عِظَة كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن ابراهيم
للقديس يوحنا الذهبي الفم |
لننهض إذاً ولا نلبث في سباتنا، ها هي الأبواب تنفتح أمامكم، لندخل بنظام دقيق وخوف مقدس مجتازين الأروقة الإلهية. فما هي هذه الأروقة؟ “كتاب ميلاد يسوع المسيح ابن داود ابن ابراهيم” (متى ف 1: عد 1). ماذا تقول! كنت تريد أن تكلِّمنا عن ابن الله الوحيد فإذا بك تُعيد إلى أذهاننا داود وتحدّثنا عن إنسان كان له آلاف من الجدود وتجعل ذاك أباهُ وجدّه. ألا فاصبر، ولا تطلب أن يُقال لك كل شيء دفعة واحدة. لنتقدّم ببطءٍ قليلاً قليلاً. إنك لا تزال في الأروقة ولم تكد تطأ العتبة فلماذا تندفع إلى داخل الهيكل ولم ترَ بعدُ كل ما في خارجه. أنا لا أُحدّثك عن الميلاد السابق (الميلاد السابق يقصد به الولادة من الآب، الولادة الأزلية) ولا باشرت وصف الميلاد الذي يليه لأنه سرّ يعجز عن وصفه عقل البشر وقد سبقني إلى ذلك اشعيا إذ أخبر عن آلامه، وعن العناية العظيمة المرفرفة فوق البسيطة، ودهش لتنازل إلهٍ قد صار إلى ما لم يكن فصرخ بصوت عظيم جهير: “أمّا جيله فمَن يصفه”. (اشعيا 53: 8). لا أكلمك الآن عن هذا الميلاد الإلهي، بل عن الميلاد البشري الصائر على الأرض، الذي يؤيّدهُ آلاف من الشهود. عن هذا الميلاد نحدّثك ما نستطيع بمؤازرة الروح، لأن هذا الميلاد أيضا يتعذّر علينا تبيانه بوضوح كامل إذ تعترضنا في سبيل ذلك عقبات كأداء. لا يخيَّل إليك أنك تستمع إلى أمور قليلة الخطورة باستماعك إلى هذا الميلاد. فأيقظ ذهنك وارهب من البداية حينما تسمع أنّ إلهاً أتى إلى الأرض. وقد كان هذا الحادث من الغرابة والعجب بحيث وقف الملائكة أجواقاً وجعلوا ينشدون تسابيح الحمد في المسكونة كلها عندما نظروا إلى هذا السرّ، ودهش الأنبياء لمّا أدركوا بالروح أنّ إلهاً يظهر على الأرض ويتردّد بين الناس. والأغرب أن نسمع بأنَّ إلهاً كلَّ دونه الوصف والتعبير وقصرت عن إدراكه طامحات العقول، إلهاً مساوياً لأبيه، حلَّ في أحشاء عذراء، ورضيَ أن يُولد من امراة، وأن يكون داود وابراهيم جدَّين له. وما لي أقول داود وابراهيم وفي الأمر ما هو أشد هولاً إذ توجد بين أجداده نساء زانيات قد جئنا على ذكرهنَّ في الحديث التمهيدي السابق. ألا فاسمُ بعقلك لدى سماعك هذا الكلام ولا تقبل في نفسك ما هو دنيء بل بالأحرى، لهذا السبب، تعجب كيف احتمل ابن الله الأزلي، الابن الذي هو من جوهر الله، احتمل أن يُدعى ابن داود ليجعلك ابن الله، احتمل أن يكون أبوه عبدا ليجعل السيّد أباً لك أنت العبد. انك ترى منذ بدء المقدّمة ما هي الأناجيل (أي البشريات). إن كنت ترتاب فما يخصّك فكن على يقين جازم ممَّا يتم في الابن المتجسّد. وأنه لأصعب جداً أن يسلّم عقلنا البشري بإلهٍ يصير إنساناً من أن يسلِّم بإنسان يصير ابن الإله. فإذا ما سمعت بأن ابن الله هو أيضا ابن داود وابراهيم فلا يخامرك ريب في انك أنت أيضاً تستطيع، وأنت ابن ادم، أن تكون ابن الله. لا لعمري لم يذلّ نفسه عبثاً على هذا النحو لولا الغاية التي يتوخَّاها، ألا وهي أن يرفعنا. قد وُلد بحسب الجسد ليجعلك تولَد بحسب الروح. وُلد من امرأة حتى لا تكون بعدُ ابن امرأة، فلهذا السبب كانت الولادة فيه مزدوجة: ولادة تجعلهُ شبيهاً بنا وأخرى تفوق ولادتنا. فالولادة من امرأة تتفق وطبيعتنا الضعيفة، أما الولادة بالروح التي ليست من لحم ولا من دم ولا من مشيئة رجل، فهي لممَّا يفوق طبيعتنا ولممَّا يبشّرنا بالولادة المقبلة التي سينعم بها الروح علينا. وعلى هذا المنوال تمت سائر الأسرار. فعماد