مستقبل الكرسي الأَنطاكي
أَلتمِسُ أَن لا يتوهَّمَم أَحدٌ أَنِّي عاشقٌ للَّاذقيَّة. أَنا أَعشقُ الكنيسة الأُرثوذكسيَّة في العالمِ أَجمع وأَهتمُّ بها جميعاً ولكن هذه النبذة عن الَّلاذقية جديرةٌ أَن تحرِّكَ الشعب في الوطنِ والمهاجر للنهوضِ والقيامِ بالواجبِ، ولتجديدِ الشبابِ والصبايا لخدمةِ يسوع ربِّنا لهُ المجد.
يوجدُ الملايِّين من الأُرثوذكس الأَنطاكيِّين في المهاجر، فما هي أَنشطتهُم؟ هل قدَّموا للكنيسة مئات الأَساقفة والمطارنة؟ هل قدَّموا للكنيسة العلوم الَّلاهوتيَّة؟ هل تضلَّعوا من اليونانيَّة والعِبريَّة والآراميَّة ليصيروا لاهوتيِّين كما لدى الكاثوليك في تلك الديار لاهوتيُّون عِظام؟ حبُّ الكنيسة ينخرُ عِظامي.
علاقتي بالبطاركة المسكونيِّين متينةٌ جدًّا. كان وكيلُ البطريرك المسكوني المرحوم كوزما صديقي الحميم. إِلتقينا المرَّة الأَخيرة في البطريركيَّة في أَيَّام البطريرك الشهيد الياس معوَّض سنة 1976 لأَغراضٍ كنسيَّة هامَّة. أَمَّا ممثِّلو البطريرك الروسي، فبَيني وبين بعضهِم موَدَّةٌ كبيرةٌ. إِلتقيتُ في 9 حزيران 1963 في الَّلاذقية بالأُسقف ليونتي فأَقامَت بيننا صداقة افتضحَ أَمرُها في مطرانيَّة حمص في 26 تشرين الأَول 1986. دَهِشَ المطران ألكسي لهذه الصداقة عندما خرجَ الأُسقف من بابِ غرفة الطعام وأَنا واقفٌ على باب القاعة، وعندَ رؤيَتي دَهِشَ وهجمَ للسلامِ عليَّ وضمَّني وقبَّلَني بحماسٍ ومودَّة كبيرة. قالَ لهُ المطران أَلكسي إِنَّ اسبيرو يحبُّكَ جدًّا، فقالَ لهُ وأنا أُحبِّهُ كثيراً. إِلتقيتُ ايضاً بالأُسقف فالنتين فانعقدت بيننا مودَّةٌ كبيرةٌ جدًّا. وآخرهم كان الأُسقف نيقولاوس الَّذي رأيتُهُ خارجاً من غرفة قبر القدِّيس اليان الى الهيكل يوم عيد القدِّيس ومعه الخوري بطرس. قالَ لهُ بطرس: هذا اسبيرو جبُّور. فدارَ حولَ المائدة الى شمالِ الهيكل ليسلِّمَ عليَّ فتعانقنا. جلسنا الى طاولة الطعام وكانت هناكَ أَحاديثُ وديَّة.
هناكَ مذكَّرات لاهوتيَّة ورسائل عديدة الى أُوروبا، منها الى رئيسِ أَساقفة أَثينا ورئيس أَساقفة السابق المرحوم Théophile الَّذي كان يُكاتِبُني. أَرسلتُ الى بطريرك يوغوسلافيا القدِّيس بولس رسائلَ عديدة أَثناءَ الأَزمة اليوغوسلافيَّة وذلك للحلِّ السِلمي. هناك ايضاً علاقاتٌ مع أَساتذة الَّلاهوت المتعدِّدين.
