التجسُّد الإِلهي
بقلم المعلم الانطاكي الشماس
اسبيرو جبور
” فلمَّا حانَ مِلءُ الزَّمَانِ، أَرسلَ اللهُ ابنَهُ مولوداً من اِمرأَةٍ، مولوداً تحتَ الناموس، ليَفتدِيَ الَّذينَ تحتَ النَّاموس، لِنَنالَ التبنِّي. وبما أَنَكُم أَّبناؤُهُ، أَرسَلَ الله روحَ ابنِهِ الى قلوبِكُم صارخاً : أبَّا أَيُّها الآبُ. فلَستَ بعدُ عَبداً بل انتَ ابْنٌ، وإِذا كنتَ ابْناً، فانتَ وارِثٌ للَّهِ بالمسيح “. هذا ما جاءَ في غلاطية الفصل 4 الآيات 4و5و6. هذا النص هو نصٌّ مهمٌّ جداً.
كيف تمَّ التجسُّد الإِلهي؟
حَلَّ الروحُ القدس على العذراءِ مريم فطَهَّرَها وقدَّسَها كما قال غريغوريوس اللَّاهوتي العظيم، وبذلكَ صارَت قابِلَة لأَن تمنحَ الرب يسوع جسداً لا يميلُ الى الخطيئة. فإذن، أَدخلَ الروح القدُس على تكوينِها تغييراً جِذريّاً فصارَت قادِرة على أن تَلِدَ الرب يسوع بدون أن يحمِلَ خطيئتَنا. أخذَ يسوع طبيعةً فاسدة ًأي Corruptible كما يُقال بالفرنسيَّة نقلاً عن اليونانيَّة، والمقصودُ بذلك أَنَّها طبيعة قابِلة للأَعراضِ البشريَّة من آلامٍ وجوعٍ وعطَشٍ وبكاءٍ وحزنٍ وانفصال الروحِ عن الجسد. لَو أخذَ الربُّ يسوع طبيعةَ آدمَ في الفِردَوس لما كانَ قد أخذَ طبيعتَنا الساقطة ليُداويها. ” ما لم يأخذهُ يسوع لم يَخلُص لم يُشفَى “. فاذن، أخذَ يسوع طبيعتَنا بِرُمَّتِها ليشفيَها بِرُمَّتِها. أَخذَ روحاً بشريَّة ليشفيَ الروحُ البشريَّة، أخذَ إِرادةً بَشَريَّة ليشفيَ الإِرادة البَشَريَّة، أخذَ فِعلاً بَشَريّاً ليشفيَ الفِعلَ البَشَري.
كما قالَ بولس في الفصل4 الآية 15 في الرِسالة الى العبرانيِّين: ” فليسَ لنا رئيسُ كهَنةٍ غيرُ قادرٍ أن يرثِيَ لأَوهانِنا، بل مُجرَّبٌ في كلِّ شيءٍ مِثلَنا ما خلا الخطيئة”. وفي الفصلِ الثالث نصٌّ طويلٌ عن صَيرورتِهِ مُشابهاً لنا. في الفصل الثاني من رسالتِهِ الى أهلِ فيليبي نرى ايضاً كيف تنازلَ الرب وأَخلى ذاتَهُ وصارَ مثلَنا. يسوع صارَ مثلَنا في كلِّ شيءٍ ما عدا الخطيئة. هو لا يميلُ الى الخطيئة. طبيعتُهُ البشريَّة هي إذاً طبيعتنا الساقطة لا طبيعةَ آدمَ الفِردوسيَّة. أَخذَ هذه الطبيعة ليُخلِّصَ طبيعتَنا الساقطة بِرُمَّتِها نَفساً وجَسَداً.
نعودُ الى كيرلُّس الأُرشليمي وغريغوريوس اللَّاهوتي: ما لم يأخذْهُ لم يَنَلْ الشِفاء والخلاص. أخذَ يسوع طبيعتَنا الساقطة فشَفاها وخلَّصَها.
