كانت الافخارستيا ولا تزال حتى الآن مركز الخدم الليتورجية الإلهية وسببها وغايتها ، الافخارستيا مصدرا روحيا عميقا للحياة مع المسيح ومصدرا إشعاع لاهوتي للفهم والإيمان بالفداء والخلاص على أساس الممارسة الفعلية لها والعيش بها لأنها هي أساس عبادة الله . وأساس الشركة معه وأساس العقيدة ، في القرون الأولى للكنيسة بدأت الوثائق الليتورجية تظهر وتكوّن للمرة الأولى الترتيب المسيحي للافخارستيا . ومن هذه الوثائق ، وثيقة اسمها ( الدّيداكية ) Διδαχή.
تاريخ الدّيداكية :
تعتبر الدّيداكية أهم وثيقة للعصر الرسولي ، وهي اهم واقدم مصدر للقوانين الكنيسة التي تحت أيدينا ، لم تكن هذه الثقة معروفة أبدا ، حتى عام 1883م إلا أن نشرها مطران نيقوميدية " فيلوثيوس برينوس " عن مخطوطة يونانية ترجع إلى عام 1.57م . كانت محطوطة في بطريركية أورشليم . ومنذ ذاك الحين وهذه الوثيقة تغني معلوماتنا وفهمنا بطريقة مدهشة عن بدايات الكنيسة .
أن العنوان المختصر لهذا الكتاب هو : تعليم الرسل الاثني عشر أما العنوان الكامل له فهو : " تعليم الرب إلى الأمم بواسطة الاثني عشر رسولا " وهذا العنوان الاخير يبدو انه العنوان الذي عرف به الكتاب أصلا ولكن لم يبين المؤلف اسمه ومع هذا فانه كما يظهر من العنوان أن هذا العنوان يشير إلى انه عمل رسولي ، وقصد الكاتب واضح وهو انه يعطي ملخصا مختصرا للتعليم المسيحي كما تعلمته الأمم على يدي الرسل .
أن مكان الكتابة " الدّيداكية " غير معروف أيضا ولكن البعض يقول نتيجة انتشار هذا الكتاب في مصر يعتبر انه كتب في مصر وآخرون يقولون انه كتب في سوريا أو أتسلطين أو آسيا الصغرى . أما الزمن الذي كتبت فيه فهو غير معروف إلا انه قد كتب ( 16.م ) وذلك لان اكليمنضس الإسكندري يستشهد به آلا أن يوجد بعض علماء الليتورجيا إذ يقولون أن الكتابة الدّيداكية لا يمكن أن يكون إلا في سنة (12.م ) تقريبا والبعض يقول أن مادة الدّيداكية تعود إلى تاريخ اسبق ( 8. م) أو ( 4. ) وأيضا القديس اثناسيوس الكبير يستشهد بها في رسالته فصحية ( 39 ) وأيضا المؤرخ روفينوس الذي سمّاها ( الطريقتين ) وسماّها أيضا ( أحكام بطرس ) والقديس ايرناوس الذي استخدم منها الاصطلاحات الواردة في الدّيداكية .
يظهر من عنوان الكتاب أن موضوع الدّيداكية هو البشارة الإنجيلية للمسيح وأيضا نجد تنظيم مختصر للوصايا الأخلاقية وتعليمات لتنظيم الجماعات الكنسية وترتيبات تختص بالاحتفالات الليتورجية وبهذا نجد تصورا للحياة المسيحية في القرون الأولى للكنيسة ، وتعتبر الدّيداكية النموذج الأصلي لكل مجموعات دساتير الايمان والقوانين الرسولية التي بدأت بها القوانين الكنسية في الشرق والغرب .
محتوى الدّيداكية :
ينقسم الكتاب كله إلى 16 فصر موزعة على قسمين كبيرين :
1. القسم الأول : ( من الفصل 1 – 1. ) ، يقدم التعليمات اللتورجية مثلا : بشأن التعاليم المعطاة للموعوظين ، وأيضا عن قواعد الأخلاقية التي تظهر في شكل طريقتين ، طريق البر والآخر شر .
