فضائل الصوم:
الصوم يرفع الصلاة إلى السماء وكأنه يعطيها أجنحة تخوّلها الطيران إلى فوق. هو مربّ للشباب ومزيّن للمتقدمين في السن. مرافق حسن للمسافرين وضمانة لكل من يساكنه. لا يشك الرجل بإمرأته عندما يراها تصوم، كما لا تغار المرأة من رجلها عندما تراه يصوم بانتظام. من الذي قضى على ثروته من خلال الصوم…؟ لا شيء منها ينقص عن طريقه. لقد أعطي السبت لليهود ‘لكي يستريح فيه ثورك وحمارك وكذلك عبدك’ (خروج ٢٣ ) ليكن الصوم فرصة استراحة سنوية للخدام من أتعابهم المتواصلة. يستريح الطباخ من عمله. يأخذ مدبر الموائد مأذونية، لايعود يسكب خمراً في كأسك وتتوقف صناعة الحلويات المختلفة. ليسترح بيتك أيضاً ن أتعابه المتنوعة، من الدخان ورائحة الشوي، من كل من يسرع هنا وهناك من أجل خدمة البطن وكأنه السيِّد الذي لا يكفيه شيء. كان من عادة جامعي الضرائب أن يريحوا الملزمين قليلاً في وقت من الأوقات من دفع الضرائب، فليعط بطنك استراحة ما للفم، ويلجأ محبة منا إلى السكينة. هو الذي لا ينفك يطالب بالمآكل وإن أعطي اليوم نسي غداً ما كان قد تناوله البارحة. عندما يمتلئ بتكلم عن فلسفة الامساك، وعندما يفرغ ينسى ما كان قد عّلمه في وقت شبعه. الصوم لا يعرف ما هو الدين… ابن الصوّام اليتيم لا تخنقه ديون والده ملتفة حول عنقه كالحيات.
الصوم مناسبة للابتهاج، لأنه كما أن العطش يجعل الشرب مستحباً، كذلك الصوم المسبق يجعل المائدة مستحبة والطعام أشهى، لأنك إن أردت أن تجعل مائدتك لذيذة وشهية اعتمد الصوم الذي يخلق مثل هذا التبدل. أما أنت الذي تتسلط عليك شهوة التمتع بالأطعمة، فإنك تفقد بهذه الطريقة ملذاتها وتفضي على المتعة واللذة من جراء شهوتك وهوى محبة اللذة. لا شيء يشتهي ويتمتع به المرء بصورة متواصلة ولا يزدرى به في النهاية. هكذا شاء الخالق عن طريق التبدل في العيش أن يديم التمتع بما وهبنا من نعم. ألا ترى الشمس مستحبة أكثر بعد انتهاء الليل؟ والاستيقاظ بعد النوم، والصحة بعد المرض، والمائدة أيضاً بعد الصوم، أكان ذلك للأغنياء الذين تفيض عندهم المآكل أم للفقراء القانعين بالطعام القليل؟.
إذهب في مثال ذلك الغني لأن التمتع بالمآكل طيلة حياته سّلمه إلى نار جهنم (لوقا ١٦ ). لقد أدين لا لظلمة بل لأنه كان يعيش في التنعم الدائم، لذلك أخذ يحترق في نار الأتون. والصوم يفيدنا، ليس فقط من أجل الحياة الأبدية، بل يفيد أيضاً جسدنا البشري. إن الرفاهية الزائدة تجر سقطات لاحقة، لأن الجسم يتعب ولايعود يستطيع أن يحمل ثقل الأغذية الكثيرة. إحذر ألا تزدري اليوم بالماء حتَّى لاتشتهي فيما بعد على مثال الغني نقطة واحدة منه. لم يسكر أحد من الناس من شرب الماء ولا اصابه صداع بسببه، ولاتعبت رجلاه أو يداه منه أيضاً.
إن عسر الهضم الذي يرافق عادة كثرة الطعام والشراب هو الذي يوّلد أمراض الجسد الصعبة. وجه الصائم محتشم، لونه لايحمر بصورة فاقعة، بل يتزين بلون شاحب يعكس عفة صاحبه. عيناه هادئتان وكذلك مشيته. هو رصين الطلعة لايستجلب الضحك. أقواله متزنة وقلبه نقي. تذكر القديسين القدماء الذين ‘طافوا هنا وهناك في جلود غنم معوزين مكروبين مذّلين‘ (الرسالة إلى العبرانيين ١١ ) تمّثل بحياتهم إن أردت أن تشترك في نصيبهم.
ألا تزدري بالمآكل التي بكثرتها تفسد؟ ألا ترغب في مائدة الملكوت التي يهيئها الصوم دائماً في الحياة الحاضرة؟ من الذي، عن طريق كثرة الطعام واستمرار التمتع الجسدي، نال موهبة روحية؟
لقد لجأ موسى إلى الصوم مرة ثانية من أجل تقبّل الوصايا ثانية (خروج ٢٤ ) لو لم يصم أهل نينوى حتَّى مع بهائمهم لما نجوا من وعيد الخراب (يونان ٣) من هم الذين تناثرت أعضاء أجسادهم وعظامهم في الصحراء؟ أليسوا هؤلاء الذين اشتهوا اكل اللحم؟ عندما قنعوا بالمنّ والماء الفائض من الصخرة انتصروا على المصريين وعبروا البحر على اليبس، ولم يكن بينهم ذو عّلة. لكن ما إن اشتهوا اللحوم المطبوخة حتى عادوا إلى مصر ولم يروا أرض الميعاد.