حلَّ الروحُ القدس على مريم العذراء أولاً ليُطهِّرَها ويُقدِّسَها وثانياً ليتَّخِذَ منها جسَداً ليسوع. وضعَ في هذا الجسد روحاً بشريَّة لكي تكون الطبيعة البشريَّة في يسوع تامةً من روحٍ وجسد. هذه الطبيعة البشريَّة أَتحَدَها الربُّ يسوع بأقنومهِ الإِلهي وصارت جزءاً من أُقنومِهِ الإِلهي. ” أُقنوم ” اي ما نُسمِّيهِ باليونانية Sincetone و Composé بالفرنسيَّة أو مؤَلَّف او مُركَّب بالعربيَّة. قبلَ التجسُّد كان أُقنوم يسوع يضُمُّ الطبيعة الإِلهيَّة، وبعد التجسُّد صارَ يضمُّ الطبيعة البشريَّة ايضاً. تمَّ التجسُّد بلَحظةٍ عابِرة أسرع من البَرق.
لم تكُن الطبيعة البشريَّة موجودة قبل التجسُّد، وُجِدَت في التجسُّد، أي لما تجسَّدَ الرب يسوع المسيح وأخذَ الطبيعة البشريَّة. في تلك اللحظة الخاطفة وُجِدَت الطبيعة البشريَّة مضمومة الى أُقنومِه الإِلهي. التجسُّد هو فِعلٌ خاطفٌ في لحظةٍ خاطفةٍ. إِتَّخذَ يسوع المسيح طبيعةً بشريَّة أَتحَدَها بطبيعتِهِ الإِلهيَّة فاتَّحدَت فيهِ الطبيعتان: البشريَّة والإِلهيَّة.
الطبيعة الإِلهيَّة فيهِ تامَّة والطبيعة البشريَّة فيهِ تامَّة. فإذن، الطبيعتان تامَّتان وهنا سِرُّ الأَسرار العظيم. كيفَ إتَّحدَت الطبيعتان في أُقنومِ يسوع بدونِ أَن يتجسَّدَ الآب والروح القدُس؟ الآبُ سُرَّ مرتضياً، والروح القُدس أَجرى الفِعل الإِلهي. كيف أُقنوم يسوع يضمُّ الطبيعة الإلهيَّة الكاملة بدونِ أن يتجسَّد الآب والروح القُدس! ولذلك قال يوحنا الدِمشقي: الأُلوهة تجسَّدَت في أقنومِ الإِبن. تجسَّدَت فقط في أقنومِ الإِبن. لقد تمَّ هذا الإِتِّحاد العظيم وهذا الإِتِّحاد هو ثابتٌ الى أبَد الآبدين ودَهر الداهرين.
لما ماتَ يسوع المسيح على الصليب انفصَلت روحُهُ البشريَّة وذهبَت الى الجحيم تُبَشِّر الَّذينَ في الجحيم، ولكن هذه الروح البشريَّة بَقِيَت مُتَّحِدَة باللَّاهوت. على الصليبِ وفي القبر لم يتِمَّ انفصال اللَّاهوت عن الناسوت. بَقِيَ اللَّاهوت مُتَّحِداً بجسَدِ يسوع في القَبرِ وبروحِهِ في الجحيم، وبَقيَ مع الآب والروح القدس إلهاً يَملىءُ الكونَ بِرُمَّتِه.
العذراءُ مريم استفادَت طبعاً من وجودِ يسوع في بطنِها كإنسانٍ متَّحِدٍ بالإِله وامتلأَت من الروحِ القدس وتقدَّسَت قداسةً تامَّةً. ليس في الكتابِ المقدَّس ولا في تقليدِ الكنيسة ما يُشير الى أنَّ العذراء مريم بعدَ ولادةِ المسيح عادَت الى ما كانت عليه سابقاً. ليس لدينا إلا النص الوحيد في إِنجيلِ لوقا وهو أنَّ الروح القدس حلَّ عليها وقوَّة العليّ ظلَّلتها فحَبِلَت بيسوع المسيح وسمَّاه الملاك “إِبن الله إبنَ العليّ”. بولس في رومية: أرسلَ اللهُ ابنَهُ مولوداً من امرأة. مولودُ العذراء هو إِبنُ الله. في متى الفصل الأوَّل الآية 21: ” وستلِدُ ابناً فَتُسَمِّيهِ يسوعَ، فإِنَّهُ هوَ يُخلِّصُ شعبَهُ من خطاياهُم “. وفي الآية 23 : ” هَا إِنَّ العذراءَ تحبَلُ وتَلِدُ ابْناً ويُدعى عِمّانوئيل، الذي تفسيرُهُ ” الله معَنا”.
