العنصرَة المجيدة
المقدِّمَة
في يوم العنصَرة المجيدة، أَي عيد الثالوث القدُّوس لهُ المجد والإِكرام والسُجود أَتوجَّهُ إِليكَ يا إِلهي الثالوثيّ الأَقانيم أَن تُرسِل مجدَكَ الى الأَرض ليَحُلَّ في المؤمنين. أَسأَلُكَ أَن يَحُلَّ الروح القدُس في المؤمنين كما حلَّ في يوم العنصرة على رؤوسِ التلاميذ بشكلِ ألسنةٍ ناريَّة فَحَوَّلهم الى مُعلِّمين للمسكونَة. تَوارى أَمامَهم ناموس موسى وفلسفة اليونان.
نعم يا إِلهي، الروحُ القُدس الَّذي حلَّ على التلاميذ أَوعَبَهُم من كلِّ خيرٍ وبِرٍّ وفضيلة ومجدٍ وكرامة ونِعمَة ومواهب لا تُعَدُّ ولا تُحصى، فهَدَوا البشريَّةَ الى الِإيمان الكريم، الى الإِيمان بالآبِ والإِبنِ والروحِ القُدُس وأَخرَجوا الناس من رفِقَةِ الناموس الموسَوي ومن الوثَنيَّة والأَوهام والسَخافات والسِحِر والأَشكال الوثَنيَّة وعِبادات الأَصنام ورَجاسات العُمر وسخافاتِ العيشِ الفاسد والإِنحلال الأَخلاقي.
يا إِلهي، إِنَّ الزمانَ أَناحَ بِكَلكَلِهِ على مشرِقِنا منذُ نَيِّفٍ حتى انتهَينا في العهدِ العُثماني الى الفراغِ الروحي والعِلمي والثقافي والحَضاري والى حالاتٍ من الجَهْل والسطحيَّةِ الدينيَّة. ولكن يا إِلهي أَنتَ تعلَم أَنَّنا في العام 1942 أَخذَ فريقٌ من الشباب على عاتِقِهِ النُهوض بالكُرسي الإِنطاكي الأُرثوذكسي المقدَّس لإِنقاذِهِ من هذا الفراغ وهذه السطحيَّة. وبَذَلْنا جُهوداً يَعلَمُ الله نوعيَّتَها وحجمَها ولكنَّنا انصَدَمنا بالتُراث التخلُّفي المزمِن من القَهرِ والتقهقُرِ الحضاري والسطحيَّة الدينيَّة. إِنتَشَرنا نَعِظُ ونُعَلِّمُ ونُبَشِّرُ ونُحيي الرَّميمَ من العِظام روحياًّ. نجَحنا قليلاً لأَنَّ المهمَّةَ شاقَّةٌ جداً، والآن رعيلُنا وصلَ الى أَواخِر العُمر فماذا يكونُ بعدَنا؟ ربَّنا إلهَنا تدارَكْ النَقص. بَذَلْنا جُهوداً خلال 68 عاماً وسنبذُلُ جُهوداً حتى الرُّقاد قَدْرَ المستَطاع لنُكافِحَ السطحيَّةَ الدينيَّة والفَراغ الروحي والثقافي والعِلمي والحضاري والمدَني والفِكري.
فالعهدُ العثماني طمَسَ الفِكرَ طمساً كاملاً. ولذلك عمِلنا منذُ البداية على تَلقينِ الناس مبادئَ الإِيمان ودرَّبناهم على الممارسة الدينيَّة والصلَوات والأَصوام. انتَهَينا في عهدِ البطريرك الخالد أَبو رجَيلي الى إِستِلال الأَقلام كَسُيوف لإِنشاءِ الكُتُب الدينيَّة لِكَي نؤَسِّسَ في اللُّغة العربيَّة لاهوتاً أُرثوذكسيّاً آبائيّاً متيناً قويّاً. ولَكِن مالَ المؤمنون الى سِيَر القِدِّيسين بينما تقضي الضروريَّةُ التاريخيَّةُ ايضاً أَن يَبنوا لأَنفسِهِم فِكراً لاهوتيّاً أُرثوذكسيّاً. فتُراثُنا الأُرثوذكسي العَريق غنيٌّ جداً جداً جداً للتربيَة الفِكريَّة والخُلُقِيَّة والإِنسانيَّة. هو تراثٌ عالميٌّ أنيقٌ جداً جداً، يحتاجُ الى عنايةِ شُبَّانُنا وصبايانا وعنايةُ الجامعيِّين والمثقَّفين، فلا يجوزُ أَن نبقى سطحييِّن.
هذا الفِكر العالمي العظيم العميق يستحقُّ من كلِّ مؤمنٍ عنايةً خاصَّة. فَسِيَر القِدِّيسين مُفيدة ولَكِن يجب أَن نَخلَص من السطحيَّة الدينيَّة والفَراغ الروحي والثقافي بِفِكرٍ لاهوتيٍّ أُرثوذكسيٍّ عميق. العُمقُ الشخصيّ يحتاجُ الى عُمقٍ لاهوتي روحي حضاري ثقافي مَدَني. لا يَكفي أَن نَسيرَ كَغَنَمٍ، يجب أّن نَسيرَ كأُسودٍ ممتلئينَ فِكريّاً ثقافياًّ حضاريّاً لاهوتيّاً روحيّاً أَدبيّاً، من كلِّ النواحي. نحتاجُ الى بِناءِ شخصيَّة أُرثوذكسيَّة عميقة جداً جداً وإِلا بَقَينا في السطحيَّة العُثمانيَّة وبَقِيَت العَقليَّة العُثمانيَّة تحكُمُ هذا الشرق الى مئات السِنين. لا أتوقَّع أَن يتخلَّص الشرق من العقليَّة العُثمانيَّة قبلَ مِئتَين أَو ثلاثمائة سنة إِن استمرَرنا على الوتيرة الحاليَّة من الفَوضى الفِكريَّة والثقافيَّة والروحيَّة واللاهوتيَّة و…
نحنُ بحاجةٍ الى بَرمَجةِ حياة لِنتخَلَّصَ من الِإعتباطيَّة والإِرتِجال والسَّير الأَعمى بدونِ رَوِيَّة. نحتاجُ الى فِكرٍ عميقٍ لنُصبِحَ مُتبَصِّرين ذَوي رُؤيَة عميقة بعيدةَ المدى، لنَسيَر سَيراً حكيماً واعياً دقيقاً في حساباتٍ دقيقة جداً، يجب أَن تكونَ خُطواتنا جميعاً محسوبَة بِدِقَّةٍ كمبيوتيريَّة. هذا العَيش على الطريقة العثمانيَّة العشوائيَّة يُخرِّبُ الشخصيَّة البشريَّة. الإِنسان العميق يكونُ يقِظٌ جداً روحيّاً وفِكريّاً وثقافيّاً وحضاريّاً ومدَنيّاً وإِجتماعيّاً.
اليَقظة الروحيَّة والنباهة الفكريَّة ضروريَّان للإِنسان الذي يعيش بحسَبِ أُصولٍ دقيقة حضاريَّة. العيشُ العفَوي المرتجَل العشوائي الفَوضَوي التِلقائي الإِتكالي الرَحماني لا يصنع شخصيَّةً متينةً عميقةً. العُمقُ الشخصيّ هو المهِمُّ في حياةِ كلِّ إِنسانٍ، أَمّا السطحيَّة فهي العيشُ على هامِشِ الوجود.
كلُّ إِنسانٍ فيلسوفٌ بنسبةٍ ما. والإِنسانُ الأُرثوذكسي الحقيقي هو فيلسفوفٌ حقيقيٌّ لأَنَّه يعيشُ بفِكرٍ نَيِّرٍ عميقٍ دقيقٍ ويتصرَّف تصرُّفاً عميقاً مدروساً بضميرٍ طاهرٍ صافٍ صالح، خالٍ من الشوائب.
