سبق الرسم والتصوير في سوريا مرحلة تدوين أخبار وأعمال الآلهة وكتابة الأساطير بزمن بعيد . وتدلنا مكتشفات أوغاريت التي تعود إلى القرنين 14-13 ق. م. على المرحلة الزمنية التي بدأ بها الفنان السوري بالتطرق في رسوماته إلى الآلهة القديمة على مختلف مكاناتها وأدوارها. وقد بتنا نعلم أن الأختام كانت المجال الأقدم والأكثر استخداما لاحتواء رسوم وصور، تمثل تفكيراً دينياً محضاً، بالإضافة إلى ما تحتويه من مواضيع أخرى متعددة. وكشفت لنا النصوص الملحمية الشعرية تركيب مجمع الآلهة، ووظيفة كل منها في نظر السوريين. فالإله (ال) رب الآلهة أجمعين، وواهب الرحمة والحكمة معاً، وهو سيد المياه والطوفان ومنابع الأنهار ومصباتها. والإله (أدد) أو (حدد) هو الإله المحارب وسيد القبائل. أما (بعل) فهو إله الغيوم والصواعق، ورمز الخصب، حيث يترافق رسمه بالثور وهو ممسك برسنه. ثم يأتي (تيشوب)، وهو إله الرعد والصواعق. و(كوشوخ) وهو إله القمر. و(عنات) آلهة الحب والحرب. والربة (أثيرات) زوجة (بل)، وربة الربات جميعاً. وهناك أيضا الإله (نرجال) إله الشمس (شمس جهنم).
هذا ويمكن للملوك أن يصبحوا آلهة إذا رغبوا بذلك، ويتم إجلال أعمالهم وتقديسها بالصور. إلا أن التصوير الإلهي لم يكن يحمل ذات الصفات في أنحاء سوريا القديمة، إذ أن الاختلاف يظهر بحسب طبيعة كل منطقة. وبحسب طبيعة الفنان السوري القديم. ويمكن أن نلحظ بخاصة الاختلاف في التصوير بين المناطق الساحلية والمناطق الداخلية. فالداخل السوري الأكثر قرباً من الفرات، نجده قد تأثر بفنون وادي الرافدين. أما المناطق الساحلية فنجد التأثيرات المصرية واضحةً فيها، خاصةً في عصر الحثيين والميتانيين، حيث كان التأثير المصري متبادلاً. فقد بدأ الملوك السوريون يظهرون في التصاوير معتمرين قلنسوة بقرنين أشبه بالفراعنة. وبالمقابل فإن رمسيس الثاني قد تعبد الربة (عنات) السورية. هذا وقد أخذت فنون التصوير السورية تفتقر للإبداع، وبدأت بتكرار نفسها مع اقتراب العصور الوثنية من نهايتها. وقد ساهم في ذلك، التأثيرات التي خلفتها عوامل سياسية وعسكرية سنأتي على ذكرها لاحقاً. وقد عاد الرسم الأيقوني للظهور في سوريا، وملازمة انتكاسات وازدهارات دين توحيدي جديد هو الدين المسيحي الذي أصبح مركز الأيقونة في أحد فصول تاريخه المضطربة.
الأيقونات:
في اليونانية، الأيقونة تعني كل صورة سواءً صنعت بالدهان أو من الفسيفساء، وأي مادة كالمعدن أو العاج أو النسيج أو الزجاج أو التصاوير على الكتب. وهي في العصور المتقدمة اللوحة القابلة للنقل والمصنوعة في الغالب من الخشب. وقد مارس هذا الفن الشرق المسيحي قاطبة، وبالدرجة الأولى في العصر البيزنطي، لذا فإن مواضيع هذا الفن هي مواضيع دينية بحتة. وقد شددت الكنيسة على السماح بممارسة هذا الفن فقط للفنانين المجيدين للحفاظ على قواعده، وقدرة إظفاء الروحانية في تجسيده. وغالباً ما تكون ألوان الأيقونات حارة متينة، وقد كانت تصنع باستعمال الشمع وزلال البيض، وهي تقنية ما زالت مستعملةً إلى يومنا هذا ، ففن رسم الأيقونات يراعي عدم إظهار ظلال للخالق، ولا يطرأ عليه تغيير ولا يكون في الأيقونة ليل، لأن السماء حرة من الليل وتتمتع بالنورانية المطلقة.
