الدينونةالدينونة
الدينونة في العهد الجديد
كيف يصوّر العهد الجديد الدينونة
من سيدين العالم؟
الله الآب.
يصف العهد الجديد الدينونة كأنّها أوّلاً عمل الله؛ فالله هو الذي سيدين جميع الناس. يقول بولس الرسول:
"أوَ تظنّ أيها الإنسان الذي يدين من يعمل مثل هذه الأعمال، وهو يفعلها، أنك تنجو من دينونة الله؟… إنّك بنصلّبك وقساوة قلبك الغير التائب تدّخر لنفسك غضباً ليوم الغضب واعتلان دينونة الله العادلة، الذي سيجازي كلّ واحد بحسب أعماله: بالحياة الأبدية للذين، بالصبر على العمل الصالح، يطلبون المجد والكرامة والخلود، وبالغضب والسخط على الذين هم من أهل المخاصمة، الذين لا ينقادون للحق بل ينقادون للشرّ… فكل الذين خطئوا بمعزل عن الناموس، فبمعزل عن الناموس أيضاً يهلكون؛ وكلّ الذين خطئوا وهم تحت الناموس، فبمقتضى الناموس يُدانون؛ لأنّه ليس السامعون للناموس هم أبراراً عند الله، إنما العاملون بالناموس يبرَّرون" (روم 2: 3- 13(
ويسوع في حديثه عن الصدقة والصلاة والصوم يطلب أن يقوم الانسان بهذه الأعمال في الخفية، ثم يضيف: "وأبوك الذي يرى في الخفية هو الذي يجازيك"، أي يوم الدينونة (متى 6: 4، 6، 15، 18) من سيدين العالم؟
يسوع المسيح
في مقاطع أخرى يُسنَد عمل الدينونة الى المسيح. فالمسيح هو ابن البشر الذي سيدين جميع الأمم في الدينونة العامة، كما يقول انجيل متى: "متى جاء ابن البشر بمجده، وجميع الملائكة معه، حينئذٍ يجلس على عرش مجده، وتحشر لديه جميع الأمم، فيفصل بعضهم عن بعض، كما يفصل الراعي الخراف عن الجداء، ويقيم الخراف عن يمينه والجداء عن يساره" (متى 25: 31- 33)
وكذلك في تفسير مَثَل الزؤان يقول يسوع: "كما أنّ الزؤان يُجمَع ويُحرَق بالنار، كذلك يكون في منتهى الدهر، يرسل ابن البشر ملائكته، فيجمعون من مملكته كل المعاثر وفاعلي الإثم، ويلقونهم في أتون النار" (متى 13: 40- 42). وفي حديثه عن ضرورة العمل بارادة الآب يقول: "ليس كل من يقول: يا رب، يا رب! يدخل ملكوت السماوات، بل الذي يعمل إرادة أبي الذي في السماوات. كثيرون سيقولون لي دنن ذلك اليوم: يا رب، يا رب! ألم نكن باسمك قد تنبّأنا؟ وباسمك قد أخرجنا الشياطين؟ وباسمك صنعنا عجائب كثيرة؟ فحينئذٍ اعلن لهم: اني ما عرفتكم قط؛ أبعدوا عني، يا فاعلي الإثم!" (متى 7: 21– 23)
وبولس الرسول يذكّر مراراً انّ الذي سيدين العالم هو الرب. وبتلك اللفظة يعني يسوع المسيح: "لا تحكموا بشيء قبل الأوان، الى أن يأتي الرب. فانه هو الذي سينير خفايا الظلام، ويوضح أفكار القلوب، وحينئذٍ يكون لكل واحد مدحه من الله" (1 كور 4: 5)، "إذ لا بدّ أن نظهر جميعاً أمام منبر المسيح، لينال كل واحد على حسب ما صنع بالجسد، خيراً كان أم شراً" (2 كور 5: 10).
