التهيئة الإِكليريكيَّة والرعاية
لائحة بالفصول
الفصل الأَوَّل : يسوع هو الراعي الحقيقي
الفصل الثاني: الرُعاة
الفصل الثالث: إعدادُ الإِكليريكيِّين
الفصل الرابع: المدارس الإِعداديَّة
الفصل الخامس: الإِعداد الرُّوحي
الفصل السادس: الإِعداد العقائدي
الفصل السابع: الإِعداد الكتابي
الفصل التاسع: الإِعداد القانوني
الفصل العاشر: الإِعداد التاريخي
الفصل الحادي عشر: الإِعداد الفلسفي
الفصل الثاني عشر: الرعاية
الفصل الثالث عشر: الكنيسة والمجتمع
الفصل الرابع عشر: الأَنشطة الثقافيَّة
الفصل الخامس عاشر: الإِكليريكيُّ قُدوَةٌ
الفصل السادس عشر: كهنةُ اللهِ العليّ
الإِهداء الى
صاحب الغبطة الجليل مولانا البطريرك التَقيّ النَقي يوحنا العاشر يازجي أَملنا العظيم في تجديدٍ إِكليريكيٍّ شاملٍ يضعُ الكرسي الأَنطاكي في مدار النهضة الأُرثوذكسيَّة العالميَّة القائمة على التراث الآبائي الأَصيل لتجديدِ الحياة الروحيَّة وبناءِ الإِنسان الأُرثوذكسي على أُسُسٍ فيلوكاليَّا.
أَحد حاملات الطيب
19 أيار 2013
الوفاء المطلق
الشمَّاس
اسبيرو جبُّور
الإِهداء الى
الإِهداء الى كلِّ كاهنٍ يمجِّدُ الله في خدمتِهِ الكهنوتيَّة، ويبذِلُ ذاتَهُ في خِدمةِ الشعبِ خِدمةً سارَّةً لوجهِ الله، سائلاً الله أَن يُمتِّع الكنيسة بملايِّين الإِكليريكيِّين اللَّامعين مثل بولس الرسول.
المقدِّمة
يوم العنصرة المجيدة، حلَّ الرُّوح القدُس على التلاميذ فأَقامهم رعاةً للمسكونة يوزِّعونَ الرُّوح القُدُس على المؤمنين مباشرةً، وبواسطة خُلفائهم. أَسَّسَ الرُّوح القدُس الكنيسةَ التي هي جسد المسيح بينما المؤمنون هم أَعضاؤهُ. أَقامَهم أُمَناء عليها ليرعوها ويموتوا من أَجلها شُهداء. هذا السلطان تسلسلَ في الكنيسة الى يوم القيامة لرعاية المؤمنين ولحفظِ وديعة الإِيمان سالمةً.
الكنيسةُ هي قلبُ المواهب الإِلهيَّة والنعمة المؤلِّهة. فيها القداسة والإِتِّحادُ بالله. فيها وسائلُ الخلاص بالرُّوح القُدُس. هي الأَمينةُ على الكتاب المقدَّس والتعليم الصحيح وفيها المجامع المسكونيَّة المقدَّسة حامية الإِيمان. هي المحافظة على تراث الرُسُل القدِّيسين بالرُّوح القدُس الساكن فيهم.
الكنيسةُ ليست جمعيَّةً بشريَّةً، بل هي جسد المسيح ومسكِنُ الرُّوح القُدُس. فيها نحنُ في الله. يختُمُنا الرُّوح القُدُس فيطبعُ فينا يسوع المسيح صورةُ الآب. قال يوحنا فم الذهب: الرُّوح القُدُس الساكن في رأس الكنيسة أَي يسوع المسيح، ومنهُ ينسابُ الى كلِّ الأَعضاء، أَي الى كلِّ المؤمنين.
إِذ نرى يسوع فينا، نرى أَصلَهُ أَي الآب (أَثناسيوس الكبير وباسيليوس الكبير). الكنيسةُ هي السماءُ على الأَرض، والأَرضُ في السماء. القدِّيسون فيها يشعُّونَ بالرُّوح القُدس كشُموسٍ إِلهيَّة وفيها يكون شكلُنا إلهيًّا (déiformes) .
أسأَلُ الله أَن يكونَ هذا الكتاب مُفيداً لإِخوتي الكهنة وللشعبِ الحبيب.
الفصل الأَوَّل
يسوع هو الراعي الحقيقي
يسوع هو الراعي الأَمين الَّذي يبذِلُ نفسَهُ في سبيل خرافهِ. هو يعرفُ رعيَّتَهُ جيِّداً كما يعرفُهُ الآب وكما هو يعرفهُ. هو الراعي الصالح وليس بأَجير. الأَجير غيرُ وفيّ، إِن رأَى الذئبَ قادماً تركَ الخراف. أَمَّا الراعي الحقيقي الأَمين الصالح فهو يبذِلُ نفسَهُ في سبيلِ الخراف. والخراف تسمعُ صوتهُ وتتبعهُ ويقودُها الى المرعى. هو يعرفُ خِرافهُ وخرافُهُ تعرفُهُ، وهو بابُ الخراف الَّذي منهُ تدخُل ومنهُ تخرج لأَنَّها موجودة فيه.
هذه الَّلوحة الرائعةٌ تصوِّرُ لنا يسوعَ المسيح راعياً يُحبُّ خرافَهُ حتى الموت في سبيلها ليقتنيَها لذاتهِ كنيسةً طاهرةً، عروساً كما قال بولس. يسوع حريصٌ على اقتناءِ رعيَّتهِ.
بولس في الآية 28 من الفصل 20 من أَعمال الرسل قال: ” فاحذَروا لأَنفسِكُم ولجميعِ الرعيَّة التي أَقامَكُم الرُّوح القُدس فيها أَساقفةً لترعَوا كنيسةَ الربِّ والإِله التي اقتناها بدمِهِ “.
فكرةُ الإِقتناء موجودةٌ في الآية 14 من الفصل الأَوَّل من أَفسُس: ” الَّذي هو عربونُ ميراثِنا لفداءِ المقتنى لِمدحِ مجدِهِ “. وفي الفصل الثاني من رسالة بطرس الأُولى الآية 9: ” وأَمَّا أَنتم:” فجيلٌ مُختارٌ وكهنوتٌ مُلوكيٌّ وأُمَّةٌ مُقدَّسَةٌ وشعبٌ مُقتنى “.
فضلاً عن ذلك، يسوع في رؤيا يوحنا هو ملكُ الملوك وربُّ الأَرباب. ونحنُ مملكتُهُ ونحن رعاياه. في رسالةِ أَفسس، نحنُ مواطنونَ سماويُّون. نحنُ رعايا في الله، ويسوع اقتنى هذه الرعاية بدمِهِ الكريم. اشترانا بدمِهِ الكريم، ولذلك كما قال بولس: نحن لم نعُد لأَنفسِنا بل للَّذي اشترانا بدمِهِ الكريم. ماتَ عنَّا، فمُتنا فيهِ وقُمنا فيهِ كما يُعلِّم بولس في كورنثوس الثانية في الفصل الخامس وسواها.
في نهايةِ الرسالة الى العبرانيِّين سمَّاه بولس “راعي الرُعاة”. الرُعاة هم تابعونَ لهُ وهو رئيسهُم. صورةُ هذا الراعي في الكتاب المقدَّس، هي صورةُ الغَيور على رعيَّتِه والَّذي يحبُّها حبًّا خارقاً فيبذل دمَهُ في سبيلها. وليس هذا فقط، بل يقودُها بدمِهِ وجسدِهِ. ففي المعموديَّة نولدُ في المسيح، ونلبسُ المسيح.
المسيح هو بالنسبةِ إِلينا الكلُّ في الكلِّ. هو الراعي، والطعام، والشراب، والِّلباس، والأَب، والأُم، والأَخ، والأُخت، والخادمُ الأَمين، والفادي الأَمين، والصديق الحميم. هو الكلُّ في الكلِّ.
في الرسالة الى العبرانيِّين، هو الكاهنُ الى الأَبد على رتبةِ ملكِصادق وهو من ناحيةٍ أُخرى رئيس الكهنة. رئيسُ الكهنة الَّذي قرَّبَ نفسَهُ للآب بالرُّوح القدُس الساكنُ فيهِ ذبيحةً حيَّةً، ليغسلَنا من خطايانا وليفتديَنا بموتِهِ على الصليب، ليصيرَ لنا طعاماً وشراباً. وهو الخادمُ الأَمين الأَعلى، وهو كرئيسُ الكهنة موجودٌ في السماء لدى الآب، هو يشفعُ فينا لدى الآب. هو الكاهنُ وهو رئيسُ الكهنة. في رسالة بطرس الثانية هو أُسقف نفوسِنا.
في رؤيا يوحنا الفصل الأَوَّل الآية 5 : ” ومن يسوعَ المسيح الشاهدِ الأَمين وبِكرِ الأَموات ورئيسِ ملوكِ الأَرض، الَّذي أَحبَّنا وغسَلَنا بدمِهِ من خطايانا “. وفي الفصل 5 الآية 10: ” وجعَلتَ منهُم ملوكاً وكهنَةً وسيملِكونَ على الأَرضِ “.
في رسالة بطرس الأُولى الفصل الثاني الآية 7 – 9 : ” فهوَ كرامةٌ لكم أَيُّها المؤمنون، وأَمَّا لغيرِ الطائعينَ ” فإِنَّ الحجرَ الَّذي رذَلَهُ البنَّاؤون هو الَّذي صارَ رأساً للزاوية وحجرَ عِثارٍ وصخرةَ شكٍّ للَّذين يعثُرونَ بالكلمة غيرَ طائعينَ لِما جُعِلوا لهُ. وأَمَّا أَنتم: ” فجيلٌ مُختارٌ وكهنوتٌ مُلوكيٌّ وأُمَّةٌ مُقدَّسةٌ وشعبٌ مُقتنى ” لتُخبروا بفضائل الَّذي دعاكُم من الظلمة الى نورِهِ العجيب”.
فإِذاً، نحن الكهنة الملوكيُّون، وشعب الله الجديد، وأُمَّتُهُ المختارة. إِنتهى دور اليهود الى الأَبد، فلم يعودوا شعب الله. صِرنا نحنُ شعبَ الله، صِرنا نحنُ خاصَّتَهُ كما في سفر الخروج. نحنُ الشعبُ المقتنى، أَي الشعب الَّذي اقتناهُ يسوع بدمِهِ الطاهر.
المؤمنون، بالمعموديَّة والميرون هُم ممسوحونَ كهنةً ليقرِّبوا أجسادَهم ذبيحةً روحيَّةً حيَّةً مرضيَّةً لله كما في الآية الأُولى من الفصل12 من رسالة رومية: ” فأَطلبُ إِليكم أَيُّها الإِخوة، برأفةِ الله، أَن تُقرِّبوا أَجسادَكم ذبيحةً حيَّةً مقدَّسَةً مَرضيَّةً عند الله فهذه هي عبادتَكُم الرُّوحيَّة “.
وذلكَ، لكَي يتجرَّدوا من هذا العالم فلا يتشبَّهوا بهِ أَبداً، بل لكي يصيروا خليقةً جديدةً في المسيح. أَي لِكَي يخلعوا الإِنسانَ العتيق ويلبسوا الجديد الَّذي يتجدَّد على صورةِ خالقهِ، كما علَّمَنا بولس في كولوسي وأَفَسس.
ماذا رأَينا حتى الآن؟ رأَينا يسوع كاهناً، ورئيسَ كهنة، وأُسقفاً، وراعياً صالحاً يبذِلُ نفسَهُ في سبيلِ خرافِهِ، وراعي الرُعاة. رئيسُ الكهنة يكونُ رئيساً لكهنَةٍ تابعينَ لهُ، فهل يكون يسوع رئيس كَهَنة بدونِ كهنةٍ؟
في ترجمةِ دار النشر الجديدة استعمل المترجمون لفظة “عظيمُ الكهنَة ” لرئيسُ الكهَنة، أَي العظيمُ بين الكهَنة. يسوعُ إِذاً هو رئيسُ الكهنَة، وراعي الرُعاة الَّذي يخضعُ لهُ كهنةٌ ورعاةٌ. بهذه الصِفة، هو النموذج الَّذي يُنسَجُ عليه الكهنة والرُعاة، أَي أَنَّ الكهَنة والرُعاة يكونون نظريًّا على الأَقل، فوتوكوبيَّات عن ربِّنا يسوعَ المسيح.
طبعاً يسوع لهُ المجد بريءٌ من الخطأ والخطيئة. صارَ مثلَنا في كلِّ شيءٍ ولكن بدونِ الخطيئة كما في العبرانيِّين الفصل 4 الآية 15 :” فليسَ لنا رئيسُ كهنةٍ غيرُ قادرٍ أَن يَرثي لأَوهانِنا، بل مُجَرَّبٌ في كلِّ شيءٍ مثلنا ما خلا الخطيئة “.
البشرُ قومٌ ساقطون لأَنَّهم أَولاد آدم وحوَّاء الساقطَين، ولكن بنعمةِ الله صاروا بعد العنصرة قادرينَ على الترقِّي وعلى تسلُّقِ سُلَّم الكمال الرُّوحي ليبلغوا الذُروةَ في يسوعَ المسيح ومعهُ. أَلَم يقُل بولس الرسول إِنَّنا صُلِبنا مع المسيح، ومتنا معهُ، وقُمنا معه، وصعدنا معهُ الى السماء، وجلَسنا معهُ عن يمينِ الآب في السماء؟ نحنُ لم نعُدْ أُناساً عاديِّين لأَنَّنا أَخَذنا طُعماً سماوياً، وهذا الطعم هو يسوعَ المسيح نفسُه الَّذي ارتدَيناه في المعموديَّة فصارَ قائماً فينا، وفيهِ ننمو الى ملءِ قامتِه، أَي الى ملءِ قامةِ المسيح كما في الرسالة الى أَهلِ أَفسس الفصل 4 الآية 13 : ” الى أَن ننتهي جميعُنا الى وحدةِ الإِيمان ومعرفة ابن الله الى إِنسانٍ كاملٍ الى مقدارِ قامةِ ملءِ المسيح “.
طلبَ بولس أَن نقتديَ بهِ كما يقتدي هوَ بالمسيح، وطالبَنا في الفصل الخامس من أَفسُس أَن نقتدي بالله كأَولادِهِ الأَحِبَّاء، وأَن نكونَ أَبناءَ النور، وأَن نسلُكَ في النور. ويسوع أَوصانا مِراراً أَن نسلُكَ في النور ما دامَ لنا النور، وهو النور. فحياتنا قائمةٌ في المسيح لا خارجَ المسيح. قبل العنصرة كان الرُسُل الى جانب المسيح، وفي العنصرة صاروا في المسيح وصار المسيحُ فيهم. ولذلك فالمعموديَّة تجعلُنا مواطنين سماويِّين. نسيرُ على الأَرض كغرُباء ومسافرين ريثَما يَحينُ الوقت ليخطِفَ يسوع أَرواحَنا الى مجدِهِ السَماوي. وجودُنا على الأَرضِ مؤقَّت وزائل. نعيشُ لسنواتٍ قد لا تبلُغ التسعين والمئة إِلَّا نادراً، ثمَّ نخرجُ كأَنَّنا لم نوجَد. ولكن نخرُج الى عالمٍ آخر، الى عالمٍ سماويٍّ لنكونَ مع الملائكةِ والقدِّيسين الى الأَبد.
الخُلاصة: نحن رعيَّة راعي الرُعاة ورئيس كهنةِ الكهنَة، الربُّ يسوعَ المسيح.
هو قالَ بنفسِه إِنَّهُ الراعي. والرسالة الى العبرانيِّين قالَت إِنَّهُ الكاهن. هناكَ مُساواةٌ بينَهُ وبين الكَهَنة والرُعاة. هو ساوَى نفسَهُ بهم. أَلَم يتواضَع؟ طأطأَ السموات ونزل، ولبسَ بشرتَنا وصارَ واحداً منَّا. قامَ بعمليَّةٍ تعجزُ الملائكة عن فَهمِها. التجسُّد الإِلهي هو سرُّ الأَسرار، لا تستطيعُ الملائكة أَن تفهمهُ. كيفَ يصير الإِله إِنساناً؟ هذا عجَبٌ يخطفُ القلوبَ والعقولَ، ويحوِّل الناس الى مجانين في حبِّ يسوع.
يسوع مجنونٌ، أَحبَّنا فأَتى إِلينا رغمَ كلِّ الصعوبات. كيف يصيرُ الإِلهُ إِنساناً؟ هذا أَقصى المستحيل. ولكن هذا المستحيل صار حقيقةً لأَنَّ الله أَحبَّنا، وهل من سببٍ آخر؟ أَحَبَّنا يسوع فبَذَلَ نفسَهُ من أَجلِنا، أَحبَّنا الآب فبذَلَ ابنَهُ من أَجلنا. هذا السرُّ يحوِّلُ العُقَلاء الى مجانين، ولكن هل هناك في الدنيا من عُقَلاء؟
أَما تجرُفُ همومُ الجسد والدنيا عقولَ الناس الى الجحيم؟ لو كنَّا عُقَلاء لصِرنا جميعاً مجانين. سرُّ تجسُّدِ ابن الله يحوِّل العُقَلاء الى مجانين. كيف يصيرُ الإِلهُ إِنساناً من أَجلي أَنا الجحيم من الخطايا والآثام؟
نستطيعُ أَن نفهم بنسبةِ واحد على مليارات المليارات أَنَّ يسوع يتجسَّدَ من أَجل الصالحين، أَمَّا أَن يصيرَ من أَجلي أَنا الجحيم! هذا يحوِّلُ العقلَ الى جنون. ولكن هذا الجنون هو العقلُ الحقيقي. فالمجانين يحبُّون يسوع، والعُقَلاء الحقيقيُّون الَّذين يَدَّعونَ أَنَّهم عُقَلاء من دون يسوعَ المسيح، هم الجَهَلة، هم المغفَّلون، هم المغيَّبون عن الحقيقة، هم المظلِمون، هم الفاقدو البَصَر والبصيرة والرؤيَة.
نورُ يسوعَ المسيح يُضيءُ للجميع، وبدونِهِ كلُّ نورٍ آخر هو نورٌ باهتٌ لا يخلو بشيءٍ من الظلمة. في المزمور 22 : الربُّ يرعاني فلا يعوِزَني شيءٌ. في إِنجيلِ لوقا ومتَّى ايضاً، يسوع تركَ التسعة والتسعينَ في رؤوسِ الجبال وخرجَ يسعى وراء الخروف الضال فوجَدَهُ، فحمِلَهُ على منكبَيه. تركَ السموات ونزلَ الى الأَرض ليُفتِّشَ عن آدم، وكلٌّ منَّا هو آدم، ليحملهُ على منكبَيهِ، ومِنكباه هما طبيعتاه البشريَّة والإِلهيَّة. يسوع يحمِلُني على منكبَيه! على طبيعَتَيه البشريَّة والإِلهيَّة. مَن أنا لأَكونَ على مَنكِبَي يسوع؟ أَنا لا أَستحقُّ أَن أُقبِّل قدمَيه، ولكن يسوع وضَعَني على منكبَيه. وفي العهد الجديد لم يضَعَني فقط على منكبَيه، بل وضَعَني في منكِبَيه.
