من الأمور التي تتميز بها الكنيسة الأرثوذكسية عن الغرب تصوير الأيقونات المقدسة الذي بلغ شأناً بعيداً في الجمال والإبداع والقداسة بحسب لاهوت الكنيسة المقدسة.
الأيقونة هي كلمة ذات أصل يوناني تعني الصورة أو المثال . وفي الاصطلاح المسيحي هي صورة تمثل شخصاً أو مشهداً مقدساً مرسومة على الخشب أو الجدار وفقاً لأساليب وتقاليد خاصة تُظهر حالة الشخص المرسوم فيها وهذا يفرض على الفنان أن يطلع تمام الإطلاع على سيرة الشخص المرسوم فيها ، وعلى أحداث الكتاب المقدس وتعاليمه. وبهذا التعريف ليست كل صورة أيقونة . فالأيقونة مبدئياً صورة تمزج ألوانها بمح البيض ( الصفار ) بدلاً من الزيت أو الغراء أو أي مادة هلامية أخرى بعكس الصورة الغربية التي يستخدم فيها الرسامون الزيت والمواد الكيماوية.
هذا يعني أن لفن الأيقونات طرق وتقاليد خاصة لابد للفنان أن يتقيد بها. فلا يخضع التصوير الكنسي لخاطر المصور أو تقلب العصور، بل للأيقونة شخصية ثابتة بمعزل عما تمثله، فهي إيضاح شعور جميع الذين يجاهرون بالمبادئ الدينية نفسها ، أي إيضاح شعور الكنيسة وأفكارها وعقائدها. فالصورة وإن كانت من عمل الرسام فهي ليست من ابتداعه أو تجلي شعوره الشخصي[1]. ولهذا يجب على من يريد أن يزاول "كتابة الأيقونات"[2]، على الأقل، أن يرضى ويخضع خضوعاً تاماً لمثالها الفني الأعلى الذي تسلمته الكنيسة بالتقليد من الأباء. فتاريخ الكنيسة يشهد أن معظم الذين مارسوا كتابة الأيقونات مارسوا الزهد والتقشف والحياة الشريفة الملائكية.
وبحسب هذا المثال فإن فن الأيقونات لا يمثل لنا الأشياء كما هي، والأجساد البشرية وشوائبها، بل هو فن روحي صرف يعبّر لنا عن فكرة لاهوتية، فترينا الإنسان متجلياً بروح الله، وينبئنا عن حالته الروحية الممتلئة مجداً وقداسة . فهناك تمييز بين الجسد واللحم في الأيقونات. فهدف الأيقونة هو ليس إثارة أو إبراز أحاسيس الطبيعة البشرية فهي غير متحركة وخالية من العاطفية بحسب لغة الفن الحديث. هدفها أن تتجلى عواطفنا وإدراكنا وكل عناصر طبيعتنا بشكل متناغم مع النعمة الإلهية وذلك بنزع كل الأهواء التي يمكن أن تكون مؤذية ولا تناسبنا في السير نحو الخلاص. الأيقونة لذلك لا تقمع أو تخمد أي شيء أصيل في الإنسان كما هو شائع في بعض الأوساط. ولا تقتل العناصر الجسدية ولا شخصيته التي يتميز بها في العالم ولا تحقّر عمله في هذه الأرض الذي استطاع هذا القديس أن يحوله إلى نشاط وعمل روحيين إن كان كنسياً كأسقف أو راهب أو مدنياً كأمير أو جندي أو نجار. ولكن على العكس فالأيقونة تظهر كل هذه الأشياء مرتبطة مع العالم السماوي والإلهي. فكل مهنة أو كل ظاهرة في الحياة عندئذ تتأله، تتطهر وتأخذ مكانها الصحيح وتكتسب معناها الأصلي.