وهكذا أَكونُ غيرَ منفصلٍ عن الَّلاذقية وعن الكرسي الأَنطاكي. إِنِّي أَهتمُّ بالعالم الأُرثوذكسي ككل ولا يغيبُ عن اهتمامي العالم الكاثوليكي. أُراقبُ التطوُّرات الَّلاهوتيَّة والإِجتماعيَّة بقَدَر استطاعتي وذلك بسبب ظروفي القاسيَة خلال السنوات الأَخيرة، أَو بالأَحرى من خلال الأَربعين سنة الأَخيرة من عمري. علاقتُنا بالعالم الكاثوليكي كانت في مستوى جيِّدٍ ولبِقٍ. تدخَّلَ مرَّةً السفير الفرنسي بين البطريرك الياس معوَّض والفاتيكان للقيامِ بزيارةٍ للفاتيكان. رَضِيَ البطريرك بذلك شرطَ أَن يَرُدَّ البابا نفسه الزيارة للبطريرك. وفي مناسةٍ أُخرى اشترطَ البطريرك الياس شرطاً لاهوتيًّا فكان موقفُهُ من روما موقف الندِّ للند. ولكن أَخذَهُ الله اليهِ قبل عشرة أَيام من موعدِ الزيارة، فقالَ فيهِ بعد وفاتهِ أَحد الكرادلة ما قال.
ولذلك أَتوقَّع اليوم لِمَولانا صاحب الغِبطة البطريرك يوحنا العاشر يازجي، أَن يلتفَّ العالم الأُرثوذكسي حولَ بعضهِ بعضاً، وأَن تسودَ البطريركيَّات أُخُوَّة نادرة كما سادَها في العام 1969 حين تدخَّلَ البطريرك المسكوني اثيناغوراس ورئيس الأَساقفة مكاريوس الشهيد القبرصي لدى البطريرك ثيودوثيوس فهطلت يومها على ثيودوثيوس برقيَّات التأيِّيد.
حملَ الشهيد المطران الياس معوَّض برقيَّة بطريركيَّة موسكو وأَعطاني إِيَّاها وهي بين أَوراقي الآن. كنتُ قد قلتُ لهُ مراراً إِنَّ البطريرك أَلِكسي الرُّوسي يؤَيِّدُنا. إِنتقلَ المطران معوَّض الى دمشق في 27 تشرين الأَول يرافقُهُ بعض السادة المطارنة والمطران العظيم أَلِكسي عبد الكريم. في كانون الأَول 1969 طلبَ وكيل بطريرك موسكو الأُسقف المرحوم Guirmogene أَن يختليَ بالمطران الياس معوَّض سرًّا، فقالَ لهُ : البطريرك أَلِكسي وكنيسة روسيا يهنِّئانَك سَلَفاً بالبطريركيَّة. أَمَّا البطريرك المسكوني فقد أَرسَلَ اليهِ رسالة تؤَيِّدُهُ سَلفاً. وهكذا رحمَ الله الياس معوَّض، فقد جمعَ المجدَ من طرفَيه. زارَ موسكو مرَّتَين في 1972 و 1979 وزارَ رومانيا وبلغاريا، وزار أَثينا وألقى خطاباً باليونانيَّة أَدهشَ العالم اليوناني. ولكن الوقت لم يسمح لهُ بزيارة يوغوسلافيا.
فإذاً، نحن أَنطاكيُّون مئة في المئة. في “تاريخ الكنيسة – الجزء الثاني” استعملَ الأَب الشهير لو بروتون كلمة رائعة وهي “الجامعيَّة السوريَّة L’universalisme Syrien ” . أَنا وفيٌّ لهذا التراث الأَنطاكي العريق. نحنُ جامعيُّونَ نهتمُّ بالعالم الأُرثوذكسي ككلٍّ. لسنا مُتَقَوقِعينَ في أَنطاكيا، بل نهتمُّ بالعالم الأُرثوذكسي كلِّه.
في العام 1969 نهَضنا كأَسدٍ مع المطرانَين الجليلَين ألكسي عبد الكريم وقسطنطين باباستيفانو لانتخابِ الشهيد الياس معوَّض في 25 ايلول سنة 1970. نصَرَنا الله على مؤامرةٍ إِسرائيليَّة كانت ستُمزِّقُ الكرسي الأَنطاكي.