وفي أشعيا وسواه : فادي الشعب ومخلِّصُهُ هو يَهوَه. فإذن، العذراء هي أمُّ عِمَّانوئيل، أُمُّ الله، أُمُّ فادي إِسرائيل، هي أُمُّ يهوَه، أمُّ إبن الله وإِبن الله عند الأُرثوذكس والكاثوليك والمحافظين البروتستانت وسِواهم هو إلهٌ مساوٍ للآب في الجَوهر وللروحِ القُدس في الجوهر.
إِبنَ الله عند المحافظين المسيحيِّينَ جميعاً هو إلهٌ مساوٍ للآب والروح القدس في الجوهَر، ولهُ الجَوهر نفسُه الذي هو للآب وللروح القدس. فإذن في العهد الجديد نفسُه العذراءُ مريم هي أُمُّ الله. لماذا هي أمُّ الله؟ لأنَّ يسوع هو أقنوم ٌواحدٌ، وبما أنَّهُ أقنومٌ واحدٌ فلا يُمكن أن نُجزِّء الأُقنوم فنقول: مريم هي أُمُّ الإِنسان. التجزئة لأُقنومِ يسوعَ المسيح تعني الفَصل بين الطبيعتَين، وهذا خطأ نسطوريوس. لما فَصَلَ بين الطبيعتَين قال أَنَّ العذراء هي أُمُّ يسوع وليسَت أمُّ الله. ولكن كما جاء في العهد الجديد وكما جاءَ في المجامع المسكونيَّة وتعاليم الكنيسة، العذراءُ هي أُمُّ الله دونَ أن نَعني بذلك أنَّ الأُقنوم الإِلهي مولود نفسُهُ من إِمرأة. ولكن بما أَنَّ الأُقنوم الإِلهي هو واحد، والطبيعتَين متَّحِدَتان في هذا الأُقنوم الإِلهي فنحنُ لا نستطيع أن نُجزِّء الأُقنوم. ولهذا نحنُ نقول في العذراء مريم إِنَّها أُمَّ الله.
ولكن حينما نُفَصِّل الأُمور، نقول أَنَّ أُقنومَ الإِبن الإله هو مولودٌ من الآب قبل كلِّ الدهور بينما طبيعة يسوع البشريَّة فهي مولودة من العذراء في الزمان قبل 2012سنة. هذا الإِتِّحاد الإِلهي بين الأُقنومَين هو سَبَبُ الخلاص، والذي ماتَ على الصليب هو الإِلهُ المتجسِّد. لا نقولُ إِنَّ الطبيعة البشريَّة ماتَت ولكن نقول بأَنَّ الطبيعة البشريَّة التي ماتَت هي طبيعة الأُقنوم الإِلهي. بسبب الإِتِّحاد الأُقنومي نقولُ ماتَ الإِله، تألّمَ الإِله.
الفَصلُ بين الطبيعتَين خطيرٌ جداً ولكن في التجسُّدِ الإِلهي نقولُ أيضاً إنَّ يسوع المسيح أخذَ طبيعةً بشريَّة ولم يأخذ أُقنوماً بَشَريّاً. لو أخذَ أُقنوماً بشريّاً لَكانَ هذا الأُقنوم وحدَهُ قد خَلُصَ، وكلمة أُقنوم مرُادف لكلِمة شخص. في اليونانيَّة “Hypostasis” أُقنوم. “ Prosopone” شخص. في اللاتينيَّة” “Personneشخص. وبالفرنسيَّة يستعملون كلمة ” Hypostase”، وبالإنكليزيَّة يستعملون كلمة ” Hypostasis ” وأَظنُّ أنَّ اللَّاتينيَّة تستعمل اللَّفظة اليونانيَّة Hypostasis.
