كنّا شبابًا يافعين، عندما كان يأتي إلى كنيسة رعيّـتنا. بعضُ أهله كانوا ينيرون قلوبنا بالتزامهم الجِدّيّ. وكان هو، من حين إلى آخر، يزورهم. ويمرّ على الكنيسة التي ساهم في نهضتها قبل أن يكلَّف رعاية شعب الله في رعيّة أخرى. يمرّ، ليتبرّك بشفاعة من نهتف إليها: "افرحي، أيّتها الممتلئةُ نعمةً، الربُّ معكِ"، ويقبّل أيقونتها بتقوًى ظاهرة، ويقف أمامها لحظات تكفي للدلالة على وَلَعٍ يأخذ بمجامع قلبه.
أكثر ما كان يلفتنا فيه، إلى تقواه العميقة، أنّ رؤيته إيّانا كانت تعمّره بالفرح. فما إن يحجّ إلى الكنيسة ويلمحنا شبابًا مجتمعين في ساحتها، حتّى يقترب منّا، ويرمي علينا سلامًا وديعًا، ويحدّثنا بكلمات ودودة، ويتركنا بابتسامة مضيئة. ثمّ يدخل، بعد ذلك، على أمّه العذراء. ثمّ يخرج، ويلوّح لنا بيده فيما فمُهُ يمطرنا بأدعية صالحة. لم يدغدغنا، يومًا، أن نشتهيه كاهنًا على رعيّتنا. لا لأنّ من كان يخدمنا لم يُنقصنا الرعاية المحبّة الصادقة فحسب، بل، أيضًا، لأنّ الإخوة، الذين كنّا نعتبر بإرشادهم، كانوا قد علّمونا أنّ الرعاية، في الكنيسة، تتكامل في تضافر الكلّ على بذلها دائمًا. أرادوا لنا أن نفهم أنّ التزام الوصيّة العظمى هو ما قد يزيح أيّ حجر يفصل بين الناس الذين أحياهم ربّهم "في اليوم الثالث"، ويجعلهم ذوي نفع في كنيسةٍ كلُّ شأن أعضائها أن يتمثّلوا بإله أحبّهم حبًّا لا يوصف.
أذكره يمشي بقامته المنحنية نحونا. يمشي! لا، بل يعدو. يصل وجهه إلينا قبل أن يصل. هل كان يريد، بما يفعله، أن يدلّ على تعلّقه ببشر؟ لعمري، لا. فما كان يفعله لا يدلّ على بشر، بل على الله الذي كان يَفرح أبونا يوحنّا (محفوض) بأن يراه محبوبًا. يفرح كثيرًا. يطير من الفرح. هناك كثيرون، في الدنيا، لهم أمورهم التي تفرحهم، والله ليس منها. هناك كثيرون يحسبون أنّهم يفرحون! أمّا الرجال الكبار، فهم الذين يفرحون بالله الذي انتشلنا من براثن الحزن ونقلنا إلى ملكوت الفرح، هم الذين يفرحون بمن يسعون إلى رضاه في الأرض. لقد كان أبونا يوحنّا من أولئك الرجال الكبار الذين ارتبطوا بسماء الله ارتباطًا لا يُفكّ. كان، بفرحه بمن تجمعهم محبـّة كلمـة الـله، يذكّر بقول الربّ: "هكذا يـكون الفرح في السماء بخاطئ واحد يتوب" (لوقا 15: 7). وهل ثمّة ما هو أعلى من هذا التذكير؟ هل ثمّة ما يجعل الكاهن ذا قيمة في عيني الله أعلى من أن يحاكي السماء؟
كان أبونا يوحنّا واحدًا من الذين جعلونا نفهم، ببساطته ورقّته وحسن طويّته، أنّ قيمة أيّ كاهن في الأرض ليس أنّه يقيم أسرار الكنيسة فحسب، بل، إلى ذلك، أن يبقى يخدم فرح الله بعد أن ينتهي من خدمة أسراره، بل أن يسعى إلى أن يدفع سماء الله إلى أن تقول ما ترغب في أن تقوله دائمًا، بل أن يحاكي السماء في قولها. وهذا، الذي يقال عن الكهنة، يقال عن كلّ من كلّفوا مسؤوليّة في الكنيسة. فالكنيسة لا تَحتمل أن يقام فيها مسؤولون يشترطون أن تفرح السماء من طريقهم فحسب، مسؤولون يربطون الفرح بنهجهم حصرًا. وأبونا يوحنّا، بما كان عليه من خصال السماء، سيبقى، هو وكلّ من يشبهونه، يشكّل صفعة مؤلمة على وجه كلّ من توحي إليه نفسه بأن ينتهج هذا النهج الغريب، أو بات ينتهجه فعلاً.