وظيفة الأيقونة عند الكنيسة، منذ ظهورها، التأمل والخشوع واستحضار العوالم الروحية، حيث يعطون أهمية في النظر للأيقونة توازي الكلمات المكتوبة في مفعولها. كما أن الأيقونة بالنسبة للأميين الذين لا يستطيعون قراءة الكتاب المقدس، خاصة أيام ازدهار الديانة المسيحية، هي طريقة فعالة لتقوية إيمانهم وتذكيرهم بمآثر السيد المسيح وقدسيته. وقد تحرر الغرب من تقاليد رسم الأيقونة منذ القرن الثامن، وأعطى للفنان إمكانية إظفاء شيء من ذاته عند الرسم. كما أن صفات المسيح بدأت تتغير عن الأصل المعهود الملتزم بملامح أهل منطقة شرق المتوسط، كسواد اللحية والشعر والعينين والزي التقليدي الذي تعارف أوائل فناني الأيقونات على رسمه. هذا وقد اختفت معظم الأيقونات البيزنطية نتيجة العديد من العوامل، كالتخريب المقصود من قبل الوثنيين ومحاربي الأيقونات المسيحيين، والعوامل الطبيعية والرطوبة، والتبخير وطرق التعامل مع الأيقونات من قبل المؤمنين كالتقبيل مثلا.
لمحة تاريخية:
بعد الحكم الإيراني لبلاد الرافدين وسوريا مدة تقارب 200 عام، قام الإسكندر المقدوني في عام 333 ق.م. بالتوسع شرقاً، واحتل بقاعاً كثيرةً حتى وصل الهند. وبعد وفاته استقل بعض القادة اليونان بالدولة التي احتلها الإسكندر، فقام سيلوقوس نيكاتور بإنشاء دولته في سوريا، وبنى عدداً من المدن من مثل إنطاكية وسيلوقية وأفاميا واللاذقية ودورا أوربوس وغيرها من المدن.
وقد ازدهرت هذه المدن وتقاطعت فنونها الشرقية مع فنون الإغريق التي انتقلت إليها، فأدى هذا التصالب إلى ظهور ما يعرف بالفن الهلنستي. وقد جاء هذا الاسم نسبة إلى كلمة (هيلينو) باليونانية وتعني (شرقي). ورغم اجتياح الفن الإغريقي لمنطقة سوريا، فقد ظل الفن المحلي بارز المعالم، واستطاع بروحانيته أن يطور نفسه. فكانت إنطاكية عاصمة للفن، إلا أنه لم يصلنا عن الفنون التصويرية من هذا العصر شيئاً. وانفردت التماثيل المكتشفة بعرض مزايا وخصائص هذا الفن، وكانت تجمع أسلوب الإغريق في إظهار تفاصيل الجسد بالإضافة إلى قوة التعبير العاطفي والروحي التي تميز المثالين السوريين في إبداعها. ومن آثار هذه المرحلة تمثال إسبازيا، وتمثال فينوس بثوبها المبلل الموجودان في متحف دمشق.
وقد تعاظم دور الفن السوري في القرون اللاحقة، ليترك آثاره في مركز الإمبراطورية الرومانية، مما حدى بالشاعر جوفنال للقول:" إن مياه نهر العاصي أصبحت تصب منذ زمن بعيد في نهر التيبر". ومن شواهد ذلك، عامود "ترجان" وحمامات "كاركلا" من تصميم "أبًولودور الدمشقي". وفي فن التصوير كشفت الآثار السورية المنقبة عن لوحات فسيفسائية رائعة في أنطاكية وتدمر وشهبا، وفي دورا أوروبس، ومنها أسطورة كاسيوبة التدمرية ولوحات الأخوة الثلاثة في تدمر.