لهذا فالأيقونة تظهر لنا بوضوح جسد الإنسان المقدس بنعمة يسوع المسيح " الذي سيغير شكل جسد تواضعنا ليكون على صورة جسد مجده "[3]. فإن ما يكتبه الرسام ويوحيه للناظر هو ذلك الجسد الروحاني الذي تكلم عنه بولس " من الأجساد ما هو سماوي ومنها ما هو أرضي"[4].فليست الأيقونة صورة عادية ولا مجرد أشكال فنّية وزينة مقدسة للمعابد ولا تفسيراً للأسفار المقدسة. بل هي أسمى من هذا كله فهي حقيقة إلهية محسوسة تاريخية منورة بالنعمة تباركها الكنيسة وتكسبها صفة سر من أسرارها. هي أداة عبادة تكمن فيها النعمة الإلهية وجزء متمم لليتورجيا تتجلى فيها عقيدة الكنيسة وتقليدها المقدس وتتمتع بالصفة نفسها التي للتقليد المكتوب أو الشفهي فتقابل الأيقونة بحسب تعاليم الكنيسة المقدسة كلمة الكتاب المقدس لأن ما تعلمنا إياه الكلمة بحاسة السمع تظهره الأيقونة بصمت بما تمثل للعيان. إذاً الفن المقدس في الكنيسة الأرثوذكسية هو تعبير منظور لعقيدة التجلي.
يرى الغربي في الأيقونة وسيلة للتثقيف والتعليم والبنيان الروحي أما الشرقي فيعدها، بالإضافة لهذه الأمور، سراً يفيض النعمة والبركات والأشفية ومنهلاً قوياً مُقدساً للطالبين منها، وقدسية يهرع إليها الجميع، وحرزاً في القتال، وحماية الأُسَرِ ومسار البشر في الأفراح والأتراح ، وأسمى تعبير عن الشعور الديني والفني، لا بل خلاصة الشعورين وامتزاجهما معاً.وهذه العلاقة الناشئة بين المؤمن والأيقونة هي ليست علاقة وثنية أي تعبدية[5]،بل هي علاقة تنشأ بين المؤمن وبين ما تمثل الأيقونة فيمسي هذا حاضراً سرياً وماثلاً للعيان. والأيقونة تظهر بطريقة حسية منظورة تنازل الله بالوحي الإلهي، وتجاوب الإنسان معه بحياته، فهي شهادة حسية ملموسة تنطق بعظم تنازل الله نحو الإنسان معه بحياته واندفاع الإنسان نحو الإله المتنازل .
غاية الأيقونة المقدسة إنارة العقل بما تعلمنا من حقائق لاهوتية وتاريخية، وإثارة العواطف المقدسة في القلب بما تمثله لنا من مشاهد حياة الرب يسوع المسيح والعذراء والقديسين. قال لاوانديوس أسقف نيابولس في قبرص ( ق.الرابع ) ما معناه، إن الأيقونات المقدسة صحف مفتوحة على الدوام للمؤمنين، تناجي بلا انقطاع وتذكر المسيحيين بحقائق إيمانهم وبحضوره تعالى وإنعاماته السنية فتساعدهم على إظهار شعائر العبادة والسجود للخالق[6]. لذا الأيقونة هي وسيلة للاتصال بين المؤمن المصلي والخالق. لذلك تمنع الكنيسة الأرثوذكسية الرسامين أن يسترسلوا لمخيلتهم وخاطرهم خشية أن تفقد الأيقونات هيبتها ورموزها ومعانيها الفريدة لأنه في إنشاء الأيقونات ووضعية أشخاصها أدق المعاني اللاهوتية وأسمى التعاليم الإنجيلية. هذا ما يميز التصوير البيزنطي عن التصوير الغربي. فبالدرجة الأولى تعمد الكنيسة الغربية إلى تزيين الجدران من الداخل وبشكل محدود بالصور، ففي المجمع الفاتيكاني الثاني نجد وضوح هذا الأمر في القرار 125 القائل :" إن عرض الصور يكون بعدد محدود ونظامٍ ملائم خشية أن تثير تعجب الشعب وتحمل على عبادة منحرفة"[7] ، وبالدرجة الثانية إلى تثقيف الشعوب القاسية في أوروبا حتى القرون الوسطى.