نحنُ في يسوع، ومع يسوع، وبيسوع، وليسوع، ولأَجلِ يسوع. أَلَسنا أَعضاء في جسد يسوع؟ الكنيسةُ هي جسدُ يسوع، والمعمودونَ بمعموديَّةٍ صحيحةٍ هُم أَعضاءٌ في هذا الجسد. نحنُ جسد يسوع المسيح وهو رأسُنا. يوحنا فم الذهب قال: الرُّوح القُدُس يسكُن في يسوع، ويسوع هو الرأس، ومن هذا الرأس ينسابُ الرُّوح القُدُس الى كلِّ عضوٍ فينا. هذا الرُّوح القُدُس يشدُّ الأَوصال بعضَها الى بعضٍ، ويشدُّ الأَعضاء بعضَها الى بعضٍ، ويُقيم الُّلحمةَ بين الأَعضاءِ في جسدِ يسوع المسيح.
الرُّوح القُدُس هو الَّذي يجمعُنا. وكما تقول ترتيلة في يوم العنصرة: نعمةُ الله جمَعَتنا. الرُّوح القُدُس جَمَعَنا، ويجمعُنا في جسدِ يسوعَ المسيح. إِعتمدنا بروحٍ واحدٍ، بجسدٍ واحدٍ، وهو يسوع المسيح. وبما أَنَّنا أَعضاء في جسدِ يسوعَ المسيح، فعلاقتُنا بيسوع المسيح هي علاقةٌ عضويَّة لا معنويَّة ولا تشبيهيَّة ولا نِسبيَّة، هي علاقةٌ عُضويَّةٌ جوهريَّةٌ متينةٌ تربُطُنا بهِ رَبطاً مُحكَماً.
الذهبي الفم قال: نحنُ متَّحِدون بيسوع أَكثر من اتِّحاد الرأسِ بالجسد. ونيكولاوس كاباسيلاس قال: نحنُ مُتَّحِدون بيسوع أَكثر من اتِّحاد النفس بالجسد. ولذلك، فيسوع هو النموذج الَّذي ننسُج أَنفَسنا بموجبِه، هو المِغزل الَّذي نغزِلُ أَنفسَنا حولَهُ. الذهبي الفم قال: يجب أَن يتراءى يسوعُ المسيح من كلِّ جنباتِنا كبَيتٍ من بلُّور. ولكن، متى نصبحُ شفَّافين كالبلور حتى يرى الناس يسوع في داخلنا؟
في إِنجيلِ يوحنا، محبَّتنا لبعضِنا بعضاً تُعطي الناس صورةً جيِّدةً عن إِيمانِنا. وايضاً، يقولُ الربُّ :كونوا كاملين كما أَنَّ أَباكُم الَّذي في السموات هو كاملٌ. أَمَّا في لوقا : كونوا رُحَماء كما أَنَّ أَباكم الَّذي في السموات هو رحيم. فإِذاً، نحنُ مطالَبون بأَن نكونَ كاملينَ ورُحماء مثل أَبينا السماوي. ولكن بسبب الخطيئة، تعترِضُنا صعوباتٌ جمَّة، وهذا لا يعني التهرُّب من الحربِ الرُّوحيَّة ضدَّ الخطايا، والشهَوات، والعالم، والفساد، والكَذب وما الى ذلك لنكونَ فوتوكوبي عن ربِّنا يسوعَ المسيح.
++++++++++++++++++++++++++
الفصل الثاني
الرُعاة
في الفصل الرابع من الرسالة الى أَفسُس الآية 10 – 11 قال بولس الرسول :” ذاكَ الَّذي نزَلَ، هو نفسُه الَّذي صعِدَ ايضاً فوق السماوات كلِّها ليملأَ كلَّ شيءٍ. وهو قد أَعطى أَن يكونَ البعضُ رُسُلاً، والبعضُ أَنبياءَ، والبعضُ مُبَشِّرينَ، والبعضُ رُعاةً ومُعَلِّمينَ لأَجلِ تكميلِ القدِّيسين لعملِ الخدمةِ وبِنيانِ جسدِ المسيح”.
في الفصل الثاني عشر من كورنثوس الأُولى، ذكرَ الرُسل والأَنبياء والمعلِّمين. وفي الفصل12 من رومية، ذكرَ بعض الأُمور. في هذه الفصول الثلاثة، ذِكرٌ لمواهب إِلهيَّة وضَعَها اللهُ في الكنيسة لخِدمةِ المؤمنين لبنيانِ جسد ربِّنا يسوعَ المسيح، وهي خِدماتٌ للكنيسة.
يسوع أَسَّسَ كنيسةً أَعضاؤُها من المعتمِدونَ بمعموديَّةٍ صحيحة. هؤلاء هُم من نَسلِ آدم وحوَّاء، أي هُم في الأَساس ساقطون. في الفصل8 من سِفر التكوين جاء أَنَّ الإِنسان يميلُ الى الشرِّ منذ حداثتهِ. ليسَ الإِنسانُ ملاكاً بل كائناً ساقطاً، يميلُ الى الشرِّ منذُ طفولتِهِ. الإِيمانُ والتربية يُحَسِّنان أَوضاعَهُ روحيًّا وأَخلاقيًّا. لما كان الناسُ بدونِ ناموس وبدون يسوعَ المسيح، ارتكبوا الفواحش، فأَخَذَهُم الطوفان وأَحرَقَتهم النيران في سَدوم وعَمورة. كان الفسادُ قبلَ مجيءِ ربِّنا يسوعَ المسيح منتشراً في الأَرضِ انتشاراً فاحشاً.
يسوع حسَّنَ أَخلاقَ البشر نِسبيًّا لا كُليًّا، لأَنَّ البشر مُهمِلون. إِعتمَدوا ولم يحفظوا الإِنجيل كما يجب.
هناكَ في الكنيسة رُسُل، وأَنبياء، ومبشِّرون، ورُعاة، ومعلِّمون يخدمون الشعب. في أَعمال الرُسُل ورسائل بولس الرسول نرى أَنَّ الرُسُل أَقاموا قسوساً وشمامسةً، بينما هم أَسَّسوا الكنائسَ. نرى بولس الرسول يُكَلِّف تيموثاوس وتيطس أَن يُقيما في الكنيسةِ قسوساً وشمامسةً. في أَعمالِ الرُسُل وتيطس وتيموثاوس، كلمة أُسقف وكلمة قسّ مترادفتان. فإِذاً هناك تميُّزٌ واضحٌ بين الرِتَب: بولس، تيموثاوس تيطس، والقسوس والشمامسة الَّذينَ أَقامَهُم تيطُس وتيموثاوس. تيموثاوس نفسُهُ رُسِمَ بوَضع يدَي بولس والقسوس، أَي أَنَّ القسوس اشتركوا مع بولس في رِسامة تيموثاوس.
ولكن عند اغناطيوس الأَنطاكي المتوَفِّي في العام 107 نرى تمييزاً جديداً واضحاً بين الأُسقف، والقس والشمَّاس. صارت الكنيسة مُرتبطة بالأُسقف. يُشَبِّهُ الأُسقفَ بالآب، والقسَّ بالإِبن، والشمَّاسَ بالرُّوح القُدُس. هناك إِذاً تحديد جديد للوظائف وهذا الترتيب استمرَّ في الكنيسة الى يومِنا هذا.
حدَّدَ بولس الشروط المطلوبة في القِسِّ وفي الشمَّاس. عليهما أَن يكونا نماذجَ روحيَّة للشعب ومعلِّمين صالحين وأَن يحفظا الوديعة، أَي وديعة الإِيمان بالرُّوح القُدُس الساكن فينا. يُسمِّي بولس المسؤولين ” المرشِدين “. والمرشِدون هم المسؤولون عن الرعيَّة.
يُطالِب بولس أَن يقتديَ المؤمنونَ بالمرشدين، وأَن يساعد المرشدون المؤمنين على أَداء وظائفهم، أَي أَن يُساعِدونهم على أَداء المهمَّات بأَمانةٍ وإِخلاصٍ وشَرفٍ بدونِ إِزعاجِ الرعيَّةِ للراعي لأَنَّ هناكَ وظائف للرُعاة من تعليمٍ، وإِرشادٍ، ورعايَةٍ شخصيَّة وسوى ذلك. في النهاية، الوظيفة الكُبرى للمرشدين هي تربيةُ المؤمنين كما يربِّي الأَبَوان طفلَهما.
يوحنا فم الذهب وسواه اعتبروا أَنَّ الأُبوَّة الروحيَّة هي أَهم من الأُبوَّة الجسديَّة. الأَمبراطور، والملك، ورئيس الجمهوريَّة يعترفونَ للكاهن فينالونَ الحلَّة والبركة منهُ. َهُم أَسيادُ هذه الدنيا وأَسيادُ الخارج، وأَمَّا رجالُ الدِّين فهُمْ أَسيادُ الداخل وهم أَسيادُ الأَرواح، والرُّوحُ أَهمُّ من الجسد بمقدار ما الفردَوس أَهمُّ من الجحيم.
الجسدُ الى التراب، وأَمَّا الرُّوحُ فالى المجدِ الأَبدي. مهما عظُمَت الدولة، فهي عظمةٌ أَرضيَّة تزول بزوالِ الأَنفار. أَمَّا مملكتُنا الروحيَّة فهي باقيَةٌ الى الأَبد، والحياةُ الأَبديَّة لا تزول، والباقي هو أَهمٌّ من الفاني بما لا يُقاس. فإِذاً، اللهُ أَقامَ الكهنَةَ مسؤولينَ عن أَرواحِنا. هُم الرُعاة والمعلِّمون والمرشِدون.
+++++++++++++++++++++++++++++++===
الفصل الثالث
إعدادُ الإِكليريكيِّين
الإِكليريكيُّ مسؤولٌ عن الشعب روحيًّا أَمامَ الله. وكما رأَينا في العبرانيِّين، هو سيُعطي جواباً عنهم. الأَبُ والأُم يهتمَّان بالطعامِ والشرابِ والكساءِ والتعليم وأُمور هذه الدنيا، إِلَّا إِذا كانا مؤمنَين آنذاك، يكونان المسؤولَين روحيًّا عن أَولادِهما لتزويدِهم بالتربية الرُّوحيَّة الجيِّدة تحت أَنظارِ الكاهن فيُساعدانِه في عملِهِ.
التربيةُ الرُّوحيَّة عسيرةٌ جدًّا لأَنَّ الإِنسانَ يميلُ الى الشرِّ منذ حداثتهِ كما مرَّ معنا. الإِنسانُ هو في البدايةِ جسدٌ، والرُّوحُ يتجلَّى شيئاً فشيئاً بمساعدةِ الأَهل والكهَنة. يكونُ الطفلُ مُرتبطاً بجسدهِ، وهو يبقى طولَ حياتِهِ عبداً لهذا الجسد إِلَّا إِذا تحرَّرَ منهُ بنعمةِ الرُّوح القُدُس بنسبةٍ كافية. والكاهنُ والأَهل هُم الَّذين يُساعِدونهُ على هذا التحرُّر.
لدى الطفل أَهواء، وهو يُسيءُ استعمالها. في 7 من روميَة، الإِستعمالُ مهمٌّ جدًّا. إِمَّا أَن نستعمل أَعضاءَنا للإِثم، وإِمَّا أَن نستعمِلَها أَسلحةً للبرِّ والقداسة. هذا يتطلَّبُ متانةً شخصيَّة لِكَي نسودَ على أَنفُسِنا، لِكي نحرِّكَ إِرادتنا لرُضوانِ الله، ولِكَي نحوِّلَ طاقاتنا من خِدمةِ الإِثم الى خدمةِ البِرِّ.
ركَّزَ بولس تركيزاً قويًّا على التحويل. علينا أَن نُحوِّل أَهواءَنا ورغباتنا وشهواتنا وعواطفنا وأَفكارنا وطِباعنا وعاداتنا. علينا أَن نتغيَّر جِذريًّا لننتقل من عالمِ الظلمة الى عالمِ النور، وكلُّ هذا يتطلَّب إِرادةً فولاذيَّة لكي نتغلَّبَ على أَنفسِنا.
الصراعُ يقومُ في داخلي. في ساحَتي الوجدانيَّة تقومُ معركةٌ رهيبةٌ أَقسى من المعارك الأَرضيَّة. أَنا وحدي فارسُها بنعمةِ الرُّوح القُدُس ومعونةِ الأَهلِ والكهَنة. أُحارِبُ نفسي، أُحاربُ أَهوائي، وأُصارِعُ شهَواتي. حربٌ، يقفُ فيها الى جانبي الله وملائكتهُ وقدِّيسوه، ضدَّ أَعدائي الشياطين. إِمَّا أَن أَنتصر، وإِمَّا أَن أَنهزم، وخلاصي بيَدي. أَنا بطلُ المعركة في رضوانِ الله. لا يجب أَن أَنهزم، لا يجوز أَن أُغلَب، بل يجب أَن أَنتصر. تحتدمُ المعركة، وينهزمُ الشيطان لأَنَّ عودَ الصليب غلبَهُ.
إِنتصَرَ المسيح على الشيطان وهزمَهُ الى الأَبد وهو على الصليب، وأَعطاني أَنا ايضاً مجالاً لأَنتصرَ على الشيطان بمعونتهِ كما انتصرَ هوَ. إِنتصرَ لينصُرَني، لا انتصَرَ لأَبقى أَنا مُكبَّلاً، بطَّالاً، كَسلانَ، مائعاً ، متراخياً، فاشلاً، منهزماً، بلا حَيلٍ ولا قوَّةً ولا نَخوَة ولا همَّةً ولا نشاطٍ ولا قُدرة على المصارعة.
الكهنةُ عونٌ لنا في المعركة، ولكن لكَي يكونوا قادتنَا ومعلِّمينا ومُربِّينا، يجب أَن يحظوا على إِعدادٍ علميٍّ وفنيٍّ يليقُ بالمهنة.
القدِّيس غريغوريوس اللَّاهوتي قالَ إِنَّ الإِرشاد اللَّاهوتي هو عِلمُ العلوم وفنُّ الفنون. أَي أَنَّ إِعداد الإِكليريكيِّين علميًّا وفنيًّا هو قاسٍ لكي يكونوا على مستوى مهنةٍ أَقسى من كلِّ المهَن الأَرضيَّة، والواقع يدلُّ على ذلك. هناك اليوم عُلَماء كثيرون في كلِّ الفنون والعلوم، ولكن أَين أَساتذة الفن والعِلم الروحِييَّن؟ كم هم عددُ الروحيِّين اللَّامعينَ في العالم؟ إِذا ضفنا رقمَهم الى رقمِ العُلماء في كلِّ علمٍ وفنٍّ، كانت النسبة ضئيلةً جدًّا جدًّا. كلُّنا يرى هذا الواقع. ما أَندَرَ المرشدين الروحيِّين التامِّين، وما أَندرَ المعلِّمين الدينيِّين اللَّامعين.
العالمُ اليوم يتدهوَر من سيِّءٍ الى أَسوء لأَنَّهُ محتاجٌ الى ملاييِّن الكهنة اللَّامعين. النقصُ الكبير اليوم في المجتمع البشَري، هو النقصُ في الكهَنة الَّذينَ يقودونَ البشر الى ينابيع الخلاص. الفسادُ في العالم كبير، والروحانيُّون الحقيقيُّونَ في العالم نادرون بنسبةٍ كبيرة، والنقصُ الكبير هو نقصُ المرشدينَ الروحيِّين والإِكليريكيِّين اللَّامعين الممتلئينَ من الرُّوحِ القُدُس.
المسأَلةُ ليست براعةً علميَّةً مجرَّدةً، البراعةُ المطلوبة هي براعةٌ روحيَّةٌ. وعالمُ الرُّوح هو عالمُ الباطن لا عالم الخارج والناس كما علَّمَنا باسيليوس الكبير. يسوع في الفصل 23 من إِنجيل متَّى وما يشبِه هذا الفصل في الأَناجيل الأُخرى، ركَّزَ تركيزاً كبيراً على الباطِن، واتَّهم الفرِّيسيِّين بالإِهتمام بالظاهر، فحملَ عليهم حملةً شَعواء بسبب هذا الضلال المبين. بولس وبطرس ركَّزا كثيراً على الباطن.
الباطنُ يتعلَّق بالرُّوح القُدُس، وتحريك الرُّوح القُدُس من قِبَلِ الإِنسان عمليَّة خاصَّة جدًّا. مَن أَنا الحجر، ابن الجحيم، ابن جهنم لكي أُحرِّك الرُّوح القُدُس في باطني؟ كيف أَستطيع أَن أَنتقل من أَفعى الى ملاك بفعلِ الرُّوح القُدُس؟ وهل أَستطيع أَنا الأَفعى أَن أَجذُبَ الرُّوح القُدُس؟ هذا شأنُهُ. عندما يشاء، يحوِّلُني أَنا الأَفعى الى ملاك، ولكن هل أُريدُ أَن أَصيرَ ملاكاً؟
ولذلك فمهمَّة الإِكليريكيِّين هي مهمَّةٌ سماويَّة. أَنا لا أُنكِر أَهميَّة الإِعداد العِلمي والفنِّي، ولكن الأَمر يحتاجُ الى الرُّوح القُدُس. ما كلُّ البشر اسبيريدون العجائبي. اسبيريدون العجائبي شخصٌ استثنائيٌّ، وبولس الرسول شخصٌ استثنائيٌّ، أَمَّا باقي البشر فعليهم أَن يُعِدُّوا أَنفسَهُم إِعداداً حَسَناً. لا أَستطيع أَن أُعوِّل على الأَقدار لكي يصير الكهنةُ ملائكة بالجسد دونَ جهودٍ مضنية جبَّارة عملاقة. لا بدَّ من الجَهدِ الشخصي، ولا بدَّ من خوضِ معركةٍ روحيَّةٍ حاميَة الوطيس.
إِعدادُ الإِكليريكيِّين إِعداداً حَسَناً، مهمَّةٌ رئيسيةٌ في الكنيسة.
++++++++++++++++++++++++++++++
الفصل الرابع
المدارس الإِعداديَّة
اليوم يُدرَّسُ اللَّاهوت في الجامعات بأُسلوبٍ أَكاديميٍّ ليتخرَّجَ الطلَّاب باحثين. ولكن بولس الرسول علَّمَنا أَنَّ المعرفةَ تنفخُ والمحبَّةَ تبني. يوجدُ اليوم لغات أَجنبيَّة، وأُلوف الكتب للبحثِ والتبشير، فهل هي قادرة على أَن تصنع قدِّيساً؟ لا، لأَنَّ المباحث العقليَّة وحدَها لا تصنع قدِّيساً. الَّذي يصنع القدِّيسين هو التربية الرُّوحيَّة، والتربية الرُّوحيَّة فنٌّ خاص.
بعض المعلومات هي ضروريَّة كتدريسِ قواعد الإِيمان. ولكن هناك فارقٌ كبير بين تدريسٍ نظريٍّ، وتدريسٍ عمليٍّ يغرس في القلوب حرارة الإِيمان. يجب أَن يتمَّ إِعداد رجال الدِّين في جميع الميادين التي تعودُ على أَبناء الرعيَّة بالفائدة العُظمى لتقودَهم الى ملكوت السموات.
ولذلك، أَرى ضرورة تغيِّير مناهج التعليم في معاهد اللَّاهوت. يجب أَن ترتبط هذه المعاهد بالأَديرة ليكونَ المرشدون الروحيُّون الكِبار في الأَديرة هم المسؤولونَ عن حياةِ الطلَّاب الرُّوحيَّة، ولكَي يكونَ الأَساتذةُ أنفسهُم مندمجينَ في هذا التيَّارِ نفسه، أَي أَن لا يكونوا أَساتذةً أَكاديميِّينَ فقط، لأَنَّ الأَكاديميَّةُ معرفةٌ لا محبَّةٌ.