عاشت أَنطاكيا المسكونيَّة الجامعيَّة ، وجعلَ الله الأُرثوذكس الأَنطاكيين أَنواراً في سماءِ العالم الأُرثوذكسي أَوَّلاً وفي العالم بأَسرهِ ثانياً. ورحِمَ اللهُ البطريركَين ثيودوثيوس والياس الَّذَين أَورثانا هذه الصِفة الجامعيَّة لنسبِّحَ الربَّ في كلِّ مكانٍ ولنَضَعْ أَيدينا مُتكاتفين مع بعضِنا بعضاً تحتَ رحمةِ الثالوث القدُّوس لهُ المجد والكرامة الى أَبد الآبدين ودهر الداهرين، آمين.
الى أَينَ فيما بعد؟ نحنُ بحاجةٍ الى مئاتِ المتبتِّلين وذلك للإِنصرافِ الى دراسةِ آباء الكنيسة الناطقينَ باليونانيَّة Grecophoneليتدرَّبوا على الوعظ وليحصلوا على دكتوراه تقومُ على أُطروحاتٍ كلٍّ منها مؤَلَّفة من 400 الى 800 صفحة لا أُطروحات من 250 و300 صفحة. هؤلاء يحتاجونَ الى تربيةٍ روحيَّةٍ راقيَة مثل أَديرة جبل آثوس وأَديرة رومانيا وروسيا. التربيَة الرُّوحيَّة الراقيَة في هذه الأَديرة تؤَدِّي الى تخلُّصِ الإِنسان من الأَهواءِ والوصولِ الى شيءٍ من عَدمِ الهوى، أَي التخلُّص من الغيرةِ والحسَد والحزازاتِ الفارغة، وكلُّ ذلك يحتاجُ الى مخَصَّصاتٍ ماليَّة.
التركيز في الدراسة الَّلاهوتيَّة على الُّلغة اليونانيَّة والتراث اليوناني القديم مهمٌّ جدًّا. من أَرادَ أَن يكونَ خطيباً بارعاً وواعظاً مُلهَماً، ما عليهِ إِلَّا أَن يُطالع يوحنا فم الذهب وباسيليوس الكبير وغريغوريوس الَّلاهوتي، فَهُم أَساتذة الوعظ والتعليم.
في الَّلاذقيَّة، وَصَلنا رُغمَ الصعوبات القاسيَة والمتعدِّدة الى حالةٍ من الوداد وما يسمُّونه بالُّلغة العامية “الخوشبوش” والصراحة والشفافيَّة ونبذِ الرياق والتملُّق والمداهنة، فصارت علاقُتنا الى حدٍّ بعيدٍ طبيعية عفويَّة واضحة، بلا لبسٍ وإِبهام، بلا رياقٍ ونفاق، بلا مظاهر فارغة، وبلا مباخر ومدائح، فضلاً عن التضامن والغيرة المتبادلة.
في العام 1952 حاولَ مفسدٌ أَن يفسُدَ بيننا فتداركنا الأَمر وقلَبنا الكرسي على رأسه. طبعاً عندما أَقول الكرسي لا نعني أَذيناه، ولكن وضعناهُ في الزاوية. أَحدُهم من طلاب الوجاهة رفضَ أَن يدخُلَ مرَّةً الى قاعة استقبال سيِّدنا منصور لأَني كنتُ أنا موجود، فانزعجَ سيِّدنا يوحنا وصرَفَهُ فانصرفت معهُ الزعامة والوجاهة والتقنيص.
العفويَّة في العلاقات كنزٌ ثمينٌ جدًّا. لا تَكَلُّف في علاقاتنا. العفويَّة هي أَبرزُ شيءٍ في موَدَّتِنا فضلاً على الوضوح والصراحة والشفافيَّة. هذه الصِفات نشرناها في الَّلاذقيَّة بنسبةٍ ما، ولكن الظروف العامَّة أَفشَلَتنا وحالَت دونَ نجاحِنا نجاحاً تامًّا. إِنَّما الرصيدُ جيِّدٌ حتماً وهذا كَسبٌ كبيرٌ في بلادٍ ينتشرُ فيها الغموض والإِنكماش والإِنقباض والإِنغلاق والدَجَل والنِفاق والمداهَنة.
