قالوا إنها من قلم سمعان الفُراتي السوري. صديقي الآخر جان كلود لارشييه يُصِرُّ على أن مكسيموس المعترف هو قسطنطيني بالرغم من أن الوثائق العربية والسريانية المعاصرة لهُ والقريبة منهُ تقولُإنهُ من مشرقنا.هذا الإجترار الكبير يضرُّ في نضوج الملَكَة اللاهوتية والحسُ اللاهوتي الكبير الذي يرفض كلَّ شيءٍ لأنه بالغريزة.
بتعبيرٍ آخر، يوحنا فم الذهب وغريغوريوس اللاهوتي وباسيليوس الكبير يزرعونَ في الإنسان نوعاً من النباهة اللاهوتية، أظنُ أنها تُساعدُ كثيراً على خلقِ الحس اللاهوتي.فلذلك أنصحُ أجيالنا الصاعدة أن تعودَ الى هذه المصادر ليزرعَ الله فيها هذه النباهة وهذا الحسُ اللاهوتي. نباهةُ الرُسُل واضحة في معلّمي المسكونة القُدامى، ونحن يجب أن ننتبه أثناء مطالعَتنا لهم في أن نكتسبَ نباهتَهُم فينغرزُ فينا حِسَّهُماللاهوتي العظيم.
أسألُ ربنا يسوعَ المسيح لهُ المجد والإكرام والسجود،أن يُعيدُ الكرسي الأنطاكي الى يوحنا فم الذهب ورومانوس المرنّم ومكسيموس المعترف ويوحنا الدمشقي، لنعيشَ في هذا المشرق وفي المهاجر ليسوع المسيح ربنا لهُ المجد.
الفصل الخامس عشر
عُلَماء اللاهوت
تُطلِق الكنيسة الأرثوذكسية على ثلاثة قديسينَ لامعين لقب اللاهوتي”theologos”باليونانية وهُم: الإنجيلي يوحنا الرسول، غريغوريوس اللاهوتي وسمعان اللاهوتي الجديد.
في اللاهوت الأرثوذكسي نُقسّمُ العلومَ الدينية الى قسمَين: القسمُ الأول يتعلق بالثالوث القدوس وهذا ما يُسمّى بعِلم اللاهوت” theologia” باليونانية، والثاني يتعلّق بربنا يسوعَ المسيح الإله المتجسِّد واسمُهُ التدبير الإلهي، باليونانية” ecœnomia ” .
يوحنا الإنجيلي هو صاحبُ الإنجيل اللاهوتي الروحاني. فيهِ تعليمٌ عن سر الثالوث القدوس بصورةٍ لامعة من فمالرب يسوع نفسُه. هذا لا يعني أن الإنجيليّين الثلاثة الباقين لم يتكلموا عن سر الثالوث القدوس ولكن يوحنا استفاضَ في هذا الأمر.فمثلاً نرى أنعبارة ” عَمِّدوهُم باسم الآب والإبن والروح القدُس ” لم تَرِد إلا عندَ متّى في نهاية إنجيلِه.
أما غريغوريوس اللاهوتي فقد أنشأخمسَ خِطَبٍ في سر الثالوث القُدوس وهي ألمعُ ما في المسيحية من خِطَبٍ عن هذا السروبها اهتدى اللاحقونَ جميعاً. مكسيموس المعترف يُسمّي غريغوريوس اللاهوتي ” المعلِّم ” أي بدلاً من أرسطو الذيي يُسمّى للفلسفة “المعلّم”. لغريغوريوس خِطبة في الظهور الإلهي، وخِطبة في المعمودية، وخِطبة في العنصرة المجيدة وسوى ذلك. إنهُ بارعٌ جداً في الكلام عن الثالوث القُدوس. إهتدى بهِ يوحنا الدمشقي واهتدى بهما اللاحقونَ جميعاً،فصارَ غريغوريوس اللاهوتي وحُلفاؤهُ بمَن فيهم يوحنا الدمشقي وغريغوريوس بالاماس وحتى سمعان اللاهوتي الجديد في خطٍ واحدٍ وهو خطُّ غريغوريوس اللاهوتي.
أما سمعان اللاهوتي الجديد، فهو مُتخلِّفٌ في الزمانِ عن غريغوريوس لأنهُ من مواليد القرن العاشر. توفيَّ في العام 1022 وهو صاحبُ أناشيدَ لاهوتية في الثالوث القدوس وهي روعةٌ في العِشق الإلهي.
مَن هو اللاهوتي؟ اللاهوتي هو الذي يتكلم في سر الثالوث القُدوس ويكون من عاشقي الثالوث القدوس. ليست المسألة فزلكات كلامية بل هي عِشقٌ إلهيٌّ، هي تكلُّمٌ بالروح القدُس.
يوحنا الإنجيلي، وغريغوريوس اللاهوتي وسمعان اللاهوتي الجديد، هم ناطقونَ بالروح القدُس، هم عُشّاق الثالوث القدوس. الكنيسة تحترمُ الآباء القديسينَ ليس بسبب تعليمِهم فقط بل بسبب عشقِهِم الإلهي، فَهُم مساكنٌ للروح القدُس.
الكنيسة الأُثوذكسية تضعُ النَبرة على القداسة الشخصية وعلى العشقِ الإلهي. أوريجنِّس كان ذو عقلٍ جبّار وكان مُفَسِّراً كبيراً وناسكاً كبيراً، ولكنَّه ارتكبَ أخطاءَ. لذلك دانَهُ المجمع الخامس المسكوني، وما دانَهُ فقطإنما دانَ المتأثرّينَ بهِ بالرغم مما لديهم من أقوالٍ جيدة. هؤلاء تأثروا بأفلاطون فهرطَقوا، فحرَمتهُم الكنيسة.
ليست المسألة مسألةُ عِلمٍ وبحثٍ وفلسفة. المسألةُ هي مسألةُ إيمانٍ أُرثوذكسيٍّ صحيحٍ لا غِشَّ فيه، ومسألةُ عِشقٍ إلهيٍّ يجتمع فيها الشرطان: العِلمُ الإلهيُّ والعِشقُ الإلهيُّ.
النقّاد المعاصرون هم عُلماءٌ وباحثونَ كِبار، ولكن لم تمتزج كلمة الله في قلوبِهم بالإيمان كما تقول الرسالة الى العبرانييّن، فلذلك هم مرفوضونَ في الكنيسة.
إحدى طبعات المعجم الفرنسي Larrousse ذكرت أن Bultman الألماني هو لاهوتي بروتستانتي. هذا ضلالٌ مُبين.هو ليس من اللاهوتي في شيء، هو باحثٌ كبير ولكن بدون إيمان. وفي النتيجة هو كافرٌ بالإيمان المسيحي.
المسألةُ ليست عقلاً، المسألةُ هي عِشقٌ إلهيٌّ وعِلمٌ إلهيٌّ.
الشيطان هو أذكى من الإنسانويعرفُ الكتاب المقدَّس بدِقَّة، فقد جرَّبَ المسيحَ له المجد. ولكن هل هذا الشيطان هو لاهوتي؟ لا. اللاهوتي هو المؤمنُ العاشق لله، المؤمِن الذي خلَبَ الثالوث القُدوس لُبَّهُ فصار أسيرَ الثالوث القدوس بالحب والعِشق والحياة الفاضلة الطاهرة اللامعة المستنيرة بالروح القدُس.
في العصور الحديثة نرى تسميَة أساتذة الديانة في الجامعات “لاهوتييّن”وهذا لا يعني أنهم باحثونَ فقط، يوجد بينهم قديسين.لقد أعلنت الكنيسة الروسية قداسة تيوفانس توبوف Teofanes Tompovالحديث الروسيوهو رجلٌ عملاق وموسوعة آبائية كبيرة جداً. لديه 164 كتاباً قائمةً إجمالاً على نصوص آباء الكنيسة.أما الكنيسة اليوغسلافية فقد أعلنت قداسة يوستينوس بوبوفيتش وهو كاتبٌ لاهوتيٌّ جليلٌ لهُ كتابٌ في العقائد يُمثل مجموعةً من أقوال الآباء القديسين. أهمُّ كتابٍ له هو ” كتاب اللاهوت الأرثوذكسي” القائم إجمالاً على نصوص آباء الكنيسة.
ولذلك، فتسميَة أساتذة الجامعات “باللاهوتييّن” هي تسميَة مُستعارة وليست تسميَة حقيقية. التسميَة الحقيقية تنحصرُ بيوحنا الإنجيلي، بغريغوريوس اللاهوتي وبسمعان اللاهوتي الجديد، وليس كلُّ أستاذُ لاهوتٍ هو لاهوتياً. المطلوبُ فضلاً عن التعليم الأرثوذكسي القَويم، طهارة السيرة الشخصية والحياة الروحية العميقة. الحياة الروحية العميقة هي مربوطة بالنسك والصلاة والتأله، أي أن يكون الإنسان ممتلأً من الروح القدُس. الكنيسة الأرثوذكسية لا تُعجَبُ بالعِلم حصراً، الكنيسة الأرثوذكسية تُطالبُ أولاً وأخيراً بطهارة الحياة الشخصية الممتلئة من الروح القدُسوالممتلئة من الصلاة.