بولس الرسول في كورنثوس الأُولى 8 وفي أفسس4 علَّمَنا أَنَّ المحبَّة تتفوَّق على المعرفة بما لا يُقاس، وأَنَّ الله يعرفَ الَّذينَ يُحبُّونَهُ، أَمَّا الَّذينَ لا يُحبُّونَهُ فهو لا يعرفُهُم. في إِنجيل متَّى الفصل 25 في مثَل العذارى، الله يقولُ للعذارى الحمقى: إِنِّي لا أَعرفُكُنَّ. في الآية 23 من متى7 نراهُ يقول لفئةٍ ما لم تعمل بمشيئتِه: أَن لم أَعرِفُكُم قطُّ.
هل هذا صحيح أَنَّ الله لا يعرف كلَّ شيء؟ هو يعرفُ كلَّ شيء، وكلمة “لا أَعرف” هنا، تدُلُّ على أَنَّهُ تبرَّأَ منهم كأَنَّهُ يقولُ لهم “لستُم من خرافي فأَنا لا أَعرفُكُم”. في كورنثوس الأُولى نرى الفارق الكبير بين المواهبِ والمحبَّة. فالموهبة تزول بالوفاة، وأَمَّا المحبَّة فباقيةٌ الى الأَبد. ” المحبَّةُ لا تسقُطُ أَبداً “.
أَنا لستُ ضدَّ التدريس والتضلُّع، ولكن أَنا ضدَّ المعرفة المجرَّدة. آريوس وبولتمان هما باحثانِ كِبار في الكتاب المقدَّس ولكن انتهيا الى الكفر بالثالوث القدُّوس وبالتجسُّد الإِلهي. وأَنا في كتابي “يهوى أَم يسوع؟ ” بالإِيمان، أَقَمتُ الدليلَ القاطع من الكتاب المقدَّس على أُلوهةِ ربِّنا يسوعَ المسيح. بولس في الرسالة الى العبرانيِّين قال في الهالكين:لم تمتزج كلمة الله في قلوبهم بالايمان.
كلمةُ الله لم تمتزج بالإِيمان في قلبِ آريوس وبولتمان وأشباهِهما من الَّذينَ كفَروا وأَلحَدوا. الإِيمان هو الأَساس. الكتاب المقدَّس هو كتابٌ إِلهيٌّ كتَبَهُ الرُّوح القُدُس. حينَ أَتناوَل بيَدي الكتاب المقدَّس، أُقبِّلُهُ وأُعَلِّمُ الناس تقبيلَهُ. هذا كتابُ الله. يُحترَم، يُسجَد أَمامهُ، يُقَبَّل باحترام. نضعهُ في الكنيسة على المائدة الى جانب القربان المقدَّس. أُغوسطينوس وسِواه قالوا إِنَّنا نتناول الإِنجيل كما نتناول القربان. آباءُ الكنيسة، بالإِيمان، قارعوا الكتاب المقدَّس وشرحوهُ شَرحاً إِيمانيًّا، فنقلوا إِلينا إيمانَ الكنيسة الأُولى بالثالوث، بلُغَةِ ربِّنا يسوعَ المسيح، بالتجسُّد الإلهي، بكلِّ ما نؤمن بهِ. نحنُ الَّذينَ أَخذنا عن آبائنا كابراً عن كابر، منذُ عهدِ الرُسُل حتى اليوم، إِيمانَنا الصحيح الَّذي يجب أَن نكونَ دائماً مستعدِّينَ للموتِ في سبيلهِ.
++++++++++++++++++++++++++++++++
الفصل الخامس
الإِعداد الرُّوحي
ذكَرتُ هذا الموضوع في العديدِ من كتُبي. ليس الطفلُ ملاكاً، فالإِنسانُ يميلُ الى الشرِّ منذ حداثتهِ. والطفلُ أَنانيٌّ منغلِقٌ على نفسهِ، مرتبطٌ بالرضاعة وبحواسِّهِ وجسدِهِ، لا تتفتَّح روحهُ إِلَّا مع عنايةِ الأَهل والمجتمع. هو بخيلٌ وغيرُ أَنيسٍ، غضوبٌ، غيورٌ، حسودٌ، جشِعٌ، طمَّاعٌ وتصرُّفاته ما هي إِلَّا اندفاعاتٍ غيرُ عاقلة. التعقُّل ينشأُ بمعونةِ المجتمع شيئاً فشيئاً، والنضوج التام يبقى بعيداً عن المنال. يبقى الإِنسانُ محدوداً مهما تقدَّمَ حضاريًّا وطعَنَ في السنِّ. كلُّ أُمورِ الإِنسان نسبيَّة، فهو في حالةٍ ساقطة وخاطئة لأَنَّ لديهِ أَهواء وشهوات. المجتمعُ يصنعُ منهُ إِنساناً أَنيساً اجتماعيًّا، والكنيسة تصنعُ منهُ كائناً روحيًّا يتعالى فوق الضرورات الجسديَّة والظروف المعيشيَّة والمكانيَّة.
الأُمُّ أَوَّلاً، والأَهلُ ثانياً، هم الَّذين يلعبونَ دوراً كبيراً في تحويلِ الطفل الى كائنٍ اجتماعيٍّ، روحيٍّ، أَخلاقيٍّ بنسبةٍ ما، تختلفُ باختلافَ الزمانِ والمكان والظروفِ المتعدِّدة. الُأمُّ هي الكاهنُ الأَوَّل، والكاهن كان طفلاً مثلَ سواه، أَي أَنَّ عيوبَهُ هي كثيرةٌ ولكنَّهُ نشأَ غالباً في مجتمعٍ لهُ صِفةٌ دينيَّة. ومع ذلك، يحتاجُ الطالبُ الإِكليريكيُّ الى عنايةِ الآباء الروحييِّن الكِبار لكَي يُخلِّصوه من الشوائب. الآباء الرُّوحيُّون المرشِدونَ الكِبار هُم خيرُ المحلِّلين النفسييِّن، يدخلونَ الى أَعماقِ النفس البشريَّة ويُساعدونَ الإِنسان على التحوُّل، على تحويل ذاتِه، على استعمال أَعضائه كأَسلحةٍ للبرِّ لا للإِثم كما جاء عند بولس.
في الإِعتراف والإِرشاد الروحي، تنكشفُ الزوايا الخفيَّة في نفسِ الطالب شيئاً فشيئاً فيتخلَّص من الأَنانيَّة التي هي ضد التجليسات. يسوع علَّمَنا في يوحنا أَن نبذلَ أَنفسَنا كما بذَلَ هو نفسُه. هو الأَوَّل ونحن التابعون. والإِنتصارُ على الأَنانيَّة ليسَ بالأَمرِ السهل، يحتاجُ الى تدريبٍ روحيٍّ، يحتاجُ الى النسكِ والأَصوام والصلوات والقراءات الإِنجيليَّة، ويحتاجُ الى مجاهدةِ النفس والى التدرُّبِ على خِدمةِ الآخرين. يحتاجُ الى التواضع، لأَنَّهُ بدون التواضع لا تزول الأَنانيَّة أَبداً. التواضع فضيلةٌ هامَّةٌ، وهي فضيلةُ يسوع وأُمِّهِ العذراء. يسوع قال: تعلَّموا منِّي، فإِنِّي وضيعٌ ومتواضعُ القلب.
ليس من السهلِ أَبداً تحطيم الأَنانيَّة. وتحطيمُ الأَنانيَّة، يعني تحوُّل الانسان من شيءٍ الى شيءٍ آخر. يعني تحويله من صرَّةٍ مُغلقة الى كائنٍ منفتحٍ على العالم برمَّتِه: على البشر والحيوان والنبات والجماد، ليرى مجدَ الله في البشر، وليُمجِّد الله في كلِّ ذلك. الأَنانيُّ هو إِنسانٌ متكبِّرٌ.
في الإِعتراف يعترفُ الإِنسان بخطاياه فلا يتكبَّر. يندم، يبكي، يتوب، يتأَثَّر، قد يذرُف دموعاً فيشعر بأَنَّهُ مذنبٌ وبأَنَّهُ خاطئٌ. عندما أَعرفُ أَنَّني جحيمٌ من الخطايا، فإِنِّي بذلك أَنحرُ الكبرياءَ في الصميم. أَمَّا إِذا كنتُ منافقا،ً فإِنِّي أَعتبرُ نفسي جحيماً بالكلامِ لا بالأَفعال.
الأَفعالُ هي المهمَّة لا الأَقوال. الشيطانُ أَذكى منَّا في الأَقوال، ونحنُ علينا أَن نكونَ رجالَ أَفعال لا رجالَ أَقوال. في المزمور 50 : ” الذبيحة لله، روحٌ مُنسَحِقٌ. القلب المتَخشِّع المتواضِع لا يرذُلُهُ الله “. هذه هي الذبيحة الحقيقيَّة لدى الله. الإِعترافات والنسكِ، يساعدانِ كثيراً مع الصلاة على تحويلِ الكبرياء الى محبَّة، الى عطاء، الى بَذل، الى الكُفرِ بالذَّات ونكرانها. الآباء الروحيُّون الكِبار هُم الإِختصاصيُّون في مساعدتِنا على ذلك.
والطفلُ غَيورٌ، حَسودٌ منذُ طفولتِهِ الباكرة. كتبتُ في محلَّاتٍ عديدةٍ عن خطَرِ الغَيرة القاتلة لأَنَّ الغَيور هو حَقود. ومَن يستطيع أَن يُحوِّل باكراً الغَيرة؟ الأُم. إِن لم تتحوَّل الغَيرةُ باكراً، بقيَتْ في اللَّاشعور بنسبةٍ ما، وهذه النِسبة تختلفُ من إِنسانٍ الى آخر. فلذلك نجدُ أَنَّ الكاهنُ ضروريٌّ ليُنبِّه الأُمَّهات على العنايةِ بالأَطفال ليتخلَّصوا من الأَنانيَّة والغَيرة.
الإِنسانُ غَضوبٌ، والكاهن يحتاجُ الى الخَلاص من النرفزة والغضب لأَنَّ التعاون مع الرعايا يحتاجُ الى الصبر، ورحابةِ الصدر، والقُدرة على الإِحتمال، والقُدرة على التسامح، والقُدرة على الإِبتسامة وحُسنِ الترحيب والتأهيل والملاطفة. الكاهنُ يحتاجُ الى العطفِ، واللُّطف، والرفق، وحُسنِ الإِستقبال، وحُسنِ الضيافة، والجودِ، والكرَم. الكاهنُ الغَضوب النرفوز غيرُ مشكور فيه في الرعايا لأَنَّ الرعايا تحتاجُ الى حلمِ الكاهن، وطولِ أَناتهِ، ورحابة صبرِهِ. وهذا كلُّهُ يحتاجُ الى تربيةٍ روحيَّةٍ جيِّدة في المنزلِ أَوَّلاً، ومع الآباء الرُّوحيِّينَ ثانياً.
الآباء الرُّوحيُّون هم المؤَهَّلون على تنظيف جَوفِ الطالب الإِكليريكي. الأَب الرُّوحي الكبير يفرض على الطالب الإِكليريكي الصَوم والإِعتدال في كلِّ شيء. فالعيوبُ في العلاقة المسيحيَّة كثيرة نذكرُ منها الكذب، والرِّياء، والنفاق، وتلفيق الأقوال والروايات. كلُّ هذا يحتاجُ الى تدريبٍ روحيٍّ.
في النهاية، الكاهنُ يحتاج الى أَن يكونَ شفَّافاً روحيًّا والى ضبطِ النفس، والمرشد الرُّوحي هو الَّذي يُدرِّبهُ على ضبطِ النفس وعلى الصومِ والصلاة. من الضروري أَن يكونَ الكاهن رجلَ كتمان، لا رجلَ ثرثرة. الأَبُ الرُّوحي يُدرِّب الكاهن على حُسنِ التعامل مع الرعايا بأَمانةٍ، وشرف، ونبل، وإِخلاص، وعدلٍ، وإِنصاف.
في المجتمع توجد ظروف عديدة متعِبة للكاهن، فكيفَ يقف مُنصِفاً بين المتخاصمينَ، وعادلاً بين المتنافسين؟ كيف يكتُمُ الأَخبار؟ كيف يتنازل ويتواضع ويحترم ويصبِر؟ كيف يُكلِّمُ كلَّ مؤمنٍ بما يقودُهُ الى الإِيمانِ والتوبة؟ كيف يعيشُ في تَقوى وإِيمان ليُؤثِّر في الرعايا؟ كيف يكون نموذجاً للرعايا في السلوكِ الشريف الطاهر والواضح؟ كيفَ يكونُ قاهراً لجسدِهُ وشهواتِه ورغباتِه وميولِه وأَهوائه؟ كيف يستطيع أَن يُواجِه الإِضطِّهاداتِ والشتائم؟ كيف يستطيع أَن يكونَ شهيداً حيًّا؟
الإِعتراف الرهباني لدى المرشدين الروحيِّين مع الإِرشاد الرُّوحي، يبقى الوسيلةُ العُظمى للتنقيَة الداخليَّة ولتمكينِ الإِنسان من تحويلِ أَهوائه وطاقاتِه، ومن استعمالِ أَعضائه أَسلحةً للبرِّ. الخطايا هي أَمراضُ النفس، ومَن هو الطبيب؟ الطبيبُ، هُو المرشدون الروحيُّون الكِبار في الأَدمغة. هؤلاء هُم أَطبَّاء الرُّوح. هُم الَّذين أَتقَنوا العِلمَ والفنَّ، فصاروا خُبراء بالنفسِ البشريَّة وبحركات الأَهواء.
يوحنا السلَّمي يسمِّيهُم “أَطبَّاء” ويسمِّي الأَديرة “مشافيَ”. بعد ظهور آباء البريَّة والرهبانات، صار التيَّار الرهباني هو المعلِّمُ المسيحي الأَوَّل، وصارَ الناسُ يلجأونَ الى الأَديرة لنيلِ المعالجة الروحيَّة. في التاريخ القديم والحديث، نعرف أَنَّ الأَديرة هي الَّتي ربَّتنا روحيًّا، وروحانيَّتُنا هي روحانيَّة رهبانيَّة. كان للرهبانيَّة في تاريخِ الكنيسة الدَور الحاسم في التحسُّن الرُّوحي والأَخلاقي. في كلِّ العالم المسيحي، لعِبَت الرهبانيَّات الدَورَ الرئيسي في النجاحِ الرُّوحي. وفي العالم الأُرثوذكسي، يشهد دورُ رهبنات جبل آثوس بالروحانيَّة والتقوى، وخاصةً بالأَديرة في الشرق الأَوسط وفي روسيا ورومانيا واليونان وفرنسا وايطاليا واسبانيا وسوى ذلك من مناطق العالم المسيحي.
الإِكليريكيُّون جميعاً هم بحاجةٍ الى الرهبانيَّة لتقويمِ الإِعوجاجات والترَبِّي تربيةً روحيَّةً سالمةً تؤَهِّلُهُم للتعامل مع الرعايا بعلمٍ وإِيجابيَّة، وذلك للمنفعة الروحيَّة والشخصيَّة ولتحسينِ نوعيَّة البشر في المجتمع. التحسينِات التي يفرضها الإِكليريكيُّونَ على الرعايا، يستفيدُ منها المجتمع فيصير الأَفراد مواطنينَ مسيحيِّين، مواطنينَ صالحين يتعاملونَ بالصِدق والإِستقامة والشَرف والنُبلِ والمحبَّة والوفاء، بدون إلتواءٍ ومنازعات، وبدون سلبٍ ونهبٍ وسرقة واحتيالٍ واختلاسٍ وتزويرٍ وغشٍّ وخداعٍ ومكرٍ ورياءٍ ومواربة وخيانة وغَدر وطعن بالظهر و…
ما الفائدة من كاهنٍ لم يتطهَّر روحيًّا؟ البشرُ عبيدٌ لأَجسادهم، والكهنة يجعَلونَهم عبيداً ليسوعَ المسيح. هذا التحويل يحتاجُ الى أَطباءٍ إِلهِيِّين، والأَطباءُ الإِلهيُّون لا يوجدونَ إِلهيِّين، إِنَّما الكنيسة تصنعُهم. وكيف تصنعُهم؟ بتدريبهم في الأَديرة على يدِ المرشِدينَ الكِبار.
نحتاجُ اليوم الى رهبانٍ أَشِدَّاء ينحرونَ بالرُّوح القُدُس الفساد في العالم ويكونون مناراتٍ للناس. وكما قال الربُّ يسوع: ” أَنتم نور العالم “. عندما تختفي الأَنوار، تختفي الروحانيَّة بنسبةٍ كبيرة. هناكَ فرقٌ كبيرٌ بين الروحانيَّة والسلوك الأَخلاقي العالي. السلوك الأَخلاقي هو عمليَّةُ تطبيقٍ على شيءٍ من مبادئِ الإِنجيل، أَمَّا الروحاني الحقيقي فيكونُ في الصلاةِ والصَوم والشهادة الروحانيَّة.
يوحنا فم الذهب قالَ مرَّةً إِنَّ جميع الكهنة حَسودون. باللُّغة العاميَّة نسمِّي الحسَد عداوة الكار أَو عداوة القلُّوسة، فيقولُ الكهنة: ما من قلُّوسَة تحبُّ قلُّوسة. فإِذاً، الحسَدُ والغَيرة موجودان وهذه المسألة تعالَجُ نسبيًّا عند المرشِدين الرُّوحيِّين الكبار، ولكن أَفضل معالجة تبدأُ في البيت. الأُمُّ أَوَّلاً، والأَبُ والأَهل ثانياً الَّذين يستطيعون تلطيف الغَيرة عند الأَطفال بنسبةٍ جيِّدة. وإِن لم تُعالَج المسألة في الطفولة، كانت معالجتُها في الكِبَر عسيرةً جدًّا. الغَيور الحَسود هو أَنانيٌّ كبيرٌ، عدائيٌّ، غَضوبٌ، وقد يكونُ متعَجرفاً ايضاً. الإِكليريكيُّ المصابُ بها يُصبحُ ثقيل الوطأة، يستثقلهُ الناس.
الأَبُ الرُّوحي يستطيع أَن يُعدِّل أُمور الغَيرة والحَسَد، ولكن من الأَفضل أَن تكونَ العناية قد بدأَت في البيت على يدِ الأَب والأُم بالدرجة الأُولى. يوحنا فم الذهب قاسى الأَمرَّين من غَيرة زملائه. حاكموهُ في قصر السنديانة ونُفيَ ومات في المنفى وهو أَحد أَشهر آباء الكنيسة.
وأَمَّا العُنجهيَّة، والعجرفة، والكبرياء، و”شَوفة الحال”، فهذه كلُّها عيوبٌ لا تليق بالإِكليريكي وتحتاجُ الى معالجةٍ روحيَّةٍ لدى المرشِدينَ الروحيِّينَ الكِبار.
هناك الحسَّاسيَّة ايضاً. الإِكليريكيُّون حسَّاسونَ بنسبةٍ ما وبينهم حسَّاسونَ كِبار. لا يتحمَّلون النقد، لا يتحمَّلونَ الملاحظات، لا يتحمَّلون الطَعَنات لا اللَّفظيَّة ولا الكتابيَّة ولا الفعليَّة، وهم حريصون على التجاذبِ في شَوفة الحال. كلُّ هذه العيوب بحاجةٍ الى معالجة.
