الشهيـد في الكهنـة
يوسف الدمشقي
ينبغي أن يدرك كل مسيحي ، أن المسيحية أولاً وأخيراً شهادة للمسيح ( ونحن شهود له أع 5 / 32 ) ، وكلمة شهيد تعني شاهد ، وكانت تطلق في البدء على الرسل فقط ، بصفتهم شهوداً لحياة المسيح وموته وقيامته ، كما أوصاهم الرب ، وتكونون لي شهوداً ( أع 1 / 8 ) . وأيضاً أطلقت على كل من قبل الموت من أجل المسيح باعتبار أنه قد دخل في رؤية فعلية لوجه الحبيب ، فإن الشهيـد قد يذكر في الطقس الكنسي بعد الرسل مباشرة ، لأن سفك الدم اعتبر أيضاً ، معمودية أعمق مما تعنيه المعمودية كصبغة وشركة في موت المسيح .
تنظر الكنيسة إلى يوم الاستشهاد بالنسبة للشهيد على أنه الميلاد الحقيقي ، الذي فيـه يبـدأ الحيـاة الأبدية الحقيقية وقد ذهبت الكنيسة في تكريم الشهداء ، إلى أقصى حد ممكن أن تفعله ، في ذكـرى يوم الشهيد ، فتكون الخدمة كلها لتكريم الشهيد ، من خلال تسبيح وصلوات وقراءات ووعظ ، ثم تقدم الذبيحة الإلهية التي تعتبر قمة التعييد والتمجيد .
هكذا يبدو الاستشهاد على اسم المسيح عملاً من أعمال الشجاعة ، النابعة من قوة الإيمان ، ولكنه في الحقيقة عمل من أعمال الروح القدس المباشرة ، التي يطبعها في الإنسان ، على أساس أنه ينقل للإنسان الذي يؤمن بالمسيح صفة من صفات المسيـح والتي هي بذل الذات ، فالمسيـح وضع ذاته وأطاع الآب حتى الموت ، موت الصلـيب ( فيليبي 2 / 8 ) .
لكن لا يظن أحد أن هذا المجد ، وهذه الكرامة التي ينالها الشهيد شيء بسيط ، فالشهادة للمسيح تحت التهديد أمر صعب ، لا بسبب الموت أو التعذيب ، بل بسبب ضرورة ارتفاع النفس ، فوق كل مغريات الحياة .
فالشهادة للمسيح حب لا يقف إزاءه أي حب آخر في العالم ، ولكي لا يأتي حب الشهيد للمسيح من فراغ ،
يجب عليه أن يستحق أن يكون تلميذاً للمسيح ، أن يترك كل علاقـة أو صلـة بأهله ، ويصير أهلاً لحمل صليب المسيح ويتبعه ، وأن يلزم أن يهزم الخوف في نفسه .
الشهيد يطرح الخوف لأن المسيح حقيقته العظمى التي أمسك بها ، إن غلبة الشهيد للخوف هي غلبة كل شهوة
وكل العالم معاً . من هنا تتضح الشهادة الحقيقية ، التي يأتي إليها كل إنسان مؤمن ، ويرتفع بها بحسب المسيح فوق كل حب .
هذا ما فعله وطبقه في حياته الشهيد في الكهنة الأب يوسف مهنا الحداد ( الدمشقي ) ، الذي يعتبر كوكب من كواكب دمشق الثلاثة ( بولس الرسول – يوحنا الدمشقي ) . والعلاَمـة واللاهوتي الكبير ، والنموذج في الفضيلة والتقوى ، لقد احتفلت البطريركية الإنطاكية الأرثوذكسية بعيده في العاشر من تموز الحالي .
هـذا الشيـخ ، الذي قدم ذاته على مذبح الحب الإلهي ، نتيجة لسيرته الطاهرة ، التي كان يكتبها كل يوم في السماوات ، بجهاده وعبادته غير المرتبطة بحب العالم وشهوته أدرك الدعوة في الحال ، وكان على أتم استعداد للسفر السعيد ، لم يكن متمسك بشيء ، من حطام هذه الدنيا ، لقـد استوفى كل ديون البشر بالمحبة ، لقد افتدى الوقت العصيب بيقظة ، فلم يأخذه النعاس القاتل ، ولا سقط كغيره في دلع الاهتمامات الكاذبة ، ولا أدركته ظلمة اليأس
عندما سمع رنين الحراب ، لقد جمع القربان المقدس في أواني الصلاة ، وأضاء المصباح بنار الحب المقدس ، وتأهَـب لملاقاة العريس مطمئناً . لقد أكل الجسد الإلهي ، وشرب الدم الإلهي ، فحسب فيهما جيداً حساب الألم ، وأدرك
بهما سرَ المـوت ، وبلغ فيهما يقين القيامة ، فلما دعا داعي الاستشهاد ، ولمع السيف في يد القاتل ، حسبها لحظة العمر لبلوغ الحياة والقيامة الأفضل .
هذا الشيخ الجليل ، أقبل على الموت وكأنه الخلاص عينه ، لكي ينال القيامة ، ولكي نرث من بعده ميراث إيمانه
ليكون مصباحاً لا ينطفىء نوره ، أمام كل الذين يحبون النور ، ويحبون السير وراءه في النور من الجيل إلى الجيل .
" إذاً الخوري يوسف مهنا الحداد ، الذي كان يحمل كنيسة المسيح في قلبه ، وعقله ، ورعايته المتعددة الجوانب
لم يبقى له موضع في الأرض يسند إليه رأسه . نقله يسوع إليه بموت الشهادة ، في العاشر من تموز السنة (1860 )
بعد أن لجأ المؤمنون إلى الكنيسة المريمية بدمشق ، ظانين أنهم يهربون من الموت ، فذهب إليهم متنقلاً فوق سطوح البيوت ، وقضى نهار التاسع من تموز والليل الطويل اللاحق يشدد المؤمنين في المريمية ، حتى وصل إلى مأذنة الشجم
فأدركه القتلة ، وكان معه جسد الرب فتناوله فانقضَوا عليه ، وقطعوا جسده المبارك وسحلوه في الأزقة فارتفع على
درجات المجد شهيداً ، ونوراً أبدياً لكنيسة انطاكية ." ( رعيتي العدد 45 – 1993 ) .
وإذا كان يوسف الدمشقي ورفقته متواضعين ، ومحتقرين ، ومتضايقين ، ومطرودين ، وغير مشهورين لكي يكتبوا في كتب التاريخ ، ولكننا نعلم تماماً ، أن أسماؤهم قد كتبت في سفر الحيـاة ، وشركتهم سوف تكون مع هؤلاء الذين كتب عنهم أنهم :
" هؤلاء هم الذين أتوا من الضيقة العظيمة .
وقد غسلوا ثيابهم .
من أجل ذلك هم أمام عرش الله .
ويخدمونه نهاراً وليلاً في هيكله .
والجالس على العرش يحل فوقهم .
لن يجوعوا بعد ، ولن يعطشوا بعد .
ولا تقع عليهم الشمس ، ولا شيء من الحرَ .
لأن الخوف الذي في وسط العرش يرعاهم .
ويقتادهم إلى ينابيع ماء حيَة .
ويمسح الله كل دمعة من عيونهم " . ( رؤية 7 : 14 – 17 ) .