نحنُ ننحني أمام عُشّاق الرب يسوع، ننحني أمام السَكارى بالرب يسوع المسيح. لم يكُن آباء البرية عُلماءَ دينٍ ومع ذلك فَهُم قديسون. لماذا؟ لأنهم رجالُ صوم وصلاة. الإلتصاقُ بالله يكون بالصَوموالصلاة لا بالمباحث العقلية الجافة، والتكلُم باللاهوت لا يكون بالحذاقة الفِكرية بل يكون بالتسبيح.
سمعان اللاهوتي الجديد نموذج لاهوتي كبير جداً، فقد جعلَ عقيدة الثالوث القدوس شِعراً وتسبيحاً وشُكراً. في النتيجةِ وعلى مذهب بولس الرسول في رسالتِه الى أفسس والى كولوسي، علينا أن نُكلِّم بعضُنا بعضاً بتسابيحَ، بمزاميرَ وأناشيدَ روحية وأن نُنشِدُ للرب في القلب أناشيدَ بالروح القدُس. سمعان اللاهوتي الجديد، في أناشيدِه هو ممتلىءٌ من الروح القدُس، ممتلىءٌ من العِشق الإلهي، ممتلىءٌ من النور الإلهي.
نحنُ بحاجةٍ الى آباءٍللكنيسة ممتلئينَ من الروح القدُس وينطُقون بالروح القدُس. هؤلاء هُم قادرون على نشرِ رائحة الروح القدُس في المؤمنين. هل استطاعَ الدهرُ أن يُمحي من ذاكرة الأرثوذكس باسيليوس وغريغوريوس ويوحنا فم الذهب؟ لا. لماذا؟ بسبب قداسةِ سيرتهم وألوهَة تعاليمِهم. هُم أبناءُ الروح القدُس. تركوا لنا التعاليمَ الإلهيةوعلَّمونا الإيمان الأرثوذكسي القَويم. ولذلك نحنُ نفتخرُ بهم باستمرار وليس بهم فقط، بل بكل أندادِهم.
يوحنا الدِمشقي حوَّلَ العقائدَ الى أناشيدَ دينية. كنيستُنا الأرثوذكسية هي ملآنة من مثل يوحنا الدمشقي ورفيقِه كوزما، من أفرام ورومانوس الحمصي، فهؤلاء قد حوَّلوا العقائد والإيمان الى نشائدَ روحية.
كلُّ آباء الكنيسة يمتازونَ بالعِشق الإلهي إن كانوا من آباءِ البراري أو من آباءِ التعليم المسيحي. التركيزُ في كنيستِنا هو التركيزُ على العِشق الإلهي وعلى الإمتلاءِ من الروح القدُس، على التحوُّل الى صلواتٍ وأصوامٍ، على التحوّل الى نُساكٍ.
أما كانَ باسيليوس الكبير ويوحنا فم الذهب ومكسيموس وسمعان اللاهوتي الجديد وغريغوريوس بالاماس وسواهم، نُساكاً كِباراً ؟ أما تركتيوفانس الحبيس عِمدة أكاديمية اللاهوت في بطرسبرغ والأسقفية، وانزَوى حبيساً ناسكاً؟
العِلمُ المجرَّدُلا يستهوينا، وما يستهوينا هو قداسةُ الشخص، سيرتُه وأعمالُه الصالحة. العِشقُ الإلهي والعمَلُ الصالح هما الركيزتان الأوليّان لتقويمِنا نحنُ البشر.
قد يكونُ القديسُ راهباً ساذجاً، وقد يكونُ الباحث الديني مُلحِداً. فهل نُقيمُ وَزناً للملحِدين؟ طَواهُم التاريخ. ولكن هل استطاعَ التاريخ أن يطوي غريغوريوس اللاهوتي؟ لا.
ما نحتاجُهُ بالكرسي الأنطاكي هو رجالٌ عِظامٌ ممتلئينَ من آباءِ الكنيسةِ حتى الثَمالة، يجمعونَ الى استيعابِهم لآباء الكنيسة الصومَ والصلاة والنُسكَ والسيرة الصالحة والعملَ الصالح والنموذجية، أي أن يكونوا في خُطى المسيح ورُسُلِه الأطهار.
العِلمُ المجرَّد قد يُفيدُ ولا يُفيد، ولكن النموذج الصالح هو الذي يُفيد. الرجال الذين يشعُّ منهُم الروحُ القدُس، هؤلاء هُم الذين يُغيّرون وجهَ الأرض. ما الفائدة من مليون باحث ديني إن لم يكونوا مُتلألئين؟ راهبٌ مُتلألىٌ يُضيئُنا أكثر من مليون من مِثلهم. نحنُ طلاب معرفة دينيةٍ، ولكن بالدرجة الأولى نحن طلابُ حداثةٍ. القدِّيسونَ هُم الذين يقودونَنا، القديسونَ هُم مناراتُنا. فأهلاً بأهل العِلم إن كانوا قدّيسين، وأهلاً بالقديسينَ سواءَ كانوا أهلَ عِلمٍ أو لم يكونوا.
بولس الرسول علّمَنا أن العِلمَ ينفخُ والمحبة تبني. مَن جمعَ العِلمَ والمحبة فأهلاً وسهلاً بهِ، ومَن جمعَ العِلمَ بلا محبة فنسأل الله أن يَهدِيَهُ. علينا أن لا نتأثر بالنقّاد الغربييّن لأن ما كل ما كتبوه هو مُفيدٌ للتقوى. نحن نسعى وراء التقوى لأن التقوىهي طعامُنا وشرابُنا الرّوحي، أما الإجترار العقلي فهذا لا يُقدِّم ولا يؤخر في شيءٍ.
راعٍ ساذِج هو القديس اسبيريدون العجائبي يملأ تاريخَنا. مليون باحث مثل Bultman ، Strauss ،Bauer وسواهم، لا يملأون عيونَنا كما نقول في اللغة العاميَّة ولا يَعنونَ لنا شيئاً. هذا الراعي اسبيريدون الساذج أُعجوبةٌ من أعاجيبِ الكنيسة وكذلك أيُّ راعٍ آخر متقدِّس مثلُه فهم يملؤون قلوبَنا. كم لدينا من الآباء الأبرار البُسَطاء؟ لدينا كمية كبيرة منهم. هُم قديسونَ ولهم أعيادٌ وكراماتٌوأناشيد. هل كان أنطونيوس الكبير فيلسوفاً؟ هل كان بولس البسيط وأندادُه عُلماء؟ لا. ومع ذلك فهم تيجانٌ على رؤوسِنا.
نحنُ نحتاجُ الى القديسين ونحن نُكرِّم بالدرجة الأولى القداسة. القديسون هُم سادَتُنا، هُم شُفعاؤنا لدى الله. الآباء القديسون آباء البراري، هُم أنوارُنا، هم اللمَعان الذي يُضيءُ حياتَنا وهُم الإنجيل المتجسِّد. القداسةُ في كنيستنامتنوعة الأشكال،وهي ممكنَة لكل إنسان في العالم إن كان ساذِجاً وإن كان عالماً.
كنيستُنا الأرثوذكسية إذاً، تُقدّسُ السيرة الطاهرة. كلُّ التفاسير المعاصرة الجافة لا تُفيدُنا شيئاً في التقوى فهي لا تُعادلُ كتاباً واحداً من كتُب آبائنا القديسين. كِتابٌ واحدٌ يُعادلُ أطنان الكتُب التي كُتِبَت في القرون الحديثة في التفاسير والدراسات والشُروح. هذه المواعظ الروحية لآبائنا القديسين هي نُطقٌ إلهيٌّ، هي مواعظٌ روحية عميقةٌ تُلهِبُ المشاعر. فإذاً الرجوع الى الينابيع الآبائية شيءٌ مهمٌ جداً.
في الختام، كلمة “لاهوتي” أصلية تعني: الناطقينَ بسرِّ الثالوث القدوس ولا تعني عُلَماء الدين. عُلماء الدين يُسَمَّون ” أساتذة ديانة ” ويُعَلّمونَ في المعاهد والجامعات. ليسوا بلاهوتييّن إلا إذا تلألأوا بالروح القدُس، والتلألىء بالروح القدُس يحتاجُ الى الصَوم، والصلاة، والنُسكِ، والسيرة الصالحة، والطهارة روحاً وجسَداً.
أنعَمَ الله علينا جميعاً بهذا الهدَف العظيم، بشفاعة سيدتِنا والدة الإله والرُسُل الأطهار وجميع القديسين، آمين.
في العام 1955 إنتُدِبَ مرسال مرقس أي الأب الياس مرقس لإلقاء محاضرة في كلية اللاهوت في أثينا عاصمة بلاد اليونان، فألقى محاضرةً في الفرنسية قالَ له أساتذة اللاهوت في إثرِها، “هذا هو اللاهوت الأرثوذكسي الحقيقي لا الذي نُدرّسُهُ في كلية اللاهوت هنا “. هذا صحيح! لأن التدريس متأثر بالأساليب المعاصِرَة التنظيمية بينما اللاهوت هو حياةٌ روحية وعُمقٌ روحي وارتفاعاتٌ صوفية روحية لا تدريس منهجي أرِسطَوي فلسفي. الفرقُ بين اللاهوت والفلسفة والعِلمانية هو الفرق بين السماءِ والأرض.
