المحبة والتسامح
القديس أفرام السرياني
بمناسبة صوم الأربعين المقدس
إنني أقبل عطاياك وأصوامك حالما تتصالح مع اعدائك، حينما لا تحمل أي كراهية أو حقد على أحد، وحين لا تدع الشمس تغرب على غيظك].
“تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال، وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلموا مني، لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم. لأن نيري هين وحملي خفيف” (متى 11: 28 – 30).
حقا يقول الرب إن “حملي خفيف”. لأنه أي حمل هو وأي تعب في أن نغفر للأخ إساءاته لنا؟ فهو حقا خفيف، بل وليس بشيء يُذكر أن نغفر وننسى بإرادتنا فنحسب للوقت نحن أنفسنا أبرارًا.
فهو لم يقل: “قدموا لي أموالا أو عجولا او أغنامًا أو أصواما أو أسهارًا”، حتى تقول إنه ليست لدي هذه الأشياء، أو إنني لا أستطيع فعل هذه الأمور. لكن ما هو خفيف وسهل ويعمل بسرعة، هذا هو ما يطلبه منا أن نفعله: اغفروا ما لأخيكم عليكم وسأغفر أنا لكم ما هو عليكم نحوي. أنتم تسامحون إساءات صغيرة أو تتركون ديونا قليلة، بضعة قروش أو دريهمات، أما أنا فاسامحكم إلى ست مئة وزنة فضة. ثم إنكم إذ تسامحون لستم تعطون شيئا مما لكم، في حين أنني إذ أمنحكم الغفران أهبكم في نفس الوقت شفاء النفس وميراث الملكوت.
إنني أقبل عطاياك حالما تتصالح مع أعدائك، حينما لا تحمل أي كراهية أو حقد على أحد، وحين لا تدع الشمس تغرب على غيظك، وحين يوجد فيك السلام والمحبة تجاه كل الناس، حينذاك تسمع صلواتك، وتكون تقدمتك مقبولة ومرضية لله، فيصير بيتك مباركا وتتبارك أنت أيضا.
أما إذا كنت لا تريد أن تتصالح مع أخيك، كيف يتسنى لك أن تطلب الصفح والغفران مني؟ أتدوس كلامي في الأرض وتأمل أن تنال صفحًا؟ وإذ أنا نفسي سيدك آمرك ولست تسمع لي، وأنت العبد، كيف تجرؤ أن تأتي وترفع الصلاة إلي او تقدم لي الذبائح والبكور بينما يملأ الحقد قلبك على الآخرين؟
لأنه كما تحول أنت وجهك عن أخيك، هكذا سأحول أنا عيني عن صلواتك وعن تقدماتك.
أعود فأسألكم يا أخوتي: طالما أن الله محبة، وطالما أن كل ما يعمل بدون محبة هو غير مرضي لله، فكيف يقبل الله الصلوات والتقدمات والبكور وكافة الأعمال الصالحة التي يقدمها القاتل ما لم يقدم توبة كما ينبغي؟ ولكنك قد تقول: أنا لست قاتلا! وسأبين لك أنك كذلك، بل بالأحرى يوحنا اللاهوتي سيكشف لك هذا بأجلى بيان حين يقول: “كل من يبغض أخاه فهو قاتل نفس” (1 يو 3: 15).
سبيلنا، إذن، أنه لا ينبغي أن نقدم شيئا على المحبة، أو نفضل امتلاك أي شيء مهما كان على امتلاك المحبة. فلا نترك شيئا فينا ضد أي شخص آخر أو نرد الشر بالشر، كما ولا ندع الشمس تغرب على غيظنا، ولكن فلنصفح عن كل ما يُساء إلينا به، ولنعلم جيدًا أن “المحبة تستر كثرة من الخطايا” (1 بط 4: 8).