وعندما ظهرت الدولة البيزنطية، وبدأت تسعى لأن تخلف الإمبراطورية الرومانية بدأت مرحلة جديدة من التأثر والتأثير، فالحضارة البيزنطية هي حضارة شرقية عاشت على الأرض العربية ومنطقة شرق المتوسط، وقد كانت تحتفظ بالمزايا الشرقية، وخاصة المزايا الرافدية في العمارة والفن. وقد ظهر في ظل هذه الحضارة، منذ القرن السادس الميلادي، تزيينات تصويرية من الفسيفساء والفرسك في المعابد الكنائس. كما يعتبر هذا العصر عصر إنشاء فن الأيقونات، وهي صور ذات مواضيع دينية مسيحية، كانت في الغالب من الخشب وإطارها نحاسي. ولم يبق من هذه الأيقونات شيء يذكر حتى أيامنا هذه. وقد حمل فن التصوير البيزنطي صفات مشتركة مع فن التصوير عند العرب، حتى أننا نجد طابعاً واحداً لفن التصوير من منطقة تركيا وحتى مصر في أغلب الأحيان، لذلك فإن الفن في سوريا كان منصهراً ضمن التناغم ووحدة الأسلوب. لذلك فإننا عندما نتحدث عن فن بيزنطي، وخاصةً في مجال التصوير الأيقوني، إنما نشمل سوريا ضمن وحدانية يصعب تفصيلها إلى أجزاء، خاصةً أن الديانة المسيحية قد انطلقت من بلاد الشام. فكانت المواضيع التي تعرضها الأيقونة أينما وجدت تعكس الموروث الشعبي والعقائدي والروحاني لشعوب هذه المنطقة.
مولد الفن المسيحي:
لقد كان مولد الفن المسيحي في الظل، وفرضت عليه الدولة الوثنية أن يعيش متوارياً، ويمارس شعائره في باطن الأرض في الدياميس (أقبية لدفن الموتى) على الأغلب. وكانت النتيجة أن أصبح هذا الفن رمزياً، فتصاويره على الجدران لم تحاول تمثيل الحوادث التاريخية. ولكنه رغم ذلك استطاع أن يوضح لنفسه رسالته التي تقوم على البشارة والرجاء، أي أن تصاويره رمز للخلاص. واستعان في ذلك بالرموز الصوفية التي ابتدعتها المدن المحكومة من اليونان في الشرق الأدنى الذي ظهرت فيه المسيحية. وهكذا تحولت هذه الطائفة المنبوذة إلى عالم روحي، وكانت رموز فنها الديني تفصح عن نفسها بأشكال مختلفة من وقت لآخر. ففي القرن الأول أشار الرسامون إلى السيد المسيح خاصةً بالكرمة: "أنا الكرمة وأنتم الأغصان …"، وفي القرن الثاني أشاروا إليه بالحمل كما وصفه أشعيا النبي "كحمل لا عيب فيه أمام الذي يجره … " وفي القرن الثالث أشاروا إليه بالسمكة، ونعرف أيضاً رموزاً أخرى مثل الراعي الصالح والمرسى والحمامة والقيثارة والسفينة والصليب وغيرها.