الفصل السادس عشر
الأُبوَّةُ الروحية
الأبوَّة الروحية موضعٌ رهباني. آباء البرية هُم أناسٌ مُلهَمون، أصحابُ موهبةِ التمييز. في رسالة يوحنا الإنجيلي الأولى، موهِبةٌ إسمها موهبة تمييز الأرواح. في كتاب ” السُلَّم الى الله ” الفصل الأطوَل، هو فصلُ التمييز المقالة 26.
تمييز الأرواح هو موهبة من مواهب الروح القدُس. الشيخ الروحاني يُميّز الأرواح ويكونُ خبيراً بحركاتِ الأهواء، والغايةُ تكونُ في إعادةِ تربية الإنسان تربيةً روحيةً جديدة.
تتركُ الطفولة فينا أساساً لعيوبٍ عديدة. العوائدُ السابقة تؤثّر في حياةِ الإنسان الروحية كما يقول يوحنا السُلَّمي. يصِلُ الراهب الى الدير للتطبُّب الروحي، للتوبة، لتبديل الحياة تبديلاً جذرياً، ولتغيير مسلَك حياتِه. غريغوريوس بالاماس، نقلاً عن الآباء السابقين وعلى الأخص منهم آباء البرية ويوحنا السُلَّمي ومكسيموس المعترف، قال “بتحوُّل الأهواء” أي أننا لا نسحق الأهواء بل نُحوّلها. نُحوّل العشق الجسدي الى عشقٍ إلهي، نُحوّل الغضب الى طاقة لمحاربة الأهواء الأخرى، الى طاقة للعمل، للرياضة، للصبر، للتحمُّل، لطولِ الأناة. الغضب مصدرٌ كبيرٌ للطاقة النفسية، نُحوّلها الى ميادينَ عديدة، الى الجهادِ ضدَّ الأهواء الأخرى، الى إرادةٍ قوية فولاذية، الى ضبطِ النفس، الى إجتهادٍ في العمل اليدَوي.
يُحارَبُ الكبرياء بالتواضع الذي يشكّلُ فضيلةً هامةً تقطع عروق الأهواء في الأرض. المتواضع هو عاجزٌ عن الغضب والنرفزة والكبرياء والعجرفة والإحتقار والعداوات والكَيد والإنتقام وعيوب أخرى كثيرة. ولذلك، الأُبوَّة الروحية هو طِبٌّ روحيٌّ.
يوحنا السُلَّمي يذكرُ في مواضعَ عديدة من كتابه أن الأديرَة مشافٍ وأن المرشِدين الروحييّن في الأديرَة هُم أطباء روحيُّون. قال غريغوريوس اللاهوتي في الإرشاد الروحي إنهُ عِلم العلوم وفن الفنون. فإذاً، هو أصعبُ العلوم وأصعبُ الفنون لأن النفس البشرية معقّدة وأمراضها أكثر تعقيداً من أمراضِ الجسد.
النفسُ البشرية، بسبب السقوط، لم تَعُد بسيطةً وصارت معقّدةً. الحيوان يولدُ مُجهَّزاً، بينما يولدُ الإنسان غير مجهَّزٍ فيتولّى الأهلُ العناية بهِ وتجهيزِه وتدريبِه وتقويمه. لدى الولد أنواعٌ لا تُحصى من الشَطَط. الهوى والرغبة يسيطران عليه لأنهُ بدون منطق، بدون عقلٍ مُفَكّر. زوَّدَت الطبيعة الحيوان بما يلزمهُ ولكنها لم تُزوّد الإنسان بما يلزمهُ فهو يحتاج الى الأهل والمربّين، ثم يتولّى العقل والإدراك تسييره بمعونة الله فيصير الإنسان أنيساً في المجتمع. ولولا المدارس والجامعات لما كان لنا اليوم من علوم. ولذلك فالتعاطي روحياً مع الإنسان هو أمرٌ دقيقٌ جداً.
المسيحية هي ديانةُ الكمال الأخلاقي، والكمالُ الأخلاقي يتحقَّق بتحويل الأهواء والرغَبات والميول والشَهوات والعُشق والإشتياق الى عكسِها، وبعبارةٍ أخرى نضعُ الفضائل مكان الرذائل فنُحوّل الأهواء الى أهواءٍ صالحة. هذه العملية هي عمليةٌ شاقة جداً. التربية تساعدُنا كثيراً على التقويم، فنقوّمُ المرء فينمو بصورةٍ جيدة لا كاملة. الكمال يتطلَّب جِهاداً أقوى من ذلك بكثير.الطب الروحي هو إعادة تربية، فنربّي الإنسانَ روحياً ونجعلُهُ يخلع الإنسان العتيق ويلبس الإنسان الجديد، وهذا يعني أن نُميتَ العتيق ونحيي مكانَهُ الجديد.
لا نُميتُهُ بالمعنى الصحيح بل نحوّلهُ، وعمليةُ التحويل شاقة تحتاجُ الى جهادٍ روحي مرير.نحن لسنا في المعركة وحدَنا، فالشياطين يحاربوننا بضراوة كما وصفَها بولس الرسول في الفصل السادس من رسالتهِ الى أهل أفسُس.
الآباء الروحيُّون في الأديرَة القديمة وفي الأديرة اللامعة حديثاً، هُم مدرَّبونَ تدريباً كبيراً في الشؤون الروحية. يعرفونَ أعمقَ أعماق الإنسان، يُراقبونَ الإبن الروحي باستمرار والإبن الروحي بالمقابل يفتح صدرَهُ لهم باستمرار حتى يَصِلوا الى درجة القراءة في أعماقِ أعماقِه. كلهذا يتطلَّب الإطلاع على كامل حياة الإنسان إن أمكَنَ.
في كتابي “الإعتراف والتحليل النفسي” نصوصٌ آبائية مهمة للمقارنة بالتحليل النفسي. التحليل النفسي هو طبٌّ يقفُ الى جانبهِ الطب النفسي الجسَدي وهما مرتبطان ببعضهما البعض إرتباطاً متيناً جداً. جان كلود لارشيه ألّفَ في الفرنسية كتاباً رائعاً عنوانه “معالجة الأمراض الروحية” يَصِف فيه الخطايا والأمراض الروحيَّة وصفاً جيداً بنصوصٍ أسقفيَّة من تراثنا الأرثوذكسي. هو كتابٌ صالحٌ للتمرُّس وللعلم ولكن تبقى الممارسة كفَنّ. هذا يحتاجُ الى خبرةٍ نفسيَّةٍ عميقة. من جهةٍ أخرى، ما كلُّ الناس ذوو إستعداداتٍ نفسية للعمقِ الروحي أو لسَبر أغوارِ نفسِ الغَير، هنا يتطلّبُ الأمر لباقات خاصة.
ولذلك، ما كلُّ الذينَ يمارسونَ الطب النفسي أو الطب النفسي-الجسدي هُم عباقرة. هناك تفاوت كبير بينهم، وذلك بحسب اللباقات الشخصية. فيهم مَن هو مؤهَّل للغَوص في أعمق أعماق الإنسان،وفيهم مَن هو على خلاف ذلك، ولكنهُ ذو قدرة على الفَهم والإستيعاب وعَرض الأمور بشكلٍ منطقي فِكري. يغلُبُ على بعضهم العُمق التحليلي، وعلى بعضهم شيءٌ من التحليل المنطقي والعقلي، وبعضهم ما هو بدون عمقٍ ولكنهُ يتطبَّب ليُصبحَ طبيباً فيستفيد من العملية التطبيبيَّة لإصلاح حالِه ولكنهُ قد لا يكونُ مؤهَّلاً ليُطبّبَ الآخرين، لأن تطبيب الآخرين يتطلَّب كفاءات ولباقات خاصة وصَبراً جميلاً لتحَمُّل الآخرين.
إذاً، المسألة تحتاجُ الى عِلمٍ وفنٍّ والى ممارسة دقيقة في أحوال البشر والإطلاع على أعماق البشر. المكان الصالح للتدرُّب على ذلك هو في الأديرَة ولكن الأمرُ يقتضي البقاء في الأديرة لدى شيوخِها سنوات، أي أن يقضي لدى شيخاً روحانياً كبيراً عشر أو خمسة عشر سنة ليُصبحَ مؤهَّلاً للأُبوَّة الروحية الحقيقية التي بموجبِها يستطيع أن يُطبّب النفوس وأن يُحوّلَ أهواء الإبن الروحي الى أهواءٍ صالحة روحياً.
في هذا الزمان، لدينا صعوبات قوية للإرتقاء الروحي. فظروف الطعام والشراب واللباس والنوم… إختلفَت وكذلك ظروف العمل. وهناك أيضاً السكَن المعاصر، والمدارس، والأب والأم في العمل، والأولاد في عِهدَة الخادمات أو في مدارس روضات الأطفال، وهناك زحمة السكان، وزحمة السير، والأدوات المعاصرة الأخرى التي تُرهِقنا كالتلفزيون والكمبيوتر والإنترنت… في ظروف الزمان الحاضر، الضغط على النفس البشرية كبيرٌ من كل النواحي، والتربية تسوءُ يوماً بعد يوم.
الناسُ بحاجةٍ الى مستشارينَ روحييّن والى نصائح، وهذا يتطلَّب من المستشارين أن تكونَ لهم قدرة على الإرشاد الروحي لأن الإرشاد الرُّوحي يتطلَّب عِلماً وفناً وتَدرُّباً وتمرُّساً.