لأنه أي ربح يكون لنا، يا أولادي، لو أننا نقتني كل الأشياء ونحيا بدون المحبة المخلصة المعطية الحياة؟ ألا يكون ذلك كما لو أنك أعددت وليمة عظيمة ودعوت إليها ملوكا وعظماء ولم يفوتك إعداد كل ما يلزم للوليمة، إلا أنه لم يوجد هناك ملح. فهل يمكن لأي شخص أن يتلذذ بالطعام على هذه الحال؟ بالطبع لا.
وأعظم من ذلك هو ما يصيبك من خسارة لهذا السبب، لأنك لست تخسر فقط تعبك والجهد الذي بذلته وحسب، بل زد على ذلك الخجل الذي ينتابك أمام أولئك الذين دعوتهم. وهذا هو الحاصل هنا، لأن كل تعبك يصير باطلا عديم النفع إن كنت عادم المحبة التي بدونها كل عمل صالح تعمله مهما كان، يبقى غير طاهر حتى ولو كان من يقوم به يدعي الحياة البتولية، حتى ولو كان يتوفر على الصوم أو سهر الليالي، حتى ولو كان يأوي الفقراء، أو يرى مقدمًا العطايا وبالبكور لله، أو يصنع أعمالا صالحة، حتى ولو كان سيبني كنيسة، أو أي عمل صالح آخر من أي نوع، وكان خاليًا من المحبة، فجميع هذه الأعمال تحسب له كلا شيء أمام الله، لأنه بدون المحبة ليس شيء مرضي أمام الرب.
وهاك ما يقوله الرسول (بولس) عن هذا الأمر: “إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة، وإن كانت لي نبوة وأعلم جميع الأسرار وكل علم، وإن كان لي كل الإيمان حتى أنقل الجبال، ولكن ليس لي محبة، فلا أنتفع شيئا” (1 كو13).
لأنه كل من يربي العدواة في قلبه نحو أخيه، ومع ذلك يرى مقدما أية تقدمة لله، فهو يكون كمن يذبح كلبًا أو يقدم أجرة زانية (إش 66: 3، ام 6: 26).
فاحترس، إذن، من أن تقدم شيئا لله خلوًا من المحبة طالما أن المحبة تستر كثرة من الخطايا.
يا للعجب! كم من أمور صالحة كثيرة نخسرها، وكم من بهجة ومسرة نباعد نفوسنا منها إذا كنا عادمين المحبة.
يهوذا احتقر المبحة، وترك صحبة الرسل، ورفض النور الحقيقي سيده، كارها إخوته ومقبلا بذلك إلى الظلمة. ولأجل هذا كتب بطرس الرسول: “… هذه الخدمة والرسالة التي تعداها يهوذا ليذهب إلى مكانه (الظلمة)” (أع 1: 25).
وايضًا يوحنا اللاهوتي يقول: “وأما من يبغض أخاه فهو في الظلمة، وفي الظلمة يسلك ولا يعلم أين يمضي، لأن الظلمة أعمت عينيه” (1يو2: 11).
ألعلك تقول: إنني ولو أني لا أحب قريبي إلا أنني أحب الله؟ يوحنا نفسه يكشف كذبك حيث يقول: “إن قال أحد إني احب الله وأبغض أخاه فهو كاذب. لأن من لا يحب أخاه الذي أبصره كيف يقدر أن يحب الله الذي لا يبصره” (1يو4: 20).
فالذي يحب قريبه ولا يحمل أي عداوة لأحد، ثم يحقق قول الرسول “لا تغرب الشمس على غيظكم”، هو الذي يحب الله بالحقيقة وهو تلميذ للمسيح الذي قال: “بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذي: إن كان لكم حب بعظكم لبعض” (يو13: 35).