إنّني، كغيري، يمكنني أن أعرف أنّ معظم من دعاهم الله إلى موقع مسؤوليّة في الكنيسة، إن لم يكن كلّهم، ابتدأوا أنّ أحدًا فرح بهم. فأنت لا يمكن أن تأتي إلى موقعٍ من غير طريق الفرح. الجماعة الكنسيّة تكلّفك، أو يأمرها فرحها بأن تفعل. توظّف الفرح، وتستقرّ في رجاء أن تبقى أنت في موقعك الأوّل، ألاّ تنسى ما كنتَ عليه، أي أن تبقى تذكر أنّ ما من موقع، في كنيسة الله، أعلى من الموقع الأوّل الذي سمّاه ربّ يوحنّا "المحبّة الأولى" بقوله لملاك الكنيسة التي بأفسس (وتاليًا لكلّ من يعنيه أن يسترجع غنى قلبه): "مأخذي عليك هو أنّ حبّك الأوّل قد تركته" (رؤيا يوحنّا 2: 4). فالربّ، بهذا القول، أراد، ممّا أراد، أن يذكّرنا بأنّ كلّ من دعي إلى المسؤوليّة إنّما دعي، ليخدم المحبّة التي دفعت الكنيسة إلى أن تنتدبه للخدمة. إذ ما من عمل للكاهن، للأسقف، أعلى من هذا العمل. إنّه الأعلى من أيّ أمر آخر، لأنّه يوافق السماء. والمسؤول إمّا يأتي من السماء ويبقى فيها، أو يُسقط نفسه منها إلى وحل الأرض. وما من سقوط يفوق دويُّهُ سقوطَ من يأبى أن يفرح بالله، سقوطَ من يرفض أن يبذل محبّته لمن يحبّون الله بحضوره ودمه، من ينسى أنّه ما زال منهم. فـ"المحبّة الأولى" هي أن نبـقى، مهما علا شأنـنا، في صفّ من يدفعون السماء إلى أن تفرح، أو أن نتوب إلى الله إذا تجاوزناها بحسباننا أن ثمّة ما يبرّر إهمالها.
هل رحل الأب يوحنّا؟ من آثروا أن يشبهوا سماء الله، لا يمكن أن يرحلوا. يبقون في عيوننا وقلوبنا أيقونة كتبها الله بيده. ونحن، أمام الأيقونة، شأننا أن نصنع سجدة كبرى. نسجد، ونرجو أن يشعّ حضورها في مدانا كلّه. فما يحتاج إليه مدانا، اليوم وغدًا، أن نبقى على فرحٍ أعدّه الله لنا منذ الأزل. لقد انتقل أبونا يوحنّا إلى بركات الفرح الذي كان يفتنه هنا في الأرض. وثقتي بأنّ الربّ يقول له الآن: "ادخل فرح ربّك، وتمتّع بما كان يمتّعك. لقد استبقت هذا اليوم بانتمائك إلى سمائي. فأنت حبيبي الذي فرحت به نفسي".