الغني والغنى في عظات القديس باسيليوس:
شَغَلَ موضوع المال والغنى، كما مسائل الفقر والغنى، فكر القديس باسيليوس طيلة حياته. ولطالما ارتبط بمسائل العدالة الاجتماعية أو الحياة الأخوية الإنسانية. فهو وقف موقف مسيحي حيال هذه المسألة، أي أنه وقف موقفاً إيجابياً. ولكن ما يميزه هو أساسه الأنثروبولوجي المرتبط بعلاقة الإنسان بإلهه والقريب، أي فكرة المسيحية في هذا الموضوع. فالمال لا يدرسه من وجهة نظر اجتماعية.
الانتقال من الفقر إلى الغنى، لم يكن هناك بينهما إي فصل في حديث القديس باسيليوس عن الغنى والفقر، بل كان دائما يلازمهما مع بعضهما البعض حتى يضع الصورة الصحية والواضحة إلى الجميع عن بشاعة كل من الفقر والغنى إذا لم يكن هناك طريقة جيدة في العيش، أي في كيفية استخدام الخيرات المعطى لكل شخص وإلى الوزنات الموزعة كلٍ بحسب طاقته وحسب قدرته على العطاء والعمل لزيادة هذه الوزنات.
والقديس باسيليوس، في عظته السادسة، يقف موقفاً مضاداً من الغنى السيئ الاستعمال. فهو في هذه العظة يتحدث عن الغنى والفقر من خلال تأمل في النص الإنجيلي (لوقا 12: 16-18). فهو يتحدث عن سعة محبة الله للبشر جمعاء، فقراء كانوا أم أغنياء. فالله لم يعاقب هذا الغني الذي تحدث عنه الإنجيل. ولكن الله انتظر من هذا الغني أن يظهر صلاح الله اللامتناهي بقوة وجلاء، فهو يسكب نعمه حتى على أمثال ذلك الغني: ‘‘ لأنه يطلع شمسه على الأشرار والصالحين ويمطر على الأبرار والظالمين ’’ ( متى 5: 45 ).
القديس باسيليوس يرافق في أقواله كلمة غني مع بخيل، فالبخل عنده هو مرض يصيب الإنسان، فيشبّه مرض البخيل بالمرض ذو شبه وعلاقة بشر الذين يفضّلون التخمة تقتلهم على أن يتركوا فضلات موائدهم للفقراء[1]. فهو يحذّر الغني من غناه، فيحبس كل شيء وراء بابه موصداً ويختم على أمواله غير عالم بما هو فاعل، مفكراً هل أعطيها للفقراء أم هل أحذو حذو يوسف الصدّيق، ولكن هذا كلّه بدون فائدة بل هو زيادة في التفكير والتعب النفسي والعقلي وزيادة في القلق.
إذاً، القديس باسيليوس يوجّه جلّ أحاديثه، عن الغنى والفقر، إلى الأغنياء بالدرجة الأولى لنهم هم المرضى الحقيقيين وليس الفقراء. فمرض الغنى هو من أصعب الأمراض، الغني يرى كل شيء كالذهب، فيقول له القديس باسيليوس في عظته السادسة ‘‘ إنك لا تتصور إلاّ الذهب فقط، فهو الذي يسيطر على مشاعرك فتحلم به ليل نهار. إنَّ نفسك وقد تغلّب عليها حب الغنى، أترى إلاّ الذهب والفضة في كل شيء، وفي أي مكان. لذلك أنت تفضّل أن ترى قطعاً ذهبيّة على أن ترى الشمس المشرقة، وترغب في تحويل كل شيء إلى ذهب وتسعى إلى ذلك بكلّ قواك، فيصبح القمح والخمر والصوف، وحتى التجارة والصناعة ذهباً لك. لأنك لا تسعى إلاّ إلى الربح من وراء كل شيء، حتى يلد الذهب ذهباً لتكدسه في خزانتك ’’.
فمن خلال هذه العظة نرى كم هو موقف القديس باسيليوس من الغنى وما هو تأثيره على تفكير الإنسان. فالغنى يؤثر على كل المشاعر والأحاسيس، ولا يترك مكان للتفكير لا بالغي ولا بالله، لأنه إذا كنت لا تفكر بالغير فكيف تستطيع أن تفكر بالله الذي هو صورة بالغير.
