الفِرِّيسِيَّة
بقلم المعلم الانطاكي
الشماس اسبيرو جبور
يهتمُّ الفِرِّيسيُّون بنظافةِ اليَدَين لا بنظافةِ القلب، ويهتمُّون بالخِتان لا بطهارة ِالقلب. كلُّ أُمورِهِم مرتبطة بالظاهر. مَرَضُ الفرِّيسيَّة هوَ مرضٌ عُضال. هل تخلَّصَتْ البشريَّة من هذا المرَض؟ لا، فما زالَ المرض يكتَسِحُ البَشر أَجمَعين. فهمومُهُم تنصرفُ الى الخارج لا الى الداخل، ومَن كان منهُم مهتَمّاً بالدَّاخل فلا يخلو رأسُهُ من بعضِ المسايرات للناس ليهتمَّ بالخارج ولَو قليلاً. طبعاً، هذا حُكُم متطرِّف نسبيّاً ولكِن ويا للأَسفِ الشديد الإِهتمامُ بالظاهر هو المسيطِر، بينما الإِهتمامُ بالباطن لا يُسَيطِر إلَّا على نسبةٍ محدودة من الناس، فالناسُ عبيدُ المظاهر.
الربُّ يسوع المسيح وبولس الرسول علَّمانا أَن نهتمَّ بالباطن. واستعملَ بطرس الرسول للنساء عبارةً هامَّة جداً هي “إنسانُ القلبِ الخفيُّ”. إذن، شدَّدَ على النساء لتهتمَّ بهذا الإِنسان الخفيّ الموجود في صميمِ القلب، أي الإِهتمام بأعمقِ أعماقِ ما في الإِنسان. وأعمقُ أعماقِ الإِنسان هو الصورة الإِلهيَّة التي نَجِدُّ في لملَمَتِها. مكسيموس المعترف قال: الخطيئةُ قطَّعَت الطبيعة البشريَّة ألفَ قطعةٍ. وقال راهبٌ في جبل آثوس: الطبيعة البشريَّة تهشَّمَت كالمرآة بسبب الخطيئة. لملَمَة الطبيعة البشريَّة ولملَمَة الصورة الإِلهيَّة في الإِنسان هي عمليَّةٌ شاقَّة تتطلَّبُ الإِهتمام بالباطن. ولكنَّ إِستعمالَ عِبارة “إِنسانُ القلبِ الخفيُّ” للنساء تعني أَنَّ النساء قادرات على العُمق الباطني ولكنَّهُنَّ بنسبةٍ كبيرة عَبداتٌ للمظاهر. لا يتحمَّلنَ النَقد ولذلك يسعَينَ دائماً الى الكمالِ الخارجي: كمالُ الهِندام ونظافةُ المنزل ونظافةُ الخارج. همومٌ تشُدُّ بالحبل على أعناقِهنَّ. فما العمل إذاً لتوجيهِ الناس نحوَ الإِهتمام ِبالباطن؟ هذه عمليةٌ شاقَّة تحتاجُ الى تربيةٍ أَصيلة. الإِهتمامُ بالطفلِ روحيّاً وحدَهُ يَضمَنُ لنا نشوءَ الإِنسان قادِراً على بُنيانِ إنسانِهِ الباطني. ولكنَّ التربيةَ سطحيَّةٌ، واليوم التربية تهتمُّ بجسَدِ الإِنسان لا بِروحِه والهمومُ الجسديَّة هي التي تخنُقُ الناس. الإِهتمامُ بالروح يتبخَّر كثيراً. ظروفُ الحضارة المعاصِرَة تُكرِه الإِنسان على الإهتمام بالجسد لا على الإِهتمام بالروح. هناكَ مخطَّطات عالميَّة لإِستنفادِ طاقاتِ الإِنسان في الجهد الجَسَدي والمادِّي لا في الجَهد الروحي وذلك لاسبابٍ ماليَّة، فالناس عبيدٌ في معملٍ كبيرٍ هو العالمُ بِرُمَّتِه.