في 6/1/2005 شغلَ مولانا البطريرك يوحنا يازجي بالي فسافرتُ الى الَّلاذقيَّة. ورثتُ عن أَبي الإِمتناع عن السفر في الأَعياد السيِّديَّة والآحاد، إِنَّما سافرتُ حينها لأُبلغهُ أَمراً هامًّا يتعلَّقُ بهِ. كانت الَّلاذقيَّة تُعيِّدُ في اليوم التالي ليوحنا المعمدان ولمطرانها الجليل الأَب الحبيب الغالي النبيل، يوحنا منصور. هرعتُ باكراً الى الكنيسة لأَلتقي بسيِّدنا، فوجدتُهُ وأَخاه جالسينَ في الهيكلِ المقدَّس، فقامَ أَحدهما وأَجلسَني في الوسط وأَبلَغتُهما ما يدورُ في خِلدي. كان جيشٌ من المطارنة والأَساقفة والرهبان والراهبات يملؤونَ الهيكل والكنيسة. سيِّدنا يوحنا خدَمَ الَّلاذقيَّة من الناحية الإِكليريكيَّة والبذور التي زرعَها معلِّمُنا المغبوط الأَب الياس مرقص أَينَعَت في العام 1966 وما يليه حتى اليوم وإِلى النهاية. لم أَعرف بأَنَّ الميول الرهبانيَّة في الَّلاذقيَّة قويَّة وميولُ البتوليَّةِ قويَّة، فأَسأَلُ الله أَن يمتدَّ هذا التيَّار الى كلِّ أَبرشيَّات الكرسي الأَنطاكي لكَي لا يعيشَ على كنيسةٍ واحدةٍ بل أِن يعيشَ على مجموعِهِ في الأَوطانِ والمهاجر. في عهدِ سيِّدنا ومولانا الحبيب الغالي يوحنا يازجي لا يُمكن الكلام عن مطارنة متزوِّجين، فهذا موضوعٌ قد طويَ الى الأَبد. حيَّ الله أُرثوذكس الَّلاذقيَّة الَّذينَ أَقاموا الكرسي الأَنطاكي من الرَماد كما يعرفُ ذلك تماماً الحبيب الغالي المطران فيليبُّس صليبا صديق الَّلاذقيَّة الكبير. طبعاً لا أَنسى الصديق الياس عوده الصديق الغالي جدًّا.
في كانون الأَوَّل 2012 شيَّعت الملائكة روح دلال حدَّاد الى السماء، وفي 17 منهُ تجلَّى مولانا يوحنا يازجي بطريركاً ليُنقِذنا من القوقعة والفراغ والسطحيَّة الدينيَّة وليجمع أَبناءَ الله المشتَّتين الى واحدٍ. نحنُ نعقدُ عليه الآمال الجسام، فهل يُساهم كلُّ أُرثوذكسيٌّ في الوطن والمهاجر في عملِ الخلاص من الماضي للإِنتقال الى وجودٍ أُرثوذكسيٍّ عميقٍ؟ العُمق الرُّوحي الرهباني هو طابعُ الأُرثوذكسيَّة في العالمِ كلِّه، فهل نلتقي مع كلِّ العالم الأُرثوذكسي لنُعَمِّق كيانَنا الرُّوحي؟ هذا ما ننتظره بفارغ الصبر.