ألا تخشى من التشبه بهم؟ ألا ترعبك شهواتك التي ربما تحرمك من الخيرات السماوية؟ إن كثرة الطعام تجر نوعاً من خيالات تشبه غيوماً سوداء تقطع استنارات الذهن بالروح القدس. إن كان للملائكة طعام فما هو إلا الخبز كما يقول النبي: ‘أكل الإنسان خبز الملائكة’ (مزمور ٧٧) لااللحم، لا الخمر ولا أي شيء آخر يشتهيه ذوو محبة البطن.
الصوم سلاح أمام جنود الشياطين: ‘لأن هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة والصوم’ (متى ١٧:٢١). حسناته لا تعدّ. أما نتيجة الشراهة فهي الهلاك، لأن التمتع بالمآكل والسكر وما إليها تجر مباشرة كل نوع من أنواع الخلاعة التي تليق فقط بالبهائم. فالسكر يوّلد في النفس حب التمتع باللذات الجسدية والزنى… بينما الصوم، يساعد حتَّى الزوجين على نوع من الإتزان الجنسي ويحدّ من المبالغة في التمتع الجسدي، مما يساعد كثيراً على الاستمرار في حياة الصلاة.
لكن حسنات الصوم لاتقتصر على الابتعاد عن الأطعمة الشهية، لأن الصوم الحقيقي هو في الابتعاد عن كل شر. الحد من كل عمل ظالم، الابتعاد عن كل ما يحزن الآخر وإعانته في كل ما يحتاج إليه (إشعيا ٥٨:٦). لاتصوموا وأنتم في نزاع مع الآخرين أنت لاتأكل لحماً بل ترغب في مآكل لحم أخيك. تمتنع عن شرب الخمر، لكنك لاتقطع لسانك عن التجديف. تنتظر هبوط الليل لكي تفطر بينما تمضي النهار كله في المحاكم. الويل للسكارى من غير شرب الخمر. الغضب ما هو إلا سكر النفس لأنه يخرج الإنسان عن صوابه كما يفعل به الخمر. الحزن ايضاً نوع من السكر لأنه يظلم الفكر. والخوف أيضاً نوع آخر عندما لا يبرر مصدره. لذلك يقول المزمور: ‘نج نفسي من خوف العدو’ (مزمور ٦٣ ) وبصورة عامة الأهواء النفسية المختلفة التي تسبب اضطراباً للذهن يمكن اعتبارها نوعاً من السكر.
أنظر جيداً إلى الغاضب كيف يصبح من شدة غضبه كالسكران، لا يعود يسيطر على نفسه، لا يلاحظ حاله ويتجاهل وجود الآخرين، كما في حرب ليلة يضرب عشوائياً. يتفوه بكلام غير لائق، يشتم، يضرب، يهدد، يحلف، يصرخ وكأنه على وشك الانفجار. تجنب مثل هذا النوع من السكر كما ولا تسكر أيضاً بالخمر. لا يمكن للسكر أن يكون مقدمة للصوم المبارك كما أن الطمع لا يقود إلى العدالة. كذلك لا تستطيع عن طريق الخلاعة أن تصل إلى العفة ولا عن طريق الرذيلة أن تصل إلى الفضيلة. الصوم له مدخل آخر. السكر يقود إلى الخلاعة، أما القناعة فهي تقود إلى الصوم.
كما أن المتباري يتدرب ويتروض مسبقاً، كذلك الصائم يجب أن يتعفف من قبل. لا تخزّن خمراً في معدتك خلال أيام الفسحة الخمسة وكأنك تريد أن تعادل أيام الصوم وتضحك على صاحب الوصية. إن تعبك سيذهب باط ً لا مجهداً جسدك دون أن تعرض له في أيام الإمساك. تخزن في جرة مثقوبة، يتسرّب منها الخمر ويجري في طريقه، أما الخطيئة فتبقى وحدها في مكانها.
العبد يهرب من سيده عندما يضربه. وأنت تنوي البقاء مع الخمر وهو يضربك كل يوم على رأسك؟ السكر يقود إلى النوم الذي يشبه الموت أو إلى الصحو الذي يشبه الحلم.
أتعلم يا ترى من هو مزمع أن يأتي وتتقبله؟ هو الذي وعدنا بقوله ‘نأتي أنا وأبي وعنده نصنع منزلاً’ (يوحنا ١٤:٢٣). لماذا إذاً تسرع عن طريق السكر وتوصد الباب أمام الرب؟ لماذا تفتح مجالاً للعدو حتَّى يقوّض تحصيناتك؟ أن السكر لا يتقبل الرب. هو يطرد الروح القدس. كما أن الدخان يطرد النمل كذلك تهرب المواهب الروحية من السكر.
الخلاصة:الصوم حشمة المدينة، سكينة الأسواق، سلام العائلات وضمانة لموجوداتنا. أتريد أن تتعرف إلى وقاره؟ قارن بين الليلة الحاضرة والنهار المقبل، تجد كيف أن المدينة تتبدل وتتنقل من السكينة الكلية إلى الضجة والاضطراب.
أرجو أن يتشبه نهار غد باليوم الحاضر من حيث السكينة والوقار دون أن يفقد شيئاً من بهجته. عسى أن يعطينا الرب الذي أهلنا للوصول إلى مثل هذا اليوم ما يهب عادة للمجاهدين الأشداء فإنه بمواظبتنا على الجهاد والصبر سوف يؤهلنا أن ندرك ذلك اليوم الذي يوزع فيه الأكاليل، أن نصل ههنا إلى أيام ذكر آلام الرب وفي الدهر الآتي إلى مجازاتنا حسناً على أعمالنا حسب حكيم المسيح العادل الذي يليق به المجد إلى الأبد.