ليس الإنسانُ جَماداً وليسَ حيواناً. إِن كان جِسمُنا شبيهاً بجسمِ الحيوان فهذا لا يعني أَنَّنا حيوانات. الإِنسانُ إِنسانٌ بروحِه. الحيوانُ بِلا روح، هل عندَهُ شخصيَّة؟ هل عندَهُ عمقٌ شخصيٌّ؟ الإِنسان هو روحٌ والروحُ تعيشُ في العُمقِ الشخصي لا في السطحيَّة. إن كان الإِنسانُ سطحيّاً كان جسدُهُ سيِّدَهُ المطلَق، وكان سيرُهُ سيراً حيوانياً تلقائياً عفوياً بِلا فِكر بِلا يَقظَة بِلا انتباه بِلا أَهداف بِلا غايات بِلا رُؤية بعيدةَ المدى. الإِنسانُ الحقيقيُّ يكون ذا رؤيةٍ بعيدةِ المدى. المؤمن الأُرثوذكسي يؤمِن بأَنَّهُ بموتِهِ ينتقل من الموتِ الى الحياة الحقيقيَّة ولذلك يضع لنفسِهِ خِطَطاً وبرامجَ تتعلَّق بهذه الحياة. فإذن، يكونُ ذا بصيرة ورؤيَة تاريخيَّة بعيدة المدى. ينظُر الى المستقبلِ البعيد، لا يعيشُ ليومِهِ، لا يعيشُ لبطنِهِ، لا يعيشُ لساعتِهِ بل يعيشُ للتاريخ، وأيُّ تاريخٍ؟ التاريخ الأَبَدي. لا يعيشُ لساعاتٍ وأَيامٍ وسِنينٍ بل يعيشُ للأَبَد. الأُرثوذكسي الحقيقي يُحقِّق الأَبديَّة في وجودِهِ الأَرضي.
قد يقولُ كثيرون إِنَّ اسبيرو يُغالي. أَنا لا أُغالي أَبداً ولكنني أُؤمن بأَنَّ حياتي على الأَرض هي ظِلٌ وخَيال. وإِن كانت الآخِرَة هي الحياةُ الحقيقية، إِن كانت الحياة على الأَرضِ هي الحياة وليس هناك وجودٌ بعد الموت، فالحيواناتُ كلُّها أَفضلُ منِّي بما لا يُقاس.
لماذا حَباني الله بروحٍ قادِرة على العُمقِ الروحي والثَقافي والمدَني والعِلمي والفِكري … وكانت آخِرَتي مثل آخِرَة الصرصور؟ هذا لا يليقُ بالله ولا يليقُ بكَرامتي كإِنسانٍ. بعدَ عمرٍ مديد في الحياةِ والتجاربِ والخِبرة والعِلم والثَقافة واللَّاهوت، لا أَستطيع أَن أَرى في ذاتي صرصورٌ أَو أَرنباً. هل مِن المعقول أَن يكونَ الإِنسان الذي يحفِر عميقاً في داخِلِهِ أَرنباً؟ الإِنسان أَسمى من ذلكَ بما لا يُقاس. أَنا كإِنسانٍ خاطئٍ أَعتبرُ نفسي أَدنسَ من الصرصور والجرذون لأَنَّ الوسَخَ الطبيعي ليس خطيئةٌ، ليس دنَساً. أمَّا الخطيئة هي الدَّنَس. فالأَرنبُ غيُر دَنِسٍ والخنزير الذي يتمرَّغ في الَأوحال غيرُ دَنِسٍ، أَمَّا انا بسببِ خطاياي فَدَنِسٌ.
ولذلك عندما قال يوحنا فم الذهب أنا أَدنى من حيوانٍ كان مصيبٌ. وأنا أقولُ مثلَهُ إِني أَدنى من كلِّ الحيوانات بسببِ خطاياي. ومع ذلك فأَنا صورةُ الله، وبما أَني صورةُ الله فأَمامي مجال للخروج من أَوحالي ومن أَدناسي بالتَطَهُّر بدَمِ يسوعَ المسيح. فما دامَ دم يسوعَ المسيح يُطهِّرُني من كلِّ خطيئة فلا أَخشى الموت ولا أَخشى المقصَلَة ولا أَخشى السَّيف. دمُ المسيح جعَلَني إِنساناً فوقَ هذا الكون بِرُمَّتِهِ. إِيماني بِدَمِ المسيح يجعَلُني أَثِقُ أَني بعدَ الموت سأَكونُ عند ربِّنا يسوعَ المسيح. ثِقَتي بِهذا الدم قاطِعَة. هو الذي يُطَهرُّني من كلِّ نَجاسة، هو الذي يُطهِّرُني من كلِّ خطيئة ويجعلُني فوقَ الحيوانات بِرُمَّتِها. ولذلك أَرى أَنَّ الواجب يقضي بأَن ينصرفَ أَحبَّائي النشيطون الى العملِ الديني بجِدٍّ كبيٍر جداً.
نحنُ نمرُّ في مرحلةِ ركودٍ. يجب أَن نجمَعَ قِوانا كلَّها ونضَعَها في معركةِ المصير. أَنا أَعرف أَنَّ أَحفاد العُثمانييِّن عاجِزونَ عن جَمعِ قِواهُم. هذا العَيب صدَمَنا خلال 68 عاماً. كنَّا نرى دائماً الأَحِبَّة مُصابين بالتشتُّت، مُصابينَ بالضَجر من الكتُب الدينيَّة. علَّمْنا الناس أَن يُمسِكوا العهد الجديد ويُطالِعوه، علَّمْنا الناس الممارسات الدينيَّة والأَصوام. نجَحْنا بنسبةٍ جيِّدة تقريباً ولكن كان العيبُ الكبير هو العجز عن جمعِ شِتات النفس. التركيز هو عسيرٌ على أحفادِ العثمانيين. طبعاً آباؤنا وأجدادُنا وُلِدوا في العهد العثماني والأَصغرَ منِّي سِنّاً هُم أَحفاد العثمانييِّن أَو أَحفاد أحفادهم فعلاقتنا بالعثمانييِّن ما زالت موجودة. بُنيَتُنا العَقليَّة – النفسيَّة عثمانيَّة بنسبةٍ كبيرةٍ جداً. هذه البُنيَة عاجزة عن التركيز، عن جَمع شِتات النفس، شِتات الأَفكار، شِتات المرامي، شِتات الغايات والأَهداف. عاجِزة عن البرمَجة والسَير وِفقَ البرنامج الموضوع. قد نضعُ لأَنفُسِنا برنامجاً رائعاً ولكن لا نطبِّقُهُ. نفشَلُ في التطبيق وفَشلنا مِراراً في التطبيق لأَنَّ القُدرَة على التركيز مفقودة والقُدرة على المطالعة المستمرَّة مفقودة. ولذلك أَنصَحُ كلَّ القُرَّاء والمعارف أَن يجمَعوا أَفكارَهُم ويُركِّزوا أَفكارَهُم وأَن يُطالِعوا بعُمق. المطالعات هي سطحيَّة لأَنَّها تُشبِهُ مُطالعات الصُحف والمجلات. يمرُّ القارئ على الكتاب مرورَ الكِرام والمطلوب هو المطالعة بعُمق وبعناية فائقة وبحفظٍ دقيق. أَنصَحُ بمطالعة الكُتُب الثمينة لأنَّ الكرَّاسات لا تُغذِّي العُمق الروحي واللَّاهوتي والثَقافي. الكتابُ الثمين العميق هو الذي يُغذِّي الإِنسان ويصنعُ منهُ شخصاً عميقاً ممتلِئاً ويصنَع من شخصِيَّتِه شخصيةً متَّزنةً رائعةً.