من سيدين العالم؟
الرسل والقديسون
يُسنَد أيضاً عمل الدينونة في بعض مقاطع من العهد الجديد الى الرسل، كما جاء مثلاً في قول يسوع لرسله الاثني عشر: "الحق أقول لكم: إنكم، أنتم الذين تبعوني، متى جلس ابن البشر، في عهد التجديد، على عرش مجده، تجلسون أنتم أيضاً على اثني عشر كرسياً، لتدينوا أسباط اسرائيل الاثني عشر" (متى 19: 28)
وبولس الرسول يضيف انّ جميع القدّيسين، ويعني بالقديسين جميع المسيحيين، سيدينون العالم والملائكة: "أيجترئ أحدكم، وله دعوى على آخر، أن يحاكمه لدى الخطأة، لا لدى القديسين؟ أوَ ما تعلمون أن القديسين سيدينون العالم؟ وإن كان العالم بكم يُدان، أفتكونون غير أهل لأن تقضوا في الدعاوى الصغرى؟ أوَ ما تعلمون أنّا سندين الملائكة؟ فكم بالأحرى نقضي في شؤون هذه الحياة" (1 كور 6: 1– 3 )
من سيدين العالم؟
الانسان يدين نفسه
في انجيل يوحنا تأخذ الدينونة طابعاً ذاتياً. فالانسان هو الذي يدين نفسه برفضه كلمة المسيح: "ان الله لم يرسل ابنه الى العالم ليدين العالم، بل ليخلّص به العالم. فمن آمن به فلا يُدان، ومن لا يؤمن به فقد دِيْنَ، لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد". ثم يتابع انجيل يوحنا معرّفاً بمضمون الدينونة: "وعلى هذا تقوم الدينونة: انّ النور قد جاء الى العالم، والناس آثروا الظلمة على النور، لأن أعمالهم كانت شريرة. لأنّ كل من يفعل الشر يبغض النور، ولا يقبل البتة الى النور لئلا تفضح أعاله. وأمّا من يعمل الحق فانه يُقبِل الى النور، لكي يثبت أنّ أعماله مصنوعة في الله" (يو 3: 17- 21)
وفي موضع آخر يقول يسوع: "لقد جئت الى العالم، أنا النور، لكي لا يمكث في الظلام كلّ من يؤمن بي. إن كان أحد يسمع أقوالي ولا يحفظها، فلست أنا أدينه، لأني لم آتِ لأدين العالم، بل لأخلّص العالم. فمن نبذني ولم يقبل أقوالي، فله ديّانه: الكلمة التي نطقت بها هي تدينه في اليوم الأخير، لأنّي لم أتكلّم من نفسي، بل الآب الذي أرسلني هو حدّد لي ما أقول وما أُبشّر به" (يو 12: 46- 49).
انّ المسيح لم يأتِ للدينونة بل للخلاص. فمن يقبل كلامه ويؤمن به يخلص: انه منذ الآن في النور. وأمّا الذي يرفض كلامه ولا يؤمن به "فَقَدْ دِينَ". انّ صيغة الماضي التي يستعملها يوحنا تعني انّ الدينونة تبدأ منذ هذه الحياة بمجرّد رفض الإيمان بالمسيح. فالانسان اذاً هو الذي يدين نفسه بانفصاله عن المسيح وعن. كلامه. وبانفصاله عن المسيح ينفصل معاً عن الله، لأنّ المسيح لم يتكلم من نفسه، بل هو كلمة الله: "مَن آمن بي فليس بي يؤمن، بل بالذي أرسلني. ومن رآني فقد رأى الذي أرسلني" (يو12- 44).
هكذا يتضح لنا ان لا تناقض بين اسناد عمل الدينونة الى الله أو الى المسيح أو الرسل أو جميع المسيحيين، لأنّ الحقيقة هي التي في الواقع ستدين العالم. والحقيقة واحدة: انها حقيقة الله التي يحملها يسوع، كلمة الله، في كيانه وفي تعاليمه، والتي آمن بها الرسل والقديسون وجميع المسيحيّين، وعاشوا بموجبها.