2. القسم الثاني : ( من الفصل 11 – 15 ) يتضمن قواعد تختص بالنظام مثلا : المواصفات التي أعدت لتنظيم الاشتراك الأول للمعمدين حديثا ليلة عيد القيامة ، وصف خدمة الافخارستيا في يوم الأحد . وأيضا درجات الكهنوت ودور الأنبياء
3. الخاتمة فهي فصل خاص بـ "parousia " أي " الظهور الإلهي الثاني للرب " والواجبات المسيحية . مثلا فيها : إشارة إلى العلامات التي تسبق المجيء منها قيامة الرب ، كثرة الأنبياء الكذبة ، وتحول الحملان إلى الذئاب .
الافخارستيا في الدّيداكية :
الإصحاحات ( 9 و 1. ) تتكلم عن سر الافخارستيا ونجد فيها بعض الافاشين والصلوات التي كانت تستخدم في تلك الأيام ويظهر من هذه الافاشين والصلوات التي كانت تستخدم في تلك الأيام ويظهر من هذه الافاشين ( إصحاح 9 و 1. ) أن لها صلة بعشاء يسبق الافخارستيا لهذا أن الدّيداكية كتبت في وقت كانت لا تزال فيه الافخارستيا تتم مرفقة بعشاء أي مائدة المحبة .
أما الإصحاح ( 14 ) فهو يتكلم عن الافخارستيا بحد ذاتها وهذا يظهر في عبارة " يوم الرب " أي " الأحد " حيث كانوا يجتمعون ويكسرون الخبز إذا الفصلان ( 9 و1. ) على جانب من الأهمية لتاريخ اللتورجية لأنهما يحتويان على اقدم الصلوات الافخارستيا المسجلة
الافخارستيا : الكأس ، الخبز ، الشكر .
بشأن الكأس :
أما بشأن الافخارستيا فاشكروا هكذا :
1. أولا على الكأس [1]:: ( نرفع لك الشكر يا أبانا .
من اجل الكرمة المقدسة [2] ، كرمة داود خادمك [3].
لقد عرفنا بها يسوع ابنك
لك المجد إلى الأبد … )
بشأن الخبز :
ثم على الخبز المكسور :
( نشكرك يا أبانا على الحياة والمعرفة اللتين
منحتهما إيانا بيسوع ابنك .
لك المجد إلى الأبد … )
( … كما جمع الخبز المكسور الذي كان مبعثرا في
الجبال ليصير خبزا واحدا .
هكذا اجمع كنيستك من أقاصي الأرض
في ملكوتك .
لان لك المجد والقوة … )
لا يأكل ولا يشرب أحد من ذبيحة افخارستيّتك
إلا الذين المعمدون باسم الرب . لان الرب [4] قال :لا تلقوا إلى الكلاب ما هو مقدس . ( متى: 7 – 6 )
من هنا يتضح انه لم تكن في ذلك العصر صلوات افخارستيا خاصة بل صلوات بسيطة للمائدة ، كما يتضح أن الحديث عن الافخارستيا مرتبط بقوة مع الحديث عن المعمودية ، والسران مرتبطان معا في ذهن الكاتب ، فالأشخاص غير المعمدين مستبعدين عن تناول الافخارستيا .
صلاة الشكر :
في الإصحاح العاشر صلاة بعد التناول " إذ يقول بعد أن شبعتم اشكروا
هكذا :
نشكرك أيها الآب القدوس [5]
لأجل اسمك المقدس الذي سكن [6] قلوبنا ولأجل منحك
ولأجل المعرفة والإيمان والخلود
… ولكن لنا قد وهبت طعاما وشرابا روحيا وحياة أبدية
بواسطة يسوع خادمك
وفوق كل شيء نشكرك لأنك قدير
في هذا الفصل تسمى الافخارستيا طعام وشراب روحي وأيضا من خلال وضع أو الترتيب النصوص يكشف لنا الكاتب طقس وليمة المحبة ( الاغابي ) في الفصل ( 9 و 1. ) الذي هو طقس عشاء يجري في البيوت وينتهي بالافخارستيا .