بولس الرسول قال لتيموتاوس: الكتُبُ المقدَّسَة تصنَعُ إِنساناً حكيماً. والحِكمةُ في الكِتاب المقدَّس مُهمَّةٌ جداً. السلوكُ الحكيم الرزين الرَصين المدروس مهمٌّ جداً. هو ضدّ السلوك العَشوائي الفَوضَوي الإِرتجالي العفَوي الأَعمى.
العهد الجديد وآباء الكنيسة وطقوسُنا الكَنَسِيَّة تصنع من الإِنسان كائناً روحيّاً عميقاً جداً.
يوحنا فم الذهب قال بعد العنصرة كلُّ الزمان هو عنصَرَة. ولذلك فالزمان بعد العنصَرَة كلُّهُ إِمتلاء من الروح القدس. فاسأَلُ الروح القدس أَن يملأ قلوب المؤمنين لِيعبُدوا الثالوثَ القدُّوس بِكلِّ قلوبِهم وكلِّ ذِهنِهم وكلِّ فِكرِهم.
العنصَرة المجيدة
العنصَرة كلِمة آرامية عِبريَّة تعني الحَصاد. في العهدِ القديم العِبراني، عيدُ العَنصَرة إِسمُه عيدُ الَأسابيع لأُنَّهُ يقَع بعد سبعةِ أَسابيع من عيدِ الفصح. في الترجمة السبعينيَّة للعهد القديم إِسمُهُ اليوم الخمسين، وفي الترجمة العربيَّة للعهد الجديد عن اليونانية، إسمُه كذلك يوم الخمسين. في اليوم الخمسين من عيدِ الفصح كان التلاميذ الَّذين حَضروا صعودَ يسوعَ المسيح في يوم الخميس مجتمعينَ بِقلبٍ واحدٍ كما أوصاهُم الربُّ يسوع يداومون على الصلاة وينتظرون حلول الروح القدس الذي وَعدَهم به الربُّ يسوع مِراراً وبخاصةً يومَ الخميس العظيم وبعدَ القيامة.
بأعمالِ الرُسل، نعلمُ أَنَّ الربَّ يسوع بقيَ معَ تلاميذِهِ بعد قيامَتِهِ من بين الَأموات أَربعينَ يوماً يظهرُ لهم ويفتحُ أَذهانَهم ليفهَموا الكُتب المقدَّسة ويُعِدُّهم لإِستقبال الروح القدس ويوصيهِم بالبقاء في أُورشليم حتى يَحلَّ عليهِم الروحَ القدس. كانوا إذن في لهيبٍ في حضور ذلك اليوم المنشود العظيم.
في ذلك اليوم العظيم، حضَرَ الروح القدُس عليهِم بشكلِ ألسنةٍ ناريَّة وقَفَت على رؤوسهِم. عيدُ العنصرة هو عيدٌ للثالوث القدُّوس مثل عيد الظهور الإِلهي وعيد التجلِّي الإِلهي. فالربُّ يسوعَ المسيح صعِدَ الى السماء وأرسَلَ من لَدُن الآب روحَه القدُّوس على التلاميذ، ولذلك فهو عيدٌ للثالوث القدوس.
نُعيٍّدُ في الكنيسة الأرثوذكسيَّة في اليوم التالي للشخص الذي كان له دورٌ بارزٌ. نُعيِّدُ للثالوث القدُّوس في يوم العنصرة ونعيِّد للروح القدُس يوم الأثنين. أخذَ الغرب عن الكنيسة الأرثوذكسيَّة إِحترام إِثنَين العنصرة. وإن كان الغرب اليوم قد أضاعَ معنى ذلك لكن بقيَت فرنسا والمانيا وربما سواهما يُعطِّلان رسميّاً يوم إِثنَين العنصرة.
عيدُ الثالوث القدُّوس هو عيدٌ هامٌّ في الكنيسة الأُرثوذكسية. حلولُ الروح القدس يوم العنصرة هو عيدٌ هامٌّ جداً. الربُّ يسوع يوم الصعود الإِلهي قال لتلاميذِه: اَّمَّا أَنتُم فسَتُعمَّدون ليس بعدَ هذه الأَيام بِكَثير. ففي يوم العنصرة إعتمدَ الرُسل بحلولِ الروح القدُس عليهِم. حلَّ الروح القدس عليهِم بألسنةٍ ناريَّة لأَنَّهم سيُبشِّرون المسكونةَ قاطِبَةً. هذه النار على رؤوسِهم أَعادَت اليهم السلطان الذاتي الذي فقَدناهُ في الفردَوس، فَصِرنا قادرينَ على أن نسودَ أَنفُسَنا. النارُ الآلهية تُحرِقُ خطايانا وتُنيرُ قلوبَنا.
فاذن، في يوم العنصرة إعتمَدَ التلاميذ بمعموديَّة الروح القدُس. والروحُ القدس أَقامَهُم سادةً على البشريَّةِ جَمعاء وأَعطاهُم السُلطان على البشَرِ جميعاً. في مساءِ عيدِ الفصح يوم القيامة العظيم، نفَخَ فيهم الرب يسوع المسيح وقالَ لهم: خُذوا الروح القدس.
في يوم العنصرة أخَذوا السُلطات الكاملة للتعليمِ والتبريك وكل شيء، وصاروا هُم مُرسَلين من الآب ومن الإِبن ومن الروح القدس. كان يسوع قد قالَ لهُم “كما أَرسَلَني الآب، أُرسِلُكُم”. فإذن، هم مُرسَلون كما أرسَلَ الآب الإِبن.
في يوم الخميس العظيم أَما قالَ يسوع لهم ” الأَعمال التي أعمَلُها أَنا ستعمَلونَها أَنتُم وأَكثر منها”. ماذا عَمَلوا أكثر من ذلكَ؟ طَيفُ بطرس الرسول كان يشفي المرضى، لا ثيابَ بولس فقط. الربُّ يسوع المسيح له المجد والإكرام والسجود قَصَرَ رسالَته على فلسطين وجَوارِها، فعَبَرَ مرَّةً الى مَنطقة جَدَره في المدُن العَشر الوثنيَّة وعبَرَ ثانيةً الى صور وصيدا والبقاع ودار حولَ جبل الشيخ ونزَل في وسَط المدُن العشر الى بحيرَة طبَريَّة ثم الى منطقة بيت صيدا فَبانياس. أَمَّا الرُسل فَطافوا المسكونَة يبَشِّرون ويُعلِّمون ويُعَمِّدون ويَعِظون ويَمنحون الروحَ القدس ويُقيمونَ رجال الدين للخِدَم الدينيَّة ويُباركونَ الخبزَ والخمرَ ويحوِّلونَهُما الى جسدِ ودمِ الرب ويَحلُّونَ الخطايا.
بطرس نزلَ الى أَنطاكية وانتهى في روما حيث قَضى عمرَه هناك مَصلوباٍ بالقِلْب. وبولس الرسول بشَّرَ في دمشق وفي حوران وربما في الأُردن ثم انتقلَ الى فلسطين فبَشَّرَ فيها، ثم انتقلَ الى كيليكيا فأنطاكية فقُبرص فمناطق عديدة من تركيا الحاليَّة وبلاد اليونان وربما تجاوزَها قليلاً الى يوغوسلافيا الحاليَّة وانتهى في روما وربما سافر الى اسبانيا أيضاً. توما انتهى في الهند وبرثلماوس مدفون في أذربيجان واندراوس وصلَ الى شواطىء اوكرانيا، ومتى وسواه جالوا في هذه الدنيا. ليس لدينا معلومات بالدقَّة عن أخبار الرُسل ولكنَّهُم جالوا في الدنيا يُبَشِّرون ويُعلِّمون الديانة المسيحيَّة ويؤسِّسونها وتلاميذُهم تابعوا المهمَّة. وهذا ما لم يفعَله يسوع المسيح نفسُه، لكنَّهم فَعلوا هذا كلَّهُ بالروح القدُس الذي حلَّ عليهم وأقامَهم أَسياداً على البشريَّة. كلُّ رسولٍ منهم هو رسولٌ للبشريَّةِ جمعاء كما يقول الذهبي الفم.