منذ سنوات وقَعتُ على إنسانٍ إنتزعَ لنفسِه صِفة الإرشاد وإذا بهِ يُسيءُ الإرشاد ويتسبَّب للمرشدين بأوجاعٍ معيَّنة، فردَعتُهُ عن الأمر وأبَنْتُ لهُ الأضرار التي تحصل من نصائحهِ الفاسدة. لكي نستطيع معالجة الإنسان، من الضروري لنا أن نفهم تاريخه من كل النواحي: جسدياً ونفسياً، وإلا وقعنا في أخطاءٍ عديدة. المعالجة الروحية تحتاجُ الى عمقٍ كبيرٍ في الفَهم النفسي، والقيادة الروحية فنٌّ عسيرٌ جداً.
هناكَ أُناسٌ جيّدون، ولكن هل تخَلّوا عن الحسَّاسيَّة والغضب الباطني؟ هل يتحمَّلونَ الشتائم والسُباب والإضطهاد دون حقد، دون كراهية، دون غيظٍ شديد؟ أنا أعرفُ كميةً كبيرة من الأوادم كما نقول في العاميَّة، ولكنهم ليسوا بلا حسَّاسيَّة، بلا غضب، بلا ضجر وليست لديهم القوة على تحمُّل الشتائم وقد تثور ثائرتهم إذا علِموا أن فلان إنتقدَهم. تحَمُّل نقد الآخرين بصبرٍ جميل وطول الأناة يحتاجُ الى تدريبٍ روحي عسير.
تعقيدات الإنسان الباطنية مهمة. قد يستطيعُ الإنسان في الظاهر أن يكونَ وديعاً لطيفاً متواضعاً شَفوقاً رحيماً ولكن هذا لا يكفي. المهم أن يتبدَّل العمق. وتبدُّل العمق يحتاجُ الى شيخٍ روحاني كبير وهذا الشيء نادر الوجود. فلذلك مطالعة كتب القديسين هي مهمة ليستنتجوا منها.
قد يلجأ أدعياء الأُبوَّة الروحية الى حَصرِ أبنائهم بهم، فيُمزّقونَ الطائفة وبذلك تُصبح الطائفة مُقسَّمة بين الكهنة مما يشكّل خطراً كبيراً. من جهةٍ أخرى، رئيس الدير هو الذي يُعيّن الآباء الروحييّن لأنهُ يعرف قُدرَتهم على القيادة وعلى الإرشاد الروحي.
الإعتدال والتواضع أمران مُهمّان. القديس يعقوب الرسول قال: لا يَكن فيكم معلِّمون كثيرون. فإذاً، إدّعاءُ العِلم باطلاً مضيع جداً.
في كنيستِنا الأرثوذكسية، الإيمان الأرثوذكسي هو أساسُ الروحانية. الإنسانُ هو ذُروَة هذا الكون.
ديكارت صرَفَ الناس الى التفريق بين الروح والجسد، فانصرفَ الناسُ يدرُسونَ الجسد وكانت النتيجة صلبَهُم في الروح. عبثاً حاولوا إيجاد الروح في الجسد وإيجاد الفِكر في الجسد، وكلُّ ما توصَّلوا اليهِ هو تفاعلاتٍ في الجسد تُرافقُ النشاط الذهني والروحي ولكنها ليست الروح وليست الذهن. لا يُرى الفِكر للمجاهر ولا نستطيع أن نقرأ في الدماغ فِكرَ الإنسان. هوَذا الدماغ يشتغل، ولكن الدماغ لا يفرُز الفِكر.
في عالمنا الأُرثوذكسي نقول: الإنسان شخصٌ في روحٍ وجسد. وليسَ الشخص مركَّبٌ كيميائيٌّ من الروح والجسد. إن جمَعنا روحاً وجسداً لا نفوزُ بشخصٍ. الله هو الذي خلقَ الشخص وفيهِ روحٌ وجسَد. هذا الإيمان الأرثوذكسي هو أساسُ الحضارة الأرثوذكسية. المؤمن واللاهوتي الأرثوذكسي الصحيح لا يستطيع أن يقولَ إن الإنسان جماد، أو حيوان أو أصله قرد. المؤمن الأرثوذكسي يرفض كل هذه الأقوال لأنّها تصلُب الشخص والشخص أعظم من ذلك بكثير. هو أبعدُ من الروح والجسد، هو صورةُ الله في هذا الكَون وبما أنهُ صورةُ الله فهو عميقٌ جداً.
لا نسبر أغوار الإنسان في المجاهر والتلسكوبات. الإيمان بالإنسان كشخصٍ هو الإيمان الصحيح. الإنسان هو عالم المجهولات نحتاجُ الى الروح القدس في سَبرِ أغوارِه والى موهبة التمييز التي لم تُعطَى لكل البشر. الذي تنقصُهُ الحِكمة، فليطلُب الحِكمة من الله كما قال الرسول يعقوب. هذه موهبةٌ ننالها بمعطيَةٍ إلهية.
وكما قال غريغوريوس اللاهوتي العظيم، الإرشاد الروحي هو عِلمُ العلوم وفنُّ الفنون.هو ليسَ أمرٌ سهلٌ أبداً. نحن نعرفُ أن العلوم والفنون ما زالتا في حرف الألِف، فكيف نبلغ الى نهايتها بسرعةِ البرق وندَّعي أننا وصَلنا الى حرف الياء ونحنُ بعدُ لم نحفظ حرف الألف من نفس الإنسان!
الصبر الجميل والإعتدال، هما أمران مُفيدان وضروريان في معالجة كل الأمور. الإدّعاء الفارغ هو مرضٌ كبير. الممارسة تجعلُ العِلم فنّاً، ولكن ما كل البشر ذوو كفاءاتٍ للممارسة. الإنسانُ عالمٌ بحدِّ ذاتِه متعدّد الأنواع والألوان،ولا نستطيع أن نحصرهُ أبداً. اللباقات والمهارات والحِنكة، أمورٌ مهمة. والعِلم بدون ممارسة صحيحة لا يكفي.العِلمُ يوسّع الإستعدادات، ولكن المهارة الشخصية هي التي تدَع الإنسان ينجح. يُجيد المرءُ مثلاً الكلام ولكنه لا يُطبّق. يقع الفصل بين المعرفة والحِنكة العملية. أُسمّيهم ” الكُسَحاء الفُصَحاء” بسبب الإنفصام بين القول والعمل. ما كلُّ البشر قادرونَ على الحِنكة أو ما نُسمّيهِ في اللغة العاميَّة “الحربَقَة” (الشريفة لا الخبيثة).
دكتوراه في اللاهوت لا تعني أن الشخص الحاملها هو خطيب ومُفوَّه. الخطابة هي فنٌّ عمليٌّ وما كل أساتذة اللاهوت خُطَباء، يجب أن يتمرَّسوا به ليُصبحوا خُطباءَ لامعين. الأبواب مفتوحة أمامَ الإنسان وهي لا تُحصى أبداً، والذي نعلَمَهُ هو شيٌ زهيدٌ مما لا نعلَمهُ.
الإنسان هو اللغزُ الأكبر في هذا الكون وهو المحيِّر الأكبر. فَهمُ النفس البشرية أمرٌ عسيرٌ يحتاجُ الى الوقت والى جلساتٍ متكرّرة. كي نفهم الإنسان، علينا أن نكونَ مؤهَّلينَ تأهيلاً جيداً عِلمياً وعَمَلياً. وأينَ مدارس التأهيل؟ غيرُ متوفرةولذلك فمطالعة كُتب الآباء القديسين تبقى المفيدة.
يوحنا السُلَّمي لم يرفض أهل الدنيا ورهبانيَّته لم تدفَعهُ الى التزمُّت. الذينَ في العالم هُم قادرونَ على الخلاص في حياةٍ مستقيمة يعيشونَها في الله. يبقى على الإنسان أن يُديرَ أُمورَهُ بلباقة مستعيناً بذَوي الخِبرة والفَهم.
الله لهُ المجد لا يُهمِل إنساناً يلتفتُ اليهِ بتواضع. فلتَكُن عندنا إلتفاتة جيدة الى الله ولنَرفع القلوب باستمرارٍ إليه. الله لا يُخيّبُ آمالَنا في الملكوت السماوي وهو العارف ما في القلوب. يساعدُنا لكي تكونَ قلوبُنا منشغلةً بهِ لا بسواه لكي نُطبِّق كلام الله يسوع المسيح ” أُطلُبوا ملكوت الله وبِرَّهُ وكلُّ ذلك يُزادُ لكُم ” .
الشُكرُ لله ربنا على كل شيء من خيراتٍ نعلَمُها ولا نعلَمُها، له المجد والإكرام والسُجود الى أَبدِ الآبدين ودهر الداهرين، آمين.
الشهداء
ما أهمية الشُهداء في الكنيسة المسيحية؟ الرب يسوعَ المسيح لهُ المجد، أعلمَ رُسلَهُ بأن مصيرَهُم في العالم سيكونُ قاسياً لأنهم سيتعرّضونَ للإهانات والمحاكمات والموت من أجلِه. ولَفتَ نظرَهم الى أنهم لا يجوز أن ينكُرهُ أحدُهم وإلا نكرَهُ هو أمام أبيهِ السماوي.