أما الفصول التي تبين لنا إقامة الافخارستيا في الكنيسة فهي الفصل( 15 : 1 – 14) والفصل ( 16 : 1 – 2 ) وفي اليوم المحدد له ( يوم الرب ) حيث يقوم بالخدمة الأسقف مع الكهنة والشمامسة .
الافخارستيا يوم الأحد :
في الفصل ( 14 ) توصف خدمة الافخارستيا في يوم الأحد إذ يقول : " في اليوم الأول المخصص ، اجتمعوا معا واكسروا الخبز واشكروا وقدموا الشكر لكن أولا اعترفوا بخطاياكم حتى تكون ذبيحتكم طاهرة [7] . ولا ينبغي أن يشترك في اجتماعكم هذا من كان متخاصما مع أخيه إلى أن يصطلحا : فانه لا يجب أن تتنجس ذبيحتكم "
يتضح عن هذا الفصل ( 14 ) شروط الاشتراك في الافخارستيا ، وهي الاعتراف والمصالحة ، أن الإصرار على الاعتراف قبل الاشتراك في الافخارستيا أمر واضح الأهمية ، والاعتراف بالخطايا المقصود هنا يشبه الاعتراف الليتورجي ( سر الاعتراف ) المعمول به الآن .
أيضا بالنفس الطريقة فان الفصل ( 14 ) يطالب بالاعتراف بالخطايا فبل الصلاة في الكنيسة .
إلا أن هناك أراء متفاوتة حول النص الليتورجي في ( الدّيداكية ) حول الافخارستيا منهم ما يقول أن النصوص الواردة في الفصل ( 9 و 1. ) تشير إلى الافخارستيا بسبب استعمال الاصطلاحات المستخدمة مثل كلمة الافخارستيا وايضا مثلا عدم اشتراك غير المعمدين وان الخبز والكأس هو طعام روحي وشراب روحي .
الرأي الثاني يقول أن نصوص ( الدّيداكية ) في الفصل ( 9 و 1. ) هي اغابي ( مائدة المحبة ) فقط .
الرأي الثالث يشير إلى أن نصوص ( الدّيداكية ) هي اغابي لكنها مرتبطة بافخارستيا بعدها والسبب يعود لإغابي واستعمالها نفس الروح السرية التي للافخارستيا من حيث الصلوات والكلمات والأفعال هذا ما يظهر بوضوح في صلاة الشكر على الكأس .
استخدام كلمة افخارستيا في ( الدّيداكية ) تعني باللغة العبرية القديمة ( بركة ) التي كانت تترجم إلى ( أولوجية ) أو إلى افخارستيا . اذا عشاء الاغابي أو المحبة هو عشاء بركة وهو نفسه افخارستيا لأنها شكر ، أما ما يميز الاثنين عن بعضهما البعض هو التقديس والاستدعاء مما يؤكد أن نص الدّيداكية هو مائدة المحبة هو وضع الكأس المذكور في فصل ( 9 : 2 ) قبل الكسر وهذا هو وضع الاغابي بحسب التقليد القديم .
إذا مائدة المحبة ( اغابي ) تبدأ دائما بكأس وليس بكسر الخبيز . أيضا هناك مما يؤكد على قلناه سابقا وهو أن الشكر على الكأس والخبز في الفصل ( 9: 2 – 3 ) لم يكن شكر أو بركة الكأس أو الخبز المعمول به الآن في تقديس الخبز والخمر في القداس أي لم يبارك الخبز والخبر .