تتعرَّضُ الخِدمة الكهنوتيَّة لحروبٍ من الشيطان ومن الرعيَّة، والإِكليريكيُّ الحسَّاس لا يتحمَّل كل ما ينتج عن هذه الحروب. فلذلك يجب إِعادة تربية الإِكليريكي لكي يتخلَّصَ من أَيَّةِ حسَّاسيَّة وشَوفةِ الحال، فيتعوَّد أَن يُواجِهَ الأُمور بالصبرِ الجميل والبشاشة والإِبتسامة. الإِكليريكيُّ بحاجةٍ الى صبرِ أَيُّوب لكَي يكونَ إِكليريكيًّا ناجحاً لأَنَّ في رعيَّتِهِ يتواجد كلُّ نماذج البشر بكلِّ طِباعهم وتلوُّناتهم. ما عليهِ إِلَّا أَن يتحمَّلَهُم جميعاً ببشاشةٍ ورحابةِ صدرٍ واسع وإِلَّا فَشَلَ. الإِكليريكيُّ الفاقدُ الصبر هو إِكليريكيٌّ فاشل.
والمشكلةُ الكُبرى تكمُنُ في الأَساقفة بكلِّ درجاتِهِم، من اُسقفٍ ومطران وبطريرك. فالتطوُّر التاريخي أَحاطَهم بمجدٍ عالميٍّ. هم أَشخاصُ سلطةٍ في الكنيسة، وسلطاتِهم اليوم ليست كسُلطاتِهِم في عهدِ الرُسُل. هناك أُناسٌ يُبالغونَ في إِكرامِ رجال الدِّين وفي السجودِ لهم وفي تقبيلِ أَياديهم. هناك ايضاً أُناسٌ مدَّاحونَ ومبجِّلون. هؤلاء كلُّهم، هم حِرابٌ في روحانيَّة الأَساقفة. هل يجتمعُ الأُسقف والتواضع اليوم؟ يسوع المسيح غسلَ أَرجُلَ التلاميذ وقال إِنَّ هذا قُدوَة ليستعملها التلاميذ، فهل البطاركة والمطارنة والأَساقفة على مستوى هذه القضيَّة؟ هل ينزفونَ دماً على جِراح المجروحين من الشعب الَّذينَ عضَّهم الدهرُ بنابهِ؟ هل يستقبلونَ الفقراء والمرضى كما يستقبلونَ الأَغنياء؟ هل ينظُرون نظرةً واحدةً الى الأَغنياء والمساكين والمجروحين والواقعين؟ التميِّيزُ هدَّام. إِن ميَّزت الأُم أَو الأَب بين الأَولاد، أَوقعا بينهم ودَفَعاهم بدونِ عمدٍ الى الغَيرةِ والكراهيَّة والأَذى والإِنتقام والغضب.
مَن هو الكاهنُ المتواضع الشهيد مثل الخوري حبيب خشِّة؟ مَن هو المطران المتواضع مثل المطران بولس بندلي؟ مَن هو المطران الرحِب الصَدر الَّذي يتحمَّل ما لا يُطاق من الرعيَّة مثل المطران الكسي عبد الكريم؟ الكسي اكتوى بجحيمٍ من السَباب، فهل استفاضَ غيضهُ؟ لا. بل حافظَ على برودةِ دمِهِ بالرغمِ من شتائم لا تُطاق. رافَقتُهُ في طريقِهِ الى الجلجلة. ما نقَصَهُ سوى المسامير وإِكليل الشوك، أَي المسامير الحديديَّة وإِكليل الشوك الحقيقي، ولكنَّهُ لاقى المسامير المعنويَّة وإِكليل الشوك المعنَوي بصورةٍ فاحشة جدًّا. صبرَ صبراً جميلاً، ما رأيتُهُ يوماً يحتدُّ أَو يغضبُ أَو يتلفَّظ بكلمةٍ ما نابيَة. صبَرَ صبرَ أَيُّوب. حرفيًّا، شُرِّحَ معنويًّا تشريحاً فاحشاً زوراً، وتحمَّلَ كلَّ ذلك بدون نرفزة. لم أُبلِّغهُ كلَّ ما سمِعتُهُ.
المطران ألكسي عبد الكريم إِستثنائيٌّ جدًّا في هذا الدهر، ومع ذلك كان وحيدَ دهرهِ وغريبَ عصرِه في خدمةِ الرعيَّة. كانَ العينَ الساهرةَ. كان يستيقظ منذ الفجر ويبقى حتى ساعةٍ متأَخِّرة من الليل صاحياً يعمل ويستقبل كلَّ مَن يدخل. كان بابُ المطرانيَّة مفتوحاً للجميع، وكنَّا نُصابُ بالدَهَش بسببِ العمل والخدمات التي كان يُقدِّمُها. كان يطوفُ المدينةَ كلَّ سنةٍ، يتفقَّد الرعيَّة ويعرف أَحوالها ويخدِمها، وكان دائماً على رأسِ عملهِ. كان يستقبل كل المراجعينَ بانتظام، وكان العين الساهرة ايضاً على المدارس والأَوقاف والكنائس وكل أُمور الرعيَّة. إِنَّهُ المطران النموذجي للرعيَّة. ما قاطعَ أَحداً من شاتميه. رحابةُ صدره كانت مضربُ الأَمثال. وفي النهاية اهتدى اليهِ الجميع، ولكن في أَواخره. ولما مات، أُصيبت حمص بهجومٍ كبير، وشعرَ الناس بأَنَّ الخسارة كبيرةٌ جداً، وبأنَّ الكنيسة خسَرت دعامةً كبيرةً جدًّا. كَم نحنُ بحاجةٍ الى مطارنةٍ من هذا النوع! هكذا فليَكُن البطاركة والمطارنة والأَساقفة والكهَنة وكلُّ عشيرة الكهَنوت.
لدينا اليوم تراثٌ روحيٌّ مهمٌّ جدًّا. في القرن الثامن عشر طبعَ نيقوديموس الآثوسي كتاب الفيلوكاليا، فكان له دويٌّ كبير في العالم الأُرثوذكسي، واليوم هذا الكتاب معروف في كلِّ العالم المسيحي. تُرجمَت الفيلوكاليا الى لغاتٍ عديدة، ولكن تيوفانس الحبيس الروسي المعروف بإِسم تيوفان توبوف ترجمَها من اليونانيَّة الى الروسيَّة بتوسُّعٍ. الأَب ديمتريوس الروماني ترجمَها الى الرومانيَّة بتوسُّعٍ، فبلَغت إِثنَي عشرَ مجلَّداً. الفيلوكاليا كتابٌ روحيٌّ بامتياز.
الى جانب الفيلوكاليا، لدينا كتابات عديدة منها “السُلَّم الى الله” . هذا الكتاب رائع جدًّا وإِن كانَ عسيراً. و”نسكيَّات القدِّيس اسحاق النينوي”. هناك ايضاً كتابٌ ترجمهُ المغبوط إِسحق عطا الله. ترجمَ جزءَين منهُ الى العربيَّة وبقيَ جزءان بعنوان “كيف نَحيا مع الله”. هذا الكتاب هو الآن مُتَرجَم من اليونانيَّة الى الفرنسيَّة في أَربعةِ أَجزاء. هناك ايضاً كتاب أَقوال الآباء الشيوخ وفيه صلوات عديدة، ولكن كتاب ” كيفَ نحيا مع الله ” يجمع الكميَّة الكُبرى من أَقوال الشيوخ فيَزيد عليها، مما جعَلَهُ في أَربعة أَجزاء .
بحسَب الفصل 26 من متى، يسوع يهتمُّ بالباطن فيُصِلحُ الظاهر تِبعاً للباطن. رسَّامو الأَيقونات يُزوِّدونَ يوحنا المعمدان بجناحَين، أَي أَن يوحنا هو ملاكٌ في الجسَد لأَنَّهُ الناسكُ الكبير. ونحنُ نسمِّي أَصحابُ النسكِ ” أَصحاب السيرة الملائكيَّة ” لأَنَّهم في خطِّ يوحنا المعمدان في النِسك. أَمَّا رجال الدِّين المسيحييِّن، فهم يحوِّلونَ الخبزَ والخمرَ الى جسدِ يسوعَ المسيح ودمهِ، ويلِدونَنا في المعموديَّة، ويغفرونَ لنا خطايانا بسلطانٍ إِلهيٍّ. إِذاً، أَمَّا يجب أَن يكونَ هؤلاء الرجال متمتِّعين بشيءٍ من السيرة الملائكيَّة؟ أَما يجب أَن يكونَ إِعدادُهم إِعداداً روحيًّا بالدرجةِ الأُولى؟
المرشدُ الرُّوحيُّ المتين هو ضروريٌّ لِإعداد رجال الدِّين إِعداداً روحيًّا حسَناً، فيتَتلمَذونَ على يدَيهِ ليكونوا أُناساً روحانيِّين يهتمُّونَ بالرُّوحِ أَوَّلاً فيُزيِّنونَ أَنفسَهم بالفضائلِ الروحيَّة والبصلاةِ الناريَّة، وبالأَصوام والأَسهار.
لا يُمكنُنا أَن ننكر وجود أَساقفة متوتِّرين وكهنةٌ متوَتِّرين. هؤلاء، عليهم أَن يسلُكوا سلوكاً رهبانيًّا. أَما نُسَمِّي المطرانيَّةَ قلَّايةً؟ والقلَّايَة هي قلَّايةُ الراهب. هذا لا يعني أَنَّ الكهنَة المتزوِّجين، والشمامسة المتزوِّجين، هم في إِعفاءٍ من النُسكِ والتبتُّل الرُّوحي. الخوريَّات والشمَّاسات هنَّ مُطالبات أَيضاً بسيرةٍ صالحةٍ.
التطهُّر يستمرُّ ما دامَ الإِنسانُ حيًّا. في الحياة الروحيَّة، التقدُّم والتَرقِّي هما مستمرَّان حتى النفَسِ الأَخير. وإِن توقَّفَ الإِنسانُ عن ذلك، وقعَ في الإِهمالِ والفتور والميوعة والتلاشي المتواصل. في الحياة الروحيَّة، الحربُ تكونُ مستمرَّةٌ حتى النفَس الأَخير. الإِنسانُ الرُّوحيُّ هو محارِبٌ في حَربٍ لا تتوقَّف إِلَّا في لحظةِ الوفاة. وبعد الموت يبقى نشيطاً باستمرار الى أَبدِ الآبدين لينموَ في المحبَّةِ الى الملء. ولكن هل يصِل الى الملء؟ وهل نَصِل الى محبَّةٍ غير محدودة؟ هذا عملٌ يستمرٌّ الى أَبدِ الآبدين بدون توقُّف. لا شكَّ أَنَّ الهموم الجسديَّة والدنيويَّة تشلُّ نشاطنا الرُّوحي بنسبةٍ كبيرةٍ أَحياناً، وما علينا إِلَّا أَن نقمَعَ دوماً الجسد. وكما قال بولس: أَن نصلبَ الجسد وأَهواءَهُ وشهواتهِ فيصير الجسدُ نفسهُ روحانيًّا، وتصيِّيرهُ روحانيًّا يتطلَّب جهوداً مضنيَة.
المجاهدونَ الروحيُّون محاطونَ بأخطارٍ عديدةٍ من الشياطين، من العالمِ ومن أَجسادهم. ولذلك فهم يحتاجونَ الى قوَّةٍ معنويَّةٍ روحيَّةٍ كبيرة جدًّا، وإلى إِرادةٍ فولاذيَّةٍ لا تكُلُّ ولا تملُّ.
الإِعدادُ الرُّوحي هو الأَصلُ في المسيحيَّة، والباقي توابع. يَصلُحُ الباطن فيلتحِمُ بهِ الظاهرُ. ولكنَّ الإِنسان هو عبدٌ للظواهر. إِنقاذُهُ من الظواهر وتحويلهُ الى إِنسانٍ باطنيٍّ روحيًّا، يحتاجُ الى جهودٍ عملاقة. فهل الإِنسانُ مستعدٌّ لهذه الجهود؟ أَما تخوضُ الصعوبات اليوميَّة دونَ هذا الترقِّي؟ أَما يفرضُ علينا المجتمع التساهُل والتراخي؟ أَما يعيبُ الناس على الإِكليريكي المتشدِّد تشددَّهُ؟ أَما ينصحونهُ بالتساهل والتراخي؟
الإِكليريكيُّ مُحاطٌ بأَصنافٍ عديدةٍ من التجارب للإِرتخاء والميوعة، فكيف يُقارنُ ذلك؟ يُقارِنُ ذلك بالجهادِ الرُّوحي المرير، وبالُّلجوءِ الى مرشدِهِ الرُّوحي الرهباني لحلِّ أَزماتِهِ الداخليَّة. الأَديرة التقليديَّة هي خيرُ مِعوانٍ للإِنسانِ في حلِّ متاعبِهِ الروحيَّة. في العالمِ الأُرثوذكسي، الأَديرة هي مراكزُ نشاطٍ روحيٍّ تَقَوِيٍّ، والزائرونَ للأَديرة هم غالباً متخشِّعون. مبدئيًّا، الأَبُ الرُّوحي هو ضروريٌّ لكلِّ مؤمنٍ وإِن كان إِكليريكيًّا. في رسائلِ القدِّيسَين يوحنا وبرسانوفيوس من بريَّةِ غزَّة، هناك استشارات طلبَها الأَساقفة، أَي أَنَّ الأَساقفة كانوا يستشيرونهما في أُمورهِم.
الأَساقفة والكهنَة هُم أَكثر من سواهم بحاجةٍ الى المرشدينَ الروحيِّين لأَنَّهم في إِدارتهِم شؤُون الرعايا يتعرَّضونَ لصعوباتٍ كثيرة، ويُستنزَفونَ أَحياناً. ولذلك فالُّلجوء الى الدير يُجَدِّد قِواهم المنهوكة.
كان الشهيد الخوري حبيب خشِّة يلجأ الى دير القدِّيسة تقلا في معلولا للصلاةِ حين التعب فيُجدِّد قِواه الرُّوحيَّة هناك. وكان الشهيد البطريرك الياس الرابع معوَّض يذهب الى دير صيدنايا للصلاةِ ولتجديدِ الرُّوح. وجبل آثوس يتمتَّع بأهميَّةٍ روحيَّةٍ ولاهوتيَّة كبيرة في العالم الأُرثوذكسي كلِّه.
خلاصةُ الخلاصات، هي أَنَّ الإِعداد الرُّوحي للإِكليركيِّين يجب أَن يحتلَّ المكانة الأُولى في حياةِ الكنيسة. في كلِّ المهَن، يطلبُ الناس الكفاءات ومهنة الكاهن هي أَعظمُ مِهنة. فلماذا لا نطلب في الكهنَة ملءَ الكفاءات؟ ولماذا لا نُعِدُّهم أَفضلَ الإِعداد؟ ولماذا لا نُضَحِّي بالرخيصِ والنفيس في سبيلِ إِعدادِهم أَفضلَ إِعداد؟ الإِنسانُ يهتمُّ بوجههِ ورأسِهِ أَوَّلاً، والإِكليريكيُّون هُم وجهُنا. يجب أَن نهتمَّ بهم كثيراً ليكونوا في مستوىً عالٍ من الَّلمعان الرُّوحي، وليكونوا ممتلئينَ من الرُّوحِ القُدُس والإِيمان.
كلُّ إِكليريكيٍّ يحتاجُ من الإِمتلاءِ من الرُّوح القُدُس، والحِكمة، والإِيمان، والغَيرة الدينيَّة. وكيف يمتلىء من الرُّوحِ القُدُس بدونِ التطهُّر الداخلي المتواصل؟
اليوم، الإِختصاصُ العِلمي هو واسعُ الإِنتشار. يقضي العالِم عمرَهُ في الكدِّ والجدِّ والدراسة والتجارب والأَبحاث. والحياةُ الروحيَّة أَهَمُّ من الحياة العِلميَّة والدنيويَّة بما لا يُقاس. فلماذا لا نُعِدُّ الإِكليريكيِّين بهذه الصورة، ليكونوا جبابرةً في الفَهمِ الرُّوحي والجِهاد الرُّوحي؟ ولماذا لا يتجنَّدُ الأَذكياء الموهوبونَ للعمل الرُّوحي؟ نرى الناسَ مُلتهبينَ بالبروزِ الثقافي والعِلمي والإِجتماعي المتنوِّع، فلماذا لا يلتهبُ بعضهُم للعملِ الرُّوحي؟ إِنَّ قِوى الشرِّ تلعبُ دوراً خبيثاً في صرفِ الناسِ عن الإِهتمامات الرُّوحيَّة. ولذلك جاءَ في سفر التكوين أَنَّ الإِنسانَ يميلُ الى الشرِّ منذ حداثتهِ. الأَهلُ يهتمُّونَ اليوم بتعليمِ الأَطفال والأَولاد وتأهيلِهِم علميًّا، ولكن هل يهتمُّونَ بحياةِ أَولادهم الرُّوحيَّة؟ يسوع قالَ، إِن جاءَ فهل يجِدُ الإِيمان على الأَرض؟ الإِيمانُ حبَّةُ خردل، والإِيمانُ حرارةٌ لا فُتور. في الرسالةِ الى العبرانيِّين: الإِيمانُ طاقةٌ كُبرى. الإِيمانُ يحرِّكُ الإِنسان روحيًّا لتحقيقِ المعجزات روحيًّا ودُنيويًّا.
لا شكَّ أَنَّ الرُّوحَ القُدُس يلعبُ دوراً قاطعاً في هذه الحرارة ولكن التربية تلعبُ دوراً هامًّا في ذلك. ولذلك، فتربية الأَطفال مع الكهَنة روحيًّا أَضحى حاجةً ماسَّةً اليوم. الأَولادُ مندمجونَ في الحياةِ الدراسيَّة اليوم وهم يتطوِّرونَ عقليًّا وثقافيًّا، فلماذا لا نواكبُهم، فنطوِّرَهُم روحيًّا لئلَّا ينتفخوا بالعلمِ والثقافة فيخسَروا الإِيمان أَو على الأَقل حرارة الإِيمان؟ المعجزات الملقاة على كاهلِ الكنيسة هي اليوم كبيرةٌ جدًّا أَكثر من الماضي. العالمُ اليوم بحاجةٍ الى الكنيسة أَكثرَ من أَيِّ يومٍ مضى لأَنَّ هذا العالم لا يسيرُ اليوم نحوَ الله. الهمومُ العالميَّة تحتلُّ الصدارة على حِساب الإِيمان المسيحي الحار. الفُتور الديني مستشرٍ والسطحيَّة قائمةٌ، فهل تقِفُ الكنيسةُ مكتوفةُ الأَيدي؟ أَليسَ عليها أَن تُضاعِف جهودَها لتوقِفَ تدهوُر العالم نحو الجحيم؟ هل هناكَ مَن يسمَع هذه الصرخة ليتخلَّص العالم من التمثيلِ والظواهر وليَرتمي في حضنِ الرُّوح القُدُس؟ المثَل العامِّي قال: العين بصيرة واليد قصيرة.
يجب التخلُّص من هذا التناقض وأَن تكونَ اليدُ قويَّة والبصيرةُ حادَّةٌ. يجب أَن نكونَ قوَّالينَ وفعَّالين لا مِثل الفرِّيسيِّين الَّذين كانوا قوَّالين وغير فعَّالين.