بدأ لأول مرة تصوير المسيح منذ أواخر القرن الثالث، وهو نموذج هيليني يمثل المسيح شاباً يافعاً جميلاً لا أثر للألم على وجهه. وفي القرن الرابع ظهر النموذج السوري الذي يصور يسوع رجلاً كاملاً وشرقي الملامح أسود اللحية والشعر. وفي أواخر القرن الرابع استقرت هيئة المسيح التقليدية المنحدرة من الشكلين السابقين، والتي تجمع براعة الفن اليوناني وواقعية الفن السوري. وكانت كلما انتشرت الكنيسة في العالم، ازدادت نشاطاً لخلق أيقونوغرافية ملائمة لواقعها وظروفها. وبدأت الرسوم الدينية تغتني بصور القديسين ومريم العذراء والملائكة والأحداث الدينية المختلفة منذ ظهور المسيحية، وتصاوير عن المسيح وحياته منذ الطفولة وحتى صلبه.
إلا أن هذا الفن شهد اضطراباً منذ أواخر القرن السابع وبداية القرن الثامن، حيث ظهر اتجاه معادٍ للتصوير، كان على رأسه الأباطرة والعديد من المتدينين الهراطقة، مما أدى إلى تخريب واندثار الكثير الكثير من الأعمال الفنية.
وقد اندلعت نيران الحرب ضد الأيقونوغرافية بادئ الأمر في مقاطعات آسيا الصغرى التي احتلها العرب. وانتشرت حملة تدمير في جميع الأبرشيات الشرقية، ثم تركز مبعثها في القسطنطينية. ففي عام 726م. أعلن ليون الثالث الإيصوري حرباً على الأيقونات، وأصدر عام 730م. مرسوماً ملكياً يقضي بعدم تكريم الصور المقدسة وبتدميرها لأنها وثن ترذله الكتب المقدسة. وقد بلغ اضطهاد محطمي الأيقونات ذروته في عهد قسطنطين الخامس ابن ليون الثالث. فكان عصره دموياً بعد احتجاج الناس على تحطيم الصور المقدسة. وطال القمع الرهبان أنفسهم، فكانوا يضعونهم في أكياس ويرمونهم في البحر أو يقومون بتحطيم رؤوسهم فوق أحدى الرسوم المقدسة، وجروا على عادة حرق أيدي مصوري الأيقونات أيضاً.
فيما بعد انحسر هذا العداء في زمن الملكة إيربني، إلا أن هذه الفترة كانت وجيزةً، فقد عادت الحرب ضد الأيقونات في عصر ليون الخامس عام 813 م.، وكانت تتخفى وراء أهدافها المعلنة رغبة سياسية عند الأباطرة بإخضاع الكنيسة لسيطرتهم ونزع نفوذها القوي. وكان آخر الملوك الذين قادوا الحملة ضد الأيقونات، الملك تيوفيلس الذي توفي سنة 842 م، فاستلمت الحكم أرملته الإرثودكسية تيودورة، لأن خليفة تيوفيلس كان قاصراً. وكانت حصيلة هذا الصراع خلفت كارثة فنية جسيمة، فقد تم تدمير أيقونات وتحف تصويرية رائعة ومخطوطات نادرة مزينة بالصور.
لاقت هذه الفنون في سوريا نفس المصير، خاصةً وأن بواعث الحرب ضد الإيقونات فيها قد سبقت القسطنطينية. فبعد أن فتح المسلمون العرب سوريا سنة 737م، أمر الخليفة يزيد الأموي بانتزاع الصور من جميع الكنائس والمعابد في مملكته، فالدين الإسلامي يحرم تشخيص المواضيع المقدسة، وكذلك الأمر تفعل الديانة اليهودية المزدهرة في سوريا حينها والتي ساهمت أيضاً في محاربة التصوير الأيقوني مساهمةً قويةً. هذا بالإضافة إلى فئة من المسيحيين الذين يعتبرون التصوير منافياً لروح النصرانية التي هي دين روحي صرف. وكان من بين أشهر المصورين والمدافعين عن فن الأيقونوغرافيا في سورا والشرق: يوحنا الدمشقي، فقد كتب ثلاثة كتب دافع فيها عن الإيمان القويم ودحض حجج الهراطقة، وشرح عقيدة الكنيسة شرحاً كاملاً. وقد احتج لدى الملك عن تدخله في شؤون الكنيسة بقوله: "إن شرعية الأيقونات وإكرامها من صلاحيات المجامع وليس من صلاحياتك. نخضع لك أيها الملك بكل ما يتعلق بالحياة الدنيا ومشاكل هذا العالم والضرائب … وكل ما هو أرضي، أما شؤون الكنيسة فهي من صلاحية رعاتها ومعلميها".