أَسألُ الله أَن يجعلَ عهدَ سيِّدنا الحبيب الغالي البطريرك يوحنا واحةً ربيعيَّةً لآباءِ الكنيسة، فآباءُ الكنيسة هم الَّذين يغيِّرونَ وجهَ الارض. دراساتُ الغرب تسبَّبت بالبرودة الرُّوحيَّة، والحرارة الرُّوحيَّة في كلِّ الكتب التي تظهر في الغرب هي مفقودة. في هذه الكُتُب فَهمٌ وتدقيقٌ لامع ولكنَّها خاليَّة إِجمالاً من الروحانيَّة، والمسيحيَّة روحانيَّة. ماذا أَنتفعُ لو كتبتُ سبعَ ملايِّين مجلَّد من الأَبحاث والدراسات بدونِ قطعةِ صلاة؟ آباء الكنيسة الروحانيُّون كانوا أُدَباء زمانهِم ولكنَّهُم كانوا روحانيِّين، وهذا ما نحتاجُ اليهُ إِن وفَّقَنا الله اليهِ بشفاعة سيِّدتنا ووالدة الإِله وجميع القدِّيسين آمين.
في نهاية كلّ مطافٍ ماذا يعني انتخاب مولانا يوحنا العاشر يازجي بطريركاً؟
الأَخ الحبيب أَلبير لحَّام كان يُصَلِّي يومَ انتخابِ البطريرك الخالد ثيودوسيوس ابي رجيلي ففازَ في 14/11/1958. رافقَ البير البطريرك ثيودوسيوس في جهادهِ حتى سقطَ البطريرك مريضاً في العام 1966 . لم يعدْ جسمُهُ يحتمل أَعباءَ معركةٍ قاسية فأَصبحَ طريحَ طريق الفراش حتى توفيَ في 19/9/1970.
المثلَّث القداسة والطوبى باييسيوس رئيس جبل آثوس مرَّ فوقَ بلادنا في الطائرة فارتعش روحيًّا وقالَ لنفسه: كم في هذه البلاد من عظامِ القدِّيسين! سَقَطَ عددٌ كبيرٌ عددٌ من الشهداء ومن الرهبان والحُبَساء والعَموديِّين والعلمانيِّين القدِّيسين والإِكليريكيِّين القدِّيسين. اللهُ يعلم عددُهم ومكان عظامِهم المقدَّسة. الله وحدَهُ يعلم كَم من شهيدٍ سقطَ في بلدان الكرسي الأَنطاكي؟ هذه العِظام جميعاً ارتعشت في 17 كانون الأَوَّل 2012 يوم انتخاب يوحنا مولانا بطريركاً. هتفَت في ذلك اليوم “المسيحُ قام، حقًّا قام” ورتَّلت طِلبةَ القيامة بعد الهجمة: لِقيامتِكَ أَيُّها المسيح الإِله، الملائكة في السماء يُسبِّحون.
عِظام القدِّيسين في القبور ارتعشَت في يوم انتخاب مولانا البطريرك وأَرواحُهُم في السماء رنَّمت سُبحاً لله. الأَمرُ يعني قيامة الكرسي الأَنطاكي مع المسيح، ولذلك نحنُ في عيدِ القيامة. الكرسي ابتهجَ لهذا الِإنتخاب ولكن الإِبتهاج لا يكفي. المهمُّ أَن نعيشَ قبرَ المسيح وهذا يعني الإِنتقال من الموت الى الحياة ومن الأَرض الى السماء. الكرسي الأَنطاكي مُطالَبٌ بأَن يعيشَ قبرَ المسيح ويتحوَّل تحوُّلاً كاملا من الموتِ الى الحياة. مطالبٌّ بأَن يقومَ مع المسيح قيامةً جديدةً في كلِّ مناحِ الحياة.