++++++++++++++++++++++++
الفصل السادس
الإِعداد العقائدي
في الكَون، الخليَّةُ الحيَّة معقَّدةٌ جدًّا أَكثر من كلِّ العالم المادِّي لأَنَّها أَهمُّ من المادَّة بما لا يُقاس. والإِنسانُ معقَّدٌ في تركيبِه أَكثر من الحيوان والنبات لأَنَّهُ كائنٌ روحيٌّ في روحٍ وجسد. والمسيحيَّةُ معقّدةٌ جدًّا. اليهوديَّة هي بالنسبةِ الى المسيحيَّة مبسَّطة لأَنَّها تقومُ على الإِيمان بالإِلهِ الواحد خالق السموات والأَرض. أَمَّا المسيحيَّة فهي تختلف عن اليهوديَّة. تؤمنُ بأَنَّ الله ثالوثٌ، وبأَنَّ أَحدُ أَقانيمِ هذا الثالوث تجسَّدَ وصارَ إِنساناً واعتلى الصليبَ وماتَ ودُفِنَ وقامَ وصعِدَ الى السماء، وأَرسَلَ الرُّوحَ القُدُس لكي يَحيا الإِنسان على الأَرض حياةً ملائكيَّةً على رجاءِ القيامة والحياةُ الأَبدية في عالمٍ آخر نورانيٍّ يعيشُ فيهِ بسعادةٍ مُطلَقة الى أَبد الآبدين.
هذا الإِيمانُ يحتاجُ الى شيءٍ من الإِستيعاب كإِيمان، كمحبَّة، وكَرجاء. يؤمنُ المسيحي بإِلهٍ واحدٍ بثلاثة أَقانيم. كيفَ هو واحدٌ، وكيفَ هوَ ثلاثة ؟
المسيحيَّةُ أَتَت بالتثليث. مَن لا يؤمن بالتثليث لا يكونُ مسيحيًّا. كيفَ يتقبَّل العقل هذا الإِيمان بالواحد والثلاثة، وكيف يتقبَّل العقل أَن يصيرَ الإِلهُ إِنساناً ويُصلَب، ويموت، ويقوم؟ وكيفَ يتقبَّلُ العقل أَنَّ الجسد يُدفَنُ في قبرٍ، بينما تصعدُ الرُّوح الى خالقِها لتعيشَ في مجدٍ أَبديٍّ بعد أَن عاشَت على الأَرض في الفضائل وأَهمُّها المحبَّة، وبعد أَن خلعَت الإِنسانَ العتيق ولبِسَت الجديد؟ كيف يصيرُ الإِلهُ خُبزاً وخمراً ليُدفَعَ الى المؤمنين طعاماً وشراباً لتقديسِهم وخلاصِهم ونَيلهِم الحياة الأَبديَّة؟
كلُّ هذا يحتاجُ الى دِراسةٍ بإِمعانٍ وفَهمِ على ضوءِ تقليدِ الكنيسة مع قُدرةٍ على الجواب للَّذينَ يسأَلونَنا عن إِيمانِنا كما قالَ بطرس الرسول. أَي، لا يقتصرُ الأَمر على المعرفة بل يتطلَّب القُدرة على شرحِ هذه العقيدة التي تتطلَّب منَّا شرحاً. يجب أَن نكونَ دائماً على أَهبَة الإِستعداد للجواب على الأَسئلة التي تُطرَح علينا فيما يتعلَّق بإيمانِنا. هذا الإِيمان ليس نظريًّا بل هو حياتيٌّ لأَنَّنا نلبَس المسيح، ونأكل المسيح، ونشرب المسيح، ونحيا بالمسيح. وإِذ نحيا بالمسيح، نحيا بالآبِ والإِبنِ والرُّوح القُدُس في الحياة الإِلهيَّة كما تقولُ رسالة أَفسس. نحنُ لم نعُد بشَراً عاديِّين، صِرنا مواطنينَ سماويِّين، صِرنا والملائكة رعيَّةً واحدةً كما علَّمَنا بولس في أَفسس وكولوسي. علَّمنا بولس أَنَّنا نولَدُ مع المسيح، ونُصلَبُ مع المسيح، ونموتُ مع المسيح، ونقومُ مع المسيح، ونصعَدُ الى السماء مع المسيح ونجلسُ عن يمينِ الله الآب في المسيح. كلُّ هذا يتطلَّبُ معرفةً واعيَةً، وإِيماناً واعياً. الرُسُل علَّمونا شفويًّا وبعضُهم كتَبَ العهدَ الجديد. هذا الإِيمان عاشَ على أَيادي الرُسُل أَوَّلاً، ثمَّ على أَيادي خُلفائهم من المؤمنينَ من إِكليريكيِّينَ وعلمانيِّين.
هذا الإِيمان حفِظَتهُ الكنيسة منذُ عهدِ الرُسُل وحتى اليوم. ظهرت في الكنيسة هرطقات عديدة، ولكنَّ الكنيسة حدَّدَت إِيمانَها في المجامع السبعة المسكوني
الفصل العاشر
الإِعداد التاريخي
تاريخُ الكنيسة اليوم يحتاجُ الى مؤرِّخينَ كِبار، الى رجال صناديد، لكي يجمَعوا كلَّ الكتب ويستخرجوا منها تاريخ الكنيسة الَّذي، إِن كُتِبَ بتمامِهِ اليوم يستغرق عشرات المجلدَّات. لكن، ويا للأَسف، ليست لدينا كلِّ المعلومات الوافية. من المهمِّ جدًّا أَن نؤرِّخ للشعب المؤمن ولكن التوسُّع في التاريخ يستغرقُ العمر.
تاريخُ الكنيسة مرتبطٌ بالدولة البيزنطيَّة والدُوَل الأُوروبيَّة. في روسيا، التاريخُ هو واحدٌ. في فرنسا، قبل الثورة الفرنسيَّة كان التاريخ متشابك كثيراً. في روما كذلك، التاريخُ مُتشابِكٌ، وهكذا دواليك. فالتاريخُ يختلفُ من بلدٍ الى آخر، وموضوع التاريخ الكَنَسي مادَّةٌ تحتاج الى الإِختصاصيِّين. في روسيا، هناكَ معهدُ بيزنطولوجيا في موسكو، وفروعه موجودة في كلِّ الجامعات الروسيَّة. هذا المعهد هو أَكبرُ معهدٍ مختص بكل ما هو بيزنطي في التاريخ والعالم. تُعطَى في المعهد فقط نبذة عن تاريخ الكنيسة وعن تاريخ المجامع المسكونيَّة وأَعمالِها إِذ لا يُمكننا أَن نُحوِّل معهد اللَّاهوت الى معهدِ تاريخ.
الفصل الحادي عشر
الإِعداد الفلسفي
آباءُ الكنيسة صلبوا الفلسفة اليونانيَّة لأَنَّ فلسفتَنا كما قال كثيرونَ منهم هي نمطُ حياتِنا المسيحي. ونَمطُ حياتنا المسيحي هو الحياةُ في المسيح. ولكن بعض المعلومات عن الفلسفة اليونانيَّة القديمة لا يُضرُّ كثيراً، فنحنُ نُبقي الحدودُ الفاصِلة قائمة مع التميِّيز دائماً بين الفِكر المسيحي والتخلُّص من الفِكر اليوناني الوَثَني. طبعاً، مَن شاءَ الإِختصاص دخلَ في مقارناتٍ واسعة بين آباءِ الكنيسة وأَفلاطون وأَرسطو والفلسفات المعاصرة التي لا تخلو من التفاهات وبخاصَّةً الأَنتروبولوجيا أَي عِلم الإِنسان. الفلسفات المعاصِرة فصَلت الرُّوح عن الجسد، فانتهينا معها الى العلوم الماديَّة، والفلسفة الماديَّة، والكُفر والإِلحاد، الَّذَين سادا فترةً من الزمن وبخاصَّةً في أُوروبا الشرقيَّة، حتى جاءَ اللهُ يُمزِّقهما.
بعد أَن سَقَطَ الرأس، يجب أَن يسقُطَ الجسمُ كلَّهُ. الدماغ المفكِّر المادِّي الملحِد سقطَ، يبقى أن تسقُط الأَجناب، وستَسقط إن كانت الكنيسة على مستوى القضيَّة في التبشيرِ والتعليم ودحرِ الهرطقات والإِلحاد والكُفر والسموم الشيطانيَّة.
في التريودي، في أَحد الأَيقونات، أَي الأَحد الأَوَّل من الصَوم، جاءَ ما مفادُه أَنَّنا أَخَذنا من اللُّغة اليونانيَّة الآداب ولم نأخُذ الفِكر. أَي إِنَّ آباءُ الكنيسة تأَدَّبوا بالآدابِ اليونانيَّة ولكنَّهم لم يأخذوا الفكرَ اليوناني الوَثَني المريض. لغَّتُهُم كانت يونانيَّة، وثقافتهُم كانت يونانيَّة كلُغةٍ أَدبيَّة.
في اليونانيَّة القديمة، كان هناك تيَّارٌ أَدبيٌّ رفيعٌ أَثَّرَ في الآدابِ المسيحيَّة ولكن الأُدباء المسيحيُّون صلَبوا الفِكر اليوناني الوَثَني وأَبقوا على الُّلغة الأَدبيَّة. مثلاً، Plotin كان كاتبٌ كبيرٌ أَثَّرَ حتى في العصر الحديث على الفيلسوف الفرنسي الكبير .Henri Berkson (1859-1941)الفرقُ كبيرٌ بين أَثينا التي كانت مزروعةٌ بالأَصنام أَيَّام بولس الرسول، وبين أَثينا اليومَ المزروعة بالكنائس وعلى قِبَبِها الصلبان والأَجراس الَّتي تُنادي الناس الى الصلاة. نجاح المسيحيَّة كان كبيراً، أَي في رسم الصليب في قلبِ الأَصنام التي كانت تملأ شوارع أَثينا ومعابِدَها. كيفَما تحرَّكَ الإِنسانُ اليوم في بلاد اليونان يجد الكنائس والمعابد والمقامات والآثار الدينيَّة، وهذا أَكبُر دليل على جبَروت المسيحيَّة وعلى وهنِ الوثنيَّة وأَصنامِها. ما كانَ من السهلِ الإِنتصار على الوثنيَّة، ولكن الصليب غلبَهُا وستبقى مغلوبة الى يوم القيامة. لذا، فالصليبُ في الجلجلة والكنائسُ في أَثينا هو رمزُ المسيحيَّة. صارَ ناموس موسى عتيقاً كما في الفصل الثامن من الرسالة الى العبرانيِّين.
المجدُ ليسوعَ المسيح الَّذي خَبَطَ بصليبِه الناموسِ الموسَوي وأَفنى فلسفة أَفلاطون. المجدُ لله، السُبحُ لله الَّذي نَصَرَنا على ناموسِ موسى وعلى فلسفة اليونان ليُقيمَ لنا الفلسفة الجديدة أَي الحياة في المسيح، وبالمسيح، ومع المسيح، ومن أَجلِ المسيح، ولأَجلِ المسيح، لهُ المجد والإِكرام والسجود الى أَبد الآبدين ودهر الداهرين آمين.
الفصل الثاني عشر
الرعاية
الإِكليريكيُّونَ هُم رُعاة، ولكن هل يجب تعليمهم فنِّ الرعاية؟ هذا العلمُ وهذا الفنُّ يتطلَّبان معرفةً للنفسِ البشريَّة والشؤون الإِجتماعيَّة، والى حدٍّ ما الإِقتصاديَّة، وأَحياناً السياسيَّة.
عِلم النفسِ الرُّوحي هي غيرُ علمُ النفسِ العام. عِلمُ النفسِ العام وسَطي، وبفضل التحليل النفسي تمَّ تطعيم عِلم النفسِ العام بمعطياتٍ تحليليَّة. التحليل النفسي يُحلِّل النفس بتطبيبِ أَمراضِها ولا سيَّما أَمراضِها النفسيَّة، ولكن هناكَ أَمراضاً كبيرة جدًّا وهي الأَمراض الروحيَّة أَي الخطايا.
كتاب La vie spirituelle لجان كلود لارشيه لمعالجة الأَمراض الرُّوحيَّة thérapeutique des maladie spirituelles مفيدٌ جدًّا. كتابُ “السُلَّم الى الله” رائعٌ، إِنَّما يحتاجُ الى شرحٍ مطوَّل ينظِّمُ موادَّهُ المبعثَرة لأَبوابٍ متكامِلة ومنهجيَّة. هناك كتبٌ في الأَخلاق وفي الفضائل من الوُجهة الفلسفيَّة.
الموضوعُ هنا يختلف. موضوعُنا يهتمُّ بالفضائل الرُّوحيَّة وبتطبيبِ النفس المريضة روحيًّا من الخطايا والآثام، والمصابة بعيوبٍ كثيرة تُعرقِلُ المسيرة الرُّوحيَّة. المهمُّ في المعالجة الروحيَّة هو تحويلُ الأَهواء الى فضائل. فلذلك الرعايةُ، هي في الدرجة الأُولى رعايةٌ روحيَّة لمساعدة النفوس على الخلاص من الخطايا، ولإِدخال الفضائل، وللعيشِ لله بإيمانٍ ناريٍّ، وبمحبَّةٍ مكتويَة بالرُّوح القُدُس، وبرجاءٍ مُلتهِبٍ بقلوبٍ متَّقِدة.
بولس في الفصل 13 من كورنثوس الأُولى علَّمَنا التمسُّكَ بالإِيمانِ والمحبَّة والرجاء، وبخاصَّةً المحبَّة. يعقوب الرسول علَّمَنا أَنَّ الإِيمان بدون الأَعمال مائت. وبولس علَّمَنا ايضاً في غلاطية أَنَّ الإِيمان يعمل بالمحبَّة.
يحتاجُ المسيحيُّون الى إيمانٍ من جمرِ نار، والى محبَّةٍ متَّقدةٍ كالأَتون، والى رجاءٍ متوقِّدٍ كالشمس. بهذه الثلاث يطيرُ المسيحيُّ الى الله. لا يكفي أَن يرجو الإِنسان ويُحِب. هذا الكلام الفاتر لا يُجدي نَفعاً حقيقيًّا، هو أَفضل من العَدَم من جهة ولكنَّهُ أَخطر من العَدَم.
الإِنجيل علَّمَنا أَن مصيرَ كفرناحوم وبيتَ صيدا وكورَزين هو أَخطر من المدن الوثنيَّة، وحتى سَدوم وعَمورة لأَنَّهنَّ سمِعنَ بشارة الإِنجيل ورفَضنَهُ. فلذلك، إِيمانُنا المسيحي ورجاؤنا المسيحي، هما سببٌ في دينونةٍ قاسيةٍ علينا إِن أَهمَلنا المحبَّة والفضائلَ جميعاً.
في إِنجيل لوقا الفصل 12 : من يعلَم كثيراً يُضرَب كثيراً إِن أَهملَ، ومَن يعلَم قليلاً يُضرَب قليلاً إِن أَهمَل. دينونةُ المسيحيِّين هي أَخطرُ من دينونة الوثنيِّين، وعقابُهم سيكون أَشدَّ. لا يمكن أَن يشِعُّ فينا إِيمانُنا ورجاؤنا إِن كانت أَعمالُنا رديئة. بولس في الآية 16 من الفصل الأَوَّل من تيطُس طرحَ موضوع الكُفر العمَلي. خطرٌ عليَّ أَن أُؤمن نظريًّا وأَن أُهمِل عمليًّا. الفصل11 من إِنجيل متَّى وسواه واضح تماماً: يفضَّل الوثنيِّين على المؤمنين الأَرفاض.
يحتاجُ الإِكليريكيُّون الى معرفةِ باطن الإِنسان، والى التدرُّب على توجيه المعترفين في مكافحة خطاياهم. الإِكليريكيُّون يُعالجونَ المرضى الروحييِّن المعترِفين، فهل يجوز أَن يكونَ الإِكليريكي طبيباً جاهلاً؟ الطبيبُ الجاهل يُحجَرُ عليهِ. يسوع قال للسامري: أَنا أَعرف أَنَّكم تقولون لي أَيُّها الطبيب طبِّب نفسَك. فقبلَ أَن يُطبِّب الإِكليريكي الآخرين، يجب أَن يُطبِّب نفسَهُ لدى المرشدينَ الرُّوحيِّين في الأَديرة. الطبيبُ الجاهل مضرٌّ جدًّا.
إِذاً، الكاهن هو طبيبُ الرُّوح. والطبُّ علمٌ وفنٌّ: علمٌ يحتاجُ الى دراسةٍ، وفنٌّ يحتاجُ الى الممارسة. في هذا الزمان الَّذي كَثُرَ فيه الجامعيُّون، يحتاج الكاهن الى فَهمٍ عميقٍ لنفسيَّة الجامعيِّين. فهُمْ لدَيهم مشاكلَ عديدة، وبسبب المنافسة في الدراسة تتعقَّد النفوسُ بنسبةٍ ما وتحتاج الى طبيبٍ خبيرٍ عليم. إِذا لم نكن على مستوى العصر، أَهمَلَنا التاريخ ورمانا في غُرَفٍ مُظلِمة، وعجزنا عن قيادةِ الأَجيال الصاعدة. فلذلك يحتاجُ الكاهن الى فَهم الرُّوح العميق.
الكاهن يهتمُّ بالشعب. هو يحتاجُ الى فهمِ النفس الإِجتماعي Psychologie des foules أَي بسيكولوجيَّة الجماهير. مبدئيًّا، للكاهن سلطة روحيَّة على الرعيَّة. لهُ الحقُّ في رعايةِ شؤونِها والإِنتباه على أُمورِها وتوجيهها. من الضروري أَن يُراجعَهُ الشعب في أُمورهِ وبخاصَّةٍ في الخلافات الزوجيَّة، وخلافات الأَولاد مع الآباء والامَّهات. دَورُ الكاهن الفهيم هنا مهمٌّ جدًّا. الشعبُ التقيُّ يطيعُ الكاهن أَكثر من طاعتهِ لوالدَيهِ. بدون الطاعة تُصبِحُ الرِعايَة سطحيَّة.
فلا بدَّ إِذاً من طاعة الرعيَّة للراعي في الأُمورِ الدينيَّة وفي الأُمور المتعلِّقة بالضمير والسلوك والحياة والعلاقات الإِجتماعية وحتى أَحياناً الإِقتصاديَّة. ينصحُ الكاهن المعتدلينَ ماديًّا بالإِعتدال، والعَدل، والإِنصاف، والمسالمة، والمصالحة. والكاهنُ مبدئيًّا هو المرجع الصالح في فصلِ الخِلافات بين المؤمنين. فإِن كانت لديهِ كفاءةٌ كان الأَفضلُ في حلِّها، وهذا أَفضلُ من مراجعة القضاء ومن الإِستمرار سنينَ عديدة في الخصومات.
في الفصل 18 من متَّى: إِن خطىءَ إِليكَ أَخوكَ فعاتِبهُ وإِلَّا فخُذ معكَ شاهدَين او ثلاثة، وإِلَّا فاشكو أَمرَهُ للكنيسة. إِن لم يسمع من الكنيسة فلَيكُن عندَكَ كوثنيٍّ وعشَّار. هذا السلطان الإِلهي الكنَسي الكبير مهمٌّ جدًّا، وهذا يعني أَنَّ حُكم الكنيسة هو حكمٌ يتمتَّع بقوَّةٍ إلِهيَّة هائلة، فلذلك إِطاعة الكاهن هي مهمَّة. طبعاً الطاعة في الرب، فالربُّ حاضرٌ في كلِّ أَعمالِنا وتصرُّفاتنا.
الكاهنُ معلِّمٌ يَعِظُ ويعَلِّم الشعب عقائدَ الإِيمان وأُصول التصرُّف في الحياة. يعلِّمُهُ الأَخلاق الفاضلة فينصحَهُ ويردَعَهُ. في رسالة أَفسس، يوَبِّخ وينصح بالأَعمال المثمِرة لأَنَّ كلَّ ما يأتي من النور يُصبِح نورٌ. تأثيرُ الكنيسة على النفوس كبير، ولكن على الكاهن أَن يكون ذا كفاءَة كبيرة لممارسة هذا السلطان الإِلهي. اللهُ غمرَ رجالَ الدِّين بالرُّوح القُدُس، ولذلك فهؤلاء الأَشخاص لهم سلطة إِلهيَّة يجب احترامُها.