أما البابا غريغوريوس الثالث فقد كان سورياً، وقد عقد مجمعاً في روما عام 731م اتخذ فيه قرار طرد من يحارب ويدمر الأيقونات من الكنيسة.
ونستطيع إيجاز القول بأن سوريا قد ساهمت بالحفاظ على فن التصوير الأيقونوغرافي ضمن ما ترسخ بها من قوة التقاليد الشرقية التي انطلق هذا الفن من أحضانها، وانتشر مع انتشار الدعوة المسيحية.
الأيقونات الملكية :
استخدمت كلمة ملكية لأول مرة على يد البروفيسور فيرجيل كانديا، ليدل على الأيقونات التي رسمت في بطريركيات الشرق الثلاث. وقد كان النصف الثاني من القرن السابع عشر بداية ازدهار روحي في كنائس سوريا والبلدان المجاورة. رافق ذلك ازدهار فن الأيقونات وانبعاثه من جديد. وقد نتج هذا الازدهار عن تقليد ونسخ الأيقونات الروسية والأوروبية بشكل عام، وطبع نفسه بطابعٍ محليٍ يسمح لنا بتمييزه. ولما كانت الأيقونات تهدف إلى حمل المؤمنين في البطريركيات الشرقية على التأمل، فقد صيغت بطريق تقدم لهم كل ما يتفق مع فهمهم الديني. وظهر القديسون بمظهر مألوف أكثر فأكثر بالنسبة للمؤمنين، من الوجه وحتى الملابس والعناصر المساعدة. والأمثلة على ذلك كثيرة: القديس جرجس يقاتل بالسيف، والعذراء مريم التي ولدت في مهد رجراج لا يزال يصنع إلى يومنا في سوريا ولبنان، إبراهيم يرتدي زي خليفة عربي، المتوفى وقد وطئه بقدميه الملاك جبرائيل على طريقة السلطان (كاتدرائية سيدة حماة للروم الإرثودكس)، الملائكة يبشرون الرعاة الذين ارتدوا الشروال واعتمروا الكوفية والعقال وهم يعزفون على المجوز. إضافةً إلى السمات المميزة للأيقونات الملكية في الشكل والزخرفة وتردد بعض الموضوعات والكتابات العربية. وقد تأثر الرسامون الملكيون بذلك من الفن الإسلامي، فقد كانت الزخرفة تتبع لقواعد معينة تنبع من قواعد الفن الإسلامي، آخذين عن هذا الفن نماذج زهور ونباتات، وملء جميع الفراغات في الرسم بزخارف هندسية متنوعة، أو رسم أقواس مستديرة تعلو عادة الشخصيات المرسومة.
أما المواضيع المحببة في رسم الأيقونة الملكية فقد كان نابعاً من التقاليد المحببة لديانات الشرق الأوسط، كموضوعة إبراهيم وهو يهم بالتضحية بابنه، أو مار الياس وهو يقطع رأس كهنة البعل. كما ونلاحظ كثرة الأيقونات التي تروي قصة، وهو ما يتماشى مع الأسلوب الروائي في أدب الشرق القديم.