الروح القدس في يوم العنصرة المجيدة أَسَّسَ الكنيسة والكنيسةُ هي جسد المسيح، والمعمَّدون هم أَعضاء في جسد المسيح. يوحنا السُلَّمي في مطلع كتابِه يقول إِنَّ الإنسان يصير مسيحياً بالمعموديَّة. يُؤمِن ويعتَمِد معموديَّةً صحيحة، فيُصبِح مسيحياً. بدونِ المعموديَّة لا يُصبح الإِنسان مسيحيّاً، يبقى مَوعوظاً. يَجب أن تكون المعموديَّة معموديّةً صحيحة.
تأسيس الكنيسة أمرٌ هامٌّ جداً، لأَنَّ الكنيسة هي جسَد المسيح والمؤمنون المعتمدون أُصولاً هُم أَعضاءٌ في هذا الجسَد. الكنيسة في دستورِ الإِيمان بَندُ إِيمان فنقولُ: اؤمن بالاله الواحد، بربٍّ واحد، بالروح القدس، وبكنيسةٍ. فهي بندُ إِيمان لأَنَّها جسَد المسيح وليس جَسَد المسيح شيئاً صغيراً.
العنصرة هي استمرارٌ للتجسُّد الإِلهي. فعندما يُصبِح المعتمِد عُضواً في جسَد يسوع المسيح هذا يعني أَنَّ المعتَمِد يلبَس المسيح ويولَد في المسيح. المعموديَّة ميلادٌ ثانٍ في المسيح.
كما وُلِدْنا من آدم للموت، نولَدُ في المسيح للحياة الأَبديَّة والمجد الأَبدي. ولذلك العنصرة مرتبطة بالتجسُّد الإِلهي. ماذا جرى في التجسُّد الإِلهي؟ أخَذَ يسوع طبيعةً بشريَّة، أخذ من مريم العذراء جسداً . والكنيسة هي جسد المسيح، والأَعضاء الذين ينضمُّونَ اليها باستمرارٍ بالمعموديَّة هم أَعضاء في هذا الجسَد. فاذن عمليَّة التجسُّد ليست حَدَثاً وقَعَ مرَّة واحدةً في التاريخ عندما تجسَّدَ يسوع المسيح إنَّما لعنصرة هي حدَثٌ مستمرٌّ في التاريخ الى الأَبد.
الكنيسةُ تُعمِّدُ باستمرار. كيف تُعمِّد؟ بحلولِ الروح القدُس في الماء. نِعمةُ الفِداء وبَرَكَة الأُردن تَحُلّ على ماءِ المعمودية، ويُصبِح جُرن المعمودية رَحِماً تَلِد المؤمنين كما يقول أَفرام وسِواه من آباءِ الكنيسة. هذه الوِلادة هي استمرارٌ للتجسُّد الإِلهي. يُعَمَّد المؤمنون باسْمِ الآب والإبن والروح القدس أي أَنَّهُم يُضحونَ في خانةِ الآب والإبنِ والروحِ القدس مختومين بالآب والإبن والروح القدس. يولَدون ولادةً جديدة، يُطَهَّرون من خطاياهُم ويلبَسونَ المسيح ثم ينالون الروح القدس بالميرون المقدَّس فيَسكُن الروح القدس فيهِم ويُصبحون هياكلَ للروح القدُس كما قال بولس الرسول.
الروح القدس ساكنٌ فينا وهو الذي يُصلِّي فينا كما يقول بولس في رومية 8 :15- 16 :” فإِنَّ الَّذينَ ينقادونَ لِروحِ الله هُم أَبناءُ الله. إِذ لم تتلَقُّوا روح العُبودِيَّة ايضاً للمَخافة بل روحَ التَّبنِّي الذِّي بهِ نصرُخ” أَبَّا أَيُّها الآب”.
وفي غلاطية 4 :6 :” وبما أَنَّكم أَبناؤُهُ، أَرسَلَ الله روحَ ابْنِهِ الى قلوبِكُم صارخاً ” أَبَّا أَيُّها الآب “. ومحبة الله كما في رومية 5: 5 : “والرجاءَ لا يُخَيِّبُ صاحِبَهُ، لأَنَّ محبَّة الله قد أُفيضَت في قلوبِنا بالروح القدس الذي أُعطِيَ لنا “.
في أعمالِ الرُسل، الروح القدس هو كلُّ شيءٍ. قال يوحنا فم الذهب: الإِنجيل تاريخ المسيح، أَمَّا كِتاب أَعمال الرُسل فهو تاريخُ الروح القدُس.
وماذا نعمَل في القربان؟ في قدَّاس يوحنا فم الذهب يستدعي الكاهن أَو الإكليريكي الروح القدُس فيقول للآب ” أرسِل روحَك القدُّوس على هذه القرابين وأصنعْ أَمَّا هذا الخُبز فجَسدَ مسيحِكَ المكرَّم وما في هذه الكأس فدَمَ مسيحِك المكرَّم محوِّلاً إيَّاهُما بروحِكَ القدُّوس”. وماذا نقول في الميرون: خِتِمْ موهَبة الروح القدس. خِتِمْ موهَبة الروح القدس ونُصبِح مَسكِناً للروح القدس.
وماذا نقولُ في التَوبة؟ الكاهن يحلُّ الإنسان من خطاياه بفِعْلِ الروح القدس. وماذا نقول في سرِّ الزواج؟ في سرِّ الزواج المقدس يقولُ الكاهن: يُكلَّل فلانٌ على فلانةٍ باسمِ الآب والإِبن والروح القدس أي في الأكليل نقول عبارةً مشابهة لعِبارة المعموديَّة. ولذلك فالمنادون بالزواج المدَني فقط بدون برَكة الإكليل يرتكبون خطأً كبيراً إن تزوَّجوا مَدَنيّاً فقط بدونِ إِكليلٍ. الزواج المدني هوَ سَنَد كأسَنَادِ البيع والإِيجار وكل أنواع الأَسناد في التعاملات. يُصبح الزواج سنَداً، عَقداً مثل كل العقود.
ولكن في الزواج الأُرثوذكسي، ليسَ الزواجُ سَنَداً فقط يُوَقِّع عليه الزَوجان بَل هو سرٌّ مقدَّس تحُلُّ فيهِ نعمةُ الروح القدس على الزوجَين. فلِيَنتبه المغامرون غيرُ الواعين الى الأخطاء التي يرتكبونها حين يُفكِّرون في التحلُّل من الإِكليل.
الروح القدس له المجد بحسَب بولس الرسول: نحن نَسلُكُ فيه، ننقادُ بهِ فنُحارِب الأَعمال الميِّتة، ونُثمر الأَثمار الصالحة. في بولس الرسول رومية 7 وغلاطية 5 هناكَ حربٌ بين الروحِ والجسَد. بإِنسانِنا الباطن نُؤَيِّدُ شريعةَ الله. ولكن في جسدِنا شريعةٌ أُخرى تُحاربُنا في أَعضائنا وتجعَلُنا نَنقادُ للشرّ. فمَن هو بطلُ هذه الحرب؟ إِنَّهُ الروح القدس. به نُميتُ أعمالَ الجَسَد ونصنَعُ الثمارَ الإِلهيَّة أي الفضائل.