فيسوع له المجد أخذَ طبيعةً بشريَّة ضَمَّها الى أقنومِهِ الإِلهي فاتَّحدَت بأقنومِهِ الإِلهي، وصارَت وإيَّاهُ متَّحدَين إِتِّحاداً كبيراً. هذا الإِتِّحاد الأُقنومي أفادَ الطبيعة البشريَّة فصارَت ذاتَ أُقنوم. أُقنوم الكلِمَة الإِله صارَ أُقنوماً للطبيعة البشريَّة. ولذلك الطبيعة في يسوع ليست بدونِ أُقنوم لأَنَّ أقنوم الإِبن اِلإلهي صارَ أُقنوماً الآن. يستعمِل اللَّاهوتيُّون كلمة “مُقَنَّمَة” أي الطبيعة البشريَّة باتِّحادِها بالطبيعة الإِلهيَّة في أقنومِ يسوع المسيح صارَت مقنَّمَة في أقنومِ الإِبن. أَي ذات أُقنوم، أي أنَّ أُقنوم الإِبن قنَّمَنها، جعَلَها ذاتَ أُقنومٍ.
لا نستطيع أَن نقول كانت قبلاً بدونِ أُقنوم لأَنَّها كانت غير موجودة قبلَ التجسُّد. هي وُجِدَت في لحظة التجسُّد الخاطفة. فإذن، يسوع في الكنيستَين الأُرثوذكسيَّة والكاثوليكيَّة إِتَّخذَ طبيعةً بشريَّةً لا أُقنوماً بشرياً، ولكن أُقنومَه الإِلهي قنَّمَ الطبيعة البشريَّة فصارَت ذاتَ أُقنومٍ في أُقنومِ يسوع المسيح. يسوع المسيح صارَ أُقنوماً لها، إذن فهيَ ليست بدون أُقنوم. هي ذات أُقنوم، وأُقنومُها هو أُقنومُ الكلمَة ويسوعُ صارَ أُقنوماً للطبيعتَين الى أَبدِ الآبدين ودهرِ الداهرين بدونِ تناوب بين الطبيعتَين. فهوَ الى أَبدِ الآبدين في كلِّ لحظةٍ من لحظاتِ الزمان، في آنٍ واحدٍ أُقنومٌ للطبيعة الإِلهيَّة وأُقنومٌ للطبيعة البشريَّة. لا تمرُّ لحظةً واحدةً لا يكونُ فيها أُقنوماً للطبيعة البشريَّة.
إِتِّحاد الطبيعة البشريَّة بالطبيعة الإِلهيَّة في أُقنومِ يسوع المسيح هو الذي أمَّنَ الخلاص. الذي ماتَ على الصليب إنسانٌ متَّحِدٌ بالله فلذلك عندَهُ القوَّة ليكونَ وسيطَ الخلاص، ليكونَ دمَهُ دمُ ابن الله الذي يُطهِّرُنا من كلِّ خطيئة كما قال يوحنا في رسالتِهِ. لو كان الإِله منفصلٌ عن الإِنسان على الصليب لما تمَّ الخلاص. الخلاص تمَّ بفَضل هذا الإِتِّحاد الأُقنومي بين الطبيعتَين. مريم العذراء الكلِّية الطهارة أَعطَتْ يسوعَ المسيح جسَداً ولكنَّها لم تتَّحِد بأقنومِهِ الإِلهي. هذا الجسد الذي أَعطَتهُ ليسوع المسيح، وحدَهُ هو مُتَّحدٌ بأُقنومِ يسوعَ المسيح. القَولُ بأنَّ العذراء إِتَّحَدَت أُقنوميّاً بأُقنومِ يسوع أو أَنَّ الكنيسة إِتَّحدَت ُأقنوميّاً بيسوع أو أَنَّ المؤمنين هم أَعضاء جسد يسوع واتَّحَدوا أُقنوميّاً بيسوع، القولُ بذلكَ يَخلُق