إن الفراغ الموجود بين التقليد القديم للرسم السوري، والازدهار المفاجئ منذ ثلاثة قرون، يبعث على التساؤل حول أسباب هذا الازدهار. ولا يمكن حصر ذلك في عامل واحد رغم أن الزيارة التي قام بها البطريرك مكاريوس الثالث وابنه الشماس بولس إلى روسيا قد كان لها أثر كبير بتشجيع هذا الفن بعد ما رأياه من أيقونات في كنائس القيصر. وقد يكون عامل إدخال اللغة العربية في الطقوس والأدب الديني له أهمية أيضاً. ولا ننسى أنه في هذا العصر قد نشطت حركات التبادل الثقافي والتجاري مع البلدان الأوروبية، التي كانت تسعى لإيجاد صلات مع بلدان جديدة على أساس توسيع أسواقها وسيطرتها ونفوذها السياسي، مما يجعل الدين المسيحي أحد وسائلها لتنال موطئ قدم لها في المنطقة. كما أن الحجاج المسيحيين إلى بلاد الشام لا بد وأن لعبوا دوراً هاماً في ذلك، فهم لا بد وأن شجعوا تطوير صنعة الأيقونات التي كانوا يشترونها من الديار المقدسة ويأخذونها معهم كتذكار، إلى بلادهم. وبمقابل ذلك فإن عدداً قليلاً من الأيقونات كانت تقدمه الشخصيات والأحبار للكنيسة الشرقية. هذه الأسباب وغيرها قد دفعت فن الأيقونات إلى قمته في بلاد الشام في القرن التاسع عشر. إلا أنه ما لبث وأن نزل عن هذه القمة في القرن العشرين لأسباب غير معلومة، وكأنه بذلك يسطر نهاية تاريخية امتدت إلى ما يقارب الألفي عام في بلاد الشام وحدها.
خاتمة:
رأينا الكنيسة الشرقية تحيط الأيقونات المقدسة بعطف وشغف، يتجلى في العبادة الشعبية الحية في الشرق. ويستند هذا الإكرام في الكنيسة البيزنطية للأيقونات إلى ثلاثة أسس:
1- الكتاب المقدس: "نحن جميعاً والوجه سافر، نعكس كما في المرآة مجد الرب الذي هو روح". إن هذا المبدأ العقائدي يتلخص في أن الله برأ الإنسان على صورته، "وهذا يدل على التعادل بين الإلهي والبشري، اتحاد الطبيعتين في المسيح". إن الله يمكن أن يرى ذاته في البشري كما في مرآة، لأن الإنسان على صورته. إن الله في المسيح يسوع يتكلم لغة البشر. إن الله في المسيح له صورة بشرية أيضاً. وبالطبع فإن أبدع أيقونة لله هو الإنسان وهذا ما يشرحه العمل الطقسي أثناء الليتورجيا، إذ يبخر الكاهن المؤمنين كما يبخر الأيقونات.
2- تعليم الآباء الشرقيين القديسين، وباستطاعتنا أن نلخص تعاليمهم بما قاله القديس يوحنا الدمشقي: "إن مسيحي الشرق أكدوا ويؤكدون أن الأيقونة سر، ويعتبرونها أداة مقدسة فيها القوة الإلهية والنعم السماوية".
3- تعليم المجامع المسكونية ولا سيما المجمع المسكوني السابع، أن الأيقونة تعبير للحقيقة وشبه الموجود في حين أن الصنم ظل لغير الموجود وللخيال على حسب تعبير القديس نيودورس الإسنودي.
لقد نشأ إكرام الأيقونات مع نشأتها وتزايد في القرنين السابع والثامن حتى حد المبالغة، فقد وصل تبجيل هذه الصور حد العبادة عند بعض المسيحيين. حتى أنهم اعتبروا أن الأيقونات المرسومة للمسيح هي ليست من صنع البشر، بل من صنع يد إلهية مما قاد في النهاية لقيام حركة نبذ الأيقونات، واستغلال بعض الملوك نقمة قسم من المسيحيين على الرسم الأيقوني لأغراضهم السياسية، فراح نتيجة هذا الصراع الألوف من الناس…