ويرى القديس باسيليوس، في أن دفن الأموال والغنى هو دفن لقلب[2]. فهو يقول للغني في عظته السابعة: ‘‘ أين محبّة القريب التي تتغنّى بها أيّها الغني؟ ’’ فهو يحمل الغنى سبباً من أسباب عدم محبة القريب. فالإنسان الغني يلهي نفسه منذ صغره بمحبة المال وينسى كل ما حوله. فغناه من تكديس الأموال وليس من محبة القريب لأن محبة القريب تستوجب توزيع الأموال على هذا القريب، ولكن عدم توزيعها أدى إلى غناه المادي فقط.
وهناك تشبيه جميل يقدمه القديس باسيليوس عن العطاء وبدون مقابل، وهو ما تقدّمه الأرض من غلاة على أبناء البشر جمعاء وبدون تمييز، هل هذا فقير أم غني؟. فهو يدعو كل إنسان وخصوصاً الغني بأن يتمثّل بالأرض، فلأرض لا تحمل ثمراً لمنفعتها الخاصة بل لمنفعة الآخرين[3]. والأرض تحترم كل إنسان ولا تحاسب أي إنسان على ما يفعله بها، وكذلك الإنسان عليه أن لا يحاسب أخاه الإنسان على ما يفعله به وأن لا يطلب منه مقابل أو مالاً ليزيد بغناه. ولكن عليه أن يصنع الإحسان. الغنى يصنع له الشرف ولكن كم هو عظيم شرف صنع الإحسان، فهو يقول له في العظة السادسة: ‘‘إذ الأفضل لك أن تُلقّب بأبي الفقراء من أن تلقب بغنى حائز على سبائك الذهب في خزائنه ’’.
من سألك فأعطه، فهذه كلمات موجّهة إلى الغني البخيل. فكثيرا ما نرى إنسان فقير جالساً تحت قدمي إنسان غني يطلب منه المساعدة، ولكن ذلك الغني لا يعطيه بل يستمتع بهذا المنظر ويزيد منه تكبّراً ونفخةً. فيوجه له القديس توبيخاً قاسياً ويقول له بانَّ ما تقدمه ليس لإنسان ما بل هو لله، فعندما يقرض الغني إنسان فقير باسم السيد فهو يقرض الله نفسه، لأنَّ السيد كريم، وهو كفيل الفقير وهو الذي يسدّ ديون الفقير بعطاياه السخية، فهو واهب كل شيء، يهب الغني غناه ويهب الصحيح صحة . . . ولكن كل إنسان لا يتأثر لمنظر أخاه الفقير البائس يستحق العقاب الشديد، فهو إنسان وحش بالكلّيّة، وهو محسوب بين القتلة، فهو قد لا يقتل روحا مستخدماً أداة قاتلة مثل أي قاتل، بل يستعمل سلاحاً أكثر فتكاً وغير له حساب أرضي بل له حساب سماوي أمان الله. فالسيد عند المحاسبة جعل الذين ابتعدوا عن المحبة في عداد الخطاة المنبوذين، فهذا كان ينبذ غيره على الأرض ولكن في السماء اصبح منبوذاً أمام الذين كانوا منبوذين على الأرض.
إذا على الفقر أن يتذكر دائماً يوم الحساب وما هي العواقب التي سوف ينالها وفي البداية هو إنسان ماءت قبل كل شيء أي انه لن يحصل على هذه الخيرات في حياته الثانية. فالنظر إلى القبور سوف يوحي له كم هي النهاية صعبة. فليس هناك أي تمييز بين عظام الفقراء وعظام الأغنياء، بين عظام العبيد وعظام الأسياد. لكن عليه أن يفطن إلى ذاته ويتخلّى عن التكبّر والبخل و قسوة القلب.
من هنا يطلب القديس من الغني أن يتشبه بموسى كليم الله. فقد كان يحب أخوته، فطلب من الله أن يمحو اسمه من سفر الحياة إن كان الله لا يصفح عن شعبه. و الرسول الأعظم، تجرأ مثل موسى فطلب من المسيح أن يبسله لأجل خلاص أخوته، وكان يريد على مثال المسيح أن يكون فداء عن الجميع، مع علمه، في الوقت نفسه أنه لا يمكنه الانفصال عن الله، مادام يحبه.