الإعتراف بربنا يسوع المسيح هو أمرٌ حتميٌّ ومَن ينكُر ربنا يسوع المسيح أمام الصعوبات، أمامالملوك وأمام الولاة يتعرَّض لنكران ربنا يسوع لهُ أمام أبيهِ السماوي. كلامُ ربنا يسوع قاطع.
لا يرضى الرب بأن يكون المسيحي إنهزامياً وجباناً. المطلوب من المسيحي أن يكون بطلاً يتقدَّم الى منابر الإستشهاد ببسالةٍ مُطلَقة وبلا خوفٍ لأن الروح القدُس يَعضُدهُ ويُعطيه فَماً وحِكمةً فلا يستطيع المقاومونَ أن ينتصروا عليه. يُؤدّي شهادتَه أمام الملوك والولاة والحُكام والسلاطين مُعترفاً بربه يسوع المسيح ولو عُلّقَت عُنقُهُ على المشنقة. فلا خوفٌ من الصواريخ ولا من المسدسات ولا من المشنقة ولا من النار ولا من الحريق.
في العاشر من آب نُعيّد للقديس الفرنسي لوران ( Lavrandios ) الذي شَواهُ أعداءُ المسيح على النار. طلب من الأعداء أن يُقلِّبوه من جهةٍ الى جهة أثناء شَيِّه. القديس جاورجيوس العظيم ألبسوه قبقاباً مَحميّاً بالنار. القديس كَرَلمبس (Charalampos ) كان إبن 107 سنوات عندما أكلوا جلدَهُ بأظافرٍ من حديد. القديس يعقوب المقَطَّع من العراق قُطِّع تقطيعاً.
خلال أربعين سنة من الإضطهادات الجهنمية قطَّعَ الفُرس المسيحييّن في أمبراطوريتِهم تقطيعاً،ولما سادَ السلام استطاعَ القديس ماروثا أن يحمِلَ كميةً كبيرة من عِظام القديسين الى ما هو معروف اليوم بديار بَكر وقد أطلقَ عليها باليونانية”Martyropolis” أي مدينة الشهداء لكَثرة ما فيها من عظامٍ للقديسين.
وفي القرن العشرين نقرأ على الإنترنت لائحةً بعدد الشُهداء الأرثوذكس، فيتجاوز عددُهم ربما الخمسين مليوناً. في روسيا وبلغاريا ويوغسلافيا قُضِيَ على عشرات الملايين. في تركيا بلغ العدد مليون و750 ألف أرثوذكسي، مليون ونصف أرمني، ومئة ألف سرياني فضلاً عن تهجير الأرثوذكس والأرمن والسريان وباقي المسيحيين من تركيا الكبرى أي تركيا الحاليّة.
الربُّ يسوعَ المسيح قال ” يا أورشَليم يا أورشَليم يا قاتلة الأَنبياء وراجمة المرسَلين اليها” . في الرسالة الى العبرانيِّين في الِإصحاح 11 نسمع كلام بولس عن الآباء القُدامى كيف رُجِموا وكيف وبحدِّ السف ماتوا.
كيف تحمَّلوا ذلك؟ بالإيمان قهَروا كلَّ شيءٍ وانتصروا على الصعوبات. القديس استيفانوس أول الشمامسة، رُجِمَ رجماً وهو أول الشهداء بعد المسيح. أما يعقوب ابن زبَدى أخو يوحنا الإنجيلي، فقُطِعَ رأسُه بالسيف. بطرس الرسول صُلِبَ ورأسُهُ مُنَكَّس الى أسفل. بولس الرسول قُطِعَ رأسُه بالسيف وهكذا دوالَيك.
الأمبراطور الروماني نيرون إضطَهد المسيحيين إضطهاداتٍ شنيعة. نقرأ كثيراً في أعمال الرسل عن اضطهادات الكنيسة. في شهر كانون الأول نُعيِّد لعددٍ كبير من الشهداء منهم شهداء نيقوديميا وأطفال بيتَ لحم وجوارها. (كانت بيت لحم قريةً كما في الفصل السابع من إنجيل يوحنا).
نذكرُ ايضاً الأسقف أغناطيوس، والشهيد حبيب خشِّة الذي تحطَّمَ جسمُهُ تماماً، والشهيد الدكتور جوزف صايغ الذي قضى نَحبُهُ بالسلاح الناري، وهناك شُهداءَ كثيرون لم يذكُرهم التاريخ نفسُه.
القديس بايسيوس من جبل آثوس، مرَّ بالطائرة من فوق بلادنا فإهتزَّ روحياً وقال في ذاته بالروح، “كم في هذه البلاد من الشهداء”.
أحد مطارنة كورنثوس في العهد العثماني، تعرَّضَ لخطر الشَيّ بالسياخ، فتدخَّل المؤمنون مع السلطات العثمانية حتى تحوَّلت العقوبة من الشَيِّ الى الشنق.
بين الشُهداء هناك ايضاً شهيداتٍ كثيرات تعرَّضنَ لآلامٍ مُضنيَة. هؤلاء الشُهداء هُم الذينَ ثبّتوا الإيمان الأرثوذكسي والإيمان المسيحي بصورةٍ عامة. على دمائهم قامت الكنيسة عملاقاً تاريخياًكبيراً. تفنَّنَ الشيطان في القضاء على المسيحيين كشُهداء ولكنهُ فشَل، وبدمائهم تقدَّست الكنيسة.
في الفصل السابع من رؤيا يوحنا، نرى الشهداء في حُلَلٍ بيضاء لدى العرش السماوي ونرى مَن يقول ” هؤلاء الذينَ بيَّضوا حُللَهم بدم الحمل” والحمل هو ربنا يسوع المسيح. إنهم لدى العرش السماوي في المجد الأبدي، دخلوا السماء بدون حساب قبل الدينونة العامة، وانتصروا لدى العرش السماوي بحُلَلٍ بيضاء.
يسوع هو حملُ الله في العهد الجديد. مِراراً وتكراراً يُذكَر يسوع المسيح كحَمَل منذ الإصحاح الأول في إنجيل يوحنا “هو حمَلُ الله” على لِسان يوحنا المعمدان، وفي آخر أسفار العهد الجديد أي في رؤيا يوحنا 13 : ” هو الحملُ المذبوح قبل إنشاء العالم” و” العرس” في الإصحاحات الأخيرة. عرسُ المسيح مع الكنيسة هو عرسُ الحمل.
يسوع حَملُ الله الحامل خطايا العالم، هو الخروف الفصحي. المسيح هو فِصحُنا. كان اليهود يذبحونَ خروفاً حَولياً عمُره سنة واحدة في عيد الفصح، أما نحن ففِصحُنا هو يسوع المسيح له المجد، وهو الضحيَّة الكبرى.
يوحنا الإنجيلي أنبأنا في إنجيلهِ أن يسوع صُلِبَ يوم الجمعة، أي في الزمان الذي كان اليهود فيه يذبحون الخروف الفصحي. فكان يسوع هو خروفُ الفصح الحقيقي، بينما الخِراف هي رموزٌ لهذا الحمل أي ربنا يسوع المسيح. إنجيل يوحنا أبانَ بوضوح أن جُندياً طعنَ جنبَ يسوع بحَربةٍ، فكان يسوع الخروف الفصحي الحقيقي المطعون في جنبهِ على الصليب، نُحِرَ وذُبِحَ. الخراف تُنحَر، ويسوع المسيح نُحِرَ أيضاً وكان خروفنا الفصحي الحقيقي. وبما أن يسوع المسيح هو خروفَنا الفصحي المذبوح لأجل خلاصِنا، فكلُّ مسيحيٍ هو ذبيحةً ليسوعَ المسيح. هو نفسُهُ يُقرِّب نفسه للآب ذبيحةً مُحرقةً، قُرباناً في يسوع المسيح بالروح القدُس الساكن فينا.
كلُّ مَن إعتمدَ وخُتِمَ بالميرون المقدَّس، هو خروفٌ مقدَّسٌ لربنا يسوع المسيح ويحمل الإستشهادَ في ذاتِه. المعمودية والميرون إستشهاد. نحن نلبَسُ ثوب الإستشهاد بالمعمودية،فلذلك الجُبن والمسيحية لا يجتمعان، الإنهزامُ والمسيحية لا يجتمعان، الخوفُ والمسيحية لا يجتمعان.
المسيحيُّ بطلٌ روحيٌّ مستعدٌّ دوماً للموتِ من أجل المسيح. لا يهرب من المعركة، لا ينهزم، لا يتضعضع، لا ينهار. وإن ضَعُفَ خسِرَ الإمتلاء من الروح القدُس. كيف احتمَلَ الشُهداء العذابات المضنِيَة؟ هذا هو الروح القدُس الساكن فيهم هو الذي جعلَهم يحتملون كلَّ هذه الآلام المضنيَة فكانوا في فرحٍ وغِبطة. القديس أغناطيوس الأنطاكي كتبَ الى أهل روميَة يرجوهم أن لا يتدخلوا لحُرمانِه من الإستشهاد لأنهُ كان يشعر بالنقص إن لم يمُت شهيداً. كان في قلبهِ شوقٌ حار الى أن يموتَ بنيابِ الأسود حِنطةً مُنَقّاةً بنار يسوع المسيح.