المسيح مثلاً فيه عنصر من العهد القديم وعنصر آخر من العهد الجديد. فالعماد الذي تمَّ على يد الني يوحنا يشير إلى العهد القديم، ونزول الروح القدس إنما يشير إلى العهد الجديد. ومثله في ذلك مثل رجل جعل نفسه بين اثنين يمسك بيد كل منهما ثم يضمهما إليه. هكذا فعل المسيح إذ جمع بين العهدين القديم والجديد وبين الطبيعتين الإلهية والبشرية وبين ما لهُ وبين ما لنا. إنك ترى أيّ شعاع ألقى عليك المشهد الأول لتلك المدينة، قد بدأ ملكها يتجلّى لك في طبيعتك نفسها كقائد بين جنوده، لأن الملك لا يظهر عادة هنالك بشاراته المألوفة، إنما ينزع أرجوانه وتاجهُ ويرتدي ثياب الجندي حتى إذا لم يتميَّز عن سائر الجنود لا تنصبّ عليه قوة العدو. فإذا كان ملكنا لم يشأ أن يكون معروفاً فلكي لا يتجنَّب العدُّو منازلته ولا يُلقي الذعر بين أخصائه، وهو إنما جاء ليخلّص لا ليُهلِك. وهذا ما دعا إلى تسميته “يسوع” منذ البداية. “يسوع” كلمة عبرانية معناها مخلص أخذاً من قول الملاك: “لأنه سيخلص شعبه” (متى 1: 22). انظر كيف هزَّ الإنجيلي يعقوب قلوب مستمعيه مع انه لم يَفُهْ بسوى كلمات مألوفة، ولكنها كلمات أفضى بها إلينا جميعاً ولم نكن لنتوقّع ما فيها من الأفكار. لقد كان اليهود يعرفون كلا الإسمين حق المعرفة فانباؤهم بأمور غريبة لم يكن يحدث فيهم أقلَّ ريبة لما ان الرموز كانت تسبق الحقائق. فيسوع أو يشوع الذي خلف موسى أدخل الشعب إلى أرض الميعاد كما يخبرنا التاريخ. هذا هو الرمز. فانظر أيضا إلى الحقيقة: ذاك يقود إلى أرض الميعاد، أما هذا فإلى السماء إلى امتلاك الخيرات الثابتة؛ ذاك يخلف موسى، وهذا يخلف الناموس؛ ذاك قائد، وهذا ملك. ولكي لا يختلط عليك الإسمان لتشابهما أضاف متى “يسوع المسيح ابن داود” فالأول لم يكن من قبيلة داود بل من قبيلة أُخرى. ولماذا يدعو إنجيله “ميلاد يسوع المسيح” في حين أنه لا يتكلم عن الميلاد وحده بل عن تدبير سرّ التجسّد بأجمعه؟ ذلك لأن الميلاد هو جوهر كل التدبير ومبدأ خيراتنا كلها وأساسها. فكما ان موسى دعا مؤلَّفَه “كتاب السماوات والأرض” مع انه لم يتكلم عن السماوات والأرض فقط بل عما بينهما أيضاً. هكذا الإنجيلي عَنْوَنَ إنجيلهُ بما يبدأ به السر الإلهي. وان منتهى الدهشة وما يعدو كل حسبان وانتظار هو أن يصير الإله إنساناً لأنه إذا ثبت هذا فكل شيء يأخذ مجراه الطبيعي المعقول. لماذا لم يذكر ابراهيم قبل أن يذكر داود؟ ليس الأمر كما يزعم بعضهم من أنه أراد أن يصعد من الأدنى إلى الأعلى على مثل ما فعل لوقا، على أنه عمل عكس ذلك- فماذا ذكر داود؟ لأن اسم هذا كان شائعاً على ألسنة الجميع، ثم لأجل شهرته وبسبب الزمن الذي كان يعيش فيه فهو أقرب إليهم من ابراهيم ولذلك كان اليهود يقولون “انه من نسل داود ومن قرية بيت لحم حيث كان داود يأتي المسيح” (يوحنا 7: 42). ولم يعد أحد يدعوه ابن ابراهيم بل كان يسمَّى ابن داود لأن هذا كان ذكره ماثلا في أذهان الجميع نظراً للزمن كما قلت قبيل هذا، وبالأخص لأنه كان ملكاً. ان الملوك أنفسهم الذين جاؤوا بعده والذين اكتسبوا احترام الشعب كانوا يحيون ذكرهُ، والله نفسه كان يفعل ذلك. فحزقيال وأنبياء آخرون يخبرون بأن داود سيعود ويبعث. نم ليس الكلام عن داود عينه إنما هو عن الذين يقتدون بفضيلته. فقد قال الله لحزقيال: “احمي هذه المدينة وأخلصها لأجلي ولأجل داود عبدي” (سفر الملوك الرابع 19: 34). وكان يقول لسليمان: انه لا يشق الملك ما دام داود حيّاً. وقد كان مجد داود عظيماً عند الله والناس. فلأجل هذا السبب يبدأ متى كتابه بذكره، ثم ينتقل إلى ذكر الأب الأول لنسل اليهود باعتبار ان ذكر مَن سلفهُ لا يأتي بفائدة عندما يوجّه كلامه إلى هذا الشعب. فها هما الشخصان الأكثر شهرة بين أجداد المسيح وقد كان أحدهما نبيّاً وملكاً وثانيهما جَدّاً ونبيّاً. ولعله يُقال لي كيف يتضح أن المسيح وُلد من داود وهو لم يولد من رجل بل من امرأة فقط؟ وإذا كانت العذراء لم يُحصَ نسبها فكيف نُثبت أنه كان من نسل داود؟ أنّ هنالك سؤالين: لماذا لا يُحصى نسب الوالدة؟ وبالحري لماذا يُحصى نسب يوسف وهو لا صلة له بالولادة؟ يلوح لي أن أحد السؤالين فضلة زائدة وثانيهما تدعو إليه الحاجة. فعن أي شيء يجب أن نتحدث أولاً؟ كيف العذراء هي من نسل داود؟ انظر الله نفسه يرسل الملاك جبرائيل: “إلى عذراء مخطوبة لرجل اسمه يوسف من بيت داود وقبيلته” (لوقا 1- 27) فأي شيء تراه أكثر وضوحا من هذا؟ انّ العذراء من بيت داود وقبيلته. فيستدل من ذلك أن يوسف هو أيضا من ذلك البيت وتلك القبيلة لأن الشريعة لم تكن تجيز لأحد أن يتخذ له زوجاً من قبيلة أُخرى لكن من قبيلته نفسها. والحال أن يعقوب رئيس الآباء تنبأ بأن ماسّيا سيولد من قبيلة يهوذا إذ قال: “لا يزول صولجان من يهوذا ومشترع من صلبه حتى يأتي شيلو وتطيعه الشعوب” (تكوين 49: 10). فهذه النبؤة تدل على أنه كان من قبيلة يهوذا ولكنها لا تدلّ على أنه من بيت داود. ألم يكن في قبيلة يهوذا سوى بيت داود؟ بلى. قد كان فيها بيوت أخرى كثيرة، فلذلك قد يكون من قبيلة يهوذا ولا يكون من بيت داود. فلئلاَّ تذهب هذا المذهب وتنخدع به أعلن الإنجيلي قائلاً بأن المسيح من بيت داود وقبيلته. وإذا كنت تريد دليلاً آخر على ذلك فلا يتعذّر عليك تقديمه: ان الشريعة لم تجز له أيضا أن يتزوج من بيت آخر أي من غير ذويه. فوالحالة هذه نستطيع إطلاق هذه الكلمات على البتول ويوسف كليهما على السواء. لأنه إذا كان يوسف من بيت داود وقبيلته فلم يتخذ لهُ امرأة إلاَّ من البيت والقبيلة اللذين كان منهما. ولعلك تقول وما يهمُّ أن نقول أن يوسف تعدَّى هذه الشريعة؟ ان المؤرخ استدرك هذا الاعتراض فشهد بأن يوسف كان رجلاً بارّاً. وهذه الشهادة التي تؤيّد فضيلته لا تسمح لك بأن تفكر بأنه تعدّى الشريعة. إن هذا الرجل هو من الشهامة والنزاهة بحيث انه لم يشأ حتى عند اضطراره إلى إتّقاء التهمة أن يسلّم العذراء للعقاب، أيتعدّى الشريعة تحت تأثير الغضب؟ فالذي سما بحكمته إلى ما فوق الشريعة (لأن تخلية امرأته وتخليتها سرّاً كانت حكمة لم ترسمها شريعة من قبل) فكيف يسوغ أن نفتكر بأنه يأتي ما يخالف الشريعة وليس ثمة من سبب يلجئُهُ إليه. قد وضح مما قلناه أن العذراء كانت من نسل داود. فمن اللازم أن نبيّن لأيّة علّة أحصى الإنجيلي نسب يوسف ولم يحصِ نسبها. لماذا؟ لأن الشريعة عند اليهود كانت تمنع إحصاء نسب المرأة. فاحتراماً لهذه التقاليد ونفياً لكل شبهة مناقضة لها منذ مقدمة إنجيله، وبياناً لنسب الابنة، ولو انه أغفل ذكر أجدادها، أحصى نسب يوسف. فلو أُحصي نسب العذراء لاتُّهم بالتجدّد، ولو أمسك عن نسب يوسف لخفيت علينا معرفة أجداد العذراء. فلكي نعم مَن كانت مريم، وإلى أيّ بيت تنتسب، ومراعاة للشرائع الثابتة، أحصى نسب خطيبها وبيّن أنهُ من بيت داود، حتى إذا ما ثبت ذلك ثبت أيضاً أن العذراء هي من نسل داود أيضا، لأنه لا يمكن أن يتخذ هذا الرجل الصدّيق زوجاً له من غير قبيلة كما قلت سابقا. ولسبب آخر أكثر غموضاً قد أُغفِل أحصاء أجداد مريم، غير أننا أضربنا الآن عنه لأنه لا متّسع لنا لتفصيله لكثرة ما حمَّلنا أسماعكم من الكلام. |