إذا عدنا إلى اللغة السريانيّة والعربيّة نجد أن كلمة "فصح" ومشتقّاتها تدلّ على الإفصاح، أي التعبير عن قول أو عمل، وبالمعنى الواسع تدلّ على التحرير والانطلاق بحريّة والعبور من أرض الشقاء إلى أرض الحريّة والرخاء، أو الخلاص من العبوديّة. والخلاص هو سبب الفصح. وهذا العبور قد دام على مراحل حوالي أربعين سنة[1] والإنسان ينتظر راجيًا الخلاص ومجيء هذا المخلّص…
أصبح هذا العبور، في الفكر اليهودي وفي الفكر المسيحي، مثالاً ومعنى لكلّ خلاص من أيّ مأزق، أو كلّ نجاة يصنعها الله لخير الإنسان. والعبور أو الخروج من الضيق إلى الخلاص هو دلالة على ولادة جديدة، كالمعموديّة التي تدلّ على الولادة الجديدة بالمسيح "إن لم يولد الإنسان من الماء والروح لا يستطيع أن يدخل ملكوت السماوات".
سبب إقامة الفصح
قبل أن نتحدّث عن الفصح، علينا أن نتحدّث ونرى السبب الذي من أجله صار الفصح، لدى اليهود، عيدًا كبيرًا وعظيمًا[2]، مع أنّ الفصح يعود تاريخه إلى ما قبل العبرانيّين، إذ كان بعض قبائل الرحّل يحتفلون بقدوم الربيع واكتساء الأشجار بالأزهار والأرض بالأعشاب، وتلد قطعانهم الحملان والجداء، فيذبحون حملاً صغيرًا يشكرون بدمه الآلهة، أو الله تعإلى، حسب ما كانوا يعتقدون إمّا لأنّهم تخلّصوا من فصل الشتاء البارد وتخلّصت مواشيهم من الوباء أو غير ذلك، ومن هذا القبيل نرى نوحًا، بعد أن تخلّص من الطوفان، يقدّم ذبيحة فداء من الغرق ومن الموت مع عائلته[3]، وإبراهيم قدّم الكبش الفدية ذبيحة فداء للربّ، لأنه خلّص ابنه اسحق من الذبح[4]، وتوالت هذه الذبائح جيلاً بعد جيل، كما نرى في التواريخ وفي الكتاب المقدّس…
بعد أن تحرّرت مصر من الملوك الرعاة، أخذ الفراعنة يضطهدون اليهود أو العبرانيّين اضطهادًا قاسيًا، ممّا جعل موسى النبي يُخرج العبرانيّين من أرض مصر بطريقة إلهيّة، فكان أن أمر الله موسى، بعد أن تخلّصوا من العبوديّة المصريّة، وأضحوا أحرارًا مستقلّين عن كلّ حكم أجنبي أو غريب عنهم، بأن يقيم عيدًا دعاه "عيد الفصح" أي عيد الحريّة، وكان ذلك في اليوم الرابع عشر من شهر أبيب[5]، ويدعى شهر الاسبال، ويوافق شهري آذار ونيسان (على اعتبار الشهر القمري، وكان هذا الشهر أوّل الشهور في الروزنامة القديمة، ودعي بعد السبي (ما بين سنة 538 – 521 ق.م.) بشهر نيسان، وهذا العيد يكون إنّ ربّ كلّ عائلة يأخذ حملاً في اليوم العاشر من شهر نيسان القمري، ويحفظه إلى اليوم الرابع عشر من الشهر ذاته القمري، وفي ذلك اليوم يذبحونه ويأكلونه مشويًّا بدون أن يبقوا منه شيئًا إلى الصباح، وأن "لا يكسروا له عظمًا"[6]. وهذا العيد إن يرمز على شيء فعلى معنى "الخلاص" من الأسر ومن العبوديّة، ومنه اتّخذت أمّنا الكنيسة المقدّسة معنى الخلاص أو الفصح الخلاصي الذي صنعه الربّ يسوع "طهّروا أنفسكم من الخميرة القديمة… فقد ذبح حمل فصحنا هو المسيح"[7]. لا يزال اليهود سوى الخبز الفطير[8]…
وكانت وصيّة أكل الفصح أن "لا يأكل منه الأجنبي، والعبد المشترى بفضة ما لم يختنه مالكه، والضيف والأجير لا يأكلان منه"[9]. ومعناه أن كلّ من هو واقع تحت العبوديّة الماديّة والجسديّة والنفسيّة، لا يجوز أن يأكل من الفصح…
وفي الإيمان المسيحي، لا يجوز أن يتناول القربان المقدّس كلّ من كان واقعًا تحت عبوديّة الخطيئة[10]، وبولس يدعو كلّ "من أكل من هذا الخبز (القربان) أو شرب من هذه الكأس (كأس دم المسيح) وهو على غير استحقاق" مجرمًا وعليه أن يعترف وبعده يأكل من "هذا الخبز ويشرب من هذه الكأس"[11]… الفصح المسيحي وارتباطه بالفصح اليهودي
بعد أن وعد الله الإنسان بالمخلّص[12]، دغدغ هذا الوعدُ قلبَ الإنسان وعَمَّره بالرجاء، وإزاء هذا الوعد راح الله يكلّم الإنسان "بالرموز تارة وطورًا بالأنبياء الذين كانوا يلوحّون بالخلاص ويبشّرون به وبالمخلّص العتيد"[13]. فأخذت هذه الرموز تسير من واضح إلى أوضح. ففي ظهور ملكيصادق الخبز والخمر علامة واضحة لفصح المسيح وديمومته تحت إعراض الخبز والخمر بالقدّاس الإلهي الذي هو تجديد ذبيحة الصليب، بنوع غير دموي، يتحوّل الخبز والخمر، حقيقة، لا رمزًا ولا إيماءة، ولا ذكرى عارية وخالية من كلّ معنى، إلى جسد المسيح ودمه "فأخرج ملكيصادق خبزًا وخمرًا لأنّه كان كاهنًا لله العلي"[14].