الشكر هنا مرفوع لله لأجل الكأس والخمر قبل الكسر وهذا هو طقس اغابي مما يكشف عن ذلك قدم وأصالة نص الدّيداكية ومعرفة الكاتب في أصول الليتورجيا حيث يبرز شخصيته ذات صبغة يهودية – مسيحية بآن واحد .
اذا خلو الشكر الأخير مما ذكر الجسد والدم وموت الرب كتذكار هذا كله يحتم أن هذه النصوص اغابي وليس افخارستيا .
أما بالنسبة عن حرم غير المعمدين الاشتراك في مائدة اغابي ( الفصل ( 9 : 5 ) . [ معروف أن الموعوظين لا يكون لهم شركة في مائدة المحبة التي تقيمها الكنيسة ، وفي الافخارستيا على السواء . ( هيبوليتس ) ]
لان خبز اغابي مقدسا قد جرى عليه بركة وصلاة باسم الرب وخبز الافخارستيا صار قدسا فالأول خبز والثني جسد الهي من اجل هذا تستعير " الدّيداكية قول الرب " لا تعطوا القدس للكلاب " ( متى 7: 6 ) .
قيمة الدّيداكية :
أخيرا عندما تأتينا شهادة من القرن الثاني وفي وثيقة تعود إلى الجيل الثاني من المسيحيين الذين كانوا لازالوا معاينين لتلاميذ الرسل ربنا يسوع فان هذه الشهادة على قدر كبير من الأهمية .
يبدو أن صلوات الدّيداكية كانت شائعة بين اليهود المتنصرين ويؤكد هذا وجود جزء من صلوات البركة على ورق بردى باللغة العبرانية تعود إلى القرن الثاني وربما إلى القرن الأول ضمن برديات المجمع اليهودي القديم المعروف ديورا ـ ايرويوس . والتي يعتقد البعض انه مجمع تحول إلى الكنيسة بسبب وجود رسوم ونقوش من العهد القديم مرتبطة بالعبادة المسيحية .
تظهر قيمة الدّيداكية هو أن النص مقتبس من ( ملاخي 1: 11 – 14 ) وهو نص أساسي في الحوار اليهودي المسيحي في القرون الأولى ولعب دورا أساسيا في الصراع بين المجمع والكنيسة ولعل افضل نص هو في حوار الشهيد يوستينوس مع اليهودي تريفون وأيضا تقدمة الدقيق ( القمح ) كان مثالا لخبز الافخارستيا الذي أمر يسوع أن نقدمه لذكرى آلامه . والذبائح التي تقدمونها أيها اليهود قال الله عنها على لسان ملاخي " ليس لي مسرة فيها " ( ملاحي 11: 11 – 14 ) وأيضا يتحدث ملاخي سابقا عن الذبائح التي سوف نقدمها نحن الشعوب الوثنية ( الأمم ) له في كل مكان أي خبز وكأس الافخارستيا ويقول ( ملاخي ) : أننا في هذا نعظم اسمه بينما انتم ( اليهود ) تدنسون اسمه . ( الحوار مع تريفون 4. : 1 – 2 ) .
فإذا تذكرنا أن الحوار مع اليهودي ترفيون كتب ما بين سنة ( 15. – 166 ) أي في الوقت الذي دوّنت فيه الدّيداكية .
المراجع :
v اقدم النصوص المسيحية الجزء الأول v حياة الصلاة الأرثوذكسية v مجلة الرسالة السنة الرابعة v مصادر اللتيورجيا ـ البلمند v مجلة مرقس العدد 142 عام 1972 v مجلد النعمة – 1982
[1] – ( ا كورنثوس الأولى : 1. -16 )
[2] – ( مؤسسة على يوحنا : 15 – 1 )
[3] – ( أعمال الرسل : 4 – 25 )
[4] – ( أعمال الرسل : 19 – 5 )
[5] ( يوحنا 7 : 1 – 11 )
[6] ( يوحنا 1 : 14 )
[7] ( 1 بطرس 2: 5 ) و ( عبرانيين 3 : 1 )