الفضائل في حياة المسيحي هي ثمارُ الروح القدس. هو الذي يَعضُدُ ضُعفَنا ويصلِّي فينا. فنحن لا نعرِف ماذا نصلِّي، هو الذي يشفَع فينا بأنّاةٍ كثيرة كما في رومية 8: 26:” وكذلكَ الروحُ ايضاً يعضُدُ ضُعفَنا، لأَنَّا لا نعلَمُ كيفَ نُصلِّي كما ينبغي، ولكن الروحُ نفسَهُ يشفَع فينا بأَنَّاتٍ لا يُنطَقُ بها”.
الروح القدس له المجد هو الذي يوحِّد المسيحيِّين. قال يوحنا فم الذهب: الروحُ القدس يسكُنُ في رأسِ الكنيسة أي فيِ يسوع. بِحَسَب كيريلُّس الإِسكندري: سَكَنَ في جسَدِ يسوع في َطبيعتِه البشرية منذ يوم البشارة. هذا الروح القُدس الساكن في رأسِ الكنيسة أي يسوع، ينسابُ من الرأس الى كلِّ أعضاء الجسَد أي الى كلِّ مؤمنٍ إعتَمدَ معموديَّةً صحيحةً في يسوع المسيح.
يسوع المسيح له المجد خَتَمَنا بالروح القدس. هو باكورة بحَسَب بولس، هو عُربونٌ. أَخَذناه كعربونٍ للحياة الأَبديَّة. فمنذُ الآن أَخَذْنا الروح القدس كدَفْعَة أُولى على حِساب الدَفعة الأَخيرة بعد الموت وبعدَ القيامةِ العامَّة. فهو الآن خِتْمٌ فينا، عربون، باكورة. أَخَذْناه كَباكورة،كعُربون على أَساسِ المكافأَة الكاملة. والنَيلُ الكامل سيكونُ بعد رُقادِنا وانتقالِنا من هذا العالم الفاسد الى عالَم الخَلاص.
في رومية 8 الروح القدس الساكن فينا هو سيقيمُنا كما أقامَ يسوعَ المسيح. ففي القيامة العامَّة يتدخَّل الروح القدس ليُقيمُنا. في الكتاب المقدَّس بعهدَيه القديم والجديد، آياتٌ عديدة تتعلَّق بالروح القدس. فليُراجِعُها المراجعون في الفهرَس اليوناني او الفهرس الإِنكليزي او الفَرنسي وحتى الفهرَس العربي.
الروح القدس يُجدِّد حياة الإِنسان المؤمن. هو مُقيمٌ في الكنيسة، هو الذي يعمل فيها الأعمال. في الفصل 12 من رسالة كورنثس الأولى كلامٌ جيّدٌ جدّاً عن مواهب الروح القدس ويتكرَّر ذلك ب 4 من أَفسُس وسوى ذلك من العهد الجديد. فَمواهب الروح القدس في العهد الجديد ليست سبعة كما في أشعياء، هي عديدة. والنعمةُ الإِلهيَّة هي متنوِّعةُ الأَشكال كما في بطرس، والحِكمةُ متنوِّعة الأشكال كما في أفسُس ايضاً.
الروح القُدس في الكنيسة يُنبوعٌ لا يَنضُب من المواهب والنِعَم الإِلهيَّة. والنِعمةُ الإِلهيَّة هي التي تُؤَلِّهنا وتصنعُ منّا آلهةً بالنعمَةِ الإِلهيَّة. الرب يسوع قال لتلاميذه في يوحنا 7: 38: ” من آمَنَ بي فكَما قالَ الكِتاب: ستَجري من بطنِهِ أَنهارُ ماءٍ حيٍّ”. فَسَّرَ ذلك يوحنا الإنجيلي فقال: يسوع قال ذلك عن الروح القدُس الذي كان المؤمنون بيسوع مُزمعين أَن ينالوه لأَنَّ يسوع لم يكُن بعدُ قد مُجِّد، ولذلك لم يكن الروح القدس بعدُ قد أُعطيَ. فالعمليَّة تنتظر آلام الرب وقيامتِه ويومُ العنصرة المجيدة يوم حلول الروح القدس المجيد.
أنهارُ ماءٍ حيّ. والروح القدُس في الكنيسة مصدرُ مواهبَ ونِعَم لا تُعَدُّ ولا تُحصى. تَجري مياهُ الكنيسة كأَنَّها ماءٌ حيٌّ.
الروح القدُس في حزقيال 37 : يَنفُخُ اللهُ روحَهُ في العِظام فتحيا العِظام.
الروح القدس كتَبَ شريعةَ العهد الجديد في القلوب. قال أَشعياء النبي: وتخرُجُ الشريعةُ من صُهيون. فشريعةُ موسى المكتوبة على ألواحٍ حجريَّة ذَهَبَت، أَمَّا شريعةُ المسيح فهي مكتوبةٌ في القلوبِ بالروح القدُس كما قال إِرميا النبي في الفصل 31 وما حولَهُ.
إِستشهدَ بهِ بولس الرسول في رسالتِه الى العبرانيِّين: اليوم الشريعة الإِلهيَّة مكتوبة بالروح القدُس في القلوب لا على ألواحٍ حجَريَّة. شريعةُ الحرف كما قال بولس في كورنثس الثانية ورومية وسواها، ذهَبَت. شريعة الفرِّيسييِّن السطحيَّة ذهَبَت. الشريعة خَرجَت من صهيون الآن بحلول الروح القدُس ولذلك فهي مكتوبةٌ الآنَ في القلوب. مكاريوس ويوحنا السُلَّمي قالا إِنَّ الروح القدس يَنقُش الإِنجيل في قلوبِنا.
اليهود يعتقدون أَنَّ الشريعة أُعطيَت لموسى يوم العنصرة. وها نحن في يوم العنصرة قد نِلنا شريعةَ الروح القدُس مكتوبةً في القلوب لا على الحجارة. بولس الرسول أَجرى مقابلةً هامَّة بين شريعة الحرف المعطى لموسى، وبين شريعة الروح القدس في رسالتهِ الثانية الى كورنثس. شريعة الروح القدُس ممتلئة من المجد وهي خالدة. الروح القُدُس أشرَقَ في قلوبِنا كما يقول في الفصل 4 من كورنثس الثانية الآية 6: ” لأنَّ اللهَ الذي أَمَرَ أن يُشرِقَ من ظلمةٍ نورٌ، هو الَّذي أَشرَقَ في قلوبِنا لإِنارةِ معرفةِ مجدِ الله في وجهِ يسوعَ المسيح”.
الروحُ القدُس كان يوحي للأَنبياء خارجيّاً، أَمَّا الآن فهو يسكُن في القلوب. النور الإِلهي يسكنُ في القلوب. بولس وبطرس قالا إِنَّ الروح القدُس هو موحي الكتاب المقدَّس والكتاب المقدَّس هو من عمَل الروح المقدَّس.
بالمجامع المسكونيَّة نُؤمِن أَنَّ الروح القدُس هو الذي أَوحى للآباء القدِّيسين العقائدَ الإِلهيَّة التي دوَّنوهاـ الروح القدُس هو كلُّ شيءٍ في الكنيسة، هو الذي يعمل كلَّ شيء. فلذلك صلواتُنا تبدأ دائماً بالروح القُدُس ونقول : أَيُّها الملِك السماوي المعزّي روحُ الحق الحاضر في كلِّ مكان.