هذا الشَوق الى الإستشهاد كانت علامةً بارزةً في كنيسة القرون الأولى وكان علامةً بارزةً في روسيا في القرن العشرين حين قدَّمت عشرات الملايين من الشهداء. بدمائهم الطاهرة انتعشَ الإيمان الأرثوذكسي في روسيا وانتصَرت الكنيسة على الشياطين. سيبقى الشهداء عُمدَتنا للنصر على الشياطين.
إذا كان رئيس جبل آثوس باييسيوس قد اهتزَّ بالروح وشعرَ أن بلادَنا هي بلادُ الشُهداء، فأَجدادُنا الشُهداء هُم الذين يحمونَنا في إيمانِنا الأرثوذكسي القَويموهم الذينَ يحرسونَنا كملائكةٍ.
كيف استمرَّ الكرسي الأنطاكي عبر التاريخ رافع الرأس رغم كل الظروف؟ بفضل دماء الشهداء. آباؤنا وأجدادُنا الذينَ حافظوا على الإيمان الأرثوذكسي في هذا الشرق، إنتقلوا الى النعيم الأبدي. هم مفخرتُنا إن كُنا نعلم بهم أو لا نعلم. عدَدُهم كبير وهُم الآن لدى العرش السماوي في المجد الأبدي عند الله له المجد.
ونحنُ في هذا المشرق المدبوغ بدِماء الشهداء، علينا أن نشعُر دائماً بأننا أبناء الشهداء، بأننا سَليلو الشُهداء فنرفع رأسَنا الى فوق بدل من حَني ظهورنا الى أسفل. أجدادُنا الذينَ حمَوا الإيمان الأرثوذكسي بدمائهم، بصبرِهم، بطول أناتِهم، تركوا لنا هذه الجوهرة العظيمة جداً. هذه الجوهرة معلَّقة في رقابنِا كأمانةٍ للتاريخ، كأمانةٍ لألفَي سنة من النضال والصبر الجميل وللمحافظة على الإيمان الأرثوذكسي القويم.
الكنيسة الأرثوذكسيَّة تُفاخِر بالشهداء. في كل قرنٍ كان لنا شُهداء. في القرن التاسع عشر، كان هناك الشهداء في دمشق في العام 1860 الى جانب الشهيد القديس يوسف مهنا الحداد الذي نُعيِّدُ لهُ في 10 تموز والى جانبه شُهداء اختَلف المؤرِّخون في تحديد الرقم. مصادرُ الأب توما بيطار تقول ثلاثة آلاف، الطبيب البروتستانتي المعاصر ميخاييل ممشقة يرفع الرقم الى أربعة آلاف. مؤرخٌ آخر إسمهُ اسكندر أبكاريوس يجعل الرقم 14 الف مع تفاصيلٍ عديدة عن كيفيَّة القضاء على الأرثوذكسييّن في تلك المحنة التي شنَّها عليهم الإستعمار من قِبَل والي دمشق التركي والمتآمرين على ربنا يسوع المسيح.
ما خَلَت الكنيسة من الشهداء في أيّ جيلٍ من الأجيال. بمراجعة الأب توما بيطار وسنكسار الأب الآثوسي مكاريوس بالفرنسية واليونانية، نستطيع أن نكتشف عدداً هاماً من الشهداء في الكنيسة الأرثوذكسية. الإحصاء هو غيرُ نهائي ولا يمكن أن يكونَ نهائياً لأن المجهولين كُثُر. في الماضي لم يكُن من أرشيفٍ ولا تاريخٍ، ولكن التاريخ الحقيقي هو في السماء. في جميع الأحوال، نعرفُ أكيداً أن لدينا في السماء عشرات الملايين من الشهداء الأرثوذكس الذين يشفعون فينا لدى الثالوث القدوس الى جانب الملائكةوهذا فخرٌ عظيمٌ. كلُّهم حُماةٌ حارّون للإيمان الأرثوذكسي لدى الأرثوذكس على الأرض.
في التعليم الأرثوذكسي الحقيقي لا نُفرِّق بين القديسين في السماء وبين المؤمنين على الأرض. في إحدى الترنيمات باللحن الأول نقول “صِرنا والملائكة رعيّةً واحدة”. نحنُ والملائكة والقديسون كنيسةٌ واحدة مترابطون، متكاتفون، متضامنون، متَّحدون في جسد ربنا يسوع المسيح بالروح القدُس الساكن فيهم وفينا. هذا الروح القُدس بحسب رسالة القديس بولس 2 ثيموتاوس 1 : 14 هو الذي يحفظ الإيمان الأرثوذكسي. هو ساكنٌ فينا وهو الذي يحفظ الإيمان.
لا تَخَف أيها القطيع الصغير، هكذا قال يسوع، لأن أباكُم ارتضى أن يُعطيَكم الملكوت. فإذاً، على الأرثوذكس أن يرفعوا رؤؤسَهم الى العلاء كما طلبَ يسوع من تلاميذه. لا تَخَف أيها القطيع الصغير، قد اقتربَ فداؤكَ ونحن مَفدِيُّو يسوعَ المسيح الذي مات من أجلنا ليجعلَنا لذاتِه رعيةً مختارةً ممتلئةً من الروح القدُس.
فللآب والإبن والروح القدُس، المجدُ والكرامة والسجود الى أبد الآبدين ودهر الداهرين، آمين.
الفصل السابع عشر
الصليبُ هو كلُّ شيءٍفي المسيحية
الصليبُ هو كلُّ شيءٍ في المسيحية والشهداء تهافتوا على منابرِ الإستشهاد وكثيرونَ تأثروا بالشهداء وعرَضوا أنفُسَهم لموتِ الشهادة.
النُساك عاشوا في البراري في الصوم والصلاة والإبتهال.والعَموديون نماذج نُسكيَّة غريبة عجيبة.أما الرهبانُفهم يصومون ويُصَلّون ويعملون وليسوا بطّالينَ أبداً. لا يتركونَ الجسدَ تنبلاً، ينشَطون في شتّى مناحي أعمال الدير.
المؤمنون الحقيقيون في العالم يصومون ويُصَلّون ويقمعونَ أجسادَهم ويفرُضون على أنفسِهم مكافحة الأهواء وزَرع الفضائل مكانها. بولس الرسول قال في كولوسي1 : 24″ إني أفرحُ الآن بآلامي من أجلِكم وأُتِمُّ ما ينقصُ من شدائدِ المسيح في جسمي لأجل جسدهِ الذي هو في الكنيسة”. قال إنهُ يُتَمِّم في جسدهِ ما ينقُص من شدائدِ المسيح.بولس يطلب أن يتحمَّل كلَّ ما تحمَّلَهُ يسوع من شدائدٍ حتى يبلُغَ الكمال.إنهيرى في نفسهِ النقص.
طبيعة المسيحية هي ما قالَهُ بولس في غلاطية5: 24 ” والذين هُم للمسيح، صلبوا أجسادَهُم بكل ما فيها من أهواءٍ وشهوات”. الذين هُم للمسيح صَلبوا أجسادَهُم مع الأهواء والشهَوات. المسيحية هي صليبٌ.
اللهيعرف رخاوتَنا وحاجتَنا الى الشِدَّة. والمسيحي يحتاجُ الى التمرُّس بالصعوبات والشدائد لكي يكتسبَ متانةً شخصية ولكي يسودَ على جسَدِه. شهوةُ الجسد وشَهوةُ العين تُعظِّم المعيشة. علّمَنا يوحنا الإنجيلي أن لا نُحِب العالم ولا الأشياءَ التي في العالم. ويعقوب الرسول علّمَنا أن محبةَ العالم هي عداوةٌ للَّه. ولذلك فالشدائد تُساعدنا على التحويل. المسيحية هي تحويل أهواءَنا الى فضائل، وعملية هذه التحويل لا تتِمُّإلابصعوباتٍ هائلة جداً.نُميْتُ أعضاءَنا الأرضية ونزرعُ مكانها أعضاءً روحية.نخنُقُ أعضاءنا الجسدية لا لنميتَها مئة بالمئة، بل لنُحوّلها الى فضائل. هذا يحتاجُ الى بطولاتٍ هائلة جداً.
لا تموتُأعضاؤنا بسهولة ولا تسمح بالتحوّل بسهولة،فتنتفضُ علينا كثيراً. مهما ضغَطنا على أعضائنا الأرضية – الجسدية فهي لا تموت إلا لحظة الوفاة وتبقى عُنصر إزعاج في اللاوعي.كلما ضغَطنا عليها، كلما انتفضَت علينا. هناك الشيطان الذي نحاربهُ والذي يُحاربنا بواسطة حواسِنا وأعضائنا الجسدية.
تحتدمُالحرب كثيراً، وفي هذه الحرب ماذا نفعل؟ نجمع طاقاتِنا المبعثَرة، طاقاتِنا المستَثمرَة بأهوائنا الجسدية، نسحَبُها من أهوائنا الجسدية ونحوِّلها بضميرٍ حيٍّ صارم الى فضائل. هذه الحرب الروحية تتطلب الفروسية التامة. ولذلك تأتي الشدائد والضيقات والآلام كعناصرلنتمرَّس بها فنزدادُ قوةً وبطولةً وسيطرةً على الجسد.