بلبلَة في اللَّاهوت. أُقنوم يسوع قَبِلَ طبيعةً بشريَّة واحدة. لا يُمكن أَن يَدخُل على أُقنومِهِ الإِلهي شيءٌ آخر. ولذلك، لا العذراء ولا الكنيسة ولا المؤمنون إِتَّحدوا أُقنوميّاً بيسوع المسيح. إِتِّحاد الطبيعتَين بأقنومِ ربِّنا يسوع المسيح أفاضَ على الطبيعة البشريَّة كلَّ المجد الإِلهي. طبعاً قُدرَةُ العذراء على الإِستيعاب هي أَقوى من قُدرتِنا بكثير وخاصةً بسبب إتِّحادِها الأُقنومي بيسوعَ المسيح. أَفاضَت الطبيعة الإِلهيَّة على الطبيعة البشريَّة كلَّ النِعَم الممكِنَة وكلَّ المجد الممكِن وكلَّ الأَنوار الممكِنَة ولذلك هي ممتلئة من أَنوار اللاَّهوت المجيدة ومن المجد الإِلهي. فإذن، الإِتِّحاد الأُقنومي هو خاصٌّ بالطبيعة البَشريَّة التامَّة التي أخذَها ربُّنا يسوع المسيح. هذه الطبيعة البشريَّة فقط بالإِيمان تقبَل إِتِّحادَها باللَّاهوت، واللَّاهوت غيرُ منظور غيرُ معلوم غيرُ مُدرَك غيرُ مُقترَب اليه. كيف قَبِلَ الربُّ أَن يَضُمَّ إليهِ جسداً بشَرياً وطبيعةً بشريَّة؟ هذا تدبيرُهُ له المجد، الفائق كلَّ عقل وكلَّ إِدراك والذي لا تستطيع الملائكة أن تُعاينَهُ ولا أَجناسُ البشر أن تنظُرَ اليه. السِرُّ الذي تمَّ في مريم العذراء هو فوقَ مستوى عقلِ الملائكة والبَشَر أجمعين. ولذلك فالعذراءُ مريم هي ذاتُ كرامةٍ فائقة لأَنَّنا نسمِّيها والدةُ الإِله، أُمَّ الإِله. هذا اللَّقَب هو أَعظمُ ما تستطيع الملائكة أن تُسمِّيَ العذراءَ بهِ. قد نُنشِد في مديحِ العذراء مليارات القصائد، قد نكتب في مجدِ العذراء ملايين الكُتُب، ولكن كل هذه القصائد وكل هذه الكتُب ليست بشيءٍ يُذكَر أمام كلِمة “يا والدةَ الإله”. إِمرأة من نسلِ آدم صارت أُمّاً لله. بماذا نُعظِّمُها، كيف نُكرِّمُها، أيَّةُ عبارةٍ من عباراتِ المديحِ تَليقُ بها بعد كَلِمة “يا والدةَ الإِله” ؟ ولكنَّ ألسِنَةَ البشر لا تستطيعَ أن تَصمُت عن تقديمِ المديح الفائق لوالدة الإِله فتُنشِد القصائد وتؤَلِّفُ الكُتب والمقالات. ولكن تبقى كلمة “يا والدةَ الإِله” أَقوى من كلِّ مديحٍ.
فتاةٌ بسيطةٌ في الناصرة، القرية المزمومة في فلسطين، رفَعَها اللهُ فصارَت اُّمَّهُ. ما هذا المجد الذي أصابَ البشر حتى سُمِّيت إِمرأةٌ : أُمَّ الله، والدةُ الِإله. كيف نمدَحُكِ يا عذراء ! اللسانُ عاجز. ولكن إِقبَلي مِنّا كلِمة “يا والدةَ الإله”، هذه العبارة قدَّسَت العالم بأَسرِهِ.