وفي ذبيحة إبراهيم، إذ بأمر الله أراد ان يقدّم ابنه، ولم يشفق على ابنه وحيد، فافتداه الله بكبش[15]. رأى الآباء الكنيسة في ذلك صورة حيّة عنّا نحن البشر إذ كان الشيطان يريد تقدمتنا ذبيحة له، على مذبح شروره ويستعبدنا ويجعلنا له عبيدًا بما يوسوسه لنا من وساوس… وكذلك رأى الآباء في ذبيحة إبراهيم صورة حيّة لآلام الابن الوحيد، وتضحية الآب السماوي به "إنّ الله لم يشفق على ابنه بل أسلمه إلى الموت من أجلنا جميعًا"[16]، ولفرط حبّ الله لنا "جاد بابنه الوحيد لخلاصنا"[17]…
سارت رموز فصح المسيح، في سيرة البشريّة تتوضّح أكثر فأكثر كلّما تقدّمت السنون، فإذ "ببيع يوسف بعشرين من الفضة"[18]، رمز واضح، ومقدمة لنبؤة زكريا "فوزنوا أجرتي ثلاثين من الفّضة فألقيتها في بيت الربّ إلى الخزّاف (السبّاك)"[19] فدلّت هذه الآية وبيع يوسف حرفيًّا على بيع يسوع[20]، وفي كلّ هذه المراحل كان الشيطان يتملّكُنا، من جهةِ، واللهُ يرينا بالرموز مخططَ الخلاص…
والفصح اليهودي قد يَكّوِن للفصح المسيحي تمهيدًا حيًّا، ويشير إليه إشارة حسيّة فبذبح الحمل دلالة على ذبح "حمل الله"[21]، ويتابع يوحنّا تسمية يسوع بـ"الحمل" في ما كتب وخاصّة في الرؤيا، وأشعيا يدعوه أيضًا "الحمل الذي سيق إلى الذبح"[22]…
لم يشذّ يسوع المسيح عن قاعدة القيام بفروض الفصح اليهودي، ولكنّه حوّله من رمز فارغ جامد إلى حقيقة حيّة، فنراه يأمر اثنين من تلاميذه بإعداد ما يلزم للفصح وإعداد غرفة ليقيم فيها الفصح اليهودي، إذ انه "وُلِدَ من امرأة تحت الناموس ليخلّص الذين هم تحت الناموس"[23]، ويحوّله من عهد قديم كان رمزًا، إلى حقيقة ملموسة وعهد جديد لا يعتق ولا يبلى[24]. ومتّى يصف لنا ذهاب يسوع إلى أورشليم من بيت فاجي باحتفال، لأنّ اليهود كانوا يأخذون حملان الفصح من بيت فاجي في العاشر من نيسان القمري باحتفال لتُذبَح في أورشليم في الرابع عشر منه ويسوع سيُصْلب ذبيحة فداء عنّا في أورشليم[25].
الفصح اليهودي يدلّ على خلاص من عبوديّة ومن أسر مادِيَيْن، يقيمه اليهود ذكرى لخلاصهم من الأسر والعبوديّة، وكانوا يجدّدونه كلّما وقعوا في أسر أو نكبة وخلّصهم الله منها. وبعد السبي أصبح عيد الفصح عيدًا أساسيًّا، وإهماله يعرّض اليهود للحرم والفَصْل[26]. وكان اليهود يأكلون في عشاء الفصح، "أعشابًا مرّة" دلالة على مرارة العيش في الأسر والعبوديّة، وانتقالهم منها إلى "الخبز الفطير"، دلالة على تجديد الحياة والطهارة[27].
[1] راجع الخروج والعدد وتثنية الاشتراع.
[2] يوحنّا 19/31.
[3] تكوين 8/20.
[4] تكوين 22/13.
[5] تثنية 16/1.
[6] خروج 12/46 وعدد 9/12 ويوحنّا 19/33و36.
[7] 1 قورنثس 5/7.
[8] راجع خروج 12/1-39.
[9] خروج 12/44-48.
[10] يوحنّا 8/34.
[11] 1 قورنثس 11/27-29.
[12] تكوين 3/15.
[13] عبرانيّين 1/1.
[14] تكوين 14/18.
[15] تكوين 22/1-13.
[16] روما 8/32.
[17] يوحنّا 3/16.
[18] تكوين 37/27-28.
[19] زكريا 11/12-13.
[20] متّى 26/15 و27/3-8.
[21] يوحنّا 1/29 و36.
[22] أشعيا 53/7.
[23] غلاطية 4/4.
[24] راجع متّى 26/17-25 مرقس 14/12-16 ولوقا 22/7-13.
[25] متّى 21/1…
[26] عدد 9/13.
[27] عدد 9/11.