الحدَثُ حدَثٌ تاريخيٌّ هام، وانقلابٌ كبيرٌ في تاريخ الكرسي الأَنطاكي. هذا الإِنقلاب لا يبلغ مَداه التام إِلَّا إذا ارتكض كلُّ أُرثوذكسيٌّ أَنطاكيٌّ روحيًّا كما ارتكضَ يوحنا المعمدان في بطنِ أُمِّهِ يومَ دخلَت البيت سيدتِّنا والدة الإِله مريم العذراء. يجب أَن نرتكضَ بالرُّوح القُدُس وان نتمخَّضَ بالرُّوح القُدُس، فيولدُ المسيحُ القائم من بين الأَموات في كلِّ واحدٍ منَّا. هذا التصفيق العابر والتهليل العابر لا يُشبِعُ آمالَنا في قيامةٍ عامَّة في الكرسي الأَنطاكي بعد قرونٍ من الضعف والعيش المستكين. نحنُ اليوم في فكرِ عهدٍ جديدٍ للكرسي الأَنطاكي تُطالَبُ فيه النفوس بالتجدُّدِ الكامل روحيًّا وأَخلاقيًّا ومعنويًّا واجتماعيًّا. أَعادَنا الله الى أَصالتِنا الأَنطاكيَّة، أَعادَ الينا كرامتَنا المسلوبة، أَعاد إِلينا قِوانا المسحوقة، أَخرجنا من الجبِّ ومن الُّلجَّة.
في الكرسي الأَنطاكي قوَّة خفيَّة حَمَتهُ أَلفَي عاماً تقريباً من الإِندثارِ والإِنحلال. أَجدادُنا الَّذينَ جاهدوا الجهادَ الحسَن في الكرسي الأَنطاكي والَّذينَ أَورثونا هذا الإِيمان العظيم، ما زالت دماؤُهم تجري في عروقِنا. ولذلك أَيُّها الأُرثوذكس في الكرسي الأَنطاكي، اخرجوا من الثَبات العميق الى فرحِ القيامة، ولتكُنْ أَيَّامُكُم من الآنَ فصاعداً عيدَ القيامةِ الإِلهية، ولتَكُنْ أَيَّامُكُم القادمة رحلةَ القيامة والإِشتراك في الظهور الإِلهي. أَجدادُنا أَنشَدوا الأَناشيدَ الرُّوحيَّة والأَشعارَ الدينيَّة، فلنُضَمَّ إِليهم ولنُنشِد للثالوث القدُّوس مجداً وتهليلاً في قلوبِكم أَجميعن الى أَبد الآبدين ودهر الداهرين آمين.
اسبيرو جبُّور
عيد ميلاد المسيح 2012
مجمع البطريرك مَلاتيوس الثاني الدوماني ومجمع البطريرك يوحنا العاشر يازجي
في أَواخر القرن التاسع عشر قامَ البطريرك ملاتيوس الدوماني بانقلابٍ في الكرسي الأَنطاكي، فاستلمَ سُدَّة البطريركيَّة وأَقامَ خليفةً لهُ في الَّلاذقيَّة المطران أَرسانيوس حداد.
تأَلَّفَ المجمع من رجالٍ تارخيِّين لعِبوا دوراً مهمًّا في الكرسي الأَنطاكي، نذكَرُ منهم غريغوريوس حدَّاد مطران طرابلس، غبريئيل شاتيلا مطران بيروت، أثناسيوس عطاالله مطران حمص، غريغوريوس جبارة مطران حماه، وجراسيموس يارد مطران زحلة ( المؤرِّخ العالمي المشهور الَّذي صَدَرَ كتابَهُ سنة 1891 عن القدِّيس فوتيوس الكبير وقلبَ المعلومات التاريخيَّة رأساً على عقِب ).
إِشتهر الإِثنان بالنسكِ والصلاة. كان ملاتيوس مطراناً للَّاذقيَّة وما زالَ ذِكرهُ فيها حيًّا وما زالت سيرتهُ الزكيَّة حيَّةً. كان بطريركاً لامعاً تقيًّا فاضلاً ناسكاً. عادَ الى الَّلاذقية في البحر ومعهُ المطران أَرسانيوس فكانَ المرحوم والدي وجدِّي بين المستقبلين وكان استقبالُهُ في المرفأ رائعاً.