يوحنا الدِمشقي يقول إِنَّ كلمة “والدة الإله” تجمعُ سرَّ التدبير برُمَّتِه وهذا صحيح. إن قُلنا في العذراء والدة الإِله عَنَينا بذلك أنَّ يسوع هو إلهٌ وإِنسان. إن قُلنا إِنَّها أُمُّ يسوع فقط فلا نذكُر إلا ناسوت يسوع، أمَّا إذا قُلنا إِنَّها والدة الإِله وهي إِنسانٌ، نكونُ قد أَعلَنَّا إيمانَنا بأنَّ مولودُها هو إِلهٌ وإنسانٌ. ولذلك فكلِمَة “يا والدة الإله” ذات معنى لاهوتي يفوقُ كلَّ وصفٍ. لفظة “والدة الإله” فقط تعني كل سرِّ التدبير أي أَنَّ يسوع هو الإِله الإِنسان له المجد والإِكرام والسجود الى أَبد الآبدين ودهر الداهرين آمين.
أؤكِّدُ من جديد، عيدُ التجسُّد الإِلهي هو يومُ البِشارة لا يومُ الميلاد كما يَكتبُ البعضُ خطأً. يخلُق الله الإِنسانَ شخصاً في لحظةِ الحبَل بتدخُّلٍ إلهيٍّ، وهذا يعني أَنَّ كلَّ امرأةٍ تَحبَل يتدخَّل اللهُ في حبَلِها ليَخلُقَ الشخص والروح. وبذَلِكَ على النساء أَن يَخَفنَ الله أثناءَ الحبَل لأَنَّ مُعجِزةً كبيرة قد تمَّت في بطونِهنَّ. حقوق الطفل التي يُنادى بها اليوم عالميّاً هي حقوقٌ مزوَّرَة. حقوقُ الطفل الحقيقيَّة هي في إِيمانِنا المسيحي بأنَّ الله تدخَّلَ في رَحِمِ المرأة في لحظةِ الحبَل فخلقَ شخصاً على صورتِهِ ومِثالِه. إيمانُنا المسيحي هذا هو الذي يُعطي الطفلَ حقوقَهُ الحقيقيَّة أي إِنَّهُ شخصٌ على صورةِ الله، وصورةُ الله تستحقُّ منَّا كلَّ الإِكرام الحقيقيّ لا المزوَّر. في المسيحيَّة الرِياء والنِفاق خطيئتان كبيرتان، ففي الحياة العامَّة التمثيل أَقوى من الحقيقة وأنا محامٍ منذُ أكثر من أربعين سنة، أعرِفُ أنَّ هذه الدنيا تمثيلٌ وفيلمٌ سينمائيٌّ عابر.
نادَوا بحقوقِ المرأة فانتهَت حقوقُ المرأة الى خِداع النساء واستغلال النساء. في المسيحيَّة فقط نجِد الإِحترام الحقيقي للإِنسان لأَنَّنا نؤمن بأَنَّهُ خليقة الله. آباء البريَّة كانوا يسجُدون للضيف على أَساس أَنَّ المسيح يزورُهُم، وهذا ما شاهدتُهُ في عينيَّ في دير المعزِّي الصالح في بلادِ اليونان. فالرئيس نفسُه كان يسجُد لي فأَرتمي على يدَيهِ. هذا الإِيمان المسيحي بالإِنسان هو الصحيح والباقي خِداع ومَكر. نحنُ نعرف ماذا يجري في هذا العالم من إِهاناتٍ للإِنسان بالقتل والإِستغلال والإِستثمار والإِستعباد ودَوس الكرامات.
يسوع المسيح وحدُهُ هو الكرامة البشريَّة وهو الذي علَّمَنا أَّنَّهُ تجسَّدَ وماتَ من أَجل خلاصِنا ليَضُمَّنا الى ذاتِه. هذا الإِله الذي حَضنَنا في صدرِه، هذا الإِله الذي وضَعَنا على كتِفَيهِ كخروف، هو الذي علَّمَنا أَن نحترمَ بعضُنا بعضاً كما نحترم المسيح له المجد والإِكرام والسجود الى أَبد الآبدين ودهر الداهرين. آمين.