تلك الحقيقة الايمانية يصوّرها الكتاب المقدّس بتصاوير مختلفة، لا يهدف منها إلى وصف نهاية الأزمنة وصفاً علمياً دقيقاً، بقدر ما يقصد إظهار رهبة هذا الحدث الأخير وخطورته بالنسبة إلى مصير الانسان.
يتكلم العهد القديم عن "يوم الرب" ويعني بذلك يوم الدينونة الذي فيه سيكافئ الله شعبه وأبراره. انّه "يوم ظلمة" (عاموس 5: 20)، "يوم غمام" (حزقيال 30: 2)، "يوم نار تأكل جميع الأرض" (صفنيا 1: 18)، "يوم قاسٍ ذو سخط واضطرام غضب، ليجعل الأرض خراباً ويبيد خطأتها منها" (اشعيا 13: 9). "فمن يحتمل يوم مجيئه ومن يقوم عند ظهوره، فانّه مثل النار الممحّص" (ملاخي 3: 2).
هذا اليوم أصبح في العهد الجديد "يوم المسيح". انه يوم فدائنا الأبدي: "ومتى ظهر المسيح الذي هو حياتنا، فحينئذٍ تظهرون أنتم أيضاً معه في المجد" (كو 3: 4). ومجيء المسيح يصفه العهد الجديد بطرق مختلفة. فهو تارة "يأتي على سحب السماء في كثير من القدرة والمجد"، وفي ذلك اشارة الى تحقيق نبوءة دانيال في شخص المسيح ابن البشر: "ورأيت في رؤى الليل فاذا بمثل ابن البشر آتياً على سحاب السماء، فبلغ الى القديم الأيام وقُرّب الى أمامه، وأوتي سلطاناً ومجداً وملكاً، فجميع الشعوب والأمم والألسنة يعبدونه، وسلطانه سلطان أبدي لا يزول، وملكه لا ينقرض" (دانيال 7: 13، 14). "ويرسل ملائكته بالبوق العظيم، فيجمعون مختاريه من مهاب الريح الأربعة، من أقصى السماوات الى أقصاها" (متى 24: 30، 31).
وفي بعض الأمثال، كظهر يسوع كالعريس الذي يأتي الى العرس (مثل وليمة العرس: متى 22: 1- 14، مثل العذارى العشر: متى 25: 1- 13)؛ أو "كإنسان كريم العنصر قصد الى بلد بعيد ليتولّى ملكاً ثم يعود" (لو 19: 12)؛ أو "كرجل مسافر ترك بيته وصرّف عبيده كل واحد في عمله، وأوصى البوّاب بالسهر…" وسوف يعود بغتة دون أن يعرف أحد زمن عودته: "في المساء أم في منتصف الليل، أم عند صياح الديك أم في الصباح" (مر 3: 34- 36).
وتارة يصوّر لنا المسيح الدينونة كمحكمة يجلس فيها الملك على عرشه ويعلن حكمه على الصدّيقين والأشرار (متى 25: 31- 45). وفي سفر الرؤيا تأخذ الدينونة صورة قتال ينشب في السماء ينتصر فيه المسيح على أعداء الله (رؤيا 12).
تهدف كل من هذه التصاوير الى تأكيد وجه من حقيقة المسيح، إلاّ أنها تبقى صوراً رمزية يجب ألاّ يُساء فهمها، فتفسّر تفسيراً حرفياً، أو يُفصَل أحدُ عناصرها وتحاك حوله قصة تدّعي وصف نهاية العالم وصفاً علمياً دقيقاً.
