الشرُّ وَالخطيئَة الأصلية
مقدمة:
أن الله هو الإله الأوحد، الآب الضابط الكل، الذي بفيض من محبته خلق السماء والأرض وكل ما فيها من جماد ونبات وحيوان، وجعل من الانسان قمة الخلائق. ورأينا كذلك أن الكائنات كلها تستقي من الله وجودها وكيانها. إلاّ أنّ الله كليّ الصلاح، أما في سائر الكائنات فنجد جنباً إلى جنب الخير والشرّ. فمن أين الشر إذاً، إنْ كان الله ينبوع الخير والصلاح؟
يمكننا تعريف الشرّ بقولنا انه خلل في الكائنات. والشرّ على نوعين، طبيعي وأدبي. فالشرّ الطبيعي هو الذي يحدث من دون إرادة الانسان، كالمرض والموت والكوارث الطبيعية التي تسبّب للانسان الأذى والضرر، كما لزلازل والفيضانات والأوبئة… أما الشرّ الأدبي فهو الخلل الذي يحدثه الانسان بملء ارادته في نفسه وفي الآخرين؛ وهذه هي الخطيئة على مختلف أنواعها.
لا ريب في أنه بإمكاننا تفسير الشرّ الأدبي، أي الخطيئة، بالعودة إلى حرية الانسان. فعندما يقتل إنسان أخاه، أو يظلمه، أو يستعبده، أو يستغلّه كأداة لتحقيق مآربه الأنانية، لا يخطر على بال أحد أن يتّهم الله ويعزو إليه مسؤولية ذلك، فالانسان هو المسؤول عما يحدث في العالم من جرائم ومظالم.
ولكنّ الشرّ الطبيعي، الذي يقع من دون إرادة الانسان، فيُحدث خللاً في جسمه أو في نفسه، ويسبّب له المرض والألم أو يقوده إلى الموت، مَن المسؤول عنه؟ واذا كان الانسان يخطأ، أفليس لأنه من طبيعته يميل إلى الخطيئة؟ وإن كان باستطاعة الانسان أن يقتل أخاه، أفليس لأن الانسان من طبيعته مائت؟ وطبيعته هذه من خلقها؟ أليس الله؟ فلماذا إذاً الإله الكلي الصلاح خلق في طبيعة الانسان الميل إلى الشرّ؟ ولماذا الإله الكلي المحبة وضع في طبيعة الانسان إمكان الألم وحتميّة الموت؟
القِسم الأول
تفسيرات خاطئة:لقد أعطيت، على مرّ العصور، وفي مختلف الأديان، تفسيرات للشرّ لم تعد مقبولة اليوم.
تفسير ميثولوجي في الأديان التي تعتقد بتعدّد الآلهة:
كان الاعتقاد السائد عند اليونانيين والبابليين أنّ الخير هو من صنع الإله الأعظم، وأنّ الشرّ هو من عمل الآلهة الأدنين. وتلك هي الأسطورة التي نقرأها في كتاب طيمَاوس لأفلاطون: ان الله الكليّ الصلاح قد أراد أن يكون كلّ ما في الكون صالحاً على مثاله، فكوّن هو نفسه الآلهة الأدنين، وأزال عنها كل شرّ، ومنحها الخلود، ووكل إليها مهمّة صنع سائر المخلوقات، فجبلتها مزيجاً من روح وجسد، من خلود وموت، من خير وشرّ؛ ونشأ هكذا أصل كل الشرور. وإنّ هذه الأسطورة إذ تنزّه الإله الأعظم عن خلق الشرّ، وتلقي المسؤولية على الآلهة الأدنين، تجد حلاً لمعضلة الشرّ.
تفسير الغنوصيّين والمانويّين: الشرّ في المادة:
لتفسير وجود الشرّ يقول الغنوصيون –وهم بدعة ظهرت في القرون المسيحية الأولى- ان المادة انبثقت من الله ولكن على مراحل متعدّدة. وفي كل انبثاق كان الخير يتقلّص والشرّ يزيد، إلى أن انبثقت المادة الحالية التي هي شرّ كلّها.