وهكذا نرى بكل وضوح أنه ليست وسيلة أخرى بها تعرفون أنكم تلاميذ للمسيح سوى ممارسة المحبة الحقيقية. لأن من يكره أخاه ويظن في نفسه أنه يحب المسيح، هو “كاذب ويخدع نفسه”، لأن يوحنا الرسول يخبرنا: “ولنا هذه الوصية منه: أن من يحب الله يحب أخاه أيضًا” (1يو4: 21). وأيضًا يقول الرب: “تحب الرب إلهك… وقريبك كنفسك” (مت22: 37، 39). وحين أراد أن يعرفنا بقوة هذه المحبة قال: “بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء”.
يا لهذا الأمر العجيب والمذهل حقا! إن كل من كانت له محبة حقيقية فهو يكمل الناموس كله: “فالمحبة هي تكميل الناموس” (رو13: 10).
فيا لعظمة اقتدار المحبة التي لا مثيل لها، فليس ثمة شيء في السماء أو على الأرض يمكن أن يعلو على المحبة. ولهذا فإن بولس الرسول إذ أدرك أنه ليس شيء أكثر كمالا من المحبة، يعلمنا قائلا: “لا تكونوا مديونين لأحد بشيء إلا بأن يحب بعضكم بعضًا” (رو13: 8). لذلك ضعوا حياتكم من أجل بعضكم البعض، لأن بهذه تقوم المحبة رأس كل الفضائل وملحها.
المحبة هي تكميل الناموس. المحبة خلاص أكيد. سكنت المحبة قلب هابيل منذ البدء، وملكت على قلب نوح. اكتسى بها الآباء البطاركة مثل الثوب. المحبة جعلت من داود مسكنا للروح القدس. المحبة أقامت خيمة الشهادة وسط الأنبياء (لا26: 11). المحبة هي التي عضدت أيوب.
ولماذا لا أتحدث عما هو أعظم؟ فالمحبة هي التي اضطرت ابن الله أن يأتي إلينا من السماء. فالذي هو بغير جسد، لبس جسدنا. والذي هو فوق الزمن، خضع للزمن لأجلنا. الذي، وهو ابن الله، صار ابن الإنسان.
من خلال المحبة كل الأشياء تخدم خلاصنا. من خلال المحبة انغلب الموت وانكسرت قوة الجحيم، أعيد آدم للحياة وحواء استردت الحرية. من خلال محبة الله، صار الاثنان واحدًا: الناس والملائكة. وبواسطة هذه المحبة بطلت اللعنة، وانفتح الفردوس، واستعلنت لنا الحياة، وبشرنا بملكوت السموات.
المحبة حولت صيادي السمك إلى صيادي الناس. إنها المحبة التي أعطت الشهداء القوة والشجاعة في آلامهم، وهي التي جعلت في البراري مدنا للسكن، وملأت الجبال والمغاير بأنغام تسابيح المزامير الشجية. المحبة غيرت الناس إلى ملائكة. وهي التي علمت الرجال والنساء معًا أن يسلكوا الطريق الضيق.
ولكن لماذا أظل أضفر خيط حديثي منحصرًا في أمور تفوق إدراك البشر؟ لأنه من ذا الذي بمقدوره أن يتحدث بأمجاد المحبة؟ إنني أعتقد أنه ولا الملائكة في مقدورهم أن يفعلوا ذلك.
فيا للمحبة المباركة التي وهبتنا كل ما هو صالح!
يا للمحبة المباركة التي تجعل كل من يشتهيها مباركا أيضًا! مبارك ومغبوط جدًا هو الإنسان الذي من قلب طاهر وضمير صالح يمتلك المحبة.
والآن حين تسمع عن هذه المحبة، احترس أن تفهمها بإحساس أرضي جسداني كما يحدث في الأعياد والولائم مع أولئك الذين “ألههم في بطونهم، ومجدهم في خزيهم” (في3: 19)، الذين تنحصر محبتهم في أكلة يأكلونها على مائدة واحدة وحبهم إهانة لله. هناك يدعون الأصدقاء وليس الغرباء، حيث لا يوجد نصيب للفقير. هناك تجد الضحك والعربدة والضوضاء والسكر والخلاعة. عن هؤلاء يقول يعقوب الرسول: “كل من أراد أن يكون محبًا للعالم، فقد صار عدوًا لله” (يع 4: 4). عن هذه المحبة، بل قل بالأحرى أنها الهزء والسخرية، يقول الرب إن الأمم يصنعون مثلها: “لأنه إن أحببتم الذين يحبونكم، فأي أجر لكم. أليس العشّارون أيضًا يفعلون ذلك” (مت5: 46).