الروحُ القدس في الكنيسة الأرثوذكسيَّة يحتلُّ مكانةً هامَّةً جداً. الآباء القدِّيسون كتَبوا في الروح القدس كثيراً جداً. في اليونانيَّة مجلَّدات كِبار تجمع أَقوال الآباء في الروح القدُس. كُنَّا قد بدأنا فقُلنا إِنَّ العيد هو عيد الثالوث القدوس، نعم. عيد الآب والإبن والروح القدُس. كنيستُنا الأُرثوذكسيَّة تضع النَبرة على الأَشخاص الإِلهيَّة الثلاثة. نحن نؤمن بإِلهٍ واحدٍ في ثلاثة أقانيم. لا نَضَع النبرة على وِحدَة الإِله، على جوهر الإِله، على طبيعة الإِله، إِنما نضع النبرَة على الأَشخاص لأَنَّ الجوهر الإِلهي موجود في الأَشخاص. الأُلوهَة موجودة في الأَشخاص. الثلاثة واحِد وهذا سرٌّ إِلهي عظيم لا نُدرِكُهُ، إِنَّما نؤمنُ به.
في كتابي “يَهوه أَم يسوع” نَحسُم، نستفيض عن أُلوهة الرب يسوع المسيح أوَّلاً وأُلوهة الثالوث القدوس ثانياً. من العهد القديم ومن العهد الجديد أقَمتُ الأَدلَّة القاطعة على صِحَّةِ إِيمانِنا بالثالوث القدوس وعلى أُلوهة ربِّنا يسوع المسيح ومساواتِه للآب والروح القدس له المجد. إِيمانُنا بالثالوث القدوس هو كلُّ شيءٍ. الآباء القدِّيسون قالوا إنَّ الإِيمان بالثالوث القدوس هو الشرطُ الأَساسي لكي يكونَ الإنسانُ مسيحيّاً. فإن كان لا يُؤمِن بالثالوث القدُّوس فهوَ حرٌّ في أَن يكونَ يهوديّاً أَو وثنيّاً أَو ما شاءَ من ذلكَ. لا يكون مسيحيّاً إِلَّا الذي يؤمن بالآب والإِبن والروح القدس الإِله الواحد في ثلاثةِ أَقانيم المتساوينَ في الجوهر والأُلوهة والسُلطة والرئاسة وكل شيء.
دِيانتُنا تقومُ على الثالوث القدوس. إن لم يَكن ايمانٌ بالثالوث القدُّوس فَلا يُمكن أَن يكونَ ايمانٌ بتجسُّدِ الرب يسوع المسيح الإِله الإِنسان الذي ماتَ على الصليب ليَغسُلُنا بدمِهِ الكريم من كلِّ خطيئة ويقدِّمَنا لأَبيهِ خليقةً جديدةً مُطهَّرةً بالروحِ القدس.
كلُّ شيءٍ في كنيسَتِنا يقوم على الثالوث القدوس. مَن يَرفض الثالوث القدُّوس يَرفُض الإنجيلَ والمسيحيَّة ولا يكونُ مسيحيّاً ابَداً. الإِيمان بالثالوث القدوس هو كلُّ شيءٍ. مَن آمَنَ بالثالوث القدُّوس استطاع أَن يؤمِن بالتجسُّد الإِلهي وبِيَوم العنصرة وحلول الروح القدُس، وآمنَ بأَنَّنا نتبع إِلهاً واحداً في ثلاثة أَقانيم أَي ثلاثة أَشخاص.
مفهوم الشخص باللَّاهوت الأُرثوذكسي مهمٌّ جداً. مَن لا يفهم ذلكَ يجهل كلَّ شيءٍ عن هذا السرِّ العظيم. فليسوا ثلاثة عناصر كما قال أحدُهُم منذ حين، هم ثلاثة أَشخاص والشخص شيء فريد، ممتاز، متميِّز. الثالوث القدُّوس هو الأَساس الأَول والأَخير في إِيمانِنا الأُرثوذكسي. نُقيمُ له الأَعياد ونَذكُرُهُ في صلواتِنا باستمرار.
فاذن، العنصرة عيدٌ عظيمٌ للثالوث القدوس. في كورنثس الثانية الإِصحاح السادس: نحنُ ابناء لله. بولس الرسول قال: هو روح التبَّني وهو الذي يُنادي فينا يا أَبَّ الآب. تبنَّانا، جَعَلَنا أبناءً للآب. في خطابِ بطرس الرسول يوم العنصرة، إِستشهدَ بيوئيل النبي: سَكَبَ اللهُ روحَهُ علَينا، أفاضَ روحَهُ علينا: فأَسكبُ من روحي على بنيكُم وبناتِكم على عبيدي وإيمائي فيتنبأون ويَرون رؤى. يجب مراجعة هذا الخطاب الهام جداً.
في يوم العنصرة وُلِدنا لملكوت السماوات. ما كانَ للطبيعةِ البشريَّة أَن تتجدَّد بدونِ العنصرة. يوحنا الدِمشقي قال قولاً جيداً، قال إنَّ يسوع المسيح نزلَ من السماء فتجسَّدَ وعاشَ وارتقى الصليب وماتَ ودُفِن وقامَ وصَعدَ الى السماء وجَلَس عن يمينِ الآب. هذا مشوارٌ خاصٌ به ولكن بالعنصرة عادَ الينا ثانيةً بواسطة الأَسرار.
لما كان يسوع على الأَرض، كانَ يعيشُ معَنا وبينَنا والى جَوارِنا ولكنَّهُ لم يَكُن فينا. يوم العنصرة المجيدة أَعادَهُ الروح القدس إِلينا فسَكَنَ فينا وصِرْنا نحن مَسكِناً له بالروح القدُس. اثاناسيوس الكبير وباسيليوس الكبير قالا إِنَّ الروح القدس يختُمُنا فيطبَع فينا يسوع المسيح ويسوع المسيح هو صورةُ الله الآب. فاذن، إِذ نُشاهد يسوع المطبوع فينا نُشاهِد الأَصل أَي الآب.
ولذلك عيد العنصرة عيدٌ مهمٌّ جداً. طَبعَنا الروح القدس، طَبَع المسيح فينا وشاهدنا الآب. يوحنا فم الذهب يقول أن المعتَمِد حديثاً يُضيءُ أكثر من الشمس خلالَ يومٍ أو يومَين. كلاُم بولس في 4الفصل الرابع من كورنثوس الثانية الآية 6 قويٌّ جداً: لأَنَّ الله الَّذي أَمَرَ أَن يُشرِقَ من ظُلمةٍ نورٌ، هوَ الَّذي أَشرَقَ في قلوبِنا لإِنارةِ معرفةِ مجدِ الله في وجهِ يسوع المسيح”.
أشرَقَ اللهُ في قلوبِنا. هل هوَ شمسٌ فقط؟ وهل الشمسُ بشيءٍ يُذكَر بالنسبة لله؟
أَلَيسَت شمسُ اللهِ أقوى من شمسِ الفضاء بما لا يُقاس؟ هذه الشمس تَسكنُ الآنَ في قلوبِنا. واذا كنَّا لا نرى هذا النور مُشرِقاً فينا كما أَشرقَ في المسيح على جبل التجلِّي وكما أشرقَ في آباءٍ قدِّيسينَ عديدين، فالسبب هو خطيئتُنا.
يُطالبنا بإزاحة الخطيئة عن كاهلِنا ليُشرِقَ هذا النورُ فينا. يقول غريغوريوس بالاماس: أَخَذْنا في المعموديَّة نِعمة التجلِّي. نعرف من حياة القدِّيسين أَنَّهُ أشرَقَ فيهِم. أشرقَ قديماً في كثيرٍ من الآباء كما أَستَدِلُّ من الفقَرَة 159 من المقالة 26 من كتاب “السُلَّم الى الله”.