محبةُ العالم عداوةٌ لله. هذا كلامٌ إلهيٌّ. الناس يُحبون أجسادَهُم والعالم، وعليهم أن يُعلِنوا الحرب على أجسادِهِم وعلى العالم لكي يفوزوا بالملكوت السماوي. الحربُ هي الحرب، تحتاجُ الى العَزم والعزيمة، الى البطولة والفروسية.
في القرن الماضي أي قرن العشرين، سقطَ أكثر من أربعينَ مليون شهيد أرثوذكسي والأغلبية الساحقة كانت في روسياوكان التعذيب رهيب. في يوغوسلافيا سقطَ شُهَداء وفي تركيا سقطَ شُهداء. رفضوا جميعاً أن يَنكُروا المسيح. لم يقَع ذلك قبل ثلاثة آلاف سنة بل وقعَ في أيامنا ووردَ ذلك على الإِنترنت وفي الكتُب وفي الأخبار. ما نكَروا المسيح بل اعترفوا بهِ بفخرٍ واعتزازٍ واقتبلوا الموتَ بفرحٍ عظيمٍلأن الروح القدس ملأَهُم، فاحتمَلواما احتملوا بقوة الروح القدس.هذه الكمية الكبيرة من الشُهداء في القرن العشرين لم يعرفها التاريخ المسيحي خلال ألفَي عام. هي أكبرُ نِسبةٍ من الشهداء. حتى قيصر روسيا وعائلتُه ماتوا شُهداءًفأعلنَت الكنيسة قداستَهُم، ما نَكروا المسيح.
الصلاة من أجل الإستشهاد كانت معروفة في القرون الأولى في المسيحية، ولدى أوريجينِّس كتابٌ في هذا الموضوع.ما كل الناس مُعرَّضون للإستشهاد. ظُروف الإستشهاد ظروفٌ إضطهادية معيّنة. ولكن القديس أفرام وسِواه من الآباء القديسين ذكروا أن الشهيد يموتُ دفعةً واحدة، وأما الناسك فيموتُ كلَّ يومٍ.إعتبَروا النُسك نوعاً من الإستشهاد.
مؤرّخون كثيرون يَعيبون على عهدِ الأمبراطور قُسطنطين الكبير إبتلاء المسيحيةبالرخاوة بسببِه. أي أن المسيحيَّة قبلَهُ كانت تعيش تحت الإضطهادات فلمعَتومات الناس قديسونَ شُهَداء، أما في أيامِه فارتخى حَبل المشنقة وسيفُ القطّاعين السيّافين ودخلَ المسيحية مائعون، فاندسَّت الميوعة على المسيحية. ولذلك فالميوعة والتنبلة هما عَدوّان لدودان للإنجيل.
مَن هُم الذين يستَعفونَ من الآلام؟ هُم المتخاذلون الذين ليس لهم من المسيحية إلا طرَف اللسان في بضعِ كلماتٍ ليس فيها من الجِدِّ الحقيقي، والحسّاسون الذينَ لا يتحمّلون وَخزَ الإبرة.في التحليل النفسي،هؤلاء مُصابون بكَبتٍ شديدٍ، يحتاجُ الى معالجة. الحسّاسون لا يتحمّلونَ التوبيخ والتقريع والملاحظات. وإنكانوا متديّنين. هذا لا يعني أنهم أبرياء، هُم سريعو الإنفعال. سريعو الإنفعال والحسّاسون يُخفون في شعورهم رُدودَ فِعلٍ غضبية صامتة، وأحياناً قد تبدو ظاهرة. والحفيظةُ موجودةٌ لديهم. ليست لديهم القُدرَة على الجِهاد الروحي. النسيمُ العليل يجرحهُم ومِزاجهُم أرقُّ من ورقةِ السيجارة.يذرفون الدموعَ بسهولة لسببٍأو لغيرِ سبب. هُم سريعو الإنفعال ولا تخلو قلوبَهم من نوعٍ من الكآبة والغَمّ. يشكون من كلِّ ما يطرأ، ويخفون في باطنِهم خوفاً من كلِّ شيءٍ، ويعيشونَ في حيرةٍ. تعاطيهِم مع الناس غيرُ صريحٍ مئة في المئة لأنهم يظنّون أن كل الناس حسّاسونَ مثلَهُم. يحتجّون دائماً بأنهم لا يُريدون أن يجرحوا الآخرين ولا يُريدون أن يُزعِجوا الآخرين. يمشونَ على رؤوسِ أصابعهمكأنهم يمشون على البَيض، لا يمشون على الحجر والصخر. هم باستمرارٍ في تردُّد، وعلاقاتُهم مع الناس سطحية لأنهم غيُر قادرين على الإنفتاح والشفافية والأخذ والعَطاء المنطِقي الواعي المدروس. هؤلاء الحسّاسون يحتاجونَ الى التَداوي من الأطباء النفسييّن أو لدى آباء روحييّن متينين ذوي فَهمٍ نفساني.المسيحية ترفضُإحتجاجاتَ المحتجّين على الإستشهاد لأن الإستشهاد هو بُغيةُ كلُّ مسيحي حقيقي.
وهناك المتنَعِّمون. المتنَعِّمون الذينَ ينامونَعلى أسِرَّة من الحرير، ويجلسون الى المآدب الفاخرة ويلبسون الملابس الحريريَّة ويتنعّمون بالرفاه الجسَدي والفخفخة والمظاهر العالمية والمجد العالمي. هؤلاء لا يُحبّون الإستشهاد ولا الشِدّة في الطِباع. طباعُهم رخوَة، أجسادُهم مائعة، ولكن هذا لا يمنع من أن تُقَوّي النعمةُ الإلهيَّة أحدُهُم ليموتَ شهيداً. تاريخياً، بعضُ هؤلاء نكَرَ المسيح ولم يستشهد، ولكن فيهم مَن استشهدَ.كلُّ الخانعين هم ضدَّ الإستشهاد، كلُّ المتلوّنين هُم ضدَّالإستشهاد، كلُّ المسايرينَ بتطرّفٍ هُم ضدَّ الإستشهاد، والكذّابونَ هُم ضدَّ الإستشهاد، والمنافقون هُم ضدَّ الإستشهاد،والذينَ يتنازلون هُم ضدَّ الإستشهاد. التنازُل إرتخاء، حتى الإرتخاء في الأحاديثِ خِيانة.
يجب أن يكونَ الإنسان صريحاً، جريئاً، صادقاً، يشهَدُ للحقيقةِ في كل مكانٍ. المسيحيةُ لا تقبَلُ من الإنسان أن يُسايِر على حساب العقيدة، على حساب الإيمان. بطرس الرسول واضح في رسالتِه الأولى الفصل الأول: يجب أن نشهَد لإيمانِنا.مَن يَنكرني أمام الناس أنكُرهُأمام أبي الذي في السموات. الملاطفات الإجتماعية التي فيها نُكران لشيءٍ من الإيمان هي مرفوضة. هناك مَن يحرُصون على إرضاءِ الآخرين فيتنازلونَ عن شِدّة العقيدة الأرثوذكسية. هذا كلهُ مرفوض. الأرثوذكسي يشهد لإيمانِه الأرثوذكسي في كل زمانٍ ومكان من دونأن يخشى السيفَ والعِقاب. هكذا تكونُ الأرثوذكسيَّة والمسيحية بالأحرى، كنيسةُ الشِدَّة لا كنيسة الرخاوَة.المسيحي الحقيقي يُسَرُّ في الشدائد. يوحنا فم الذهب كتبَ مرة أن الكنيسة لا تلمع إلا بأزمنةِ الإضطهاد. حينما يُشَنُّ الاضطهادُ على الكنيسة تلمَعُ الكنيسة. لو لم يشنّوا الإضطهاد على الكنيسة في روسيا لما سقَطَ الملايين من الشُهَداء الذينَ نفتخرُ بهِم.
المسيحية صريحة.إما أن تكونَ مع المسيح وإما أن تكونَ ضدَّ المسيح وليسَ من حلّ ثالثٍ. مَن ليسَ معي فهُو عليَّ، هكذا قال الرب يسوع. لا تستطيع أن تعبُدَ ربَّين: الله والمال. ولا إمكانية للتوفيق بين الخير والشر، بين النور والظلمة، بين المسيح وبليعال. المسيحُهو واحدٌ لا يتبدَّل ولا يتغيَّر ولا ينحني. كل الذينَ يُبَسِّطون المسيحية ينسفونَها. المسيحية لا تقبل التبسيط، ولا نقبل المسيحية إلا شديدةً كما علّمَنا بولس الرسول: مَن افتخرَ، فليفتخِر بالرب، وأما أنا فحاشى لي أن أفتخرَإلا بصليب ربنا يسوع المسيح. وهو نفسُه قال في كورنثوس الثانية إنه لا يُريد أن يعرفَ مسيحاً غير مصلوب. يُصِرُّ ويَلِحُّ على المسيح المصلوب.
كلُّ شيءٍ في العهد الجديد هو مع الصليب لا مع الرخاوة، مع الصَوم والنُسك لا مع التُخمة والخمور. السكّيرون لا يدخلون ملكوتَ الله، والخليعون لا يدخلون ملكوت الله. ليس ملكوتَ الله طعاماً أو شراباً، بل هو نُسكٌ وصلواتٌ وصَلبٌ. إن كان يسوع قد صُلِبَ وهو البريء، فكم بالأحرى أنا بحاجةٍ الى الصَلب أكثرَ منهُ!