ولكن إِن انحرفَ رجال الدِّين، كان لنا الحقُّ في توقيفِهم. في كورنثوس رأينا الشعب يلتفُّ حول بولس لمعاقبةِ الرجل الَّذي خطئَ. ولما تابَ، نصَحهُم بالتودِّدِ إِليه ومحبَّته لئلَّا يبتلعهُ الغمُّ. بولس الرسول في كورنثوس قال للكورنثيِّين إِنَّهُ هو أَبوهم الرُّوحي الَّذي ولدَهُم في الإِنجيل. الإِكليريكيُّون يُعمِّدوننا باسمِ الثالوث القدُّوس. علاقتُنا بهم علاقةٌ كبيرةٌ جدًّا. يمسحوننا بالميرون ويُناولونَنا جسدَ ودمَ الرب، فهل يستطيع إِنسانٌ عاديٌّ أَن يناولَني جسَد ودمَ الرب؟ الَّذينَ يُناولونَنا جسَد ودَم الرب، هُم آباؤنا الحقيقيُّون، هم آباءُ الرُّوح، والرُّوحُ أَهمُّ من الجسد.
الكاهنُ يعمِّدُنا ويدهننا بالميرون، ويناولُنا، ويُعرِّفُنا، ويغفر خطايانا، وإِن مُتنا جَنَّزَنا. والمؤمنُ الحقيقيُّ يتناول القربان المقدَّس كلَّما أُقيمَ القدَّاس. الكاهنُ يسيرُ معنا منذُ الولادة حتى الممات، وبعد الممات يُقيم القداديس عن أَرواحِنا. هو أَبونا الرُّوحي ورعايةُ النفوس عسيرة لأّنَّ كلّ إِنسانٍ في الدنيا عالمٌ بذاتهِ ومعقَّدٌ ولكلِّ إِنسانٍ أَحواله الخاصَّة بهِ.
الكاهنُ يحمِلُ أَسقامَنا وهو مسؤولٌ عنَّا. كيف يستطيع أَن يتفاهم معَ كلِّ واحدٍ منَّا ويوجِّهُهُ نحوَ الله توجيهاً ناجحاً؟ العمليَّةُ شاقَّةٌ جدًّا. يمكن للكاهن أَن يصطدمَ بالشعب، فالغَيرة موجودةٌ. يغارُ المؤمنونَ فيتَّهمون الكاهن بالإِنحياز. هناك أُناسٌ يغارونَ على بيتِ الله وعلى الكنيسة، فيُظهرونَ غَيرة وحميَّة وحماسة، فيتَّهمِون الكاهن بالإِنحياز الى هؤلاء الغَيورين. هناك أُناسٌ يتدلَّلون على الكهَنة كما يتدلَّلون على والديهم، لأَنَّهُ أَبونا.
يجب أَن يكونَ الكاهنُ يَقَظاً لئلَّا يتمادى هؤلاء فيُثيروا الغَيرة عند الآخرين. ما كلُّ الناس ميَّالونَ الى التدلُّل. هناكَ أُناسٌ يحترمونَ الكاهن بتحفُّظٍ كبير وانضباطٍ كبير، فلا يَلقونَ عليهَ ثِقَل غلاظتِهم، ولكنَّ هؤلاء يغارون أَو يشمئزُّون من المتدَلِّلين فيتَّهمونَهُم بالميوعة والغَلاظة. الكاهنُ يحتاجُ الى اليقظة لئلَّا يُثيرَ الغَيرة لدى البعض. في تعاونِهِ مع الرعيَّة، يجب أَن يحفظَ تماماً الميزان فيضع كلَّ شيءٍ في ميزانِ الحقِّ. يحتاجُ الى يقظةٍ كبيرةٍ لئلَّا ينزلقَ في التحزُّبات، والإِنعطافات، والتميِّيزات، والنفور. معاملتُهُ يجب أن تكونَ واحدة لكلِّ الشعب، ومميَّزة أَكثر مع الفقراء والمرضى عقليًّا، لأَنَّ هؤلاء يحتاجونَ الى عنايةٍ خاصَّة.
كلُّ المنكوبين بحاجةٍ الى صلواتِ الكاهن. الكاهنُ يتضرَّع الى الله مصليًّا من أَجلِ الشعب. هو الَّذي يقدِّسُهم، وهو المسؤول عن حالتهِم الرُّوحيَّة. ما الكاهن موظف يقوم بالخدمةِ في الهيكل، أَي يعمِّد، يُميرن، يقدِّس، يُعرِّف، يُكلِّل، يُزوِّج. هذه الخِدمة مهمَّة في الكنيسة، ولكنَّها ليست كلَّ شيءٍ.
الكاهن يُناولُ الناس جسَد ودمِ المسيح. يسوع علَّمنا : لا تُعطوا الأشياءَ المقدَّسة للكلاب. يجب أَن يعترف الشعب لكي يتناول كلُّ مؤمنٍ باستحقاق. الَّذين يتناولونَ بلا استحقاق، هم مجرمون لجسد ودم يسوع المسيح كما قال بولس الرسول. ومَن الَّذي يُناولهم؟ الكاهن. ولماذا ناوَلهُم؟ هو مسؤولٌ ايضاً. أَن يُعطي الأَشياءَ المقدَّسة الى الكلاب، يسوع منعَهُ من ذلك. الَّذي يملكُ سلطانَ منحِ القربان وعدَم منحِهِ، أَليس سلطانُهُ إِلهيًّا؟ ولذلك العلاقَةُ بالكهنة يجب أَن تكونَ ممتازة. على المؤمنين أَن يحفَظوا كراماتِهم المتبادلة، فلا يحتكِر أَحدُهم الكاهن عن الآخرين.
الكاهن هو رجلُ النزاهة الَّذي يُساوي بين المؤمنين. إِن أَدَّبَ المخالِفين، فهو لا يؤَدِّبهُم للإِنتقام، بل للإِصلاحِ والتجويد. الشعور بالجفاء يُضعِفُ سلطانَ الكاهن، فلا يعودُ مُجاهداً قدِّيساً فِدائيًّا مستعدًّا للموتِ في سبيلِ يسوعَ المسيح.
مرَّ معنا أَنَّ يسوعَ المسيح بذَلَ نفسَهُ من أجلنا وطَلَب منَّا أَن نبذُلَ أَنفسَنا من أَجلِ بعضنا بعضاً. والكاهنُ أَحقٌّ من بذلِ ذاتِه من أَجلِ الرعيَّة. هو يعتني بالمنهوكينَ روحيًّا، يعتني بالمرضى جسديًّا ويُصلِّي لهم، يعتني بالشيوخِ والعجائز، ويعتني بالأَطفال وبالتعليمِ الديني.
في روسيا القيصريَّة، كان الكهنةُ يديرونَ المدارس في القُرى، ويعتنونَ بالأَطفال والأَولاد ويعلِّمونهَم ويخرِّجونهم تخريجاً دينيًّا جيِّداً. مبدئيًّا، تدريبُ الأَطفال والأَولاد على التعليم الديني والأَخلاق، مَهمَّة الأَبوَين والكاهن. ولذلك فالكاهن جزءٌ لا يتجزَّأ من كلِّ بيت. يُوجِّه الأَبَوَين، يُعلِّمُ الأَطفال الدِيانة. هو معلِّمُنا الديني والرُّوحي، هو “أَبونا”. نقولُ لهُ “أَبونا” ويجب أَن يكونَ الأَمرُ واقعيًّا، أَي أَن يكونَ الكاهن فِعلاً “أَبانا” بالفِعل، لا بالَّلفظِ فقط. هذه المهمَّة تتطلَّبُ فَهماً لنفسيَّة الآباء والأُمَّهاتِ والأَطفال. أَي أَنَّ علم النفس الرُّوحي ضروريٌّ جدًّا في الرعاية.
وللكنيسة وظائف ماليَّة لبناءِ الكنائس ولدَفعِ رواتب الإِكليريكيِّين، ولديها أَوقاف، والشعب يُساهم بالنفقات. هذا يحتاجُ الى فَهمٍ ماليٍّ في إِدارةِ الأَموال إِدارةً حَسَنة واستثمارها استثماراً جيِّداً. خادُم المذبح، من المذبحِ يأكل. بولس الرسول استعملَ كلمة “تجنُّد”، والكاهن تجنَّدَ من أَجلِ الكنيسة، والكنيسة هي المسؤولةٌ عن نفقاتِ عيشِهِ. هو جنديٌّ في الكنيسة ونِعمَ هذا الجندي! هو يقدِّسُنا ويباركنا، ويُبارك بيوتَنا وأَرزاقَنا وطعامَنا وشرابَنا، ويمنَحُنا السلام. هو يقولُ في الكنيسة “السلامُ لكم جميعاً” فيَدعونا الى المحبَّة. ويقولُ في خدمة القدَّاس “لنُحبَّ بعضُنا بعضاً لكي، بعزمٍ واحدٍ نعترف، مقرِّين بالآب والإِبنِ والرُّوحِ القُدُس”. وبما أَنَّهُ يُعرِّفُنا، فهو الأَمينُ على أَسرارِ حياتِنا. فهل يجوزُ للكاهن أَن يبوحَ بأَسرارِ الإِعتراف؟ لا. وإِن أَباحَ بها، وجبَت محاكمتَهُ في مجلس التأديب ومعاقبتهُ. ما نعترفُ بهِ للكاهن، لا نعترفُ بهِ للأَهلِ. هو الحارس الأَمين لأَسرارنا، هو الَّذي يوجِّهُنا الوِجهَةَ الصالحة النافعة. وكلُّ هذا يتطلَّب منهُ الكفاءَة والقداسة.
كلُّ المطارنة والبطاركة هم مسؤولون عن الكنيسة وعن الكهنة. لَديهم سلطان الحل والربط الَّذي أَعطاهم إِيَّاه ربُّنا في إِنجيلِ يوحنا وإِنجيلِ متَّى. أَمَّا الكهنة والشمامسة فهم تابعون للكهنة والمطارنة والبطاركة. المطارنة والبطاركة هم إِذاً آباءُ الآباء، ومسؤوليَّتهم عن الشعب وعن الكهنة كبيرةٌ جدًّا. في أَيَّامنا هذه، الرتَب صارت إِداريَّة بنسبةٍ تزيدُ عن المعدَّل المطلوب، ومن الضروري أَن يُصبح المطارنة والبطاركة والأَساقفة شعبيِّين مثلَ يوحنا فم الذهب وباسيليوس الكبير.
++++++++++++++++++++
الفصل الثالث عشر
الكنيسة والمجتمع
باسيليوس الكبير هو نموذجٌ لكلِّ أُسقفٍ. قيلَ فيهِ إِنَّهُ طوَّقَ مدينة قيصريَّة في كابادوك بمدينةٍ أُخرى من مدارس وكنائس ومستشفيات… ويومَ رقادِهِ، خرجَت المدينةُ في جنَّازِهِ بما فيهم اليهود والوثنيُّون. العنايةُ باليتامى، والأَرامل، والفقراء، والمعوقين، والعُجَّز، والمدارس، والمساكن، مهمَّة إِن كانت الإِمكانات الماليَّة متوفِّرة.
المدارس مهمَّة لتنشئةِ الأَولاد والأَطفال تنشأَةً دينيَّةً، ولكن هذا يتطلَّب الإِشراف المباشَر على المدارس من قِبل الكنيسة لا تركَها لمديرٍ عِلمانيٍّ. يجب أَن يكونَ الأُسقف واقفاً على رأسِ العمل في توجيهِ المدارس.
من المفيد جدًّا أَن نُشرِكَ المؤمنين في العمَلِ الكَنَسي عن طريقِ الجمعيَّات الخيريَّة والعِلميَّة والثقافيَّة والإِنسانيَّة، فتُصبِح الرعيَّة شبَكةً من الخِدَم المتنوِّعَة بما يعودُ بالفائدة على المؤمنينَ جميعاً.
الفصلُ بين الرعيَّة والراعي مرفوضٌ ومُضِرٌّ. في الفصل 12 من كورنثوس الأُولى، و4 من أَفسس لكلِّ عضوٍ في الكنيسة عملٌ. التقسيم كإِكليريكيِّين وعلمانيِّين مضرٌّ جدًّا. كلُّنا واحدٌ في المسيح، أَي لكلِّ واحدٍ وظيفتهُ في الكنيسة، ولكلِّ واحدٍ نشاطٌ معيَّن في الكنيسة. يجب أَن نفسحَ المجال لكلِّ الأَعضاء في الكنيسة لكي يكونوا نشيطينَ فيها. في الصلواتِ الإِلهيَّة يُشارك المؤمنون مع المرتِّلين، وفي الكنائس الجامعة يشترك الشعب كلُّهُ في الترتيل إِمَّا بصوتٍ عالٍ، وإِمَّا بصوتٍ منخفض. يُتابع المؤمنون القدَّاس الإِلهي بانتباهٍ كبيرٍ ويقولونَ “آمين” علَناً أَو سرًّا. ليسَ في الكنيسة عنصر فعَّال، وعنصر بطَّال. كلُّنا فعَّالون، وكلُّنا مسؤولون. الكاهن نفسُهُ هو عضوٌ في الكنيسة ولكنَّهُ عضوٌ مكلَّفٌ لِخدمة المؤمنين. بولس الرسول في أَفسس وكورنثوس: الرسول، والنبي، والمبشِّر، والراعي، والمعلِّم، هُم خَدَمٌ للشعب لا أَسياد على الشعب.
في مراحلٍ من الزمن، خرجَ البطاركة والمطارنة على الأباطرة. في العام 565 للميلاد، كان بطريركنا الأَنطاكي القدِّيس اتناثيوس ومجمعهُ المقدَّس قبلة أَنظار العالم المسيحي شرقاً وغرباً للوقوف في وجهِ أَقوى الأَباطرة أي جوستينيانوس الكبير، إِلَّا أَنَّ الله أَخذَ الأَمبراطور قبل احتدامِ المعركة. ولكن ساءَ الأَمرُ في بعضِ العهود، فصارت البطركيَّة والمطرنة مطمَعاً بشريًّا للسلطة والوجاهة يتنافسُ عليهما رجال الدِّين فيفوزُ بهما التافهون.
حانَ الوقت للخلاص من هذا التقليد لكي يعود البطاركة والمطارنة الى الخِدمة الشعبيَّة، وليعيشوا بين الشعب، ومع الشعب، وللشعب. بعضهم يسعى الى البطريركيَّة والمطرنَة، والأُسقفيَّة وذلك للمجد الباطل. هذا ضلالٌ مُبين. هناكَ رجالٌ عظام في الكنيسة هرَبوا من الأُسقفيَّة، وهناك رجالٌ عظام فُرضَت عليهم فَرضاً. لا يجوز أَن ندَع العالم يغزو الكنيسة. العالمُ وما في العالم شيطانيٌّ.
في رؤيا يوحنا الرسائل السبعَ موجَّهة الى ملائكة الكنائس. والكنائس بحسَب الشرَّاح هُم أَساقِفَة هذه الكنائس. الأُسقف هو ملاكُ الكنيسة، والملاكُ هو كائنٌ روحيٌّ بِلا جسد. يجب أَن يكونَ الأَساقفة ملائكةً في جسدٍ من ظلٍّ. يوحنا فم الذهب قال: عندما كان الأَساقفةُ من ذَهب، كانت الصلبانُ من خشب. ولما صارَ الأَساقفةُ من خشَب، صارت الصلبان على صدورهِم من ذهب. قداسة البابا الحالي فرنسيس الأَوَّل يخرجُ اليومَ على التقليد الروماني والأَبَّهة اليونانيَّة ويعودُ الى بساطة الإِنجيل والفقراء. هذا مكسبٌ كبير ونموذجٌ عظيم.
الَّلهُمَّ أَعِدنا الى ذلك الزمان. الشاعر أَحمد شوقي قال في قصيدةٍ لهُ: يا فاتحَ القدس خلِّي السيفَ ناحيةً. ما كانَ الصليبُ حديداً بل خشبَ. الصليبُ هو من خشبٍ، ويجب أَن يبقى من خشب. كان القدِّيس يوحنا الرحيم، بطريرك الإِسكندريَّة يدعو الفُقَراء “أَسيادهُ”. هذا القدِّيس العظيم يجب أَن يعودَ الى الحياة في كلِّ أُسقفٍ ومطرانٍ وبطريركٍ، ليتمجَّدَ اللهُ فيهم كما تمجَّدَ في يوحنا الرحيم.
الكاهن يُصلِّي للشعب، ويعلِّم الشعب الصلاة. ولذلك يجب في المعهد أَن يتدرَّب الكاهن على الصلاة الروحيَّة وعلى صلاة القلب ليُلقِّنَها للشعبِ تلقيناً سليماً. ومع تَعَلُّمِه هذا يجب أَن يتعلَّم ايضاً السجود والخشوع، وإِلَّا كان الكهَنَةُ طواويس. السجودُ يكون من صميمِ التقوى. التائبُ يتذلَّل أَمامَ الله، ويسجُد، ويلطُم جبينَهُ الأَرض، ويبكي، وينوح، ويعترف بذنوبِهِ مُنسحقاً متخشِّعاً. فالذبيحةُ المقبولةُ عند الله، هي القلبُ المنسحق الخاشع المتواضع. إِن لم يتعلَّم الكاهن في المعهد هذه الأُمور، فكيف يُعلِّمُها للغير وهو لم يتعلَّمها، وكيف يُعطي ما ليسَ لدَيهِ؟
لذلك، يجب تعبئةُ رجالِ الدِّين في المعاهد تعبئةً جديرةً كبيرةً. الأَكاديميَّات لا تصنع قدِّيسين. أَن يخرج الَّلاهوتي حاملاً ليسانس ودكتوراه منتفِخاً بأَكاديميَّتِهِ، لا يُجدي نفعاً. الَّذي يُجدي نفعاً هو السجود الى الأَرض بتَقوى وخشوع ونحيب وبكاء. هل يتعلَّم الطلَّاب في المعاهدِ السجود؟ هل يتعلَّمونَ النُسْكَ؟ هل يصيرونَ شبيهين بأَنطونيوس ويوحنا السُلَّمي وسواهم…؟ التعليم الأَكاديمي ينفخُ، وأَمَّا المحبَّةُ فتَبني. أَهَمُّ ما يُمكن أَن نحفَظَهُ هو الصلاةُ البارَّة، النقيَّة، الطاهرة. كلُّ شهادات الَّلاهوت هي بلا قيمة حياتيَّة بدون الصلاة. الكاهنُ الناجح هو الَّذي يُعَلِّمُ أَبناء الرعيَّة الصلاة النقيَّة الطاهرة، صلاة القلب الطاهر النقي. ما النفع من ملايِّين الفاترين إِن لم ينقلبوا ويصيروا حارِّين؟ الكنيسةُ هي كنيسة التائبين، الخاشعين، الراكعين، الساجدين، المنسَحِقين، الملتهبين بحرارةِ أَتونِ النار.