حياة سمعان الَّلاهوتي الجديد معروفة، حياة سيرافيم ساروفسكي معروفة. القديس اندراوس الدمشقي أُسقف كريت يذكر كيفَ يظهر الرب يسوع المسيح كنورٍ يخرج منهُ كبحرٍ لا نهايةَ له. مراجعة هذا النص لبلاماس “الدِفاع عن الهدوئيِّين” مهمَّة، النصُّ هامُّ جداً. الروحُ القدُس له المجد إِتَّخذَ مِنَّا مَسكِناً له وهو الَّذي يفعلُ فينا كلُّ شيءٍ صالحٍ. بهِ نَقهَرُ الشهَوات، بهِ نَقهَرُ الأَهواء، بهِ ننتقلُ من الخضوع للجسد لنُصبحَ روحانيِّينَ حقيقيِّينَ في الحربِ ضدَّ الأَهواءِ والشَّهَواتِ الجسَديَّة. هو الذي يمُدُّنا بالقوَّةِ اللَّازِمة لِكَي نُخضِعَ الجسَد إِخضاعاً تامّاً لنُشرِقَ بنورهِ الإِلهي. هوَ كلُّ شيءٍ في حياةِ المؤمن.
في 12من كورنثوس الأولى الآية 3 بهِ نعتَرفُ بيسوع ربّاً : ” … ولا يستطيعُ أَحدٌ أَن يقول:” يسوعُ ربٌّ” إِلَّا بالروح القدس”.
قالَ القِدِّيسان الآثوسيّان كاليستوس وأَغناطيوس: إِنَّ صلاة يسوع ربِّي وإِلهي يسوع المسيح يا ابنَ الله إرحمني انا الخاطىء. هي صلاةٌ ثالوثيَّة نقولُ فيها أَنَّ يسوع ربَّنا. هذا كلامٌ بالروح القدس. نذكرُ يسوعَ المسيح ونذكرُ الله، فهو ابنَ الله. فلذلك في هذهِ صلاة نذكرُ الثالوث القدُّوس.
أَمَّا ايسيخيوس في دير العلَّيقة في سيناء قالَ في مِئويَّتِهِ الأُولى 1: 97 إِنَّ صلاة يسوع المسيح هي مناولة. حين أَتناول القربان أَتناوَلُهُ في لحظات، وأَمَّا صلاة يسوع فَمبدئيّاً يجب أَن تكونَ على فمِ كلِّ أُرثوذُكسي ولذلك فهي مناولةٌ دائمة، هي استمرارٌ لمناولةِ القربان. يبقى القربانُ حيّاً فينا طوال الليل والنهار.
الأُرثوذكسيَّة هي ديانةُ العُمق، ديانةُ الباطِن الداخلي، ديانةُ إنسان القلب الخفيّ العبارة من بطرس الرسول، هي ” انسانُ القلبِ الخقيُّ ” . الروح القُدس عمَّقَ جداً حياةَ الإِنسان. الربُّ يسوع قال: إِنَّ المولودَ من الجسدِ هوَ جسَدٌ والمولودُ من الرُّوحِ هوَ روحٌ. (يوحنا الفصل 3، الآية 6 )
قال يوحنا في الفصل 6 الآية 63: “الروحُ هوَ الذي يُحيي وأمَّا الجسدُ فلا يُفيدُ شيئاً، والكلامُ الَّذي كلَّمتُكُم بهِ هوَ روحٌ، هوَ حياةٌ”. الروحُ هو الذي يُحيي.
لبولس الرسول تعليقات واسعَة على الحربِ الدائرَة بين الروح والجسد وتركيزٌ واسع على الروح وعلى ضرورة قَمْعِ أَهواءِ الجسد. المسيحيَّة من هذه الناحية ركَّزَت تركيزاً واسعاً على الرُّوح ويسوع نفسُهُ قالَ للسامريَّة في الفصل 4 من إنجيلِ يوحنا الآية 24 :” اللهُ روحٌ والَّذينَ يسجُدونَ لهُ فبالرُّوحِ والحقِّ ينبغي أَن يسجُدوا”.
والآبُ يطلبُ مثل هؤلاء الساجدين الَّذين يسجُدون لهُ بالروحِ والحق لا في هيكلِ أُورشليم ولا في جبلِ جِرزيم في نابلِس. السُجود الحقيقي هو في الرُّوحِ والحق. الروح هو الروح القُدس، والحقُّ هو يسوع المسيح.
الروح القدُس في يوم العنصرة أَسَّسَ دِيانةً جديدةً تختلفُ جِذريّاً مع الديانة اليهوديَّة. عبادات اليهود مركَّزة على الهيكل. أَتوا الى فلسطين ليقيموا الهيكلَ ولن يُقام الى أَبد الآبدين. أَمَّا عِبادة المسيحييِّن فهيَ في الرُّوح القُدُس وفي يسوعَ المسيح. حَيِّزُنا الطبيعي هو يسوع والروح القدس، نعبُدُ الآب عبادةً روحيَّة. العِبادةُ اليهوديَّة والشَكلِيَّة الخارجيَّة والذبائح، كلُّ هذا طَواهُ الزمان، طواهُ التاريخ الى أَبدِ الآبدين.
العِبادةُ الحقيقيَّة اليوم هي العِبادة المسيحيَّة التي تحفُر عميقاً في الإِنسانِ الباطن الدَّاخلي الخَفي لكي يُصبحَ الِإنسانُ نوراً من نورِ الله. أَلَم يَقُلْ يسوع لتلاميذِه أَنتُم نورُ العالم؟ فنحنُ أنوارٌ من نورِه الإِلهي. طبعاً أنوارٌ بالنِعمةِ فقط ولَسنا يسوع بالذَّات. نحن مطبوعونَ بيَسوع ولَكِن يسوع إِلهٌ بالطبيعة والجوهر. نحن آلهة بنعمتِهِ الإِلهيَّة. هذه النعمةُ الإِلهيَّة التي أَخذْناها يوم العنصرة تجعَلُ منَّا كبَشَر آلهةً بالنِّعمة.
في يومِ العنصرة المجيدة اعتَمَدَ الرُسل فسَكَن فيهِم الروح القدس وجَعَلَهُم آلهةً بالنِعمة وجَعَلَ نِعمةَ التجَلّي قائمةً فيهم. في يوم المعموديَّة لا آخُذ نِعمة التجلّي بل نِعمة التألُّه. بالاماس يقولُ أنَّنا اليوم مؤلَّفون من ثلاثةِ عناصر: النِعمة الإِلهيَّة وروحُنا البشريَّة وجسدُنا البَشَري. صارَت النِعمة الإِلهيَّة في المعمود جزءاً لا يتجزّأ من شخصِهِ. هذا أَمرٌ هامٌّ جداً. ولذلك كما نرى في أَفسُس وكولوسي ورسالة يوحنا الإِنجيلي: نحنُ منذُ الآن موجودونَ عن يمينِ الآب في يسوع المسيح الجالس عن يمينِ الآب.
أَلَم يَقُل بولس في كولوسي: صَعِدنا معَهُ وحياتَنا مَخفيَّة في الله في يسوع المسيح ومتى ظهَرَ يسوع حياتُنا، فسنظهر معَه في المجد ومثل هذا في رسالة يوحنا.
الروحُ القدس حوَّلنا من تُرابييِّن الى سماوييِّن. لولا العنصرَة لكانَ مصيرُ كلُّ إنسانٍ في العالم في الجحيم. العنصَرة نقَلَتنا من الأَرضِ الى السماء ومن الموتِ الى الحياة. سكَنَ الروح القدُس فينا فَصِرنا أُناساً متأَلِّهين، أَخَذْنا نِعمة التأَلُّه، نِعمة التَجلِّي. فاذا كنَّا الآن منطفئين، هذا بسببِ قباحاتِنا وجرائمِنا وخطايانا ولكنَّ النِعمةُ قائمةٌ فينا. ما المطلوب؟ المطلوب هو أَن ندوسَ الشهَوات.