لا رخاوةًفي المسيحية بل شدَّةً. كلامي عسير ولكن هذا هو كلامُ الكتاب المقدس. لا أستطيع أن أُقَدِّم للناس مسيحاً مُتَرفِّهاً يرتدي الحرير. يوحنا المعمدان الناسك الكبير معروف، مريم المصرية الناسكة الكبيرة التي عاشت في الصحراء،هؤلاء هم النماذج لا أصحاب البطون. أشعيا النبي وبولس الرسول قالا: إلهُهُم بطنُهُم.مَن يَعبُد بطنَهُ وجيبَهُ لا يَعبُد يسوع المسيح. بولس الرسول علَّمَنا أن محبة المال هي عبادةُ أوثان، ومحبةُ البطن كذلك هي عبادةُ أوثان. المسيحية في القصور هي غير المسيحية الحقيقية. المسيحية تصنعُ مني ناسكاً لا شاباً غاوياً. الشَبَع يصنعُ قساوة القلب، والقاسي القلب ليس بإنسانٍ.عِبادةُ المال وعِبادةُالبطن تصنعان قساوة الحسّ والقلب.
عليناأن نُغيّر الحِسَّ المادي ونبدّلهُ بحسٍّ روحي. ما كان يسوع يملك موضِعاً يضع رأسَهُ عليه. ولذلك الذينَ يُريدونَ لنا مسيحيةً متَرَفّهةً غاويةً متنعِّمةً، يُريدونَ لنا الموتَ الروحي. لا تعيشُ الروح إلا على حساب موتِ الجسد، وموت الجسد نعني به موتُ أهواءِ الجسد. حينما تُسيطرُ روحي تماماً على جسدي يَشُعُّ الروح القدس في روحي وجسدي. هذا الجسدُ المائت الترابي نُحوّلهُ الى جسدٍ سماويٍ روحانيٍ. هذه هي مهمَّة الإنسان المسيحي،أن يُحوّل جسدَهُ الفاسد التُرابي الأرضي المائت الى جسدٍ سماوي يعيشُ مع الله الى الأبد، له المجد والإكرام والسُجود الى أبد الآبدين ودهر الداهرين، آمين.
الفصل الثامن عشر
ربّي
يا يسوعي يا إله المحبة، أنتَ الصِدق. ملءُ محبَّتكَ في قلوب المؤمنين.
أَوعِبهُم من محبّتكَ، أوعِبهُم من معرفتِكَ، أوعِبهُم من الإيمانِ بكَ، أوعِبهُم من الرجاءِ بخلاصِكَ.
ربي يسوعَ المسيح، بآلامِكَ إشفِ آلام البشر، بجراحِكَ إشفِ جراحَ البشر، بحنانِكَ أُلطف بالبشر، بغزارة رحمتِكَ إرحم الناس أجمعين واجعل المؤمنينَ لهيباً من الإيمان والمحبة والرجاء.
ربي يسوعَ المسيح أرسِل روحَكَ القدوس الى قلوب المؤمنين ليُطهّرهُم من كل إثمٍ وشر، ويجعلهُم مَسكِناً لهُ ومَسكِناً لكَ وللآب. بحرارة الإيمان،إجعل إيمانَهم أتوناً متَّقدًا من النار الإلهية.
ربي يسوعَ المسيح، إجعل قلوبَنا مدهوشة بصليبكَ، بآلامكَ، بدفنكَ، بقيامتكَ من بين الأموات لكي نستطيع أن نتأمّل الخلاص الذي صنَعتَهُ على الصليب في كل لحظة.
يسوعَ المسيح إغرس صليبكَ في قلوبِ المؤمنين واجعل المؤمنين أحياءً بكَ. كُنْ كلَّ شيءٍ في حياتهم واهْدِ الناسَ جميعاً الى الإيمان الحقيقي. طهِّرهم جميعاً وقدِّسهم جميعاً، واحفَظ الكرة الأرضية بروحِكَ القدوس ليعيشَ الناسَ في سلامٍ وأمان ومحبة وإخاء لأنك أنتإلهُ المحبة، أنت المحبة. قدِّسنا بمحبتكَ الإلهية لنكونَ لكَ عبيداً صالحين.
الخاتمة
قبل الميلاد وأثناء الميلاد، كانت البشرية غارقة في الظلام والفساد والإنحلال الأخلاقي والفحشاء. في كتابي “المرأة في نظر الكنيسة” نبذةٌ عن هذه الأوضاع التافهة وعن وضع المرأة السيّء، فهي كانت رخيصة جداً. في بعض المناطق كانت الإباحيَّة كاملة، والأخلاق منحلَّة،وتعدُّد الزوجات والجواري ساري.
جاء يسوع نوراً يضيء العالم ويدعو الى الكمال الروحي، الى التألّه. لم تقف رسالة يسوع عند الدعوة الى الكمال الأخلاقي فقط بل بالدعوة الى التشبُّهِ بالله للإمتلاء من الروح القدُس، لنصيرَ آلهةً بالنعمة كما أنهُ هو إلهٌ بالجوهر.
المسيحية إنقلابٌ. التاريخ اليوم في العالم كلِّه مؤرَّخٌ بالنسبة الى المسيح. تاريخُ العالم انقلبَ وصار يبدأ مع المسيح.أخذَ منحاً جديداً بفضل يسوعَ المسيح وتلاميذهِ الأطهار القديسين الذين ملاؤا الدنيا من الأنوار الإلهية بتعاليمهم السامية وبشارتهم الإلهية.
الإنقلاب الأخلاقي الروحي هو جذري مع الإنجيل والبشارة المسيحية. قد يحتجُّ البعض بأن المسيحيين ليسوا على مستوى المسيح، هذا صحيح. المسيحُ إلهٌ متجسِّد ونحن بشرٌ ساقطون. بنعمةِ المسيح نجتهد في الإرتفاع. بعضنا ينجح، وبعضنا لا ينجح، وبعضنا ينجح نسبياً.
كان آباء الكنيسة أدباء اللغة اليونانية في زمانهم. كان أفرام سيّد اللغة السريانية، وكان أوغسطين سيّد اللغة اللاتينية. لماذا لا نكون نحن أسياد اللغة العربية في الكتابات الدينية والترجمات الدينية؟
أسأل الله العليّ العظيم أن يقيمَ من صفوفنا أشخاصاً لامعين يجيدون العلم اللاهوتي الروحي إجادةً كاملة، ويجيدونَ اليونانية والعربية والروسية إجادةً كاملةً، فضلاً عن اللغات الأخرى.
يبقى الكمال الحقيقي على الأرض محدوداً. ما دُمنا في الجسد،فنحن عالقون بالأرض وما في الأرض من دواعي الفساد والإنحلال والفحشاء والبغضاء والحروب والسيئات والنهب والسرقة والعدوان والكذب والإفتراء والمراوغة والخداع والغش في كل شيء.
اللهمَّ نجّي العالم كله من الفساد والإنحلال والفحشاء والمفاسد والمظالم والعدوان والحروب والويلات والكوارث الطبيعية والغير الطبيعية، وأنعِم على الناس جميعاً أن يعيشوا عيشةَ قداسة وبرّ وطهارة وعفَّة وسلام وأمان، وأن يحوِّلوا الأرض بعيانتك الإلهية الى واحةِ سلام ومحبة ووئام وإخاء وعطاء وسخاء وبر.
أيها الصليب الكريم كُن حارساً أميناً لمحبّي آلام الرب ودفنهِ وقيامتهِ.
أيها الرب يسوعَ المسيح، إغسل المؤمنين جميعاً بدمِكَ الكريم، وأهِّلهم جميعاً ليكونوا أعمدةً من نارٍ ونور في بيتِ أبيكَ على رجاء الصيرورة في ملكوتهِ السماوي الثمين. أيها الثالوث القدوس ارحمنا.
اللهمَّ إرحم العالم أجمعين، وارحمنا، آمين.
16/12/2009
الذكرى 29 لاستشهاد الدكتور يوسف صايغ
الفهرس
المقدِّمة
الفصل الاول: الإنسان هو مركز الكون
الفصل الثاني: الإنسان هو القيمة العُظمى
الفصل الثالث: الله روحٌ
الفصل الرابع: التجسُّد الإلهي
الفصل الخامس:ربّي وإلهي يسوع المسيح
الفصل السادس: المشيئتان والفعلان في شخص ربنا يسوع المسيح
الفصل السابع: من العهد القديم الى العهد الجديد
الفصل الثامن: الكنيسة
الفصل التاسع: الكنيسة الأرثوذكسية
الفصل العاشر:حتميّة آلام الرب ودفنه
الفصل الحادي عشر: قام المسيح
الفصل الثاني عشر: الجمال كلهُ ظهورٌ إلهي وقيامة وعنصرة
الفصل الثالث عشر: البطولة الروحية
الفصل الرابع عشر: الحس اللاهوتي
الفصل الخامس عشر: علماء اللاهوت
الفصل السادس عشر: الشهداء
الفصل السابع عشر: الصليب هو كل شيء في المسيحية
الفصل الثامن عشر: ربي
الخاتمة