كيفَ الخلاص؟ الخلاصُ يكونُ بالعودَةِ الى الإِنجيل، الى الحياةِ الروحيَّة بصلابةٍ ومتانة. الكمالُ في الأَناقة واللِّباس لا يُفيدُنا روحيّاً. النظافة في المنازل والثياب ضروريَّة ولكنَّها ليسَت هي الهَدَف، هي وسيلةٌ. لست ضدَّ النظافة ولست ضدَّ ارتداءِ اللِّباس بصورةٍ لائقة، ولكنَّ للأسف الشديد الناسُ عبيدُ الأَزياء. هل تستطيعُ النِساء الآدميَّات أَن يُخالِفنَ الأزياء البَشِعة مئة بالمئة؟ أَما تُسايِر بعضُ النِساء الآدميّات الموضة؟
الذي ماتَ في الضمائر، هو الثورة ضدَّ الفَساد. فالحربُ ضدَّ الفساد ضروريَّة جداً جداً. لا يجوزُ ابداً أَن نكونَ عبيداً للفَسادِ والضلال. مسايرةُ أهلِ الفساد وأهلِ العالم هي عداوةٌ لله. ما العَمل؟ الإِنسان عبدٌ لعينَيهِ وأُذُنَيهِ ويدَيهِ، عبدٌ لبطنِهِ، عبدٌ لفمِهِ، عبدٌ لكلِّ ما هو ظاهريّ. وهذا عملٌ فرّيسيٌّ. الفرِّيسيُّون عبيدُ المظاهر والناس اليوم عبيدُ المظاهر. هُمْ يُقلِّدونَ بعضُهم بعضاً في الفضائلِ أَم في الرذائل، في ما هو فاضل أَم في ما هو غير فاضل. المطلوب هو أَن نستلهِمَ الإِنجيل فقط وأَن نسلُكَ سلوكاً إِنجيليّاً. الإِعتذار عن طاعةِ الإِنجيل لا يُجدي نفعاً.
سيأتي يومٌ لن ننوي فيه على شيءٍ لأن مِنجَل الموت سيحصَدُ كلُّ البشر، وما دام الموتُ سيحصُدُنا فليَكُن يسوع المسيح هو الهَدَف، هو الغاية. ما دامَ مِنجَل الموت سيحصدُ كلَّ الناس، فهَل من مهرَبٍ من الموت؟ لا. هل أَعشَقُ الدنيا لأخسرَ الآخِرَة؟ على الناس أَن يَثوروا ضدَّ الباطل وضدَّ الفساد وضدَّ كلُّ ما هو مزموم روحيّاً.
بولس الرسول علَّمَنا أَن نفحَصَ كلَّ شيء وأَن نختارَ الأَحسن. الرب يسوع علَّمَنا أَن نكونَ كاملين كما أنَّ أبانا الذي في السموات هو كامل، وأَن نكونَ رحومين.
فعلَينا إذن أَن نسعى الى الكمالِ الروحي، لا أَن نكون مثلَ الفرّيسيِّين نهتمُّ بتعشيرِ الشِبثِ والكمُّون والنعنع ونترك أَثقل ما في الناموس ما في الشريعة، البِرّ والرحمة والمحبة.
الإِهتمام بالظاهر يخنُقُ الناس. الرِّياء، النِفاق، الكَذِب، الخُبث، المكر، الخِداع، الإِلتواء، التزوير هذه كلُّها عيوبٌ كبيرةٌ جداً. لا شكَّ أنَّ المجتمع نفسَهُ يُخَرِّب أَخلاقَ الناس بنسبةٍ ما. لا نستطيع أَن نكونَ صادقين مئة بالمئة وشفَّافين مئة بالمئة، ومستقيمين مئة بالمئة لأنَّ الناس إجمالاً غيرُ شفَّافين غيرُ صادقين غيرُ مستقيمين. مَن يستطيع أَن يُطهِّر الناس جميعاً من الخُبثِ والرياء والنفاق والكَذِب والمكر والخِداع والغِش والتزوير والنميمَة؟ مَن هو الإِنسان الصافي مئة بالمئة الذي لا يُخامِرُهُ الرَيب في الآخرين؟ مَن هو الإِنسان الذي نستطيع أَن نَثِقَ به مئة بالمئة؟ كلُّ الناس مُصابون بشيءٍ من الرَيبة. لا يثِق الناس بعضُهم ببعضٍ مئة بالمئة. يتعاملُ الناسُ بعضُهم مع بعضٍ بحَذَرٍ ورَيبة ويسوعُ المسيح نفسُهُ علَّمَنا أَن نكونَ حَذِرين من الناس لأَنَّ الناس سيغَدُرون بنا، وهو نفسُهُ قال أعداءُ الإِنسانُ أهلُ بيتِه. فالناسُ أعداءٌ بعضُهُم لبعض. الأَمرُ اذن يسيرُ بالبشريَّة نحو الضُعف الروحي. الغَدرُ موجودٌ، الإِحتيال موجودٌ، والبَشر أَنانيُّون. وبِسبَب الأَنانيَّة يأتي الخُبثُ والمكر والكَذِب والرِّياء والنِفاق والدَجَل و… أُمورٌ موجودة في العالم. علاقاتُ الناس ببعضِهِم بعضاً لا تخلو من الأَنانيَّة، فالمصلحة تُسيِّرُ الكونَ اليوم، والمعاملة بالمِثل هي القانون. العمل المجَّاني نادرٌ ولكنَّهُ موجود.