الكاهن مُرتبطٌ بالأُسقف أَو المطران أَو البطريرك، فإِذاً يجب أَن يكونَ أَداةً خيِّرة بينَهُ وبين الرعيَّة. الكاهن هو المسؤول الأَوَّل عن الرعيَّة، وهو بالوكالة نائبٌ عن الأُسقف. فمن الضروري إِذاً أَن يكونَ التعاونَ بينهما رائعاً، وذلك يحتاجُ الى الثقة المتبادلة والإِحترام المتبادَل. ولكن هذا التواصل تخترقهُ بعض العيوب. الفصل 34 من نبوءة حزقيال النبي رائعة. هناكَ وَصفٌ للكهنة الَّذين يَرعونَ أَنفسهم ولا يَرعونَ الرعيَّة. ونظراً لأَهميَّتِهِ نوردُهُ هنا : ويلٌ لرُعاةِ إِسرائيل الَّذين كانوا يرعَونَ اَنفَسَهم. أَلا يرعى الرُعاةُ الغَنَم. تأكلون الشحم وتلبسونَ الصوف وتذبحونَ السمين ولا ترعَونَ الغنم… ضلَّت غنَمي في كلِّ الجبال وعلى كلِّ تلٍّ عالٍ، وعلى كلِّ وجهِ الأَرض تشتَّتت غنَمي ولم يكُن مَن يسأَل أَو يُفَتِّش. فلذلك أَيُّها الرُعاةُ اسمعوا كلامَ الرب. حيٌّ أَنا يقولُ السيِّد الرب من حيثُ إِنَّ غَنَمي صارت غنيمةً، وصارت غنَمي مأكلاً لكلِّ وحشِ الحقلِ إِذ لم يكن راعٍ ولا سأَلَ رُعاتي عن غَنَمي، ورعى الرُعاة أَنفُسَهُم ولم يرعَوا غَنَمي… هأَنذا على الرُعاةِ وأَطلُبُ غَنَمي من يدِهِم وأَكُفُّهم عن رعيِ الغنمِ ولا يَرعى الرُعاةُ أَنفُسَهُم بعد، فأُخلِّصُ غَنَمي من أَفواهِهم فلا تكونُ لهم مأكلاً.
غالباً ما يكون كهنَةُ الرعايا متزوِّجين. إِختيار الزوجة يجب أَن يكونَ بسببِ صلاحِ الفتاة لأَنَّ الخوريَّة مهمَّةٌ جدًّا، فهي تُكمِّلُ عملَ الكاهن وتساعدُهُ في مهمَّاتِهِ. على لباسِها أَن يكونُ محتشِماً، أَي أَن لا تلبس “ديكولتيه” و لا “ميني جوب” وأَن لا تضع طلاء الأَظافر. مظهرُها يكون مظهرُ الخشوع لا مظهر المراهقات والفنَّانات والمختالات المتبَخترات. الرصانةُ تكون طبعَها. تربِّي أَولادَها أَفضلَ تربيةٍ.
في أُوروبا، أَولادُ الكهنة يصيرونَ كهنةً أَحياناً. فالعالم الأَلمعي العالمي Virgil Georghiou هو ابنُ كاهنٍ في رومانيا وانتهى كاهناً مثلَ أَبيه. هذا شيءٌ عاديٌّ في روسيا ورومانيا وسواهما. Paissy Velichevsky ابن النهضة الروسيَّة هو ابن كاهن أَرادت أُمَّهُ أَن يصبحَ مثل أَبيه الكاهن. ترجم “الفيلوكاليَّا” من اليونانيَّة الى السلافونيَّة. من الطبيعي أَن يكونَ واحدٌ من أَبناءِ الكاهن خليفةً لأَبيهِ في الخَورنة وأَحياناً في المطرنَة. الخوريَّة الناجحة تُضاعف تقريباً قُدرةَ الكاهن على البذلِ والعَطاء والعملِ المجدي.
++++++++++++++++++++++++
الفصل الرابع عشر
الأَنشطة الثقافيَّة
الثقافةُ اليوم صارت الى حدٍّ بعيدٍ مُلكاً عامًّا. المدارسُ منتشرةٌ على نطاقٍ واسعٍ وكذلك الجامعات. كلُّ ذلك يفسحُ المجال بنموِّ الثقافة ولكن من الممكن أَن يكون ذلك بمعزلٍ عن الكنيسة. هناك نظريَّات إِلحاديَّة، وهناك هرطقات التي تظهر هنا وهناك وبعضها هدَّامٌ كشهود يهوى، والمتجدِّدين، وكنيسة الشيطان وسوى ذلك من البِدَع الواردة من الخارج. على الرُعاة أَن يواجِهوا هذه الهرطقات والبِدع بالنشرِ الديني، والوَعظ والإِرشاد، وبالدِفاع عن الإِيمان القَويم. هذا يعني أَنُّهُ يجب أَن يكونَ في الكنيسةِ رجالٌ مثقَّفون قادرون على إِنشاءِ الكتُب المتنوِّعة التي تلبِّي حاجات الناس الروحيَّة والثقافيَّة.
قد نجحَ في بلادٍ عديدة سرطانُ الفَصل بين المدرسة والكنيسة، وبين الجامعة والكنيسة، وبين المجتمع والكنيسة. نشأَ هذا في العالم الأُرثوذكسي بنسبةٍ ما. لا يوجد فصل بين المدَني والديني. طابعُنا الأُرثوذكسي هو طابعٌ دينيٌّ. في رومانيا مثلاً، الدولةُ والكنيسةُ واحدٌ وفي روسيا التيَّارُ نفسُهُ أَخذَ يتغلَّب من جديد.
في اللَّاهوت، لا نفصل بين الرُّوحِ والجسد. الإِنسانُ وَحدةٌ تامَّةٌ. هو شخصٌ في روحٍ وجسد. النورُ الإِلهي يتغلغل في الجسد كما يتغلغل في الرُّوح. في جبلِ التجلِّي اخترقَ النور الإِلهي ثيابَ ربِّنا يسوعَ المسيح، وأَقامَ في جسدِهِ منذُ يومِ البشارة كما قالَ القدِّيس افرام وسواه حتى يومنا هذا. ثيابُ يسوعَ المسيح كانت تشفي المرضى الَّذينَ كانوا يتهافتونَ عليهِ بكَثرة، كما ذكرَ ذلكَ الإِنجيليَّان متى ولوقا. في جبل التجلِّي ظهرت ثيابُ يسوع بيضاءَ كالنور كما جاءَ في إِنجيلِ متَّى، وبرَّاقة كما في إِنجيلِ لوقا، وكان بياضها ناصعاً جدًّا كما في مرقس. النور الإِلهي تلألأَ في ثيابِ ربِّنا يسوعَ المسيح. ونحن الَّذينَ اعتمَدنا باسمِ الثالوث القدُّوس، النور الإِلهي يسكنُ في قلوبِنا. نتناول جسدَ الربِّ ودمَهُ في أَفواهِنا، فنتّحد نحنُ بهِ برمَّتنا فيقدِّسُنا، ويُبارِكُنا، ويؤَلِّهُنا ويغفر خطايانا. الجسدُ سيقومُ في اليومِ الأَخير ويشترك مع الرُّوح في المجد الأَبدي ممتلئاً من الأَنوارِ الإِلهيَّة. فلذلك كلُّ شيءٍ يتبارك بالرُّوحِ القُدُس. أَما نُباركُ الطعامَ والشراب قبل تناولهما؟ أَما نُبارك المنازل؟ أَما يطوفُ الكهنة بعد عيد الظهور الإِلهي يباركونَ المنازلَ بالماءِ المقدَّس؟ أَما نرسم الصليب كثيراً على صدرنا وعلى كلِّ شيءٍ؟ أَما نُبارك الغَنمَ في عيد التجلِّي الإِلهي، والبيضة في عيد الفصح؟ نُحلُّ بركة الرُّوح القُدُس في كلِّ شيء.
بولس الرسول علَّمنا أَن نشكرَ اللهَ في كلَّ شيء، وأَن نباركَهُ بالقولِ والعمَل باسمِ ربِّنا يسوعَ المسيح. وهكذا، لا يُترَكُ شيئاً خارجَ دائرةِ الرُّوحِ القُدُس. في كلِّ شيءٍ نسبِّحُ الثالوثَ القدُّوس. الفَصلُ بين العلمِ والدِّين مضرٌّ. نُباركُ الله في العلمِ والثقافة وكلِّ الأَنشِطة الفكريَّة. رائحةُ الرُّوح القُدُس تنتشر في كلِّ شيءٍ وفي كلِّ شيءٍ نسبِّحُ الثالوثَ القدُّوس. الطبيبُ الَّذي يقضي سنوات عديدة في دراسةِ جسمِ الإِنسان، أَيجوز أَن يبقى غافلاً عن تسبيحِ الإِله الَّذي صنَعَ جسمَ الإِنسان صنعةً عجيبةً! الدكتور روجيه صايغ قال لي مرَّة : كلُّ شيءٍ في جسمِ الإِنسان يُعطي مجداً لله.
عالمُ الفلك الَّذي يكتشف ما في هذا الكَون، أَما عليهِ أَن يُسبِّح الله الَّذي خلقَ هذا الكون؟ كلُّ شيءٍ في الكَون يُعطي مجداً لله. عالم الفيزياء الَّذي يدرس هذا الكون ايضاً، أَما عليهِ أَن يُسبِّحَ الله في حسنِ الصنع؟ وكذلك عالم الكيمياء؟ أَمَّا الفيلسوف الَّذي ينظر في ما ورائيَّات هذا الكون، أَما عليهِ أَن يُمجِّدَ اللهَ الصانع العظيم والخالق العظيم؟ عُلماء النفسِ وأَطباء النفس الَّذينَ يُعارضونَ النفس، أَما عليهم أَن يسبِّحوا اللهَ الَّذي خلقَ روحَ الإِنسان التي تصنع المعجزات العلميَّة والفنيَّة؟ في كلِّ علمٍ وفنٍّ، هناك مجالٌ لتسبيحِ الله. كيفَما سرَّحَ الإِنسانُ نظَرَهُ، وجدَ مناسبةً لتمجيدِ الله. إِن صعد على رأس جبلٍ وسرَّحَ نظرَهُ في السماء والأَرض والشمس الساطعة، أَعطى مجداً لله. وإن حدَّقَ في الليل والظلامُ حالكٌ يُراقبُ النجومَ والكواكبَ، أَصابَهُ الدَهَش. في الكنيسة، نتعلَّم أَن نسبِّحَ الله في كلِّ شيءٍ. في كلِّ ما نرى وفي كلِّ ما نسمَع من الأَشياء الجيِّدة. تغريدُ العصافير كالبلبل والحسُّون الشجيّ، أَما تُطرَبُ لهُ النفس؟ الترتيل البيزنطي الشجيّ، أَما يرفعُ النفسَ الى الخالق؟ خِدمة القدَّاس الرائعة، أَليست تمجيداً لله؟ فلذلك في الكتُب والمواعظ، يجب أَن نُعَلِّم الناس إِعطاءَ المجد لله.
في كلِّ أَلوان الأَنشِطة الثقافيَّة والفكريَّة نجِدُ فِرَصاً لتسبيحِ الله الَّذي خلَقَ الإِنسانَ بصورةٍ عجيبةٍ غريبةٍ ستُعيي العلمَ والعلماء ولو بعد آلاف السِنين. لن نستطيع أَن نكتشف كيفيَّة الإِتحاد الرُّوح بالجسَد، فهذا الُّلغز سيبقى غامضاً الى الأَبد. آباء الكنيسة يمزجونَ مواعظهم وكتاباتهم بالتمجيد وقد تركوا لنا ثروةً كبيرةً من الأَناشيد والصلوات والتسابيح. علَّمونا صلاةَ يسوع لنَتلوها باستمرار. الصلوات هي جزءٌ لا يتجزَّأ من كتب آباءِ الكنيسة. بولس الرسول علَّمَنا في تسالونيكي الأُولى “صلُّوا بلا انقطاع”. فكلمة “الصلاة” عندنا إِذاً هي حدثٌ مستمرٌّ.
في بعض المزامير نرى الهذيذ في الله في الَّليل والنهار. وفي الأَناجيل وكل العهد الجديد نتعلَّم أَن نصلِّي باستمرار، أَن نقرع بابَ السماء باستمرار. أَما كانَ النسَّاكُ سكارى بحبِّ الله، يسبِّحونَهُ في الليلِ والنهار ويسهرون اللَّيالي بالتسبيحِ والتمجيد؟ وما هي وظيفةُ النسَّاك الأُولى؟ أَليست دِكرَ الله على الدَوام؟
يستمرُّ ذكر اسم الله في الكنيسة ليكونَ اللهُ حاضراً في كلِّ أَقوالِنا وأَعمالِنا.
في تعليمِنا ليسَ من وقتٍ لله، ووقتٍ لسواه، كلُّ وقتِنا لله. من أَهمِّ وظائف الإِكليريكيِّين أَن يُعَلِّموا الشعب التسبيحَ لله في كلِّ زمانٍ ومكان. في المزمور 102 يقولُ: في كلِّ موضِعٍ من مواضِعِ سيادتِه، باركي يا نفسيَ الربَّ. مواضعُ سيادتِه لهُ المجد، هي كلُّ الكون المخلوق وغير المخلوق. في المزامير 148 و 149 و 150 الكَونُ برمَّتِه يُسبِّح الله. نُسبِّحُهُ في كلِّ شيءٍ. في كلِّ ما نرى نُعطي مجداً لله.
كَم مهنةُ الإِكليريكيِّين عظيمةٌ في تدريبِنا على تسبيحِ الله في الَّليلِ والنهار، وفي كلِّ زمانٍ ومكان. الإِكليريكيُّ النشيط يملأُ الكونَ تسبيحاً لله، ويعلِّم الناس كذلك التسبيحَ في كلِّ حين. طبعاً في كلِّ ذلك يجب أَن يكونَ الإِكليريكي لطيفاً، خفيف الظل كما نقول في العاميَّة. يعلِّم الناس بلطفٍ، وبشاشةٍ، وترحيبٍ، وأُنسٍ كبير. الإِنكماشُ ضروريٌّ أَحياناً، ولكنَّ اللُّطفَ والرقَّةَ والحنانَ هي الأَساس. الكاهنُ أَبٌ لطيفٌ. إِن هربنا من عائلتِنا لجأنا الى الكاهن. الأَب الَّلطيف، العَطوف، الحنون، الرؤوف، الصَبور، الطويل البال، الأَنيس الَّذي يغمرنا بعَطفِهِ ننصاعُ لتعليماتِهِ ونصائحهِ.
الكاهنُ الحقيقيُّ هو جزءٌ لا يتجزَّأ من كلِّ بيتٍ. هو أَبُ الأُمِّ والأَبِ والأَولادِ والأَحفاد والأَجداد. الكلُّ يدعونَهُ “يا أَبانا”. يبقى عليهِ إِذاً أَن يكونَ لبِقاً ومحنَّكاً، ليغزوَ القلوب ويحتلَّ مكانتَهُ في كلِّ بيت. هو ضرورةٌ روحيَّةٌ واجتماعيَّة وثقافيَّة. ولذلك فإِعدادُهُ روحيًّا، ونفسيًّا، واجتماعيًّا مهمٌّ جدًّا جدًّا.
من الأَنشطة الأَدبيَّة والفنيَّة، هناك الشعر والموسيقى والرسم وبخاصَّة رسم الأَيقونات. أَعطَت الكنيسة للشعرِ أَهميَّةً كبيرة. فالأَناشيد الدينيَّة رائعةٌ جدًّا يُلحِّنها الموسيقي. شعر رومانوس المرنِّم هو مشهور في كلِّ العالم المسيحي. أَمَّا رسم الأَيقوناتت، فهو رَوعَةٌ من الروعات. الَّذينَ يزورونَ روسيا، يعودونَ مذهولينَ بأَيقوناتِها وكنائسها وأَديرتها. صارت الرحلات المنظَّمة الى روسيا واليونان تثيرُ الدَهش. يزورُ الناسُ قبورَ القدِّيسين مثل قبر غريغوريوس بالاماس وديميتريوس في تسالونيكي ونكتاريوس في اليونان. هناك أَديرة تجذبُ الناس اليها فيتهافتون عليها لسَماع أَناشيدَ رائعة من أَفواهِ جوقاتٍ رائعةٍ. في كلِّ العالم الأُرثوذكسي هناك جوقات تذهِلُ السامعين اليها، وهذا يُعيدُ بفائدةٍ كبيرةٍ على الشعب برمَّتِهِ فيتَعلَّمَ الترتيل والأَناشيد، فيصيرَ في الكنائسِ مُتابعاً للصلواتِ ومشتركاً في الترتيل. والرُّوسُ بصورةٍ خاصَّةٍ هم مولعونَ بالترتيل. بواسطة الجوقات، يستطيع الإِكليريكيُّون جَذب الناس الى العبادة والتَقوى والدَهَش الرُّوحي. مَن لا يخرج من ذاتهِ حينَ يسمع جوقة متقَنَةً ترتِّل في الصَومِ الكبير؟ في عيد الميلاد تكونُ التراتيل أَخَّاذة، أَمَّا في عيدِ الفصح فالمرءُ يطيرُ بلا جوانح الى العُلى. إِشراك المؤمنين بالتراتيل والصلوات والترانيم المتنوَّعة ينعشُ الإِيمانَ في القلوب ويُعوِّدُ الآذان على الغَرام بالأَلحان الكنسيَّة وبأَناشيدِها. الفنُّ في كنيستِنا شيءٌ هامٌّ إِن كان في باب الموسيقى أَو في باب الشعر. أَمَّا في باب الأَدب، فآباءُ الكنيسة هم عمالقة. أَنشأُوا كتبَهم في اليونانيَّة، والُّلغة اليونانيَّة معروفة عالميًّا لأَنَّها أَم الفلسفة والعِلم والآداب. الآداب الأُوروبيَّة جميعاً متأثِّرة باللُّغة اليونانيَّة، واللُّغة العربيَّة تأَثَّرت كثيراً بالتراث اليوناني.
أمامَ الكهنة اللَّامعين أَبواب عديدة لجذبِ الرعيَّة الى الإِيمان. في كلِّ الأَبواب الشريفة يُمكن أَن تكونَ لنا يدٌ. في الطبِّ نفتحُ آذان الأَطبَّاء على الدَهَش بعظائمِ جسم الإِنسان، ونفتح آذان الصيادلة على الإِعجاب بعالمِ النبات وخيراتِ الأَرض، وكيف أَنَّ اللهَ لهُ المجد خلقَ كلَّ هذه الأَشياء ليستفيدَ منها الإِنسان. ونلفت أَنظار علماء الفيزياء وعُلماء الفلك الى اللهَ العظيم الخالق الَّذي خلقَ هذا الكَون العظيم. ونلفت أَنظار الحقوقيُّين الى أَهميَّة العدالة الإِجتماعيَّة والحُكم بالإِنصافِ والتفكيرِ السليم الَّذي يضعُ الحقَّ في نَقابهِ، وحاجة البشريَّة الى القضاء النزيه والقوانين المتأَثِّرة بالأَخلاق المسيحيَّة لإِجراء العدل والإِنصاف برحمةٍ وحنان، والتأديب والتقويم، وحمايةِ البشر من الظلم والعدوان. ونلفت انتباه الفلاسفة الى أَنَّ وراءَ كل هذا العالم المنظور، هناكَ خالقٌ عظيمٌ غيرُ محدود خلقَ الإِنسانَ على صورتهِ ومثالهِ خَلقاً عجيباً غريباً يعجزُ عن فَهمِهِ كلُّ بني البشر فَهماً دقيقاً تامًّا. إِذاً، في كلِّ الميادين نُبادِر الى تسبيحِ الله وتمجيدِه، لا الى الغلاظة والبلادة وثِقَل الدم. نُبادرُ فقط لتمجيدِ الله، لا لفرضِ ذاتِنا على الآخرين. بل ندعو الآخرين لتمجيدِ الخالقِ العظيم في كلِّ شيءٍ. لا يجوز أَن تفترَ أَلسنتَنا عن تمجيدِ الله في اللَّيلِ والنهار. يا لعظَمَتِهَ، يا لمجدِهِ! إِنَّهُ إِلهُنا الَّذي صنَعَنا وأَحبَّنا واشترانا بدمِ المسيح، لنكونَ لهُ كُنيَةً طاهرةً مقدَّسةً.