كذلك القول عن زمن مجيء المسيح وزمن نهاية العالم. انّ هذين الأمرين لا يزالان يثيران فضولية الانسان، وقد أثارا فضولية الرسل أنفسهم، فسألوا يسوع: "قل لنا متى بكون هذا، وما تكون علامة مجيئك ومنتهى الدهر؟" (متى 3:24). يجيبهم يسوع بإلقاء بعض الأضواء على ما ينتظرهم من حروب ومجاعات وزلازل. وينهي بقوله: "أما ذلك اليوم وتلك الساعة، فلا يعلمهما أحد، ولا ملائكة السماوات، ولا الابن، إلا الآب وحده" (متى 24: 36)، ثم يخلص الى القول، وهذا هو المهمّ بالنسبة الينا: "فاسهروا اذاً، لأنكم لا تعلمون في أي وقت يأتي سيّدكم. وتيقّنوا أنه، لو علم رب البيت في أي هزيع يأتي السارق، لسهر ولم يدع بيته يُنقَب. فكونوا اذاً، أنتم أيضاً، مستعدّين، لأنّ ابن البشر يأتي في ساعة لا تظنونها" (متى 24: 42- 44).
يرى معظم اللاهوتيين اليوم انّ المجيء الثاني سيتحقق لكل انسان في ساعة موته، اذ سيلاقي المسيح. هذه النظرية ممكنة، ولكن شرط ألا ننسى أنّ المجيء الثاني لا يحقّق فقط مصير كل انسان، بل يعني أيضاً اكتمال تاريخ البشر في المسيح. فالمسيح لم يتلاشَ في غياهب الموت. وقصة ارتفاعه يوم الصعود الى السماء تعني أنه دخل في مجد الآب وأنه لا يزال حياً وانّ تاريخ البشر سيكتمل فيه. هذا معنى قول الملائكة للرسل في رواية الصعود: "أيها الرجال الجليليون، ما بالكم واقفين تنظرون الى السماء؟ ان يسوع هذا، الذي ارتفع عنكم الى السماء، سيأتي هكذا، كما عاينتموه منطلقاً الى السماء" (أعمال 1: 11- 12). "ان يسوع هو هو أمس واليوم والى الدهور" (عب 13: 8)، ومجيئه الثاني يعني ان الله سيكمل فيه عمل الفداء والخلاص الذي بدأه فيه.
المجيء الثاني هو العمل الأخير الذي سيقوم به الله خاتماً به سلسلة أعمال محبة بدأت بخلق العالم وتتالت عبر التاريخ وبلغت ذروتها في حياة يسوع المسيح وموته وقيامته. الله محبة، وقد ظهرت تلك المحبة في العالم والتاريخ، وستظهر ظهوراً نهائياً في كمال العالم والتاريخ. إيمانا بالمجيء الثاني هو يقيننا أنّ العالم لن يجد ملئه بقوّته الذاتية، والتاريخ لن يجد اكتماله بتطوّر شرائعه ونواميسه. فالعالم والتاريخ بحاجة إلى قوّة تفوقها وتمنحها الملء والكمال. انّ تلك القوّة قد دخلت العالم والتاريخ؛ انها ضمن العالم والتاريخ، ولكنها تسمو العالم والتاريخ. الله ليس عنصراً من عناصر العالم، انه خالق العالم. والله ليس شريعة من شرائع التاريخ، انه مستقبل التاريخ وانفتاحه الى اللانهاية.
انّ لهذه العقيدة نتائج خطيرة بالنسبة الى علاقات البشر بعضهم ببعض والى علاقاتهم بالعالم. والنتيجة الكبرى هي اقتناعنا انّ خلاص العالم والبشرية لن يتحقّق بمجرّد اتّباع شرائع التاريخ. فخلاص العالم لن يتحقق إلاّ اذا تجاوز العالم ذاته، وخلاص البشرية لن يتحقق إلاّ اذا نسمت فيها روح الله.
لذلك بعد أن قام المسيح وارتفع الى مجد الآب أرسل للعالم من عند الآب الروح القدس. وهذا الروح هو الذي يستقرّ في داخل الانسان وفي داخل البشرية وفي داخل العالم ليبلغ بكل تلك العناصر البشرية والدنيوية الى التألّه، الى حياة الله.
لقد جاء المسيح ليبني لذاته جسداً، ويصل هذا الجسد الى ملئه وكماله. جسده هو جميع الذين يؤمنون به؛ جسده هو العالم الجديد الممتلئ من الله، جسده هو الكنيسة، شعب الله الجديد.