في الأَرضِ بشَرٌ صالحون لا شكّ، بصلواتِهِم يقومُ العالم وإلَّا لأَخَذَنا الطوفان جميعاً. لا أشكُّ أنَّ في العالم قدِّيسين وقدِّيسات يُصَلُّون ويحفظون العالم بصلواتِهم. لا أعرف عددُهم الله يعرفُهُم، الله يعرف الكِلى والقلوب. الله يعرفُ هؤلاء الأَبرار والصدِّيقين الذين لا يُطَبِّلون ولا يُزمِّرون والذينَ يعيشونَ في الخُفيَة وأبوهُم الذي يرى في الخُفيَة يعرِف مضامينَ قلوبِهم الصالحة.
ما العمَل؟ العمَل هو لُجوء الناس الى الإنجيل، هو أن يُطيعَ الناسُ الإنجيل لا العوائد والأَزياء والإِعتبارات الإِجتماعية. العمَل هو أَن يثورَ الناسُ على الخطيئة، ويكبَحوا جِماحَها. العمَل هو البطولة الروحيَّة، أَن يتحوَّل الرجال والنساء الى أبطالٍ روحييِّن يقولونَ للحقِّ حقّاً وللباطلِ باطِلاً بكلِّ جُرأة، يقولونَ للإِثمِ إِثماً وللبِرِّ بِرّاً وللنورِ نوراً وللظلمةِ ظلمةً.
المؤمنونَ المسيحيُّون هم بحاجةٍ الى البطولة. الإِنقسام عن البطولة هو الذي يجعلُهُم متخلِّفينَ روحيّاً. بِدون البطولة الروحيَّة لا نستطيع أَن نكونَ مجاهدينَ روحيِّين. الجِهادُ الروحي حربٌ ضدَّ الخطيئة وضدَّ الشياطين. الحربُ هي الحرب، والحربُ تحتاج الى أَسلِحة فتَّاكة وأسلِحَتُنا الفتَّاكة هي الفضائل التي تَفتُكُ بالرذائل وبالشياطين. الميوعَة خطرٌ كبير. الميوعة سُمٌّ زُعاف يَفتُك بالمؤمنين. عليهِم أَن يتخلَّصوا من الميوعة وأَن يتدجَّجوا بالَأسلحة الروحيَّة ليَقضوا على الخطيئة والشيطان وينتصروا على الجسد وعلى الأَهواء والشَهوات كما علَّمنا بولس الرسول أَنَّ هناكَ حرباً بين الروح والجسد، ونحنُ أبناء الروح، ونحن نحمِل الروح القدس.
بالروح القدس يجب أَن نُميتَ الأَعمالَ الميِّتَة وأن ننتصِر على الرذائل وأَن نَغرُسَ مكانَها الفضائل. هذا هو عملُ الجبابِرَة لا عمَلُ المائعينَ الضُعَفاء المسترخين المتهاونين الكَسالى. ولذلك ما ينقصُنا كمسيحييِّن هو البطولة الروحيَّة لنسحَقَ الخطيئة ونَطرُدَ الشياطين وننتصر على مملكةِ إبليس ونَهدِم مملكة إبليس. العالم اليوم بحاجةٍ الى هؤلاء الأَبطال المسيحييِّن ليطحَنوا الشيطان ويطحَنوا الخطيئة والإِثم وينهَضوا بالعالم المسيحي الى الأَعالي. نحنُ قد لَبِسنا المسيح، وكيف نلبَس المسيح ونبقى مائعين؟ لَبِسْنا المسيح لكي نكونَ مع المسيح عن يمينِ الله الآب، ما لَبِسنا المسيح لنبقى في متمرِّقات الحَمقى في هذه الدنيا. ولذلك علينا أَن ننتفض. من طبيعةِ المسيحي الحقيقي الإِنتفاض الدائم ضدَّ الخطيئة وضدَّ إبليس وجنودِه. المسيحي لا يستسلِم أبداً ولا ينهزم أبداً. الإِنهزاميَّة عارٌ كبير. الإِنهزاميَّة هي تَرْكٌ للصليب، لا يجوزُ أَن نخلعَ الصليب أبداً. يجب أَن نبقى حاملينَ الصليب متَّكلينَ على الربِّ يسوعَ المسيح ليُرسِلَ دائماً إلينا روحَهُ القدوس ليَعضُدَ ضُعفَنا. نحن ضُعَفاء كبَشَر ولكنَّنا بالروح القُدُس نستطيع أَن نقهَر الشياطين. نستطيع أَن نقهَر الجسَد وشهَوات الجسد وأَهواء الجَسد وأَن نرتفع بالروح الى يمينِ الله الآب. جَعَلَ اللهُ الناسَ جميعاً عن يمينِ الله الآب ربِّنا يسوع المسيح بالروح القدس آمين آمين آمين.