لكننا لسنا نتحدث عن هذه المحبة، لسنا نكرز بها ولا نمتدحها. لكننا إنما نكرز بتلك المحبة التي بلا رياء، المحبة الفائقة الوصف التي لا عيب فيها ولا دنس ولا يدركها أي لوم. هذه المحبة، أقول إنها تحوي داخلها كل الأشياء ويحتويها كل عمل صالح كما علمنا إياها ربنا قائلا: “أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه” (يو15: 13). لأن الرب نفسه علم بذلك وفعله أيضًا إذ أسلم ذاته لأجلنا؟ ليس لأجل أحبائه فقط، بل ومن أجل أعدائه أيضًا: “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد (لأجل العالم)” (يو3: 16).
أما بولس الرسول فقط التهب بهذه المحبة، وإذ اقتنى المحبة الإلهية داخله أخبرنا أن “المحبة لا تصنع شرًا للقريب” (رو13: 10)، وأن المحبة لا تجازي عن شرّ بشر، ولا ترد باللعنة لكنها تصير دائمًا تحتمل ودائمًا تتأنى وترفق: “المحبة لا تحسد… ولا تحتد، ولا تظن السوء، ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق، وتحتمل كل شيء، وتصدق كل شيء، وترجو كل شيء، وتصبر على كل شيء”، ومحبة مثل هذه “لا تسقط أبدًا” (1كو13: 4-8).
كل من ارتبط بهذه المحبة فهو مبارك، يحظى بالبركة في هذه الحياة، ويصير مباركا في الدهر الآتي.
مغبوطة هي النفس التي تزينت بالمحبة التي لا تنتفخ ولا تحسد، التي لا تكره أي إنسان في أي وقت، التي لا تصد الفقير ولا تنصرف عن المحتاج، التي لا تحتقر الأرملة أو اليتيم أو الغريب. فالذي له هذه المحبة في قلبه، يحب ليس فقط الذين يحبونه وحدهم – لأنه هذا ما يفعله بالمثل الأمميون – بل ويحب أيضًا كل من يسيء إليه. فالقديس استفانوس الشهيد إذ تسربل بهذه المحبة، صلى لأجل الذين رجموه قائلا: “يا رب لا تقم لهم هذه الخطية” (أع7: 60).
ثم أعود فأقول ولا أمل من الحديث:
طوبى للإنسان الذي يزدري بكل الأشياء الأرضية والتي مالها إلى الفساد، ويقتني المحبة، فإن ربح المحبة يزاد له يوما بعد يوم، مكافأته وإكليله يعد له. الفردوس ينفتح أمامه، وملكوت السموات ينعم به عليه كموهبة. الملائكة جميعًا تنادي بطوباويته، السموات وكل القوات معا تغبطه. صفوف الملائكة تتقبله بفرح وابتهاج، وأمامه تنفتح الأبواب السمائية باتساع، ومنها يدخل ليقدموه أمام عرش الله لكي يتوج عن يمين الله الذي سيملك معه إلى الأبد.
فمن يكون أكثر غبطة من هذا الإنسان؟ من يحظى برفعةٍ أو ينال تكريمًا أكثر منه؟ تطلع إلى فوق وتأمل: إلى أي علو ترفع المحبة كل من يقتنيها. فكما أعلن الرسول بحق: ينبغي ألا نكون مديونين لأحد بشيء إلا بأن يحب بعضنا بعضًا، لأن “الله محبة، ومن يثبت في المحبة، يثبت في الله والله فيه” (1يو4: 16).