الفقير والفقر في عظات القديس باسيليوس
" لا تخف ولا تيأس، فأنت يا من يعيش وضيعاً مرذولاً. أنت فقير ابن فقراء دون بيت ولا عائلة، أنت ضعيف وتفتقر إلى خبزك اليومي.ترتجف أمام الأقوياء وتخاف الجميع بسبب ذُلِّكَ وتواضع حياتك. . انهض وارفع نظرك إلى الله واشكره على نِعَمِهِ لك. وتأمل بالخيرات التي أعدها الله لمحبيه. ألست ابناً لله؟ إذاً فهذا يكفيك. . وبما أنك على صورته يمكنك أن تبلغ كرامة الملائكة. . أليست كل الحيوانات على هذه الأرض، الأليفة والبرية، وكل ما يحوي البحر وما يطير في الهواء تخضع لك؟.. تأمل وأدرك أنَّ هذه إنعامات خصَّ الله بها الطبيعة الإنسانية. أضف إلى ذلك ما هو أسمى بكثير، الله ذاته بيننا، والروح القدس يوزّع مواهبه على كل أحد. فالموت أبيد، وانتعش أمل القيامة وفُتِحَت لك أبواب السماء، فأصبح بإمكانك بلوغ المراتب الإلهية ودخول الملكوت. ها الأكاليل والجوائز السماوية معدَّة لمن يكتنز الفضيلة ويعمل بوصايا الله. " ( أدبيات / 76 ) ([1]).
من خلال هذه الكتابة الأدبية التي أوردناها للقديس باسيليوس، نر ى أن القديس باسيليوس يركز على نقطة أساسية وهي أن الإنسان هو ملك، ملك على كل المخلوقات الأرضية، وهو ليس بفقير، أي أنه لا يملك أي شيء. فهو، كما خلقه الله على صورته ومثاله، يملك ما لا يستطيع أن يملكه أي غني بأمواله. فالأموال التي هي بيد الأغنياء لا تساوي أي شيء، مهما كثرت ومها بلغ حدها من الاتساع. الإنسان الغني يخدمه خدّامه الذين هم معدودون، أما الإنسان، بشكل عام، وُضِعَت كل المخلوقات بخدمته " . . الأليفة والبرية، وكل ما يحوي البحر وما يطير في الهواء . . ". وأيضاً يظهر القديس باسيليوس في هذا المقتطف شيء هام في حياة الإنسانية جمعاء وهو أن الله ذاته بيننا والروح القدس يوزّع المواهب، وبالتالي لا معنى للفقر ولا يساوي أي شيء. فالخوف من الفقر واليأس من هذه الحالة لا مكان له الآن بين البشرية لأن الله اختارها واحبها وميّزها عن كل المخلوقات، وساوى فيما بينها، وجعلها ابناً واحداً له، لا فرق بين كبير وصغير، ولا بين غني وفقير، فاتحاً لها أبواب الملكوت.
وإذا تأملنا في بعض العظات التي ألقاها القديس باسيليوس:
{" لا تخف أيها الفقير ولا تتباك أمام الأغنياء. اعتمد على نفسك واستثمر الوزنات التي وهبك الله إياها لكي تعيش. بِعْ كلَّ شيء عندك: الأواني، ثيابك، حصانك وأثاث بيتك، واشتر حريتك وكرامتك. لا تقرع أبواب الأغنياء الآخرين، * فبئر جارك هي فارغة دوماً * (أمثال23/27) الأفضل أن تعيش فقير من أن تستغني فجأة بسبب إحسان غيرك. . ".
"إنَّ الفقر ليس عيباً. فلماذا تذهب لتستدين من الغير. إنك لا تداوي الجرح بجرح آخر؛ فالدَين ليس دواء الفقر. لك يدان، عندك مهنة، فاستفد منها لمعاش قليل. . ".
" علاوة على ذلك إنّ الفقر يعفيك من الهموم وعذابها. فأنت لا تقلق طول الليل بسبب همّ المال، فأنت بالعكس تنام ملء جفونك. . ".} ( عظة 7 )([2]).
من خلال هذه المقاطع نرى أن القديس باسيليوس يوجه المؤمنين إلى عدم القنية والزهد في الحياة. فالفقر ليس بعيب وليس، فليس عليك أيها الفقير أن تبكي حالك أمام الأغنياء، فكل إنسان عنده وزنات في حياته أعطاه إياها الرب، فعليه أن يحسن استخدامها. فالقديس يعطي أكبر مثال في حياته فهو باع كل ما يملك ووزعه على الفقراء، وجعل حياته أكبر مثال في التواضع وعدم الملكية.