++++++++++++++++++
الفصل الخامس عاشر
الإِكليريكيُّ قُدوَةٌ
خلال حوالي أَلفَي عام من عمرِ المسيحيَّة، إِن أَمعَنَّا النظرَ في أَحوالِ المسيحييِّن اليوم وعلى ضوءِ ما سبقَ، فماذا نلحَظ؟ نلحَظ أَنَّ المسيحيَّة اكتسَحَت العالم بنسبةٍ كبيرة بالرغم من نسفِها عقائديًّا وأَخلاقيًّا. المسيحيَّة هي ديانةُ الصليب، والإِنسانُ الدنيَوي الَّذي يعيشُ للعالم يرفضُ الصليب. البشر جسَدٌ قبل أَن يكونوا روحٌ، ومع ذلك، فقد إنتصر هذا الصليب في العالم إِمَّا مباشرةً وإِمَّا بصورةٍ غيرِ مباشرة. تأثيرُ المسيحيَّةِ في العالم كلِّه مهمٌّ وإِن كان العالم ليس كلِّه بمسيحيٍّ.
كيف غُرِسَت المسيحيَّة بهذه الصورة في الكَون؟ طبعاً غُرِسَت على أَيدي الرُسُل أَوَّلاً، والتابعينَ لهُم ثانياً. كان الرُسُل يُقيمونَ قُسِّوساً وشمامسةً في كلِّ مكان، ثم جاءَ الترتيب حتى وصلت المتروبوليَّة أَي المطرانيَّة فالبطريكيَّة. ولكن، مَن كان يؤثِّر في الشعب بالدرجة الأُولى؟ مَن كان الأَقربُ لحياةِ الشعب؟ طبعاً الكاهنُ والمبشِّر. الكهَنَةُ والمبشِّرون نالوا حياةً كبيرةً في غَرسِ الإِيمان المسيحي في القلوب. الآباءُ الكِبار مثل يوحنا فم الذهب، وباسيليوس وغريغوريوس وغيرهم، لَعِبوا دوراً هامًّا في أَيَّام الخورسفيَّة والأُسقفيَّة ولكن ليس كل الأَساقفة هم باسيليوس، وغريغوريوس ويوحنا فم الذهب.
قد يتَّفِق أَن يوجد أُسقف يخرج عن العوائد الحاضرة لينزلَ الى الشعب. فبولس، بطريرك يوغوسلافيا السابق، تخلَّى عن أَمجادِ البطريركيَّة وصارَ كأَحد عامَّة الشعب. لم تكُن له سيَّارة، كانَ يسافر في القطار مثلَ كلِّ الركَّاب. كان بطريركاً شعبيًّا قريباً الى قلوبِ الشعب. عندما أَرادَ الإِستقالة، رفضَ المجمع استقالتَهُ، وأَبقاهُ بطريركاً وإِن كان عاجزاً، ليموتَ وهو في السدَّةِ البطريركيَّة. كل الإِحترام اللَّائق لبطريركٍ عاملٍ لا عاجزٍ. وهو ليسَ الوحيدُ في التاريخ.
دولةٌ عُظمى مثل روسيا، بَقيَت مؤمنة بتثبُّتٍ غريب. بالرغم من ضرَبات الملحِدين، بقِيَ الشعبُ متمسِّكاً بإِيمانِه، فسقطَ أَكثرَ من أَربعين مليون شهيد، بينهم أَكثر من مليون إِكليريكي وراهب. هؤلاء فضَّلوا الإِعتراف بيسوعَ المسيح على العيشِ الدُنيَوي. ما هذا الإِيمان المتأَجِّج في الصدور، ليقضيَ أَكثر من أَربعينَ مليون نسَمة حياتهُم شهداء ليسوعَ المسيح وليَبقوا شهادةً تاريخيَّة الى الأَبد؟ بالرغم من الضراوات والوحشيَّة في روسيا، خرجَ المؤمنون الى الواجهة في أَواسط الستِّينات وبينهم كان رئيس الوزراء الكسي كورسيغين. أَخذَ المؤمنونَ يتنفَّسون الصعَداء، حتى سقَطت أَمبرطوريَّة الكفر والإِلحاد وذهبت الى جهنَّم الى الأَبد. مَن درَس الإِيمان في قلوب هذا الشعب ليقَدِّم الشُهداء ويحطِّم أَمبراطوريَّة الإِلحاد؟ حتماً الكهَنة. كان هناكَ كهَنةٌ هامُّونَ وقدِّيسون.
الَّذين يحضَرون القدَّاس الإِلهي في روسيا يُصيبهم الدَهَش. كان الياس قربان يمثِّل الكرسي الأَنطاكي في الإِحتفال لمرور مئة سنة على إِعلان قداسة القدِّيس سيرافيم ساروفسكي، فعادَ مدهوشاً. كان الحضور رائعاً وكانت النساء في ثيابِ الحشمة وعلى رؤوسهنَّ الغطاء مَعقوداً تحت الذقن. لم يُشاهد امرأةً في كمٍّ قصير، أَو ثيابٍ قصيرة. هذا النوعُ من البشر لم يولد في المرِّيخ، وُلِدَ على الأَرض برعايةِ الرعيَّة الَّذينَ عوَّدوهُ أَن يشترك في القدَّاس واقفاً طوالَ أَربعِ ساعات كأصنامٍ لا تتحرَّك، بكلِّ خشوعٍ وتقوى وعِبادة. شعرَ الناسُ أَنَّ الرئيس بوتين يحضر القدَّاس كواحدٍ من الشعب. عند زيارة البطريرك ألكسي الأَوَّل لبيروت في حزيران 1945 خطبَ في كنيسة القدِّيس جاورجيوس: الشعبُ عندنا في روسيا يُصلِّي ويعبِّر عن إِيمانِه بالتقوى، وأَمَّا أَنتم فتعبِّرونَ عنهُ بالصَخَب.
في العام 2009 حظيتُ بزيارة صاحب السيادة لي، المطران ابراهيم نعمة، مطران حمص السابق للكاثوليك. وبعد حديثٍ طويل، فتحَ يدَيهِ وقال لي: في العام 1973 زرتُ رومانيا في عهد الطاغية تشاوشسكو، ما هذه الكنائس وهذا الشعب وهذه الأديرة! كلُّ هذا يثيرُ الإِعجاب الكبير.
+++++++++++++++++++++
الفصل السادس عشر
كهنةُ اللهِ العليّ
رسالةُ رجالِ الدِّين ذو كمالٍ خاصٍّ، وعمقٍ لاهوتيٍّ خاص. طلبَ منِّي قس الشماس اسكندر ديب أَن أَكتبَ لهُ شرحاً لخدمةِ رسالة الشمَّاس قبل رسامتِهِ، فوافَيتُهُ بهِ. ليسَ لديَّ كتاب خِدمة رؤَساء الكهَنة لأَشرحَ خِدمَةَ رؤَساء الكهَنة، وخِدمَة الكهَنَة. قد يأتي ذلكَ يوماً ما، والله أَعلمُ هل يطول العمر؟
في خدمةِ رسالةِ الكاهن حدثٌ بالغُ الأَهميَّة. بعد تحوُّلِ الخبزِ والخمر الى جسد الربِّ ودمِه، تُدفَعُ صَينيةُ الجسد الى الكاهن ليحمِلَها ويقِف وراءَ المائدة مُقابل رئيس الكهنَة. وعليه طبعاً أَن يتأَمَّلَ الجسد وأَن يتفرَّس بالجسد بدون أَن يصرِف نظَرَهُ يميناً أَو شِمالاً. الحدثُ هنا بالغُ الأَهميَّة.
إِن تغلغلَ الرُّوح القُدُس في كلِّ أَعماقِ الكاهن في تلك اللَّحظات وامتلأَ دهَشاً منهُ، فهو سيكونُ بعد رسامتِهِ خادمَ هذا الجسد. ومَن هو هذا الإِنسانُ التافهُ في الأَساس لكي يخدُمَ جسد الرب، لكي يُمسِكَ بيدَيهِ جسدَ الرب، لكَي يرفع يدَهُ فوقَ الخبزِ والخمرِ ويطلُبَ الى الآب أَن يُرسِلَ روحَهُ القدُّوس لِكي يُحوِّلَ هذا الخبز الى جسدِ الربِّ الحبيب؟ إِن كان كاهناً مُعدًّا إِعداداً كاملاً، تَأمَّل في هذا الجسد وارتعدَ، وارتعدت فرائضُهُ. ومَن أَنا، أَنا الإِنسانُ الخاطئ ابن الجحيم، لأَن أَكونَ خادماً لجسدِ الإِله؟ وهل أَنا مؤهَّلٌ لهذه الخدمة التي ترتعدُ منها الملائكة وترتجف؟ يا لهَولِ الموقف عند قومٍ يعقُلون!
فلذلك، من الواجب على رؤَساءِ الكهَنة أَن يلفُتوا نظرَ الكاهن قبل الرسامة بأَيَّامٍ، لأَهمية هذا السرِّ العظيم، الَّذي هو سرُّ خِدمة جسَد ابن الله. إِنسانٌ أَخرجهُ يسوعُ من الجحيم، ليصيرَ ذا كفاءةٍ ليحوِّلَ الخبزَ والخمرَ الى جسدِ الربِّ ودمِه ويتناولهما، ويدفعُهُما طعاماً وشراباً للمؤمنين. هذه وظيفةٌ لم يَحظى بها الملائكةُ أَنفسهُم.
فأَنتَ أَيُّها الكاهن، أَنتَ ترتقي هنا الى مرتبةٍ لم يرتقِ إِليها الملائكة. على كلِّ حالٍ، في كتابي “سر التدبير الإِلهي” في الصفحتَين 66 و 64 نصوصٌ عديدةٌ لآباء الكنيسة عن التجسُّد الإِلهي. نقول إِنَّنا بالتجسُّد الإِلهي صِرنا فوقَ الملائكة.
سأَلَني كاهنٌ بعد رِسامتِهِ وقالَ لي: ماذا تنصحني؟ فقلتُ لهُ: إِيَّاكَ والروتين. كلَّما دخَلتَ الهيكل، تسجُد أَمامَ المائدة وتُقبِّلها. متى احتَرَمتَ المائدة احتفظتَ لنفسِكَ بالتقوى. لا يجوز أَن نتعوَّد الدخول الى الهيكل بدونِ احترام. متى احترَمنا المائدة، والقربان، والإِنجيل المستريح على المائدة، دخلَ قلوبَنا الخشوع، واحترام الشأن الإِلهي، واحترام الساكن في الهيكل والملائكة المحيطينَ بهِ.
أَمَّا في رسامةِ رؤَساء الكهنة فهناك شيءٌ هام. على المرسوم أَن يتلوَ اعترافاتٍ مفصَّلة بالإِيمان. هو رجلُ الوديعة، يُسلِّمُهُ البطريرك وديعةَ الإِيمان ليحفَظها، وليكونَ قيِّماً عليها، وموزِّعاً لها وموجِّهاً لها. هو الحارسُ الأَمين على الإِيمان. هذا الإِعتراف أَمامَ هيكلِ الله هو جزءٌ من اعترافِ المعترفينَ القدِّيسين الَّذينَ لم يُنكِروا المسيح أَثناءَ الاضطِّهادات.
الرسامةُ الكهنوتيَّة هي نوعٌ من الزواج. يُصبحُ الكاهن زوجاً للكنيسة، ونوعٌ من الإِستشهاد لأَنَّهُ يُرسَم ليكونَ بطلاً في الكنيسة وخادماً للمؤمنين ومُدافعاً عن الإِيمان القَويم. الأُسقف في رسامتِه، هو مسؤولٌ عن حِفظِ الوديعة والدفاعِ عنها ولو بدَمِهِ. يتعهَّد بأَن لا يخونَ المسيح ولو شُهِرَ عليهِ السيفُ. بهذا الاعتراف أَمرٌ هام، أَلا وهو أَنَّ الكنيسة تُسلِّمُ الوديعةَ الى الأَساقفة جيلاً بعد جيل.
الإِيمانُ محفوظٌ إِذاً منذُ عهدِ الرُسُل حتى اليوم بموجبِ هذا الإِعتراف العالمي من قِبَلِ الأُسقف. هذه الوديعةُ العزيزة تكبِّرهُم ليكونوا أَوفياء، وإِلَّا كان العِقابُ كبيراً جدًّا في الآخرة. استمرَّ هذا الإِيمان عبرَ القرون الطِوال بفضلِ أَمانةِ الأَساقفة الأُمَناء، والكهنَة الأَمَناء، والشعب. الشعبُ هو مستودعُ الإِيمان، والأُسقف هو شاهدٌ على إِيمانهم وحافظٌ لهُ، وحاميٌ لهُ. الأُسقف يعترفُ علَناً بإِيمانهِ، يعترفُ بهِ أَمامَ الله، والإِعتراف بهِ أَمامَ الله هو أَقوى من الإِعترافِ بهِ أَمام الحكَّام والوُلاة والجلَّادين. الجلَّاد يقطع رقبَتي في هذه الدنيا، ولكن لا سلطانَ لهُ على روحي. ولكن الله، فلهُ سلطانٌ على روحي وجسَدي ليُهلِكَهُما كِلَيهما في جهنَّم كما علَّمَ الرب يسوع. الأُسقف إِذاً يعترفُ أَمام الله، أَمامَ البطريرك والشعب. وأَخطرُ ما في الموضوع أَنَّ هذا الإِعتراف يتمُّ أَمامَ الله، وفي الكنيسة. المؤمنونَ يشهَدونَ عليهِ، والإِكليريكيُّونَ ايضاً. ويبقى الحِملُ الثقيل مُلقاً على ضميرهِ، ليكونَ وفيًّا ليسوعَ المسيح.
سقطَ أَساقفةٌ في الهرطقات، ولكن هذا لا يعني أَنَّ الكنيسة سارت وراءَهُم. المجامع فصَلَتهُم. هناكَ الإِكليروس والشعب مجتمعينَ، يحمون الإِيمان في كلِّ زمانٍ ومكان. هذه الوِحدةُ في الإِيمان في العالمِ كلِّه مهمَّة جدًّا. يحميها الشعب والإِكليروس بفعلِ الرُّوح القُدُس الساكنُ فينا. اللهُ وضعَ في رقابِ الأَساقفة أَمانةً، فإِن خانوا هذه الأَمانة كان مصيرهُم في خطرٍ كبير.
يسوع قالَ لبولس: صعبٌ عليكَ أَن ترفسَ مناخِسَ. وصعبٌ على الأُسقف المنحرِف أَن يدوسَ المناخِس. يُقالُ إِنَّ أَحشاء آريوس خرجَت منهُ. اللهُ أَعلم. ويُقال إِنَّ الأَمبراطور جوليانوس الجاحد، أُصيبَ بسهمٍ فارسيٍّ فقال: قد غلَبتَني يا يسوعُ الناصري. “صعبٌ عليكَ أن ترفُسَ مناخس”، هذا كلامٌ مهمٌّ جدًّا. يسوع قال لبطرس: وأَبوابُ الجحيم لن تقوى عليها.
خلال اكثر من تسعة عشرة قرناً، عجزَت الجحيم عن إِلحاقِ الهزيمة بالكنيسة. الكنيسةُ مرفوعةُ الرايَة في العالم كلِّه، وستبقى كذلك بفضلِ الأُمَناء الأَوفياء من الإِكليريكييِّن والشعب. الأُسقف هو ملاكُ الكنيسة كما في رسائلِ يوحنا الإِنجيلي في الرؤيا. ويجب أَن يبقى الأَساقفةُ ملائكةً يقودونَ الشعب الى مراعي الخلاص.
الرسالةُ الكَهنوتيَّة مهمَّة. الرُّوحُ القُدُس يحلُّ على المرسوم ليقيمَهُ شمَّاساً، أَو كاهناً، أَو أُسقفاً .وهُم كهنَةُ الله العليّ الممسوحون. والكتابُ قال: لا تمسُّوا مسحائي. هم أُمناء على أَسرارِ الله، وعلى وديعةِ الإِيمان. إِن أَحسَنوا العمل، كانت مكافأتُهم في الآخرة عظيمةً جدًّا. وإِن قصَّروا، فحسابهُم عندَ اللهِ كبير.
اللهُ أَصابهم، ونحنُ علينا أَن نحترم هذا العمل الإِلهي. أَمَّا هُم، فعليهِم أَن يكونوا كملائكةٍ للشعب، يحرسونَهُ ويخدمونَهُ ويشاركونَهُ أَحزانَهُ وأَفراحَهُ، ويكونوا الى جانبهِ في السرَّاءِ والضرَّاء. وفي النهاية، يكونوا دائماً مستعدِّين للموتِ في سبيلِ الشعب. في رسالةِ بولس الرسول الثانية الى تيموتاوس، نصوصٌ مهمَّةٌ فهو يعتبر نفسَهُ ذبيحةً اقتربَ أَوانُ تقديمها، هو سكيبٌ. لذلك، يجب على الإِكليريكيُّين أَن يعيشوا كَشُهداء كما ذكرَ بولس في روميَة وكورنثوس.
أَليسَ الإِكليريكيُّون رؤَساء بقدَر ما هُم خدَمٌ وذبائحُ حيَّةٌ؟ الشهيدُ يموت مرَّةً واحدة ودفعةً واحدة، والإِكليريكيُّون هم شهداءُ كلَّ يومٍ. الإِكليريكيُّون مثلَ النسَّاك، هُم شهداء كلِّ يومٍ. الناسكُ في البريَّة متوحِّدٌ، يعيش لربِّهِ. أَمَّا الإِكليريكي فهو يعيشُ لغيرهِ، يحمِلُ موهبةً خاصَّةً للخدمة. إِن أَحسَنَ استثمارَها، كانت مكافأتُهُ في الآخرة عظيمةٌ جدًّا. هو يقدِّسُ نفسهُ ويقدِّسُ الرعيَّة. سلطانُهُ من هذه الناحية كبيرٌ.
على المطارنة أَن يُحسِنوا اختيارَ الكهنة. لا يجوز أَن يُرسَمَ كاهنٌ بدونِ فحصٍ دقيقٍ، وبدونِ تأهيلٍ متينٍ. هُم يخدُمونَ بيتَ الله، وبيتُ الله أَرقى شيءٌ في هذا الكون. الربُّ يسوع أَعطانا أَن نُصَلِّي لكَي يرسلَ الله عَمَلةً الى حَصادِهِ. هذه الوصيَّة مهمَّةٌ جدًّا. في الحقيقة، يجب أَن يُصَلِّي المؤمنون كي يُرسِلَ الله الى كنيستِهِ إِكليريكيِّينَ لامعينَ، قدِّيسين، أَبرار، طاهرين، صدِّيقين.
فيا أَيُّها الربُّ العظيم ربُّ السموات والأَرض، أَنعِم على كنيستِكَ بإِكليريكيِّينَ لامعينَ، برَّاقين، متجلببين بالنور الإِلهي الساطع، متجلببين بالربِّ يسوع على الجبلِ المقدَّس. سِماتُهم ناصعةُ البياض، وجوهُهُم تشعُّ بالنورِ الإِلهي، أَفواهُهُم نارُ الرُّوح القُدُس، وقلوبُهم مساكنٌ للثالوثِ القُدُّوس لهُ المجد والإِكرام والسجود الى أَبد الآبدين ودهر الداهرين آمين.