أما المانويون -وهم أتباع الفيلسوف الفارسي ماني، الذي توفي في فارس سنة 273 بعد المسيح- فلا يعتقدون بوجود إله واحد خالق للكون، بل بوجود مبدأين أزليين وغير مخلوقين، النور والظلمة، أحدهما صالح والآخر شرير. فالنور هو إله الخير، والظلمة إله الشرّ. أما المادة فهي ظلمة، أي شرّ. وفي أساطيرهم انه حدث يوماً أن أشرق إله الخير بنوره على المادة المظلمة، فأرادت أن ترتفع إلى مستواه، فصدّها، وخلق الانسان الأول لمساعدته على مقاومتها. إلا أن الظلمة كانت أقوى من الانسان، فسجنته في المادة. ومن هذا الانسان المقهور وُلدَت الانسانية الحالية التي لا تستطيع التحرّر من قيود المادة إلا بالمعرفة الحقيقية.
ان ما يجمع بين الغنوصيّين والمانويّين، في تفسير الشرّ، هو أنهم يرون الشرّ كلّه في المادة. أمّا الله فلا وجود للشرّ فيه، لأنه روح محض؛ فهو إذاً الخير والصلاح في ذاته.
تفسير الشرّ بالعودة إلى العناية الإلهية:
الشرّ الجزئي يقود إلى الخير العام. يقول أفلوطين إنّ في العالم "نفساً شاملة" هي عناية الله التي تنتشر من تلقاء ذاتها في العالم وتقوده إلى الخير، لذلك لا وجود للشرّفي العالم. أما ما نعتبره شرًّا، من زاويتنا الضيقة، فهو في الحقيقة خير ضروري للنظام العام ضرورةَ الجلاَّد في الدولة.
وهذا التفسير قد تأثّر به بعض آباء الكنيسة، كالمغبوط أوغوسطينوس الذي يرى أنّ العناية الالهية تنظّم كل شيء بحكمة، وانّ كل شرّ ينتابنا، علينا أن نقبله بفرح لأنه يقودنا إلى الخير العام.
هذا التفسير نجده أيضاً في القرن الثامن عشر عند الفيلسوف الألماني لايبنيتز الذي يتصوّر الله مهندساً يبني قصراً جميلاً لمجده الخاص. ويقول انه يجب علينا، لتفسير معضلة الشرّ، ألاّ ننظر إلى قباحة بعض التفاصيل بل إلى روعة البناء بجملته. وأكثر من ذلك، فان قباحة تلك التفاصيل تزيد روعة البناء وتضاعف إعجابنا بحكمة الله الذي يستخدم الشرّ ليخرج منه الخير الأعظم. لذلك، وان كانت هناك عدّة عوالم ممكنة، فالعالم الذي خلقه الله هو أفضلها.
إن تفسير الشرّ بالرجوع إلى العناية الإلهية لا يزال التفسير السائد مختلف الأوساط المسيحية التي تؤمن بصلاح الله ولا تريد أن تعزو إليه أيّ شرّ. فتقول إن الله يَعلم خيرنا أكثر منّا، فاذا سمح بالشرّ، فما ذلك إلا ليقودنا إلى الخير. وقد نسمع، لدى موت شاب في ريعان العمر، أن الله قد أراد له هذا الموت المبكِّر لأنه يعلم بعلمه السابق أنّه لو بقي على قيد الحياة لعاش في الألم والشرّ. فموته هو في نظرنا شرّ؛ أما في نظر الله الذي يعلم كل شيء علماً سابقاً، فإنما هو خير.
وفي نظرة مماثلة يرى البعض أن الشرور الطبيعية، من أمراض وأوبئة وفيضانات وزلازل، إنما هي "ضربات" يرسلها الله للبشر عقاباً على خطاياهم. لذلك نسمع بعض الناس يتذمّرون وينتقدون الله قائلين: ماذا فعلت من إثم لكي يعاقبني الله؟ أيّ ذنب اقترفت ليميت الله ولدي؟
وفي هذه النظرة يصبح الإنسان هو نفسه مسؤولاً عن الشرّ، حتى عن الشرّ الطبيعي: فالشرّ هو عقاب الخطيئة. وهذا يقودنا إلى التفسير التقليدي في المسيحية: الشرّ هو نتيجة الخطيئة الأصلية.