بولس الرسول في رومية 8 واضح: محبَّةُ الجسَد عداوةٌ لله. وكلُّ الَّذينَ يتعلَّقونَ بالجسَد وشهواتِ الجسَد وأَعمالِ الجسد وشؤون الجسد، يرتكبونَ زلَّةً كبيرة ويَصيرونَ أَعداءً لله.
سَيطِرْ على جسَدِكَ بالروحِ القدس فيُشرِق الروحُ القدس فيك. ولذلك، الجهادُ الروحي هو نصيرُ الِإنسان. كلُّ شيءٍ بعد المعموديَّة هو في الروح القُدس. الروحُ القُدس هو المحرِّكُ الأَساسي لحياةِ الإِنسان المسيحي.
ولذلك المعتَمِد حقيقةً، المؤمن من كل قلبِه بعدَ المعموديَّة لا يعيشُ لذاتِه بل يعيشُ للروح القدس، ليسوعَ المسيح ويشكرُ الآبَ دائماً في يسوع المسيح. حياتُنا ثالوثيَّة تقومُ على الإِيمان بالآبِ والإبن والروح القُدُس. الروح القدس يجعَلُنا آنيةً للإبن، وبالإِبنِ نَصِلُ الى الآب. يسوع المسيح في يومِ العنصرة خَلَقَنا خُلقة جديدةً.
دخلَ الى كيانِنا كَكيانٍ آخر يمتصُّ مع الزمَن إِنساني الساقط لأَتحوَّل من إنسانٍ تحت الخطيئة الى إِنسانٍ حُرٍّ في يسوعَ المسيح.
في يوم العنصرة، الثالوث القدوس حرَّرَني من سلطانِ الجسد، حرَّرَ أَعضائي من سُلطانِ الجسد لتُصبِحَ أَعضاءَ يسوعَ المسيح. الروحُ القدس يصنعُ العجائب في هذا الكَون. الروحُ القدُس هو حياتُنا،، الروحُ القدس يُنزِل المسيح إِلينا. الروحُ القدس يُحوِّل الخمر الى جسد ودمِ الرب أَتناولُهما فأَمتزجُ بجسدِ يسوع ودمِهِ، وأَمتلىءُ من الروحِ القُدس الحالّ في هذا الجسد وفي هذا الدم.
آه، ربي يسوع المسيح ما هذه الدِيانة التي سنَنْتَها لنا! كلُّها عجائب ومعجِزات، كلُّها آيات سماويّات لا أَستطيعُ أن أُدرِكَها بِعَقلي وفَهمي، ولكنَّني أُؤمن بها لأَنَّها ديانةٌ للإنسان لتُبَدِّلَهُ تبديلاً كاملاً وتنقُلَهُ من واقِعه الأَرضي التُرابي فيصيرَ إِنساناً سماويّاً. هذا الجسد التُرابي سيُبدِّله الروح القدس يومَ يُقيمُهُ جسداً روحانيّاً بِلا فساد، سماويّاً يتلألأ بالمجد الإِلهي ويعيش عند يسوع المسيح.
ما هذه الديانة العجيبة الغريبة التي تجعل البشرَ على الأَرضِ ملائكةً في أجساد! هذه الديانة التي تطلبُ من الإِنسان أَن يتخلَّصَ من ذاتِهِ ليصيرَ مسيحاً منسوخاً عن يسوع المسيح لنُصبح فوتوكوبيّات عن يسوعَ المسيح، وهل هذا من المعقول؟ بِقُوَّتي الذاتيَّة، أَنا إِبنٌ للجحيم. ولَكِن الروح القدس هو الذي يرفَعُني من رِتبةِ الحيوان الساقط المهترىء الى رُتبةٍ ملائكيَّة. الروح القُدس هوَ الَّذي رَفَعَ شأنَنا بحلولِ يوم العنصرة. هذا الحلول خالد.
يوحنا فم الذهب قال: بعد العنصرة كلُّ الزمان صارَ عنصرة. فلذلك، ليست العنصرة عيداً عابراً وحَدَثاً عابراً، هي حَدَثٌ مستمرٌّ في التاريخ. كلَّما عمَّدْنا طِفلٌ جَدَّدْنا العنصَرة، كلَّما حلَّ الروحُ القدس على الخبزِ والخمر جَدَّدْنا العنصرَة ، كُلَّما كلَّلْنا شاباً وفتاةً بإسمِ الآب والإبن والروح القدس حلَّ الروح القدس وحلَّت العنصرة، كلَّما ختَمنا إنساناً بالميرون المقدَّس كانت عنصَرَتُه.
نُباركُ كلَّ شيء بالروح القدس. نَدري كلَّ شيءٍ بالروح القدس. الروحُ القدُس هو حياةُ الأُرثوذكسيَّة. أَلهَمَ الأَنبياء وأَلهَمَ الرُسُل وأَلهَمَ الآباء القِدِّيسين الَّذينَ أَورَثونا المجامع السبع المسكونيَّة والإِيمان الأُرثوذكسي القَويم وحَفِظوا ويَحفظونَه. مَن يَحفظ الإِيمان الأُرثوذكسي؟ الفصل 1 :14 من تيموثاوس الثانية: ” إِحفَظ الوَديعة الصالحة بالرُّوح القُدس الحالِّ فينا”.
الروحُ القدس هو كلُّ شيءٍ في حياةِ المؤمنين ولذلك فالأُرثوذكسيَّة تركِّزُ كثيراً على الرُّوح القدس. أخَذَ الغربُ المسيحي ينتبه الى هذا النقص في حياتِه فهناكَ اليومَ فيهِ مَن يُنادون بالعودة الى الروحِ القدس. الروحُ القدس حياةٌ للمؤمنين. هو الذي يُقدِّسُنا ويباركُنا ويبَرِّرُنا. هو مُعزِّينا، هو شفيعُنا لدى الآب، هو الكلُّ في الكلِّ في حياتِنا.
فيا أَيُّها الآب القدُّوس ويا أَيُّها الإِبن القدُّوس ويا أَيُّها الروح القدُس القدُّوس، إِحفَظ عبيدَك المؤمنين في كلِّ الأَرض وكُنْ دائماً حاضراً في حياةِ المؤمنين لتَسكُبَ في قلوبِهم كلَّ أنوارِكَ الإِلهيَّة، كلَّ مجدِكَ. فارفَعْ شأنَهُم، قدِّسْهُم وبارِكهُم واجعَلْهُم مساكنَ لكَ وأعطِهم أَن يُمجِّدوكَ ويُسبِّحوكَ ويُعظِّموكَ ويشكروك وأَن يعيشوا لكَ كلَّ أيامِ حياتِهم تائبينَ، نادمينَ، خاشعين، مُصلّينَ، مُبتهلين، ناجين من التجارب الشيطانيَّة ومن مكايد إبليس الشريرة.
أَيُّها الآب القدوس، أَرسِل روحُك القدُّوس الى عبيدِكَ المؤمنينَ أجمَعين في مشارقِ الأَرض ومغاربها وباركهم وقدِّسهُم أَجمعين وقَدِّس كلَّ الَّذينَ يلتمسونَكَ. خَلِّص الأَهل والأَصحاب والمعارِف وكل الذين يلتمسونَكَ. أَيُّها الثالوث القدوس إرحَمنا، أَيُّها الثالوث القدوس إِرحَمنا ، أَيُّها الثالوث القدُّوس إِرحَمنا. لك المجد والكرامة والسجود والعِبادة والتهليل والتعظيم والتكبير الى أبدِ الآبدين ودهرِ الداهرين. آمين
حاشية: راجع كرّاسة العنصرة بقَلَم الدكتور عدنان طرابلسي في المنشورات الأرثوذكسية