جاءَ المطران غريغوريوس حدَّاد في العام 1906 خليفةً للبطريرك ملاتيوس. كان غريغوريوس حداد صاحبَ سيطٍ عالميٍّ مشهورٍ، ولكن لم تكن القواعد الشعبيَّة كما هي اليوم. فكنَّا لا نزال تحت الحكم العثماني بقيادةِ السلطان المتوَحِّش عبد الحميد الَّذي أَعدمَ الأَحرار وكانت أَحوالُ البلد رديئةٌ والتخلُّف كبيرٌ جدًّا، فلذلك لم يكن لهؤلاء المصلِحين أَن ينهضوا بالشعب نهضةً كبيرة. كان العثمانيُّون قد قضوا على التعليمِ والمدارس والحريَّات الشخصيَّة. جاءَ المطران ارسانيوس بطريركاً بعد البطريرك غريغوريوس حدَّاد.
أَمَّا اليوم، فالبطريرك الجليل يوحنا يازجي مُحاطٌ بمجمعٍ جيِّدٍ فيهِ كفاءات في أَجواءٍ إِجتماعيَّة وعِلميَّة مختلفة مئة في المئة عن سابقاتِها. اليوم رعايانا في الوطن والمهاجر متمتَّعةٌ بنسبةٍ جيِّدة من العِلمِ والتقدُّم الحضاري والإِجتماعي والثقافي. لدينا أَعلامٌ في الفِكرِ والفلسفة والأَدب والتاريخ وباقي العلوم.
لدينا مؤَرِّخون كِبار مثل المرحوم الدكتور أَسد رُستم، ومحامونَ مثل البير لحَّام والمرحوم نعيم الأَنطاكي وأَطباء مثل الدكتور فيليب سالم والدكتور دبَغي والدكتور الياس حنا والدكتور يوسف الصايغ، ورجالَ فكرٍ كبار مثل الدكتور شارل مالك والدكتور قسطنطين زريق وسواهم من الأُدَباء والكتَّاب والمؤرِّخين والعُلماء. فَضلاً عن عشرات الأُلوف من الجامعيِّين المتخرِّجين في الداخل والخارج.
لدينا ايضاً مستشفى القدِّيس مار جرجس الَّلامع في بيروت، ومستشفى أَمراض القلب في البرازيل الَّذي يُقال إِنَّه الثاني في العالم من مؤسَّسة إِبنة اسعد عبد الله وأُمَّها كرجيَّة حدَّاد.
صارَ لدينا حاليًّا مكتبة دينيَّة بالعربية وعدد المؤَلِّفين هو في تزايُد. كلُّ ذلك لمصلحة النشر الديني.
المجمع المقدَّس الحالي برئاسة مولانا البطريرك يوحنا يازجي يتمتَّع بأَرضيَّةٍ ميتنة من الرجال والنساء المتعلِّمينَ والمثقَّفين.
فإِذاً يوجد أَمام المجمع الحالي إِمكانات كبيرة، ويبقى على هذا الأَخير أَن يُحسِن استعمالها. كان لدينا في الولايات المتَّحدة أَربعين رعيَّة، أَمَّا اليوم فلدينا 465 رعيّة يُسَيِّرُها أَسقافة وكهنة، والكثير منهم متعلِّمون وجامعيُّون. لا بدَّ أَن نذكُر من السابق المطارنة : البطريرك الخالد ثيودوسيوس أَبو رجيلي الَّذي أَطلَقَ نهضةً مستنداً الى رجالٍ أَشدَّاء وشعبٍ يؤيِّدهُ كشعبِ الَّلاذقية مثلاً. والمرحوم المطران الكِسي عبد الكريم الَّذي أَظهرَ كفاءات كبيرة في الإِدارة ودَعمِ التعليم. والمرحوم المطران بولس بندلي الَّذي اشتهرَ بسخائهِ النادر المثال. ولو أَردتُ ان أَذكُرَ الأَحياء لَذَكرتهم، إِنَّما لا أُريد أَن اظهر متحيِّزاً ، إِنَّما أَفتخرُ ببراعة سيِّدنا القائمقام البطريركي سابا إِسبر الَّذي أَظهرَ في إِدارة عمليَّة انتخاب البطريرك يوحنا وأَظهر فيها براعةً.