القديس غريغوريوس النزينزي يعطي صورة عن فقر القديس باسيليوس فيقول " من ذا يمدح تجرُّده وحياته الخالية من المقتنى ومن فضلات المعيشة.لعمري ماذا كان يمتلك ما خلا جسده والأغطية الضرورية لستر جسمه. غناه كان الاستغناء عن كل شيء والصليب وحده الذي رافقه وكان يحتسبه أثمن لديه من الأموال الوافرة. ليس بوسع إنسان، ولو شاء أن يجوز كل شيء ولكن بوسعه أن يتعلم ازدراء كل الخيرات فيظهر أعلى منها. ولمّا كان باسيليوس يعتقد ذلك ويجري عليه لم يكن إلى أن يصعد على قاعدة من المجد الفارغ ولا أن ينادي على رؤوس الأشهاد: . . إنّ أقراطيس هو الذي حرَّر أقراطيس الثيبي . . ([3])، إذ كان همه في أن يكون حقيقة لا أن يظهر فاضلاً. ولم يأو إلى برميل في منتصف الساحة حتى يتنعّم بولائم الجميع متخذاً الفقر تجارة جديدة ([4]).وكلنه كان فقيراً معوزاً وهو لا يرغب في الكرامة. ولما فضَّل طرح كل الأشياء التي في حوزته جاز بخفّة بحر هذه الحياة" ([5]).
من خلال هذه المباحثات التي قدّمها القديس باسيليوس، نرى أنه كان في حالة ثورة على ما هو ضد الفقر. فهو يوجه أنظار الفقراء إلى شيء مهم، وهو أنهم هم الذين يملكون العالم وليس الأغنياء، وهم الذين يسيطرون عليه بتواضعهم وطول آناتهم ورفقهم وحلمهم فكان هو أكبر مثال على هذه الثورة الهادفة إلى الوصول إلى حياة ليس لها وجود على هذه الأرض بل في الملكوت المعدّ للمختارين " ثم يقول الملك للذين عن يمينه تعالوا يا مباركي أبي رثوا الملكوت المعدَّ لكم منذ تأسيس العالم " ( متى34:25).
ومن خلال ما قدمه لنا القديس باسيليوس عن مستوى الحياة التي يعيشها الفقير وما هو واجب عليه نراه يتوجه في أحاديثه و وعظاته إلى جانب مقارنة مباشرة بين ما هو الفقير ما هو الغني ويضعهما في مكان الوكيل على أعطاهم الله من هبات. فالإنسان هو وكيل الله على الملك. ومساعدة المحتاجين ليست متروكة للحرية ولكنها فرض كإعالة الأهل بالضبط. فحيازة ما هو أكثر من الضروري سرقة لأن للفقير حقاً عليه. " إنّك عبد الله القدوس، مدبر رفقائك العبيد ". عندما يشرح مثل الغني الذي فاضت غلته (لوقا 12: 16-21 ) وقال: ماذا أفعل، كان جواب باسيليوس، أن لسان حاله يجب أن يكون: " يا جميع الذين ينقصكم الخبز تعالوا إليَّ. النِعَم التي أغدَقَها الله عليَّ هي لكل الناس. تعالوا، انهلوا منها كمن سبيل عام " ([6]).
القديس وجه دعوته إلى الكثير من الناس ولم يخص أي واحد، لا فقير ولا غني ، ولكن في توجهه هذا كان يدعو إلى اتجاه واحد وهو الزهد وعدم القني والاقتناع بما أنا أملك وعم النظر إلى ثروات الغير والطمع بها حتى لا تقود هذه الأفكار إلى أفعال شريرة كالسرقة والقتل ونهب ما هو ملك للغير.
[1] -الأب الياس كويتر المخلصي، إنجيلك نور لحياتي، الجزء الأول، ص 190.
[2] -الأب الياس كويتر المخلصي، القديس باسيليوس الكبير، حياته. أبحاث عنه. مواعظه، المرجع السابق، ص 298.
[3] -إنَّ أقراطيس هذا كان فيلسوفا من فئة الفلاسفة بلقب " الكبيين" وقد عاش في القرن الثالث للمسيح. يحكى عنه أنه لما ترك أمواله لينقطع إلى عيشة الفلسفة صعد إلى مكان مرتفع وصرخ متباهياً أمام الناس: " إنَّ أقراطيس هو الذي حرّر أقراطيس الثيبي " يعني أنه هو الذي حّر نفسه من ربقة الأموال.
[4] -كان ديوجينيس الفيلسوف يقطن في برميل في وسط ساحة المدينة لكي يستجلب أنظار الناس فتنهال عليه الصدقات الوافرة وهكذا كان يتصيّد المال والغنى عن طريق التظاهر بالفقر.
[5] -الأب الياس كوتير المخلصي، القديس باسيليوس الكبير. حياته. أبحاث عنه. مواعظه، المرجع السابق، ص 242.
[6] -المطران جورج خضر، الفقر والغنى في الكتاب المقدس وعند الآباء، تعرّف إلى كنيستك 6، ص 25.
شكرا
صلواتك ابونا