في هذه المرحلة نحتاجُ الى مئة كاهنٍ متضلِّعين لآباء الكنيسة العِظام أَي باسيليوس وغريغوريوس ويوحنا فم الذهب لكي يتولُّوا الوعظَ والإِرشاد في أَرجاء الكرسي الأَنطاكي. الإِهتمام في الوعظ هو الشيء المهمُّ جدًّا. عادةً، حَمَلة الدكتوراه لا يسعَونَ إِلا الى الأَستذة في البلمند. الأَستذة في البلمند هي محدودة ونحنُ بحاجةٍ ماسَّة الى وعَّاظ في الرعايا ومُرشِدينَ روحيِّين. ومبدئيًّا، يجب أَن يكونَ هؤلاء متبتِّلينَ لا متزوِّجين. فالمتبتِّل يستطيع أَن يطوفَ في مناطقِ الكرسي الأَنطاكي، بينما المتزوِّج فهو مقيَّدٌ برعيَّة معيَّنة وبعائلة. هذا المجهود يحتاجُ الى همَّةِ الشباب وتضحياتِهم. الكنيسةُ بحاجةٍ الى شُهداءَ أَحياء لا الى معارض أَزياء من الجِبَب والقنادس والصلبان وارتداء الحرير والطيلسان. بعد مئات السنين من التخلُّف والصعوبات، الكرسي الأَنطاكي يحتاجُ الى شبابٍ رسوليِّين، وعندما نقولُ رُسُل نقولُ شهداء لأَنَّ الرُسُل تعرَّضوا لصعوباتٍ هائلة كما نرى ذلك في رسالتَي بولس الى كورنثوس ورسالتَيه الى غلاطيَة وكولوسي. ليست الخَورنة أَناقةً وزينةً ومنصباً رئاسيًّا، بل هي إِستشهاد. كلُّ كاهنٍ هو مرسومٌ مبدئيًّا ليكونَ شهيداً للرعيَّة. طبعاً المفاهيم الَّلاهوتيَّة مُطلقة ولكن هذه هي الحقيقة. الرخاوة هي من الشيطان، والإِكليريكي الَّذي ينام على الحرير ينام على قماش مُغَطَّى بالشيطان. الإِكليريكيُّ الحقيقيُّ ينامُ على الشوك وعلى المسامير لا على الحرير والطيلسام. من الخطأ التوهُّم أَنَّ زمان الإِستشهاد انصرمَ الى غيرِ رجعة. راجعوا الانترنت ترَوا أَنَّ هناكَ في القرن العشرين شهداء أُرثوذكسيِّين وهم أَكثر من اربعين مليوناً. في القرن الواحد والعشرين نحنُ بحاجة الى بطولةِ هؤلاء الشُهداء لنكونَ خلفاؤهُم الحقيقيِّين. ليست الخَورنة للكسالى بل هي للشُهداء الأَحياء.
اليوم الرُّوح القُدُس موجودٌ بقوَّة في الكرسي الأَنطاكي كما ظَهَرَ في انتخابِ سيِّدنا البطريرك يوحنا يازجي على يد حبيبنا المطران إِسبر، ولا يحتاجُ الأَمر إِلَّا الى إزِكاء هذه النعمة الإِلهيَّة في ضميرِ كلِّ أُرثوذكسيٍّ في الوطنِ والمهاجر. المطلوبُ إِذاً هو تجسُّد الإِنجيل في كلِّ أُرثوذكسيٍّ في الكرسي الأَنطاكي المقدَّس ومتى تجسَّدَ الإِنجيل، أَضحى الأُرثوذكس كُتلةً واحدةً وشعلةً واحدةً بلا كسَل ولا إِهمال ولا “فلتان”. نسأَلُ الله أَن يُبيِّض هذا المجمع المقدَّس وجوهَ الأُرثوذكس في الوطن والمهاجر وأَن يجعل الكرسي الأَنطاكي منارةً بين البطريركيَّات الأُرثوذكسيَّة في العالمِ كلّه، والمستقبل كشَّاف.